جمهورية مصر العربية

وزارة الأوقاف

 

 

 

 

 

كتاب الخطابة الإلكتروني

(مائة خطبة وخطبة)

من الخطب العصرية

لوزارة الأوقاف المصرية

 إعداد الإدارة العامة لبحوث الدعوة

 

إشراف وتقديم

أ.د/ محمد مختار جمعة مبروك

وزير الأوقاف

رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

وعضو مجمع البحوث الإسلامية

 

1437هـ /2016م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 

{إِنْ أُرِيــــــــدُ إِلَّا الْإِصْـــــلاَحَ مَا اسْتَـطَعْـــتُ

وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

                                                                                         [هود: 88]


 

فهرس الموضوعات

م

الموضوع

 

مقدمة

1.                  

الإســـــلام دين الــرحمـــــــــة

2.                  

الإسلام دين السلام

3.                  

الإسلام دين البناء والتعمير

4.                  

الإسلام دين الأمن والأمان

5.                  

واجبنا نحو القرآن الكريم

6.                  

محمد (صلى الله عليه سلم) نبي الرحمة

7.                  

من مظاهر تكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم)

8.                  

مكارم الأخلاق في الرسالة المحمدية

9.                  

صفات المؤمنين في القرآن الكريم

10.             

أهمية التخطيط في حياة الأفراد والمجتمعات

11.             

ترتيب الأولويات وأثره في حياة الأفراد والمجتمعات

12.             

مبدأ الحق مقابل الواجب وسيلة لإصلاح المجتمع

13.             

خطورة التكفير والتخريب والفتوى بدون علم

14.             

خطورة الإسراف والتبذير على الفرد والمجتمع

15.             

خطورة الإدمان والمخدرات

16.             

خطورة النفاق والكذب وضرورة التنشئة على الصدق ومكارم الأخلاق

17.             

حرمة التلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الأساسية

18.             

حرمة المال العام والخاص

19.             

الرشوة والمحسوبية وخطورة كل منهما على الفرد والمجتمع

20.             

براءة الإسلام من العمليات الانتحارية والتفجيرية والتخريبية

21.             

الحفاظ على المياه وترشيد استخدامها

22.             

ضوابط البيع والشراء

23.             

الزكاة وسد حاجات المجتمع (مصرف سداد ديون الغارمين)

24.             

دور الشباب في بناء المجتمع

25.             

من أوجه العظمة في الحضارة الإسلامية

26.             

أخلاق الإسلام في التعامل مع الضعفاء وذوى الاحتياجات الخاصة

27.             

الإدمان وأثره المدمّر على الفرد والمجتمع

28.             

فضل يوم الجمعة وآدابه

29.             

حرمة المساجد والحفاظ على قدسيتها

30.             

نعمة الأمن والاستقرار

31.             

العلم والعقل

32.             

الحفاظ على البيئة ودوره في التنمية

33.             

فضل الشهادة وكرامة الشهيد

34.             

الأمانة في القول والعمل

35.             

رسالة المسجد

36.             

خلق الحياء والحفاظ على الأعراض

37.             

علو الهمة في خدمة الدين والوطن

38.             

قيمة الوقت

39.             

في استقبال العام الجديد

40.             

دروس من الهجرة النبوية الشريفة

41.             

الهجرة النبوية بين التخطيط البشري والتأييد الإلهي

42.             

الأخذ بالأسباب في ضوء الهجرة النبوية الشريفة

43.             

أسس التعايش السلمي في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)

44.             

دروس وعبر من الإسراء والمعراج

45.             

تحويل القبلة دروس وعبر

46.             

كيف نستقبل شهر رمضان؟

47.             

عطاء الله لعباده في رمضان

48.             

أخلاق الصائمين وسلوكهم

49.             

أخلاق الصائمين وأهل القرآن

50.             

رمضان شهر الإنفاق والبر والصلة

51.             

رمضان شهر الدعاء والإجابة والنصر

52.             

ليلة القدر وفضائل العشر الأواخر من رمضان

53.             

العيــــد - آدابه وضوابط الفرحة فيه

54.             

علامات قبول الطاعة

55.             

أثر العبادات في السلوك

56.             

مــاذا قبـــل الحـــج ؟

57.             

العشر الأول من ذي الحجة .. مناسك وفضائل

58.             

الحج ووحدة الأمة

59.             

الحج بين السلوك والنسك وفضائل العشر الأول من ذي الحجة

60.             

حقوق الإنسان والحفاظ على آدميته في ضوء خطبة الوداع

61.             

الدروس المستفادة من خطبة الوداع

62.             

خطبة عيد الأضحى المبارك

63.             

خطبة أخرى في عيد الأضحى المبارك

64.             

ماذا بعد الحج؟

65.             

الـديـــن المعــامـلــــة

66.             

عوامل القوة والنصر وأسباب الهزيمة والضعف

67.             

حقوق الجار

68.             

حق الطريق والمرافق العامة

69.             

حق الطفل في التنشئة السوية والحياة الكريمة

70.             

عظمة الإسلام وخطورة المتاجرة به أو الافتراء عليه

71.             

الأمانة وأثرها على الفرد والمجتمع

72.             

المسلم من سلم الناس من لسانه ويده

73.             

الإتقان سبيل الأمم المتحضرة

74.             

إسهامات الشباب في الحضارة الإسلامية

75.             

إسهامات المرأة في الحضارة الإسلامية

76.             

التنمية الشاملة وسبل تحقيقها

77.             

التنافس في الخيرات وخدمة الأوطان

78.             

وجوب تقديم الكفاءات الوطنية في كل مجالات الحياة

79.             

خطورة الدعوات الهدامة وضرورة التصدي لها لتحقيق الأمن والاستقرار

80.             

الوساطة والمحسوبية والرِّشوة عوامل هدم وإحباط يجب القضاء عليها

81.             

محاربة الفساد والإهمال مطلب شرعي وواجب وطني

82.             

النظافة وأهميتها للفرد والمجتمع

83.             

عناية الإسلام بصحة الإنسان ودعوته للمحافظة عليها

84.             

عنايةُ الإسلام بالمرأة وإكرامُه لها ودورها في المشاركة الوطنية

85.             

الإخلاص في القول والعمل

86.             

الشكر ... حقيقته وأثره في حفظ النعم

87.             

الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة

88.             

الأسرة ودورها في الحفاظ على استقرار المجتمع

89.             

سماحة الإسلام ونبذه لكل مظاهر العنف

90.             

دعوة الأنبياء والرسل للإصلاح في ضوء القرآن

91.             

استثمار الطاقات والإمكانات المعطلة

92.             

قيمة العمل بين بناة الأوطان ودعاة الهدم

93.             

الزكاة وأثرها في تحقيق التكافل الاجتماعي

94.             

الكلم الطيب وأدب الحوار

95.             

آفات اللسان وضرورة حفظه

96.             

يقظة الضمير الإنساني

97.             

فضل العلم وأخلاق طلابه

98.             

المشاركة الإيجابية والوفاء للوطن في حياة النبي

99.             

الحياء خير كله (خطبة أخرى في خلق الحياء)

100.        

نعمة الماء وضرورة الحفاظ عليها (خطبة أخرى في نعمة الماء)

101.        

وقفة مع النفس

 


مقـــــــــدمة

       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

وبعد :

     فيسرنا أن نقدم للسادة الأئمة والخطباء والمثقفين والمعنيين بالشأن الدعوي في مصر والعالم العربي والإسلامي كتاب الخطب العصرية الإلكتروني الذي أعدته الإدارة العامة لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف تحت إشرافنا ومراجعتنا.

       وقد راعينا أن يكون الخطاب الديني في إطار سماحة الإسلام ووسطيته ، بعيدًا كل البعد عن جميع ألوان التشدد والغلو ، والإفراط أو التفريط ، محققاً لرسالة المسجد ، يجمع ولا يفرق ، ويهدف إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد ، من منطلق أن شرع الله (عز وجل) قائم على مراعاة هذه المصالح، فحيث تكون المصلحة فثمة شرع الله ، وبما يؤدي إلى تشكيل وعي ديني صحيح ورشيد ، وحس وطني صادق ونبيل.

       وقد تنوعت موضوعاته ما بين قضايا إيمانية وتربوية وأخلاقية ، تهدف إلى إيقاظ الضمائر وتهذيب الأخلاق ، وقضايا اجتماعية تسهم في دعم وتقوية أواصر المودة والرحمة بين أبناء المجتمع ، وتسهم في حفظ تماسكه وتلاحم نسيجه ، وأخرى تتصل بالمعاملات التي تعد جزءًا لا يتجزأ من السلوك القويم للمسلم ، وقضايا وطنية تهدف إلى تقوية الانتماء الوطني والحفاظ على أمن الوطن واستقراره ، إضافة إلى ما لا غنى عنه من بعض خطب المناسبات ، مع مراعاة السهولة واليسر ، والبعد عن التقعر والتكلف ، سائلين الله (عز وجل) أن يكتب له القبول ، وأن يكون زادًا علميًّا وفكريًّا ومعرفيًّا في مجال الثقافة الإسلامية الرصينة ، وأن يكون إضافة متميزة للمكتبة الدعوية في مصر والعالم كله ، إنه سبحانه وتعالى وليّ ذلك والقادر عليه ، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] ،{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: 88] .

والله من وراء القصد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

                                                                                              

أ.د/ محمد مختار جمعة

وزير الأوقاف

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الإسلام دين الرحمة

أولاً: العناصر:

1.     أهمية خلق الرحمة. 

2.     حاجة البشرية إلى هذا الخلق. 

3.     صور من رحمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

4.     من مظاهر الرحمة في شريعة الإسلام. 

5.     القسوة والتشدد ليسا من الدين في شيء. 

6.     دعوة لنشر التراحم في المجتمع. 

ثانيًا: الأدلة:

الأدلة من القرآن:

1.     قال تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}[الأنبياء:107] .

2.  وقال تعالى : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:12] .

3.  وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 156].

4.  وقال تعالى :{فبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: ] .

5.     وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }[التوبة: 128] .

6.  وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29] .

الأدلة من السنة:

1.  عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، الرَّحِمُ ‏شُجْنَةٌ ‏‏مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) (الترمذي في السنن) .

2.  وعن أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَقُولُ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) (صحيح مسلم).

3.  وعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ) .[متفق عليه].

4.  وعَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه)  قَالَ : لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ ، قَالَ : أَلاَ تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : بَلَى ، يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا ، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلَمَّا ارْتَفَعَت الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ، فَقَالَتْ : سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ ، بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : صَدَقَتْ ، صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ) (سنن ابن ماجه).

5.  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:          (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) ( متفق عليه) .

6.  عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أو حائشَ نخلٍ، قال: فدخل حائطاً لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبي ( صلَّى الله عليه وسلم )حَنَّ وذَرَفَت عيناه، فأتاه النبيُّ ( صلَّى الله عليه وسلم ) فمسح ذِفْراه فسكتَ، فقال: (من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ ) فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، قال: (أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّككَ اللهُ إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبه) (سنن أبي داود).

 ثالثًا: المـوضـوع:

من أهم ما تتميز به شريعة الإسلام قيمة الرحمة التي انفردت وحدها في القرآن الكريم بالصدارة ، وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى ، فلقد تكررت الرحمة بمشتقاتها ثلاثمائة وخمس عشرة مرةً ، إنَّ هذا ليس مصادفة بحال من الأحوال ، فكل كلمة وكل حرف فيه نزل بقَدَر ولهدف.

والرحمة تعني الرفق والرقة والعطف والرأفة ، فهي كلمة جامعة لمكارم الأخلاق ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الرّحمة سبب واصل بين اللّه- عزّ وجلّ- وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبوديّة، وبينه وبينهم سبب الرّحمة.

وقد عُني نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بذكر هذا الخلق العظيم والتأكيد عليه في أحاديث عدة ؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ ‏شُجْنَةٌ ‏‏مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) وعن أَبَي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ).

والمتأمل في حياة البشرية يجد أنها في أمس الحاجة للتخلق بهذا الخلق العظيم وإحياء هذه القيمة الغالية التي تدل على تحضر الأمم وتقدمها ، فأمة لا تعرف الرحمة في قوانينها وتعاملاتها مع البشر هي أمة متخلفة وإن ادعت التحضر و التقدم .

          إن نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أقام دولة الإسلام بالرحمة ، وكانت الرحمة هي أخص خصائصه  قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].

بل لقد بلغت الرحمة درجة متناهية في حق الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى ذكر الله عز وجل أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم! قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ..}[الأحزاب: 6] وذكر (صلى الله عليه وسلم) هذا المعنى تصريحًا ، وحمَّل نفسه أعباء ضخمة نتيجة هذه الرحمة ، قال (صلى الله عليه وسلم): مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا ؛ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ) (متفق عليه).

إنها الرحمة المجردة تمامًا عن أي هوى ، والتي ليس من ورائها نفعٌ دنيوي ، ولا هدف شخصي ، لقد بلغت رحمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمته حدًّا يفوق كل تصورات العقول، حتى إن الأمر وصل إلى خوفه عليهم من كثرة العبادة  التي تعني التقرب إلى الله والتبتل إليه ، لكنه (صلى الله عليه وسلم) كان يخشى على أمته من المبالغة في الأمر فتفقد الأمة التوازن المطلوب في حياتهم ، فيصل بهم الأمر إلى المَلل والكسل من العبادة التي هي مطلوب الخالق من خلقه ، أو يصل بهم الحد إلى الإرهاق الزائد عن طاقة الإنسان ، لذلك رأيناه (صلى الله عليه وسلم ) كثيراً ما يُعرِضُ عن عملٍ من الأعمال، مُقرَّبٍ إلى قلبه ، محببٍ إلى نفسه ، لا لشيء إلا لخوفه أن يُفرَض على أمته فيعنتهم ويشق عليهم؛ تقول أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): ( إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ) (متفق عليه) ، ولذلك كان كثيرًا ما يقول كلمة : (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي) دلالة على أنه يحب الأمر ، ولكنه يخشى الفتنة على الأمة.

ومما تميزت به رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) الشمولية ، فوسعت كل المخلوقات ، حتى الخادم له نصيب من رحمته (صلى الله عليه وسلم)، فعن أَنَس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: (خَدَمْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ) (متفق عليه)، وعَنْ عَائِشَةَ ( رضي الله عنها ) قَالَتْ : (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) (متفق عليه) ، والطفل كان له نصيب من رحمته (صلى الله عليه وسلم) ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: ( قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) (متفق عليه)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضَعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَكَانَ يَأْتِيهِ وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيُدَّخَنُ فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ) (رواه مسلم).

والأسير الذي جاء محاربًا ومعاندًا كان له نصيب من رحمته (صلى الله عليه وسلم) فها هي سفانة ابنة حاتم الطائي التي أُسِرت في حرب مع قبيلة طيِّئ، فجُعِلَت في حظيرة بباب المسجد، فمرَّ بها رسول الله ؛ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلة[عاقلة]؛ فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامْنُنْ علَيَّ مَنَّ الله عليك ، فقال رسول الله : ( قَدْ فَعَلْتُ ، فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إلَى بِلادِكِ ، ثُمَّ آذِنِينِي). تقول ابنة حاتم الطائي: وأقمْتُ حتى قَدِمَ رَكْبٌ من بَلِيٍّ أو قضاعة ، وإنما أُرِيد أن آتي أخي بالشام ، فجئتُ فقلتُ: يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغ. قالت: فكساني ، وحَمَلَني ، وأعطاني نفقة ، فخرجتُ معهم حتى قَدِمْتُ الشام) (سيرة ابن هشام).

وكان الضعيف له نصيب من رحمته (صلى الله عليه وسلم ) فعَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ ، قَالَ : أَلاَ تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا ، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ، فَقَالَتْ : سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ ، بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : (صَدَقَتْ ، صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ) (ابن ماجة في السنن).

والحيوان له أيضًا نصيب من رحمته (صلى الله عليه وسلم) ، فعن عبد الله بن جعفر (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم)دخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) حنّ وذرفت عيناه فأتاه (صلى الله عليه وسلم)  فمسح ذفراه فسكت ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله ، فقال له : ( أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ ‏‏ وَتُدْئِبُهُ) (رواه أبو داود في سننه)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) (متفق عليه).

          إنها الرحمة التي حث عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخبرنا أنه لن يرحم الله تعالى إلا أصحابها، فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) (سنن الترمذي)،

ولم تقتصر الرحمة النبوية على حياة المسلمين في المجتمع الإسلامي بل تعدت ذلك إلى آداب الحرب في أوقات القتال لتنبه وتؤكد طابع الحرب في الإسلام من حيث كونها حربا دفاعية تهدف إلى البناء لا الهدم ، وإلى التعمير لا التخريب ، وتسعى لإتاحة حرية الاختيار، ويبدو خلق الرحمة النبوية واضحا في الحرب حيث يوصي النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتال المحاربين فقط وعدم قتل الأطفال والشيوخ والعباد الذين تفرغوا للعبادة وعدم حرق الأشجار ولا الممتلكات ولا انتهاك الأعراض.

هذه الصور العظيمة للرحمة في حياة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) تعبر عن الرحمة التي أسكنها الله قلبه الشريف ، ففرج الله ببركتها الكثير من الهموم عن أصحابها ، وفتح بها أبواب الخير والبركة ، قال تعالى: {فبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159]. فشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة واليسر ورفع الحرج ، قال تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28]. فالشَّارِعُ الحكيم الرحيم لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالعنت فِيهِ قال تعالى :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] وقال أيضا :{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ومن مظاهر الرحمة في التشريع الإسلامي أن أباح الصلاة للمريض على أي وجه يتحقق له من خلاله رفع الحرج ، فعن عمران بن حصين (رضي الله عنه) قال: (كانت بي بواسير، فسألت النبي (صلى الله عليه وسلم): عن الصلاة، فقال: (صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جنب) (أخرجه البخاري).

ومن مظاهر الرحمة في التشريع الإسلامي أن حرم الاعتداء على أموال الناس ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29].

ومن مظاهر الرحمة في التشريع الإسلامي أنه لم يؤاخذ العبد ساعة الإكراه حتى ولو تلفظ بالكفر ، قال تعالى:{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقد روى العَوفِيّ عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمَّار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد (صلى الله عليه وسلم) فوافقهم على ذلك مُكرَها وجاء معتذرًا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي، وأبو مالك وقتادة.

ومن مظاهر الرحمة المتعددة في التشريع الإسلامي أنه رفع الحرج عن المعاقين والمرضى ، قال تعالى:{ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح: 17] ، وغير ذلك الكثير والكثير من صور الرحمة في التشريع الإسلامي التي تدل دلالة واضحة لذي عينين وقلب سليم أن الإسلام في مظهره وجوهره هو دين الرحمة واليسر ومراعاة مصالح العباد، فالتشدد والتطرف والقسوة والغلظة ليسوا من مبادئ الإسلام ، فهي أمور تتنافى جملة وتفصيلا مع تعاليم الإسلام السمحة ، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها )، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: ( إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُكَرِّهْ عِبَادَةَ اللهِ إِلَى عِبَادِهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا يَقْطَعُ سَفَرًا وَلَا يَسْتَبْقِي ظَهْرًا) (البيهقي في شعب الإيمان). 

وجَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا:  وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ، وَلاَ أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ : ( أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه البخاري).

فعلى جميع أفراد المجتمع أن يتخلقوا بهذا الخلق العظيم الذي يعكس تدين العبد الصحيح ومدى التزامه بتعاليم الإسلام السمحة واقتدائه بنبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، ولنترجم هذه القيمة ـ قيمة الرحمة ـ إلى سلوك عملي في حياتنا ، وأولى الناس برحمتنا الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات ، والجيران ، وزملاء العمل ، وسائر أبناء الوطن الواحد، طالما أننا نجتمع تحت مسمى الإنسانية .

          إن المؤمن حينما يتصل بالله يتخلق بخلق الرحمة، فالرحمة التي في قلبه علامة اتصاله بالله ، وغير المؤمن حينما ينقطع عن الله عز وجل ، يصبح قلبه كالصخر الأصم ، لا ينطوي على الرحمة ، ساعتها يتحقق فيه قول النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) : ( من لا يرحم لا يُرحم).

إننا إن فعلنا ذلك تحقَّق فينا قوله (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (أخرجه مسلم).

 

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الإسلام دين السلام         

    أولاً : العناصر:

1-     دعوة الإسلام إلى السلام .

2-     السلام شعيرة من شعائر الإسلام .

3-     تسامح الإسلام مع غيره.

4-     أثر السلام في حياة الأمة.

ثانيًا: الأدلة:

   الأدلة من القرآن:

1-    يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].

2-    ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

3-    ويقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54].

4-    ويقول تعالى:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } [إبراهيم: 23] .

5-    ويقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .

6-    ويقول تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8، 9].

          الأدلة من السنة :

1-    عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) ( سنن النسائي).

2-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ) (صحيح مسلم).

3-    وعَنْ مُوسَى بْنِ زِيَادِ بْنِ حِذْيَمٍ السَّعْدِيِّ ( رضي الله عنه) ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، حِذْيَمٍ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: ( أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا ) ( مسند أحمد ).

4-    وعَنِ أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) ( صحيح البخاري ).

5-    وعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى (رضي الله عنه) ، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ) (سنن ابن ماجه) .

ثالثًا : الموضوع: 

إن الإسلام منذ بدايته عمل على نشر السلام ، وأن يتناول السلام كل جوانب الحياة الإنسانية، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، وذلك من خلال ما توجه  به من تكاليف، وما دعا إليه من واجبات، وما نهى عنه من محرمات، ليغرس في قلب المسلم ووعيه ووجدانه حالة من الاستقرار النفسي والأمن المجتمعي ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].

وعلى ذلك فالسلام في الإسلام أساس متين ، قامت عليه مبادئه، ودعت إليه توجيهاته ، ورَبى عليه أتباعَه ، وأخذهم بسلوك طريقه، والدعوة إليه، والعمل على سيادته، حتى ينعم المجتمع بالأمن ويتجه أفراده إلى العمل والبناء والإنتاج والرخاء، ويأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويكونوا من بعد إخوانا متحابين، فيعم التسامح والتعاون والإخاء، وتزول من حياة الناس أسباب النزاع والشحناء والعداوة والخصام ، ويصبح كل فرد من أفراد المجتمع داعيا إلى الخير، عاملا على إرساء قيمه وتوضيح سبله.

ومن ثم فالإسلام يدعو إلى السلام، ويحث عليه، ويهيب بالناس أن يجنحوا إليه ويدخلوا فيه، حتى نستطيع أن نحقق معاني الإسلام ومبادئه في الحياة، وحينئذ يمكننا أن نجني سلاماً في النفس ، وطمأنينة في القلب ، وصفاء في العقل، وإشراقاً في الروح.

ولا عجب فالسلام شعيرة من شعائر الإسلام ، جعله الله تحية المسلمين فيما بينهم  لتطبيق وتمكين معاني السلام في أحوال حياتهم وشؤون معاشهم، حيث أمر الله المؤمنين بأن يتخذوه تحية لهم عند لقائهم وعند فراقهم. قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } [النور: 61] .

كل ذلك من أجل نشر الأمن والسلام بين أفراد المجتمع؛ ليتمكنوا بعد ذلك من أداء مهامهم الدينية والدنيوية، ويحققوا لأبنائهم وأوطانهم ما يحلم به كل غيور على بلده وأهله، مُجدّ في بلوغ آماله وطموحاته.

ولا شك أن من غايات المسلم دخول الجنة ، ولذلك رسم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الطريق إليها وجعل من أسبابها إفشاء السلام حتى تعم المحبة بين الناس جميعا ، فقال: ( لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ)

ثم إن الإسلام بمدلوله العام إنما يعني السلام ، لأنه مشتقٌّ من صفة الله العظيم واسمه الكريم (السلام)، وذلك بصريح آيات القرآن المجيد، حيث قال سبحانه – متحدثاً عن أسمائه وصفاته: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ.. }[الحشر: 23]، ومن هنا أمر تعالى جميع المؤمنين أن يدخلوا في هذا المعنى، وأن يتجنبوا ما يتنافى والمعاني الفياضة بحقيقة الإسلام ومبادئ السلام.

والسِّلْم والسلام شيءٌ واحد ، هو الأمن المنبثق من الإيمان بالله الواحد ، والطمأنينة النابعة من اتباع تعاليمه السمحة وأحكامه العادلة، تلك التي جعلها سبحانه شعار دينه، وضمن من خلالها السكينة لكل عباده، قال تعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

ولم لا ؟ وهو الدين المحقق لمبدأِ السلام لبني الإنسان، والذي كفل سلامته وسعادته ليهنأ في الدارين- الدنيا والآخرة-، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وتأكيداً لتحقيق مبدأ السلام في الأرض بين الناس ، فقد كافأ الله الساعين فيه والمطبقين له عملياً بالجنة، وجعل تحيتهم فيها السلام،  قال تعالى: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] ، وقال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23].

ولو قارنا بين الميثاق الدولي الذي أعلنه نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) في خطبته في حجة الوداع وقرر فيه حقوق السلم والعدل والمساواة بين الناس ، وبين ميثاق الأمم المتحدة في هذا المجال ، وكيف أن الميثاق النبوي حقق أهدافه كاملة غير منقوصة في نشر السلام العالمي ، بينما أخفق إعلام الأمم المتحدة في إنشاء مظلة دولية تنصف المظلومين من المتربصين بهم من خارج هذه المنظمة ، أو حتى من بين أعضائها أنفسهم .

          والسبب في هذه المفارقة : هو أن نبي الإسلام (صلوات الله وسلامه عليه) كان صادقاً في دعواه في نشر السلم ، وتحقيق العدل ، والمساواة بين الناس ، وأنه لم يكن يعمل من أجل حساب الإنسان العربي أو الإنسان المسلم فقط دون غيرهما من سائر الناس ، بل كان يكرر في خطابه نداءه للناس جميعاً ، ويصدره بين الحين والآخر بعبارة ( أيها الناس) وبعبارة :( ليبلغ الشاهد منكم الغائب) بل إنه كثيراً ما تحدى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه والعرب جميعاً بأن مظلة الأمن والسلم سوف تنشئ آفاقها على العباد والبلاد في فترة وجيزة ، وكان يقسم على ذلك ، ويقول فيما يرويه الإمام البخاري : ( ... والله ليتمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) .

أما القائمون على المنظمات الدولية التي أخذت على عاتقها نشر السلام في العالم فإنهم لم يكونوا مخلصين في دعوتهم ؛ إذ كانوا يفرقون في دخائل أنفسهم بين الغرب والشرق ، وبين حق الإنسان الغربي في الأمن والسلم وحق غيره من سائر الناس.   

وانطلاقاً من مبادئ الإسلام العامة ومقاصده المهمة ، لم يقتصر السلام في الإسلام على أهل الإيمان، وإنما صار مبدأ للبشرية قاطبة، لينعموا مع المسلمين بالأمن والسعادة، ويحرصوا جميعاً على نشره في الأرض ، فلقد جاء في حديث زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ).

أرأيت كيف أن الخطاب لكل الناس ؟!  ليس هذا فحسب، بل إن الأقرب من ربه وكرمه وعطفه ووده وبره، هو الأسبق من غيره في بذل السلام وإلقائه وإفشائه، لما ورد في سنن أبي داود بسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ ).

ولقد أكد أئمة الإسلام في كل عصر وأوان على أنَّ السلام هو الهدف الأسمى من رسالة الإسلام وأهم غاياته في الأرض، ومن ثم جاءت الرسالات تترى؛ مؤكدة ضرورة المعاملة في ضوء السلم النفسي والأسري، فهذا نوح - عليه السلام - يخاطبه ربه: { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}[هود: 48] ، وهذا إبراهيم - عليه السلام - لما وصل مع  أبيه عند نقطة لا يمكن معها  الاتفاق، وأصر أبوه على طرده ، لم يؤثر عنه أن أساء له أو نال منه ؛ وإنما كان ما سجله القرآن الكريم ، حيث قال:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 46، 47] .

وهكذا يعني السلام في مضمونه العملي إقامة مبدأِ العطف والبر مع العدل والمساواة والحرية ، بعيداً عن الأطماع البشرية ؛ إذ لا يسمى السلام سلاماً إذا كان  لصالح طرف دون الآخر، وإنما يكون ظلماً وذلاً ، لذا قال تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

          وقد أودع الله - تعالى- أوامره وزواجره سبحانه معاني السلام ، فمما لاشك فيه أن عمل الصالحات يسهم في نشر الأمن والسلام، كما أن التصدي للمخالفين والعابثين الفاسدين والمفسدين يحقق الأمن والسلام ، وقد جاء في الحكم أو المثل: "من أمن العقوبة أساء الأدب" ،

 ولذا قال الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، والمعنى: أنه لما كانت النفس الإنسانية محترمة في الإسلام ، كان من أهرق دم نفس واحدة بدون حق فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن عمل على حفظها وصيانتها ولو كانت واحدة فقط فكأنما أحيا الناس جميعاً.

إن الإسلام أمر بحسن معاملة الأعداء، علَّهم أن يعودوا إلى رشدهم فيكفوا عن ظلمهم وعدائهم ، قال الله تعالى:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الزخرف:88-89] .

وبهذا يحرص الإسلام علي أن يغرس السلام في نفوس أتباعه ويربيهم علي ذلك بالتطبيق العملي، ولا يعني هذا إقامة السلام فيما بينهم فحسب بوصفهم أتباع دين واحد ، ولكنه يعني أيضا إقامة السلام مع كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وأديانهم وألوانهم .

كما وضع الإسلام للمسلمين مبدأ عاما للتعايش السلمي بينهم وبين غيرهم من الشعوب، هذا المبدأ يتلخص في ضرورة التعايش الايجابي مع الآخرين أيا كانوا ، ومعاملتهم بالعدل والإنصاف والتسامح ، طالما أن هؤلاء لم يصدر منهم أي عدوان علي المسلمين ، ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين ضدهم ، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8، 9].

بل حتى في ميدان الحربِ والقتالِ؛ قرر الإسلام أنه إذا ألقى العدوُّ السلام وجبَ الكفُّ عنه واعتبارُه مُسلمًا مُتمتِّعًا بالسلام؛ عملاً بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }[النساء: 94].

ولأهمية السلام في الإسلام نجد أنه لا يرتبط بالإنسان فقط ، بل للحيوان والنبات والجماد أيضاً ، ويكفي أن نشير إلى أن كلمة (السلام) وردت في القرآن الكريم إحدى وأربعين مرة ، بينما وردت كلمة (حرب) أربع مرات فقط ، وضرورة السلام للإنسان في الإسلام تنبع من أنه دين يسوي بين الناس جميعاً في الحقوق وفي الواجبات ، وأول هذه الحقوق هو حق ( الاختلاف ) فالله تعالى خلق الناس مختلفين: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود : 118] .

وإذا كان الاختلاف مشيئة إلهية في خلق الناس لا راد لها ، فإن العلاقة بين المختلفين - فيما يقرر الإسلام - هي علاقة التعارف والالتقاء ، والتعاون على البر والتقوى .. و(السلام) هو مقتضى علاقة التعارف ولازمها الأول.

جدير بالذكر أن الإسلام ينظر إلى السلام على أنه الأصل في العلاقات الدولية وفي علاقة الناس بعضهم ببعض ، وأن الحروب ضرورة واستثناء.

إن آفة الآفات  في فلسفة السلام أن يرتبط بمقاصد السياسات الدولية ومزاجها المتقلب ، وأن يتخلى عن مقاصد الأخلاق وغاياتها الثابتة التي نادت بها الديانات السماوية ، وحثت على الالتزام بها ، وفي هذه الآفة يكمن الفرق بين نظرة الرسالات الإلهية لمفهوم السلام وضرورته القصوى كشرط أساسي للتقدم والرقي والرفاهية ، وبين معنى السلام في مفهوم الأمزجة البشرية المتقلبة حيناً والمتصارعة حيناً ، والظالمة حيناً آخر.

وعليه فالسلام هو صمام الأمان في المجتمعات، ترتفع به دعائمه، وتعلو رايته، ويعيش أبناؤه في أمن واستقرار ، ويزدهر لهم به وجه الحياة ، فيقوى اقتصادهم، ويعيشون في سعة من العيش ورغد ورفاهية.

ومن هنا يعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن ننشر السلام بين أولادنا وأهلينا كلما ولجنا البيوت والمنازل، قال تعالى:{فإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(النور:61)..

وهكذا كفل لنا التشريع الإسلامي إشاعة السلام في جنبات المجتمع حتى يعم الأمن ويكثر الخير وتفيض البركة  .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الإسلام دين البناء والتعمير

أولا: العناصر:

1-      عمارة الأرض مطلب شرعي.

2-      دعوة الإسلام للبناء والتعمير.

3-      إتقان العمل سبيل نهضة الأمم والشعوب.

4-      نبذ الإسلام لكل مظاهر الكسل.

5-      التحذير من التخريب والإفساد في الأرض.

ثانيا: الأدلة:

   الأدلة من القرآن الكريم:

1-    قال تعالى:{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود: 61] .

2-      وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك :15] .

3-    وقال تعالى:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[ المزمل:20].

4-   وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105].

5-   وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 56] .

6-   وقال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33].

الأدلة من السنة:

1-    عن المقدام (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) (رواه البخاري ) .

2-    وعن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من أمسى كالاَّ من عمل يديه أمسى مغفورًا له) (المعجم الأوسط).

3-    وعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ) (رواه البخاري) .

4-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ) (صحيح البخاري).

5-    وعن أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال : قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَليغرسها) (رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد ).

6-    وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) (رواه الطبراني).

7-    وعَنْ أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: كان رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ) (رواه مسلم).

ثالثا: الموضوع:

لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم ، وكرمه وفضله على سائر خلقه ، وسخر له كل ما في الكون ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[الإسراء:70 ]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 29] ، واقتضى هذا التكريم والإنعام استخلافه في الأرض ، قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِإِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة ً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ، ثم حدد ربنا للإنسان مهمة عظيمة بجانب مهمة العبادة وهي مهمة إعمار هذا الكون ، واستخراج كنوزه وخاماته ، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }[هود:61]، أي : طلب منكم عمارتها وإصلاحها ، والنظر فيما أودع فيها من خيرات وما قدر فيها من أقوات .

ولقد أمر الله عز وجل الإنسان بالسعي والأخذ بالأسباب ، وعدم الركون إلى الخمول والكسل لتحقيق هذه الغاية ، فقال سبحانه وتعالى :{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15].

ولا يتوقف السعي والعمل على وقت معين ، بل لا بد وأن يسعى الإنسان حتى آخر نفس في حياته ، وإلى ذلك أشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إنْ قَامَت السَّاعةُ وَفِي يَد أَحَدِكُم فَسِيلةٌ  فَإنْ استَطاعَ أنْ لَا تَقُومَ حَتى يَغرِسَهَا فَليَغِرسْهَا) (رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد). فالإسلام دين يُقَدِّس البناء والتعمير ويدعو إليهما ، حتى وهو في وقت الشدة ، لأنهما عصب الحياة ومن أهم سبل تقدم الأمم والمجتمعات.

ولقد اهتم الإسلام بتعليم وتعلم كل ما يتم به عمارة الكون وبناؤه ، فحث الإسلام أتباعه  على الضرب في الأرض والسعي في مناكبها ، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر ، مع الحث الواضح على العمل ، ففي الحديث عَنِ المقدام (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) (رواه البخاري) ، فالإسلام هو دعوة صريحة للعمل الذي يتحقق به التعمير والبناء فيعود بالخير على الدنيا كلها.

هذا : ولقد نظر الإسلام إلى العمل الجاد نظرة توقير وتمجيد ، فرفع قدر العمل وقيمته وجعله سبيلاً للرقي والتقدم ، وجعله عبادةً يثاب عليها فاعلها ، فقد حث القرآن الكريم من خلال آياته على السعي على المعاش والعمل ، وجاء الأمرُ بالانتشار في الأرض طلبًا للرزق الحلال بعد الأمر بالصلاة ، يقول تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة :10]، وكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

ولأهمية العمل من أجل البناء والتعمير وردت في القرآن الكريم نصوص كثيرة تحدثت عن العمل ، وكذلك السنة النبوية المطهرة زاخرةٌ أيضا بنصوص تحث على الجدِّ والاجتهاد والحثِّ على العمل والبناء ، وترك الخمول والكسل، وتبين أن العمل سبيل لحفظ ماء الوجه والرفعة والعزة والكرامة الإنسانية ، فعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ) (رواه البخاري)، وكان سفيانُ الثوريّ (رحمه الله) يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟! قال: اطلُبوا من فضلِ الله ، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.

ولقد بين الإسلام الحنيف أن من يسعى على كسب معاشه ورزق أولاده من حلال فهو في درجة الشهيد أو المرابط في سبيل الله ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ !! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (رواه الطبراني).

ولم يكتف الإسلام بمجرد دعوة أصحابه إلى العمل كسبيل للبناء وإعمار الكون فحسب ، بل دعاهم - أيضًا- لإتقان العمل وإحسانه ، رجاء محبة الله تعالى ورحمته ، فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ) (رواه الطبراني).

إن إتقان العمل والاهتمام به والمحافظة عليه من أهم القيم والمبادئ التي دعا إليها الإسلام، وهو هدف من أهداف الدين ، يسمو به المسلم ويرقى به إلى مرضاة الله تعالى والإخلاص له، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه، فلقد خلق الله عز وجل كل شيء بإتقان مُعجز ، يقول تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]، وحثه على الإحسان والإجادة ، ونهاه عن الإفساد ، فقال تعالى: {...وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195]، وقال:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].

ولقد دعا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى إتقان العمل والإخلاص في أدائه طلبًا لمرضاة الله تعالى ، ونصحًا لعباده ، وخدمة وتعاونًا بين أفراد المجتمع ، ووعد على ذلك الثوابَ العظيمَ والثناء الحسن في الدنيا والآخرة ، وبيَّن أن الإنسان وهو يزاول عملًا ما  يكون تحت رقابة الله ، العليم بمكنونات الصدور وخفايا القلوب ، وأنه لا يغيب عنه مثاقيل الذر من أعمال العباد ، فهو سبحانه يسطرها لهم ويسجلها عليهم ويجازيهم بها يوم يلقونه، قال تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، فالله عز وجل هو الذي يرى الإنسان ويراقبه في عمله ، يراه في مصنعه وفي مزرعته وفي متجره وفي أي مجال من مجالات سعيه وعمله ، يقول تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة: 105]. فالأمر هنا كما قال المفسرون: فيه تخويف وتهديد : أي إن عملكم لا يخفى على الله ، ولا على رسوله ، ولا على المؤمنين ، فسارعوا إلى أعمال الخير ، وأخلصوا أعمالكم لله عزّ وجلّ ، وفيه أيضاً ترغيب وتنشيط ، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء أكان خيرًا أم شرًّا رغب إلى أعمال الخير ، وتجنب أعمال الشرّ ، وما أحسن قول زهير :

ومهما تكن عند امرىء من خليقة      **     وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وكذلك جاءت السنة النبوية المطهرة بالدعوة إلى إتقان العمل والبناء من أجل الوصول إلى الأفضل والأحسن والأتقن ، ففي الجانب التعبدي كالصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، وفي قراءة القرآن : يقرؤه الماهر به الذي بشره الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأنه مع السفرة الكرام البررة ، ويأمر من يلي أمر الميت بقوله: ( إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ) (رواه مسلم). وعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُمْكِن لَهَا ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( سَوُّوا لَحْدَ هَذَا ) حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ: ( أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ) [رواه البيهقي].

   فكل عمل يعمله الإنسان لابد وأن يكون حسنًا متقنًا ، وأن يراعي الله تعالى فيه ، فهو سبحانه وتعالى وحده المطلع على قلوب العباد ويحصي عليهم أعمالهم عظمت أم صغرت ، كثرت أم قلت. أما الذي لا يتقن عمله ولا يراقب الله تعالى فيه فإنه آثم بقدر ما يتسبب فيه من ضياع الأموال وإهدار الطاقات ، فهذا الموظف الذي يقصر ويهمل ولا يتقن عمله ويرضى لنفسه أن يتقاضى أجرًا حرامًا يخاصمه فيه الشعب كله يوم القيامة ، ومن كانت هذه صفاتهم فإنهم يتحملون وزر تأخر الأمة وتخلف البلاد ، نشكوهم إلى الله تعالى ، يقول عمر (رضي الله عنه): ( إلى الله أشكو ضَعْفَ الأمين وخيانة القوى)( مجمع الأمثال للميداني).

ولقد حارب الإسلام كل مظاهر اليأس والكسل التي لا تساعد على البناء والتعمير ، واعتبر الكسل صفة ذميمة ، فقد ذمّ الله عزّ وجلّ الكسالى في كتابه المجيد وبين أنه من صفات المنافقين فقال :{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}[التوبة: 54] ، فالكسل سلبية خطيرة وآفة مهلكة تفسد الأمم والشعوب وتؤدي إلى تخلفها عن ركب الحضارات المتقدمة ، وهو داء وبيل إذا تمكن من الإنسان كاد أن يفقده إنسانيته ، قال الإمام الراغب: (من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية ، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى) (الذريعة إلى مكارم الشريعة) ؛ لذلك استعاذ النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من الكسل والتراخي ، فعن أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: كان رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ) [رواه مسلم] ، وقد قرن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في استعاذته بين الكسل والعجز لأنهما قرينان فكل منهما يؤدي إلى التثاقل عن إنجاز المهمات المطلوبة من الشخص إنجازها.

فالكسل آفة قلبية وعائق نفسي يوهن الهمة ، ويضعف الإرادة ، ويقود إلى الفتور ، وهو جرثومة قاتلة ، وداء مهلك ، يعوق نهضة الأمم والشعوب ، ويمنع الأفراد من العمل الجاد والسعي النافع. وإنما عاب الإسلام الكسل وحذر منه ؛ لأن فيه تغافلا عما لا ينبغي التغافل عنه ، ولأنه يجر إلى الفتور في الأفعال مع الشعور بالسآمة أو الكراهية والعياذ بالله ، ويجعل الإنسان يكره الخير لضعف همته وقلة عزيمته ، ويجعله يفرط في الواجبات ، وهو آفة النجاح ، يفتك بكل من يصيبه ، فيجعل صاحبه إنسانًا متواكلاً عالةً على الناس عاجزًا عن تحمل مسؤولياته كإنسان ، فيمتد خطره إلى أفراد المجتمع، يقول الإمام علي (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): التواني مفتاح البؤس ، وبالعجز والكسل تولدت الفاقة، ونتجت الهلكة ، ومن لم يطلب لم يجد وأفضى إلى الفساد ) ، فالتكاسل ليس من هدي الإسلام ولا قيمه لأن الإسلام يسعى للخير وعمارة الكون ، أما الكسالى فإنهم لا يبنون حضارة ، بل يساعدون على هدم كل الحضارات.

ومن الأمور التي حاربها الإسلام لأنها لا تؤدي إلى البناء وإعمار الكون الإفساد في الأرض والسعي في خرابها ، فالفساد في الأرض هو خلق اللئام من البشر ، لا يتخلق به إلا المنافقون الذين قال الله فيهم:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ}[المائدة: 64]، ويقول سبحانه: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[البقرة:60].

وللفساد صور متعددة ، أخطرها ما كان باسم الدين ، فقد ابتليت الأمة بأناس يفسدون في الأرض باسم الدين والدين منهم براء ، فيقتلون ويستبيحون الأعراض والأموال باسم الدين ، وهؤلاء ذمهم الله (عز وجل) في كتابه ، فقال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة: 204 :206] .

إن الفسادَ بكل صوره وأنواعه يُزعزِعُ قيم البناء والتنمية ، وينشُر السلبيَّة وعدمَ الشعور بالمسؤولية، ولابد من التصدي للفساد والمفسدين ، فالتصدي له فيه نجاة للمجتمع كله ، وإهماله وعدم التصدي له فيه الهلكة للمجتمع كله ، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) أن رسول الله  (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كان يقول: ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ) (رواه البخاري)، فلابد من التآزر والتعاون والتناصر والتضامن بين المسلمين وتحقيق الإيمان والأخوة الإسلامية.

          إن تطهير الأرض من المفسدين ، وتأمين الطرق والمنشآت وحمايتها من أعظم أعمال الخير  وأجل أنواع البر ، فالله (عز وجل) يدفع بالمصلحين فساد المفسدين ، قال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}[هود: 116]. فإن المفسد مِعول هدم للمجتمع، ولا نجاة للعباد إلا بمنعه من الفساد.

والأمة الإسلامية - بفضل الله تعالى- تملك الكثير من خيرات الله ، ففيها الأرض الخصبة وفيها البحار والبحيرات والأنهار العظام ، وفيها معظم المعادن التي يحتاجها العالم المعاصر ، وتملك أكبر مخزون في العالم من النفط ، إضافة إلى ما تملك من ثروات هائلة من العقول المفكرة والأيدي العاملة ؛ لذلك وجب عليها أن تستثمر ممتلكاتها وثرواتها أحسن استثمار ، وأن تستثمر أوقاتها في الخير ومنفعة الناس ، وفي سبيل النهوض الحضاري والتقدم العلمي.

فأمتنا أمة عمل لا أمة كسل ، أمة بناء لا أمة هدم أو تخريب ، أمة حضارة ، ولم يكن التخلف أبدًا سمة من سماتها ، فحري بكل مسلم يحب دينه ويعتز به أن يعمل من أجل رفعة دينه وعزة وطنه.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الإسلام دين الأمن والأمان

أولا : العناصر :

1-       الإسلام دين الأمن والأمان.

2-      البلطجة ظاهرة من الظواهر السلبية.

3-      أهم أسباب البلطجة.

4-       من مظاهر البلطجة.

أ ــ ترويع الآمنين.

ب – الاعتداء على المرافق العامة.

ج- الظلم وأكل أموال الناس بغير حق.

5-      علاج الإسلام لظاهرة البلطجة والإجرام .

    ثانيًا : الأدلـة :

           الأدلة من القرآن الكريم :

1-  قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[المائدة: 33].

2-  وقال تعالى:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة: 205، 206].

3-  وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة: 32].

4-    وقال تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى: 42].

5-    وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: 58].

6-    الأدلـة من الســنة :

1-   عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ) (صحيح مسلم).

2-   وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ : (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ) (متفق عليه).

3-   وعن أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)(صحيح مسلم).

4-   وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) (صحيح البخاري).

5-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ)؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (سنن الترمذي).

6-   وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ) (سنن الترمذي).

ثالثًا : المـــوضــــــوع:

مما لا شك فيه أن الأمن والأمان من أهم دعائم المجتمعات ووسائل استقرارها ، وإن شئت فقل إنه أهمها ، فلا استقرار بلا أمن ، ولا اقتصاد بلا أمن ، ولا نهضة ولا رقي ، ولا تقدم ولا ازدهار بلا أمن .

ولقد حرص الإسلام كل الحرص على استقرار حياة الناس والحفاظ على أمنهم، وحرّم كل اعتداء أو ترويع يهدد هذا الاستقرار ، ويضيع هذا الأمن؛ وذلك لأن الأمن من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده ، يقول الحق سبحانه وتعالى مذكرًا بنعمه على أهل مكة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[القصص: 57] ، وقال سبحانه: { لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [سورة قريش] ، ففي رحاب هذا الأمن يعبد الناس ربهم ، ويقيمون شريعته ، ويدعون إلى سبيله ، وتزدهر حياة الناس، ويسودها الهدوء ، وترفرف عليها السعادة .

          لذلك حرَّم الإسلام كلَّ سبب يفضي إلى تهديد هذا الأمن ، ومن ذلك ظاهرة البلطجة التي انتشرت في مجتمعنا في الآونة الأخيرة ، والتي أصبحت تشكل خطراً أمنيًّا حقيقيًّا على مستوى الفرد والمجتمع .

والبلطجة : كلمة تعني استخدام العنف والقوة لترويع الناس ، والاعتداء عليهم بالبطش والظلم وأخذ ممتلكاتهم وخطف أطفالهم في بلطجة سافرة نهانا عنها نبينا (صلى الله عليه وسلم)، وحذرنا منها ربنا عز وجل في القرآن الكريم ، وهي بهذا تعد كبيرة من الكبائر ، وإفساداً في الأرض ؛ لأن انتشارها يقضي على الأمن والاستقرار الذي حرصت الشريعة الإسلامية على إرسائه في الأرض ، وجعلته من أهم مقاصدها التي لا تستقيم الحياة إلا بها.

ولقد اتخذت هذه الظاهرة صورًا وأشكالاً متنوعة ، ومن مظاهر ها : القتل والتهديد ، والاعتداء على المنشآت والممتلكات العامة والخاصة ، و قطع الطرق ، مما يؤدي إلى شل حركة الحياة وتعطيل مسيرتها، وذلك تحت أي مبرر من المبررات ، فالبلطجة ليست مقصورة على القتل وفقط، بل هي مفهوم واسع النطاق، ما بين قتل وتنكيل، ومحاربة لله ورسوله، وظلم الناس وأكل حقوقهم بالباطل ، وما يترتب على ذلك من إرهاب يتمثل في إزهاق أرواح أناس أبرياء ، وسرقة ونهب وتعذيب الآخرين ، ونشر الفزع والخوف في قلوب الناس ، وكل ما يضر بمصالح الوطن مما لا يقره دين ولا خلق ، لأن البلطجي لا ضمير له ، ولا ذِمَّة له ولا عهد ، ولا يخضع لأي قيم إنسانية، أو وازع ديني أو أخلاقي، وفي ذلك يقول النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ) (صحيح البخاري).

جدير بالذكر أن هؤلاء الذين يرتكبون مثل هذه الأفعال الإجرامية يعملون على نشر الفوضى والفساد في الأرض ؛ لذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بالتعنت والوقوف أمام حرماته ، فأوجب عليهم العقاب في الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة: 205، 206].

ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ ، بل لها أسبابها التي أدت إليها أو ساعدت عليها، ومن أهم هذه الأسباب:

التربية الأسرية الخاطئة : حيث ينشغل الأبوين بحياتهما عن أبنائهما ، فلا يقومان بمتابعة حياتهم ، ولا بتقويم سلوكياتهم ، بالإضافة إلى سوء المعاملة من بعض الآباء لأبنائهم مما جعل الأبناء عرضة لهذه الظاهرة ، ولو فطن الوالدان إلى حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): الذي يرويه الإمام البخاري عن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (رواه البخاري) ما كانت هذه التنشئة الخاطئة التي تسببت في انتشار هذه الظاهرة ، إذ إن النشأة عليها دور كبير وعظيم في تشكيل نفسية الأبناء.

كذلك من أهم هذه الأسباب: ضعف الوازع الديني ، والبعد عن الأخلاق ، فما يحدث حاليًا في مجتمعنا من ترويع وإرهاب و سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت ، يرجع إلى غياب الوازع الديني ، وانعدام السلوك الحضاري وانعدام القيم ، وتدهور الأخلاق ، فكلها  بلطجة إجرامية ، وسلوكيات خارجة عن تقاليدنا وعاداتنا ، إنها إفساد في الأرض وإشاعة للرعب والخوف ، والإسلام بريء منها ، وكذلك كل مسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر بريء منها، فالدين قوام الحياة الطبيعية وعمادها ، والحياة بلا وازع ديني حياة بلا قيم ، بلا أخلاق ، لأن أساس هذا الدين العظيم هو مكارم الأخلاق ومحاسنها، فقد روى البيهقي في سننه أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ ).

وتتمثل خطورة البلطجة في مخاطر كثيرة ، من أهمها:

ترويع الآمنين: فلقد جاءت شريعة الإسلام لتكفل للإنسان حقه في عيش آمن ونفس مطمئنة‏ ،‏ فنهت عن مجرد ترويع الآمنين، حتى ولو كان على سبيل المزاح، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ  فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).

فديننا الحنيف حذّر من ترويع الآمنين وتخويفهم ، وحرّم التعدي عليهم ، لأنه إجرام تأْباه الشريعة والفطرة ، يقول (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ ) (صحيح مسلم). وأخرج البزار والطبراني عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنّ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: ( لَا تُرَوِّعُوا الْمُسْلِمَ؛ فَإِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ).

          بين الحرابة والبلطجة: لقد شرع الإسلام من الأحكام ما يحافظ على النفس والمال والعرض ، فنهى عن الاعتداء على الإنسان أيا كان جنسه أو لونه أو معتقده ، أو التعرض له بالإيذاء والضرر في نفسه وماله وعرضه‏،‏ واعتبر التعدي عليه أو إيذاءه فسادا في الأرض‏ ،‏ ولذا عرف حد الحرابة بالبلطجة كما نسميها اليوم.

ومفهوم المحاربة والسعي في الأرض فسادا يصدق على كل من وقع منه التعدي على دماء العباد وأموالهم في كل قليل وكثير وجليل وحقير ، وحكم الله في ذلك هو  ما ورد في هذه الآية ، من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ، لكل من خرج على الناس بسلاحه ، يقتلهم ، أو يقطع طريقهم ، أو يغتصب أموالهم ، أو يحارب جنودهم ، أو يهين سلطانهم ، أو يعتدي على أعراضهم.

ومن ثمَّ شرع القصاص لحفظ النفس ، وحد السرقة لحفظ المال ، وحد الزنا وحد القذف لحفظ العرض ، وحد الحرابة للمفسدين في الأرض .

فإذا زاد الترويع والاعتداء إلى حد الاستيلاء على الممتلكات بالقوة  دخل ذلك في باب (الحرابة) ، وهي كبيرة من كبائر الذنوب ؛ غلظ القرآن الكريم عقوبتها أشد التغليظ، وسَمَّى مرتكبيها  (محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد )، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة: 33]، بل نفى النبي (صلى الله عليه وسلم) انتسابَهم إلى الإسلام ، فقال في الحديث المتفق عليه: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ).ومن فداحة هذه الجناية أن الحدَّ فيها لا يقبل الإسقاط ولا العفو باتفاق الفقهاء؛ لأنها انتهاك لحق المجتمع بأسره، فلا يملك المجني عليه العفو فيها.

كذلك من مخاطر البلطجة : ظلم الناس وأكل أموالهم بغير حق ، فإن من يستولى على ممتلكات غيره بالقوة - فضلًا عن الاعتداء على النفس أو العرض - فإن ذلك يعد ظلماً وأكلاً للأموال بغير حق  ، هذا السلوك (سلوك البلطجة) يتنافى تمامًا مع الإسلام ، وينذر بعواقب وخيمة من خلال آيات القرآن الكريم ، فقال سبحانه :{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42].

ويحذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الظلم فيقول: ( اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ) (صحيح مسلم) ، بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) يحذر مَن يسلك سلوك هذه البلطجة وهذا الاعتداء بأنه سيكون من المفلسين يوم القيامة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ)؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) (سنن الترمذي). فمن يرضى لنفسه هذا المصير؟.

ونحن هنا نحذر كل ظالم وبلطجي : احذر فهذه الأموال التي تتقاضاها وتستولي عليها بالظلم والاعتداء على  الآمنين لن تحقق لك الغنى الذي تريده ، بل ستكون مفلسًا أمام الله يوم القيامة ، بل هناك ما هو أكثر من هذا؛ فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل للإسلام مواصفات يجب أن يلتزم بها المسلم ، فيقول في الحديث المتفق عليه: ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ). وهؤلاء قد فرطوا في حقِّ إسلامهم.

ولعلاج هذه الظاهرة يجب الآتي:

أولاً : الاهتمام بالقيم الإيمانية والأخلاقية ، وزرعها داخل النفوس من خلال التربية الإسلامية الصحيحة ، وصدق الله حيث قال:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى }[طه: 124،123].

ثانياً: التنشئة الأسرية السليمة، القائمة على كتاب الله – تعالى- وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وتربية النفس على دوام المراقبة لله تعالى ، فإذا راقب الإنسان ربه في كل تصرفاته، فإنه سيستحي أن يظلم نفسه، فما بالك بظلم الناس ! وقد حثنا الله على مراقبته في كل أحوالنا، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] ، فبدوام المراقبة لله نستطيع أن نتغلب على كل مشاكلنا، ونصل إلى حلها بإذن الله.

ثالثاً: استخدام العقاب الرادع لحفظ المال والعرض والدين ردعاً للجريمة وترهيباً من مغبتها؛ فقسوة العقوبة هدفها منع الجريمة ، ومن ثمَّ أوجبت الشريعة الإسلامية على الأفراد والمجتمعات أن يقفوا بحزم وحسم أمام هذه الممارسات الغاشمة ، وأن يواجهوها بكل ما أوتوا من قوة حتى لا تتحول إلى ظاهرة تستوجب العقوبة العامة، وتمنع استجابة الدعاء ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ ) ( أخرجه أبو داود والترمذي وصححه )، وروى الترمذي وحسنه من حديث حذيفة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى كل خير ، وأن يجنبنا كل مكروه وسوء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

واجبنا نحو القرآن الكريم

أولًا- العناصر:

1.     القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة.

2.     منزلة القرآن الكريم وفضائله.

3.     منزلة أهل القرآن الكريم في الدنيا والآخرة. 

4.     واجب المسلمين نحو القرآن الكريم. 

                               أ- تعظيمه وقراءته وتدبر آياته.

                             ب- الأدب مع القرآن ، والتخلق بأخلاقه.

                              ج - العمل بأوامره ونواهيه.

ثانيًا: الأدلة من القرآن والسنة:

                 الأدلة من القرآن الكريم:

1-    قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23].

2-    وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .

3-    وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى: 52، 53].

4-    وقال تعالى:{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء: 9] .

5-    وقال تعالى :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9].

6-    وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: 17].

7-    وقال تعالى : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82].

8-    وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23].

9-    وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].

10-     وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88].

        الأدلة من السنة :

1-    عن عائشة (رضي الله عنها) حين سئلت عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) قالت: (كَانَ خلقه الْقُرْآن)(مسند أحمد).

2-    وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ) (سنن أبي داود).

3-    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ) (سنن ابن ماجه).

4-    وعن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ ألْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)(سنن الترمذي).

5-    وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ(صلى الله عليه وسلم): اقْرَأْ عَلَيَّ، قَالَ: قُلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي). قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}قَالَ لِي: (كُفَّ ، - أَوْ أَمْسِكْ- فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَان)(متفق عليه).

6-    وعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (...وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ...) (صحيح مسلم).

7-    وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ) (متفق عليه).

8-    وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ فِى الصُّفَّةِ فَقَالَ: (أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ) قَالُوا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَإِنْ ثَلاَثٌ فَثَلاَثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ)(سنن أبي داود).

9-    وعن أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ). وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) (صحيح مسلم).

ومن الآثار:

10-     يقول أبو عبد الرحمن السلمي (رضي الله عنه): « كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا الْعَشْرَ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمِ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا»[مصنف عبد الرزاق].

ثالثًا: الموضوع:

إن القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الكبرى في كل زمان ، عجِز الإنسُ والجنُّ عن أن يأتُوا بمثلِه، قال سبحانه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. بل عجِزوا أن يأتوا بعشر سُورٍ مثلِه، أو بسورةٍ من مثلِه ، قال سبحانه :{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[هود: 13] ، وقال سبحانه:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23].

 ولقد أنزله الله تعالى على قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) هداية للناس إلى الطريق المستقيم ، ينير به الحياة ، ويهديَ به الحيارى ، فهو دستور المسلمين ، به تحيا القلوب ، وبه تَزْكُو النفوس ، وبه تتهذب الأخلاق ، يقول سبحانه :{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:1-3] ، ويقول عز وجل : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء: 9] ، من تمسك به نجا من الفتن ، إنه روح المؤمن ونور هدايته ، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى: 52، 53].

ومن جمال نوره سمعه فريق من الجن فآمنوا به وعظموه فاهتدوا به إلى الصراط المستقيم ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين ، كما حكى القرآن الكريم ، يقول سبحانه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[ الأحقاف : 29-32].

وإذا كان هذا حال الجن مع القرآن الكريم فإن للملائكة أيضًا حالاً معه ، فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: «وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا ، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ» (صحيح البخاري). هكذا يكون أثر القرآن حين يتلى.

إنه كلام الله (عز وجل) الذي لا تنقضي عجائبه ، تكفل الله تعالى بحفظه من التحريف والتبديل ، فقال :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] ، من قال به صدق ، ومن عمِل به أُجِر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ، جعله الله - عز وجل- رحمة وشفاء ، فقال سبحانه :{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَاقْبَلُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، اتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ كُلَّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ وَلَامٌ وَمِيمٌ) (مستدرك الحاكم).

رفع الله منزلته فوصفه بأجل الصفات ، وذكره بأعظم الأسماء ؛ ليعلم الناس قدره وعظمته، فوصفه الله تعالى بقوله:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1]، وقوله :{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41، 42]، إلى غير ذلك من الصفات التي تدل على عظمته ومنزلته وقدره.

ولقد أخبرنا النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بفضائل كثيرة للقرآن الكريم تعود بالنفع على الإنسان في الدنيا والآخرة ، من هذه الفضائل: 

·        الخيرية لأهله ، لحديث عُثْمَان بن عفان (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) (صحيح البخاري).

·        الرفعة لصاحبه ، لحديث عبد الله بن عمرو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وسلم ): (يقالُ لصاحبِ القرآن: اقرَأ وارتَقِ، ورتِّل كما كُنْتَ ترتِّل في الدُنيا، فإن منزِلَكَ عندَ آخرِ آية تقرؤها) (سنن أبي داود ).

·        الشفاعة لصاحبه ، لحديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ) (صحيح مسلم).

·        الأجر العظيم لقارئه ، لحديث عَبْد اللهِ بْن مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الْم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) (سنن الترمذي).

·        الحفظ للبيوت العامرة بقراءته ، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) (صحيح مسلم). إلى غير ذلك من الفضائل التي لا تنتهي، فعَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : " الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ ، وَيَتَّسِعُ بِأَهْلِهِ وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لاَ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ ، وَيَضِيقُ بِأَهْلِهِ وَيَقِلُّ خَيْرُهُ " (مصنف ابن أبي شيبة).

ولو تأملنا حال الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) مع القرآن الكريم لوجدنا أنهم لم يكتفوا بالقراءة أو الاستماع فقط ، بل قرأوا وتدبروا ، فتعلقت به قلوبهم ، وارتبطت به نفوسهم ، فكانوا يطبقونه قولاً وعملاً ، يأتمرون بأوامره ، ويبتعدون عن نواهيه ، لذلك ما بلغوا ما بلغوه من الفضائل والرفعة إلا بفضل العمل بالقرآن الكريم ، واستجابة لأوامره ، لقد حفظ سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سورة البقرة في ثماني سنوات ليس لبطء في حفظه ولكن لأنه كان يحرص على العلم والعمل معًا ، يقول أبو عبد الرحمن السلمي (رضي الله عنه): «كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا الْعَشْرَ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمِ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا» [مصنف عبد الرزاق].  

ولأن الصحابة الكرام (رضي الله عنهم أجمعين) كانوا يفقهون آيات القرآن الكريم ويتعايشون معها وجدناهم يسارعون إلى طاعة أوامر الله (عز وجل) واجتناب نواهيه ، فحين نزلت آيات النهي عن شرب الخمر ونادى منادٍ : " ألا إن الخمر قد حُرِّمَت" تجاوبوا جميعًا مع القرآن ، فالذي كان في يده شيء من الخمر رماه ، والذي كان في فمه شربة مجَّها ، والذي كان عنده في أوان أراقها، استجابة لأوامر القرآن الكريم ، حتى امتلأت بها سكك المدينة وقالوا انتهينا يا ربنا ، وكذلك حين نزل قول الله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران: 92] قام سيدنا أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبها إليه وتصدق بها، ومن هنا استطاع الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) حفظ كتاب الله لأنه لم يكن بالنسبة لهم مجرد كلمات ؛ بل كان منهجًا تربويًّا سلوكيًّا إيمانيًّا ظهر في تعاملاتهم فيما بينهم؛ بل ومع غيرهم.

ومن ثمَّ فإن المنزلة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) لأهل القرآن الذين يشتغلون به من أرقى وأعلى المنازل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ)[سنن ابن ماجه]، فقارئ القرآن منتسب إلى الله- تعالى- ، فما أعظمه من شرف ، وبقدر ما يحفظ الإنسان من القرآن يكون الشرف والمنزلة، فأهل القرآن يرفع الله قدرهم بين العباد .

أما واجبنا نحو القرآن الكريم فيتمثل فيما يلي:  

*  تعلمه وتعليمه ، والمداومة على قراءته ومدارسته ، فإن أفضل الناس من يتعلم القرآن ويعلمه ، ففي الحديث (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) ، وقد أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) بقراءته وتعاهده ، فعن أَبِي مُوسَى (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا)(صحيح البخاري)، فالقرآن الكريم مُكَوِّنٌ أساسيٌّ من مكونات الشخصية المسلمة، فمنه يستمد المسلم تعاليم دينه وآدابه، فعلى المسلم أن يسعى إلى تعلم قراءته جيدًا ، وهذا الأمر ليس عسيرًا، فإننا نجد من الناس من يلجأ إلى تعلم اللغات الأجنبية، وتكبد المشاقّ في سبيل تحصيل ألوان من العلوم للحصول على وظيفة تدر عليه دخلًا وفيرًا ، فكيف بمثل هذا أن يتكاسل عن تعلم كلام الله تعالى متعللًا بصعوبة قراءته، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ» [سنن أبي داود]. ولقد وعدنا الحق سبحانه وتعالى أن ييسر كتابه علينا قراءةً وتعبدًا ، قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: 17].

* تدبر آياته وكأنه يتنزل على قارئه ، فإن واجبنا نحو القرآن الكريم لا يتوقف عند حد التلاوة فحسب ، بل علينا أن نتدبره حتى نتذوق حلاوته ونستشعر عظمته ، قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] ، وقال عز وجل :{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82] ، فإن أعلى أهل القرآن أجرًا هم الذين يقرؤون بألسنتهم ويتدبرون بعقولهم وقلوبهم، قال تعالى :{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29]، ولقد أثنى الله على من تلا آياته فازداد إيمانًا بتدبرها، قال  تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : " تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ودليل ذلك قوله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123، 126].

وقد ضرب لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المثل في التأثر بالقرآن والتجاوب مع آياته الكريمة حيث قال يومًا لعبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): «اقْرَأْ عَلَيَّ، قَالَ : قُلْتُ : أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ : إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ لِي: (كُفَّ، - أَوْ أَمْسِكْ- فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَان) (متفق عليه)، إن شأن المؤمن أن يتفاعل كيانه كله مع كلام الله (عز وجل)، يقول الله تعالى:{للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23]. 

* الأدب مع القرآن الكريم والتخلق بأخلاقه ، فإن من الواجب على قارئ القرآن الكريم أن يتأدب بآدابه ، ويتخلق بأخلاقه ، ويتمسك بتعاليمه ، فبأخلاقه يتحرر الإنسان من أهوائه وشهواته ، وتتقوى نفسه بالأخلاق القويمة ، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء: 9] ، وأسوتنا في ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان قرآنا يمشي على الأرض ، يتخلق بخلقه ، يرضى برضاه، ويسخط لسخطه ، وقد سئلت السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) فقالت: «كَانَ خلقه الْقُرْآن»[مسند أحمد].

ولقد دعانا القرآن الكريم في معظم آياته البينات إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ، فمنه نتعلم الرحمة ، والصدق ، والعدل ، والسماحة ، والأمانة ، والوفاء بالعهد ، وغير ذلك من الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها ، ففي ذلك سعادته في الدنيا والآخرة.      

*  التزام أوامره ونواهيه ، فإن واجبنا نحو القرآن الكريم لا يقف عند تلاوته أو جمعه في الصدور أو حتى تدبره ، إنما يتم بالتزام أوامره ونواهيه ، بحيث يظهر هذا جليًا في أفعالنا وأخلاقنا كما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فعلى المسلم أن يأتمر بأوامر القرآن الكريم وينتهي عن نواهيه ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)(صحيح مسلم)، يكون حجة عليك حين تقرؤه فلا يتجاوز آذانك، ولا ينعكس على سلوكياتك وتصرفاتك، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.

* ومن واجبنا نحو القرآن الكريم أن نواجه تحريف الغالين وتأويل المبطلين الذين يحاولون توظيف القرآن الكريم سياسيًا أو أيديولوجيًا للحصول على مأرب أو مغنم، فيجب أن يُتَلقى القرآن الكريم لفظًا ومعنى من أهل الذكر المتخصصين من علماء الأمة الموثوق بعلمهم الذين يعلمون الناس صحيح الدين ومنهج الإسلام القويم ، والذين لا يوظفونه لمصالحهم أو يفسرونه وفق أهوائهم.

فما أشد حاجة العالم اليوم إلى هداية القرآن الكريم ، فإن أزمة العالم الآن أزمة أخلاقية، وما من كتاب دعا إلى مكارم الأخلاق مع كل الناس مثل القرآن ، وإذا كان خطأ المسلمين في هذا الزمان بعدهم عن أخلاق القرآن فإن من أوجب الواجبات عليهم العودة إلى أخلاقه متمثلين النموذج العملي الأكمل في امتثال الأخلاق القرآنية وهو من تنزل عليه القرآن (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي وصفه ربه بأنه على خلق عظيم لامتثاله الأخلاق القرآنية المبثوثة في طول القرآن وعرضه، فقد كان أجمع الخَلْق خُلُقا، لأنه كان أجمعهم للقرآن تطبيقا وامتثالا، يقول تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 4]، كما هو منطوق حديث عائشة (رضي الله عنها) حين سئلت عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) قالت: «كَانَ خلقه الْقُرْآن»[مسند أحمد].

وإننا إذ نذود عن القرآن الكريم الآن لنرجو أن يكون القرآن خير من يدافع عنا يوم لا نجد نصيرًا ولا مدافعًا، فعن أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله  (صلى الله عليه وسلم) يقول: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ». وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» [صحيح مسلم].

فإذا داوَم المُسلمون على تلاوتِه، وتدبَّر معانِيه، وعمِلوا به، وتعلَّموه وعلَّموه أبناءَهم ، كان له أعظم النفع، فبه صلاح المجتمع، حيث تنتشُر الرحمة والعدل، وتنصلِح القلوب، وتكثر الخيرات، وتندفعُ الشُّرور والمُهلِك

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي الرحمة

أولاً : العناصر :

1-    النبي (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين .

2-    من مظاهر رحمته (صلى الله عليه وسلم) .

3-    رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالنساء .

4-    رحمته بالأطفال .

5-     رحمته بالمذنبين والمخطئين .

6-      رحمته بغير المسلمين .

7-      رحمته بالحيوان .

8-    الاقتداء بالرحمة النبوية وأثره في حياتنا المعاصرة.

ثانيًا - الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم:

1-    يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

2-    ويقول تعالى:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128].

3-    ويقول تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }[آل عمران: 159].

4-    ويقول تعالى:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31].

الأدلة من السنة النبوية:

1-  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنِّى لأَدْخُلُ الصَّلاَةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ ) (متفق عليه).

2-  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} الآيَةَ. وَقول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: ( اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ-  فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ) فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ ) (صحيح مسلم).

3-  وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ) (سنن أبي داود ).

4-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : (إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ) (صحيح مسلم).

5-  وعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لاَ تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ)، قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. (صحيح البخاري). 

6-  وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها)  قَالَتْ:  (إِنْ كُنْتُ لَآتِي النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْإِنَاءِ فَآخُذُهُ فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ، وَإِنْ كُنْتُ لآخُذُ الْعَرْقَ مِنَ اللَّحْمِ فَآكُلُهُ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ فَيَأْكُلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ ) (صحيح ابن حبان ).

7-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَرْحَمَ النَّاسِ بِالْعِيَالِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مُسْتَرْضَعٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، وَكُنَّا نَأْتِيهِ ، وَقَدْ دَخَنَ الْبَيْتُ بِإِذْخِرٍ ، فَيُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ ) (الأدب المفرد للبخاري ).

8-  وعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) (صحيح البخاري).

9-  وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: (....اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ....) (صحيح مسلم).

10-     وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ : فَدَخَلَ بُسْتَانًا لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ )، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ) (سنن أبي داود).

ثالثًا- الموضوع :

لقد جمع الله سبحانه وتعالى لرسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) مكارم الأخلاق البشرية، وتألّقت روحـه الطاهرة بعظيم الشمائـل والخِصال، وسيرته العطرة  نبع سخيّ ومصدر ثريّ لكل أنواع العظمة الإنسانيَّة، وكيف لا يكون كذلك وقد اصطفاه الله تعالى على بني آدم، وختم به أنبياءه، فكانت حياته أنصع حياة عرفتها الإنسانيَّة منذ نشأتها، ويكفيه (صلى الله عليه وسلم) شرفًا أن الله سبحانه وتعالى قد شهد له بعظمة الأخلاق فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4].

الرحمةُ المهداةُ جاء مبشِّرا ** ولأفضلِ الأديان قــــــام فأنذرا

ولأكرمِ الأخلاق جاء مُتمِّمًا ** يدعو لأحسنِها ويمحو المنكرا

صلى عليه اللهُ في ملكوته ** ما قـــــام عبدٌ في الصلاة وكبّرا

ومن عظيم الأخلاق التي تحلَّى بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) خُلُقُ الرحمة، فلقد وهبه الله قلبًا رحيمًا ، يرقُّ للضعيف، ويحنو على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، فكانت الرحمة له سجيّة، فشملت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فهو رحمة الله للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهو (صلى الله عليه وسلم) رحمة ربانية مهداة لكل الخلق، وما سنته وسيرته وحياته كلها إلا مظاهر من رحمته (صلى الله عليه وسلم)، بل من مظاهر رحمة الله تعالى بالخلق أن بعث هذا النبي الكريم، فقد جاء بمنهج شامل للحياة، كانت الرحمة من أهم ركائزه، ولقد علَّمَنا بمواقفه العظيمة وتعامله مع الجميع كيف ننسج من الرحمة ثوبًا نهديه إلى من حولنا، ليتحول العدو إلى حبيب بتلك اللمسة الحانية.

ومن رحمته (صلى الله عليه وسلم) أنه كان حريصًا على الناس شديد الخوف عليهم، يسعى بكل سبيل لرفع المشقة عنهم، يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، إنه من أَنْفُسِنا ومن أَنْفَسِنا شفوق بنا، حريص علينا يشق عليه عصياننا، رؤوف بنا يقف على الصراط يقول: ربِ سَلِّمْ سَلِّمْ، ويطيل السجود والدعاء يدعو لأمته بالنجاة والسعادة يوم القيامة، يسجد تحت عرش الرحمن فلا يرفع رأسه حتى يقال له: (يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى ).

لقد قضى حياته (صلى الله عليه وسلم) في خدمة من حوله وإعانتهم، فها نحن أُولَاءِ نراه في خدمة أهل بيته، وكأنه يريد أن يخفف عنهم وطأة متاعب أشغال المنزل، هذه الأعمال التي يأنف معظم الرجال أن يعيروها قدرًا من تعاونهم، كانت أمرًا طبيعيا في حياته (صلى الله عليه وسلم)، إن المرأة لا تحتاج إلى من يساعدها في عملٍ ما بقدر حاجتها لأن تشعر دائما بطيور الرحمة ترفرف حولها، وهكذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغمر أهل بيته بالرحمة، وذلك كلُّ ما تتمناه المرأة من زوجها.

          وقد تعددت مظاهر التعبير عن الرحمة من جانب النبي (صلى الله عليه وسلم) تجاه أهل بيته، فتارة نراه في خدمة أهل بيته، وتارة نراه يداعبهم ويُدخل السرور إلى قلوبهم، وتارة أخرى نراه يتجاوز عن أخطائهم برحمة وحُنُوّ، وهكذا كانت إشارات الرحمة تنتشر       في بيت النبوة، فتفيض عليه حنانًا، سُئلَتْ عَائِشَةُ (رضيَ اللَّه عنها): ( ما كانَ النَّبِيُّ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم) يَصنعُ في بَيْتِهِ ؟ قالت: كان يَكُون في مِهْنَةِ أَهْلِهِ. يَعني: خِدمَةِ أَهلِه. فإِذا حَضَرَتِ الصَّلاة، خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ) (صحيح البخاري )، ولو قرأ الرجال سيرته واقتدوا به ما تحولت بيوتهم إلى جحيم لا يطاق!!

لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رحيمًا بالمرأة، ويوصي بالرحمة بها، بل كان يشفق على المرأة حين يسرع الحادي في قيادة الإبل التي تركبها النساء، فيقول له: رفقا بالقوارير، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لاَ تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ). قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ (صحيح البخاري )، أراد أنّ الإبل إذا سَمِعت الحُداء أسْرعَت في الْمشي واشْتَدّت فأزْعجت الراكب وأتْعَبَتْه فنهاه عن ذلك لأنّ النساء يَضْعُفْن عن شدّة الحركة (النهاية في غريب الأثر لابن الجزري)، يوصي الحادي ألا يسرع بهن!! وما الإسراع بهن شيء يذكر بجوار ما تلاقيه المرأة من معاناة في حياتها من غلظة وجفاء في أحيان كثيرة.

وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل بيته، بادر بالسلام، وإذا دخل ليلًا، خافَتَ به حتى لا تستيقظ زوجته إن كانت نائمة. كما ورد في حديث المقداد قال:  (... فَيَجِىءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لاَ يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ ) (صحيح مسلم)،ألهذه الدرجة؟! يخشى من أن يوقظ أهل بيته وهم نائمون حتى لا يقطع عليهم نومهم وراحتهم! يالها من رحمة عجيبة يجب أن تنحني أمامها جباه كل عظيم.

ومن عجيب رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالمرأة أن يراعي نفسيتها في الأيام الشهرية التي يعتريها فيها ما كتبه الله تعالى على بنات حواء، وفيها يختل نظام الهرمونات لدى المرأة وتكون في أمسِّ الحاجة إلى لطف المعاملة، والحنوّ  والرأفة، وهذه أمور لا يقدرها كثير من الرجال ولا يلتفتون إليها، بل ربما زادوا من ضغوطهم عليها، وربما يغضبون حين يجدون من المرأة تغيرًا في السلوك، ويصفونها بالمتقلبة وبالعبوس، أما سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) فنرى أنوار رحمته تفيض على زوجه عائشة، حين تشرب فيبحث عن موضع شفتيها ليشرب منه، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها)  قَالَتْ:  (إِنْ كُنْتُ لَآتِي النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْإِنَاءِ فَآخُذُهُ فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ وَإِنْ كُنْتُ لآخُذُ الْعَرْقَ مِنَ اللَّحْمِ فَآكُلُهُ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ فَيَأْكُلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ ) (صحيح ابن حبان) إنها قمة الرأفة، بل قمة الإنسانية أن تحتمل من تحب في لحظات ضعفه وتحنو عليه وترحم آلامه، لا أن تتجاهل مشاعره أو تضغط عليه وتحمّله عبئًا فوق عبئه.

 ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رحيما بالصغار، إذا رأى ولده إبراهيم يأخذه فيقبله ويشمّه، وهذا مشهد آخر يظهر عظمة محمد (صلى الله عليه وسلم) الإنسان العطوف الذي زاد شوقه إلى ولده الغائب لدرجة جعلته يقبله ويشمُّه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَرْحَمَ النَّاسِ بِالْعِيَالِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مُسْتَرْضَعٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا وَكُنَّا نَأْتِيهِ ، وَقَدْ دَخَنَ الْبَيْتُ بِإِذْخِرٍ ، فَيُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ) (الأدب المفرد للبخاري).

لقد اعتبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عدم تقبيل الصغار وإشباعهم بالحب والعطف قسوة ونزعًا للرحمة، فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ! فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ) (صحيح البخاري)، بل إن الصلاة نفسها لا تنسيه رحمته بالأطفال ورأفته بهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْعِشَاءَ ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ) [مسند أحمد]، بل كان يسمع بكاء طفل صغير وهو في الصلاة فيخفف رحمةً بالطفل وبأمه ، فعن      أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِه) (صحيح البخاري).

ولقد شملت رحمته (صلى الله عليه وسلم) الجاهل فكان يعلمه برفق ولا يُعَنِّفُه على تقصيره، ولا يَنْتَقِصُ من قدره، فهذا الأعرابي الذي بال في مسجده (صلى الله عليه وسلم) ثار الناس وهموا أن يفتكوا به لهذا الجُرم الذي فعله، فماذا فعل النبي (صلى الله عليه وسلم)؟! قال: (دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) (صحيح البخاري)، وهذه الكلمة نوجهها لكل المسلمين مع ما يقع بينهم الآن من تقاطع وصراع: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.

وهذه رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمخطئ، فماذا فعل مع هذا الشابّ الذي جاءه يستأذنه في الزنا!! فصاح به الناس، لكنه (صلى الله عليه وسلم) قربه منه وقال له في منتهى اللطف والرفق : (أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟)قَالَ: لا، قَالَ:(وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟)قَالَ: لا، قَالَ:(وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟.....) ثم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِ هَذا الشَّابّ ، وَقَالَ:(اللَّهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ) (المعجم الكبير للطبراني)، فخرج الشابّ وما شيء على وجه الأرض أبغض إليه من الزنا، فهذه رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتلكم ثمرتها!!

      ومن مظاهر رحمته (صلى الله عليه وسلم) بغير المسلمين أنه كان يسعى إلى هدايتهم والرفق بهم، وتقديم جانب الحوار على الصدام، فهو يجنح إلى السلم ويبرم المعاهدات، وإذا صار حال العدو  إلى ذلٍ وقهرٍ رَحِمَهُ (صلى الله عليه وسلم)، يرسل إلى الأمم والملوك رسائل يدعوهم فيها إلى الحق قبل أن يفكر في حربهم، وإذا أرسل جيشًا أوصاه بالرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء والذين لا يحاربون، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: (....اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.....) (صحيح مسلم).

والعجب كل العجب أن نجد مظلة الرحمة النبوية تمتد لترفرف على من ناصبوه العداء وحاربوه وفعلوا معه كل ما يستطيعون من الكيد والإيذاء،  إن يوم الحديبية وحده يكفي دليلا على عظمة رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فها هو يقترب من مكة التي خرج منها مطرودًا، وهو اليوم في موطن القوة يستطيع أن يفاجئ القوم ويفعل بهم ما يريد، لكنه يؤثر السلم ويقبل شروط أهل مكة التي لم يرضَ بها كثير من المسلمين في حينها ، فقبلها حتى لا تراق قطرة دم، لقد كانت الرحمة في تفاصيل حياته كلها حتى في وقت الحروب التي دُفِعَ إليها دفعًا، فها هو يدخل مكة يدخل مكة بجيشه العظيم الذي أعجز أهل مكة أن يقاوموه – مجرد مقاومة- فيسمع سعد بن عبادة (رضي الله عنه) يقول مزهوًا: "اليوم يوم الملحمة"، فيردّ النبي (صلى الله عليه وسلم): (بل اليوم يوم المرحمة)! ثم تأتي لحظة النصر فيقف أهل مكة جميعًا أمامه خاضعين مستسلمين ينتظرون أيَّ قضاء يقضي فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فيقول لهم: (مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟ ). قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ : ( اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ)، قالها لهم وفيهم الذين حاصروه هو ومن معه ثلاث سنوات، يمنعون عنهم الطعام فمات من مات معه من الصغار والكبار ، وفيهم الذين قتلوا عمه حمزة (رضي الله عنه) ومثلوا بجثته وحاولوا أكل كبده، وفيهم الذين باتوا يدبرون له المكايد.

إنها رحمة عامة لكل الخلق، ألّفت حوله القلوب، وأذابت الأحقاد فتحولت العداوة إلى محبة قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، يقول ابن كثير رحمه الله: " أي: لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم"

ومع كل هذا نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعلمنا الوسطية والاعتدال حتى   في خُلُقٍ كالرحمة، فلقد كانت رحمته (صلى الله عليه وسلم) مكسوة بالوسطية، فهو رحيم دون ضعف، متواضع في غير ذلة، محارب لا يغدر، سياسي لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب لكن لا ينقض العهود والمواثيق، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والقوة في مواجهة الخصوم.

وهذه الرحمة النبوية لم تقف عند حدود البشر، بل امتدت لتشمل الحيوان، فها هو يوصي بالرفق في الحيوان والإحسان إليه في هذه اللحظة التي يفارق فيها الحياة – عند الذبح- فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) (سنن الترمذي)، إنه (صلى الله عليه وسلم)لا يريد لمخلوق لحظة عذاب لمخلوق ضعيف – وإن كان حيوانًا- ودَخَلَ بُسْتَانًا لِرَجُلٍ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ) (سنن أبي داود).

بعد هذه اللمحات والمشاهد من حياته التي تفيض رحمةً ندرك لماذا حثَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) أتباعه على أن يتخذوا من الرحمة نهجًا في حياتهم، فإن الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى يرحم من عباده الرحماء، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِنَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ) (متفق عليه)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو  (رضي الله عنهما) عن النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) قال: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ) (سنن أبي داود )، فَلْتَرْحَم الضعيف ولترحم اليتيم، وإن وجدت في قلبك قسوة فاعلم أنها تجرُّ صاحبها إلى النار والعياذ بالله، فإن الله تعالى جعل القسوة علامة على التكذيب بالدين فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:1-3]، وفي حديث الهرة التي دخلت بسببها امرأة النار، والكلب الذي دخل رجل بسببه الجنة نجد أثر الرحمة والقسوة، فما الهرة في حد ذاتها تستحق إدخال هذه المرأة النار إلا لما كانت دليلا على قسوة القلب، ولا الكلب يستحق دخول هذا الرجل الجنة إلا لما كان دليلا على رحمة في قلبه، فالله عز وجل يريد منا أن نتراحم وأن يعطف بعضنا على بعض.

فارحم أخاك الذي تجعل من أي خصومةٍ بينك وبينه مبررًا لأن تقسوَ عليه وتغلظ له القول والفعل، وتحاول الفتك به، متناسين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان رحيمًا - كما رأينا- حتى بالكفرة الذين كان كفرهم صريحًا لا مرية فيه، فلقد كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أظهرهم.

لقد كانت غاية النبي (صلى الله عليه وسلم) هي رحمة الإنسان وهدايته والسعي بكل سبيل إلى نجاته من المهالك في الدنيا والآخرة، فعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ:

(أَسْلِمْ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ) (سنن أبي داود)، ولقد قال (صلى الله عليه وسلم) لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يوم خيبر: (عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ) (صحيح البخاري)، لأنه سيكون سببًا في إنقاذ رجل – بل ربما أسرة ممتدة إلى يوم القيامة من الشقاء الأبدي.

فلْنتراحم فيما بيننا، لنرحم من في الأرض يرحمنا من في السماء قال تعالى : {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

من مظاهر تكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم)

أولاً: العناصر:

1- تكريمه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في بداية الخلق.

2- تكريمه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل مولده.

3- تكريمه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأشرف الأنساب وأحسنها.

4- مخاطبته باسمه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مقرونًا بعز النبوة وشرف الرسالة.

5- وجوب محبته وطاعته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

6- تكريمه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بتولي الله عز وجل الدفاع عنه.

7-عموم رسالته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

8-  كون رسالته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رحمة للعالمين.

ثانيًا : الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم:

1- يقول الله تعالى :{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين}[آل عمران: 81].

2- ويقول تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129].

3- ويقول تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصف: 6] .   

4-  ويقول تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. 

5- ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[آل عمران: 31].

6- و يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] .

7- ويقول تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ: 28].  

8- ويقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].  

9- ويقول تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56].    

10- ويقول تعالى:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 63]. 

الأدلة من السنة : 

1-   عن واثِلَة بْن الأَسْقَعِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ ) (رواه مسلم ).

2-  وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : (... أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَة عِيسَى قَوْمَهُ ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ) (مسند أحمد).

3-  وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي ) (مجمع الزوائد للهيثمي).

4-  وعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ) (متفق عليه).

5-  وعَنْ أَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (متفق عليه).

6-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ) (رواه الحاكم في المستدرك ).

7-  وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ) (رواه البخاري ). 

ثالثًا الموضوع:

لقد كرم الله (عز وجل) نبيه محمداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تكريماً لم يكرمه أحداً من العالمين ، في بداية الخلق ، وقبل مولده (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وبعد مولده (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في حياته ، وبعد وفاته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

فأما تكريم الله عز وجل لرسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في بداية الخلق : فرفع الله ذكره في الأولين والآخرين ، فما من نبي بعثه الله - تعالى- قبله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلا وقد أخذ  عليه العهد والميثاق إذا ما أدركه رسول الله أن يؤمن به ، وأن ينصره ، قال ربنا سبحانه:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81]. فزاد الله - تعالى - هذا الميثاق تشريفاً وتعظيماً حيث شهد عليه سبحانه مع أنبيائه.

وبشَّر به الأنبياء السابقون ، ففي الحديث الشريف عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : (... أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَة عِيسَى قَوْمَهُ ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ) (مسند أحمد) ، فدعوة سيدنا إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] ، وبشارة عيسى (عليه السلام) في قوله سبحانه : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6].

          وأما تكريم الله عز وجل لرسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل مولده ، فبتسميته محمداً ، فَكَانَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تُحَدِّثُ أَنَّهَا حِينَ حَمَلَتْ بالرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ( سمعت من يقول لَهَا : إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ على الْأَرْضِ فَقُولِي: أُعِيذُه بالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ ، ثم َسَمِّيهِ مُحَمَّدًا ، فَإِنَّ اسْمَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَحْمَدُ، يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَاسْمُهُ فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَاسْمُهُ فِي الْقُرْآنِ مُحَمَّدٌ فَسَمِّيهِ بِذَلِكَ) (شعب الإيمان للبيهقي).

ومن ذلك: شرف نسبه:  فهو (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أشرف الناس نسبا ، ومما ورد في ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين}[ الشعراء : 219 ] ، قال ابن عباس : أي في أصلاب الآباء ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيًّا (تفسير ابن كثير). فهو من أشرف الأنساب ، وأكرم بيوتات العرب ، صانه الله من سفاح الجاهلية ، ونقله من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة جيلاً بعد جيل ، فاصطفى من ولد إسماعيل كنانة ، ومن كنانة قريش ، ومن قريش بني هاشم فهو (صلى الله عليه وسلم) خيار من خيار من خيار. وعن واثِلَة بْنِ الأَسْقَعِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ ) (رواه مسلم).

وأما تكريم الله عز وجل لرسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في حياته ، فقد رفع ذكره في الدنيا والآخرة ، فلا يذكر الله تعالى إلا ذكر معه رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وصدق الله تعالى حيث قال : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: ( أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي ) (مجمع الزوائد للهيثمي).

فقرن الله تعالى اسمه باسمه في كثير من الأمور ، فلا يقبل إسلام امرئ حتى يشهد له بالرسالة بعد أن يشهد لربه بالوحدانية ، قال حسان بن ثابت (رضي الله عنه) :

وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ

إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ

وشــــقّ لهُ منِ اسمـــــهِ ليجلـــــــهُ

فذو العرشِ محمودٌ ، وهذا محمـــدُ

فهو (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يذكر بذكر ربه في الشهادتين ، وفي الأذان والإقامة ، وفي الخطب ، وفي القرآن الكريم ، فقد قرن الله تعالى طاعته بطاعته ، فقال :{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[النساء:80]، وكان ابْنُ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) يقول : ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا تُقْبَل وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا ، أَوَّلُهَا:{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:43] ،وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى:{ أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}[لقمان:14] ، وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى:{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. 

وكذلك قرن الله تعالى بيعته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ببيعته سبحانه ، فقال (عز وجل) : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]. وجعل طاعته علامة للفوز بالجنة ، فقال تعالي:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 71]. إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث عَنْ أَبي هريرةَ (رضي الله عنه) أنَّ رَسُول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أبَى ) قيلَ : وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : ( مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى) (رواه البخاري).  وحديث عُمَر (رضي الله عنه) حين جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وقَالَ: ( إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُقَبِّلَكَ مَا قَبَّلْتكَ ) (رواه البخاري). فطاعة الله  تعالى لا تتحقق ولا تتأكد إلا بطاعة رسوله الكريم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن جعل حبه من الإيمان بالله (عز وجل) ، بل جعل الحق سبحانه وتعالى محبته من محبة الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، واتباعه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) علامة علي المحبة ، فقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فمحبته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فرض لازم على كل مسلم ، ففي حديث أَنَس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ والِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ) (متفق عليه).

بل إن الإيمان لا يكتمل في قلب العبد حتى يقدم حب النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على حب نفسه وولده والناس أجمعين بل ويقدمه على حب نفسه التي بين جنبيه ، فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : ( الآنَ يَا عُمَرُ ) (رواه البخاري).

ويكفي من أحب النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فضلا وشرفا أنه يحشر بصحبة حبيبه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يوم القيامة ، وهذا فضل ما بعده فضل ، وكرم ما بعده كرم ، فعن أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ ) فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ ، وَلاَ صَلاَةٍ ، وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ : (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ) ( رواه البخاري ).

ومن أسمى آيات التكريم للرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): أنه سبحانه وتعالى لم يخاطبه باسمه المجرد كما خاطب سائر الأنبياء قبله ، فقد كان كل نبي يخاطبه ربه باسمه المجرد ، مثل قوله تعالى { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة 35]، { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران 55] ، { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} [هود 48]، { يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص 30]، { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم 12] ، {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } [طه: 11، 12] ، {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105] ، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } [مريم: 7].

أما خاتمهم محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فكان الخطاب إليه باللقب الدال على تكريمه وتعظيمه بعزّ النبوة وشرف الرسالة ، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] ، ليس هذا فحسب ، بل إن الله عز وجل نهى الأمة أن تناديه باسمه كما كانت الأمم تنادي أنبياءهم بأسمائهم ، وتوعد من يخالف ذلك بالعذاب الأليم ، فقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور 63].

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وجوب التأسي به (صلي الله عليه وسلم) ، فقال تعالي : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. وهذه الآية أصل كبير في وجوب التأسي برسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في أقواله وأفعاله وأحواله ، فهلا اقتدينا به وتأسينا بشمائله (صلى الله عليه وسلم) ؟!

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن الله (عز وجل) قد صلَّى عليه في كتابه العزيز ، وصلت عليه ملائكته ، وحثَّ المؤمنين على الصلاة عليه ، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56].  

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أن الله تعالى تولى الدفاع عنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بنفسه دون غيره من الأنبياء ، فقد كان كل نبي يتهمه قومه باتهامات باطلة فيدفع ذلك بنفسه ، فهذا نوح (عليه السلام) اتهمه قومه بالضلال كما يحكي القرآن ، فيقول : { قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الأعراف : 60] فيدفع ذلك عن نفسه قائلا : { يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61 - 62].

وهذا هود (عليه السلام) اتهمه قومه بالسفاهة والجنون والكذب إذ قالوا له : {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] فدافع عن نفسه قائلا : {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } [الأعراف :67، 68].

أما خاتم الأنبياء (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فكلما رماه قومه بالأباطيل وافتروا عليه الأكاذيب تولى الله تعالى الدفاع عنه ، فقد اتهمه قومه بأنه شاعر { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}[الأنبياء: 5] فرد الحق عليهم في قوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69].

وقالوا: إنه كاهن ، يتكهن بما تمليه عليه الشياطين .. فرد الله تعالى عليهم في قوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور :29] ، ويأتي القسم من الله تعالى- وما أعظمه من قسم - للدفاع عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولتأكيد صدق الوحي والقرآن ودحض اتهاماتهم وافتراءاتهم في قوله تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38-43] . 

وقالوا : إنه ساحر تارة ، فرد عليهم تعالى في قوله :{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 52] ، وتارة أخرى قالوا: إنه مسحور ، فرد الله تعالى عليهم في قوله :{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 8-9] ، وقالوا: إنه مجنون .. فرد الله سبحانه وتعالى عليهم في قوله :{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70]، وقوله تعالى : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 1-4].

واتهموه بالضلال والانحراف فردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 - 4]. بل إنه سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظه وحمايته مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] .

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ما جاء في عموم رسالته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فلم تقتصر على جيل دون جيل أو قوم دون قوم ، فهي رسالة عامة للناس جميعًا ، فإن الله (عز وجل) بعث كل نبي لأمته خاصة وبعث نبينا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) للناس عامة ، وقد صرح القرآن الكريم بذلك ، فقال تعالي : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [سبأ: 28]. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ) ( رواه البخاري). 

          كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تفضيله على غيره من الأنبياء عليهم السلام، فالحق سبحانه وتعالى فضل نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) علي سائر الأنبياء والرسل الكرام ، وهذا ما وضحه القرآن الكريم في قوله تعالى:{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ للَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }[البقرة:253] ،والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله تعالي: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو سيدنا محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة ، وصاحب المعجزة الخالدة ، المتمثلة في القرآن الكريم ، وصاحب الرسالة الجامعة لمحاسن الرسالات السماوية السابقة. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم والترمذي ، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: (فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ - وفي رواية البخاري: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ - وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ).

كذلك من تكريم الله لنبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أن الله تعالى أقسم بحياته ولم يقسم بحياة أحد من البشر ، فالحق سبحانه وتعالى حين يقسم على أشياء ليؤكدها ، يقسم بأشياء كثيرة، من أجناس شتى، من جماد وحيوان وملائكة ، من أماكن وأزمنة وظواهر كونية ، لكنّه سبحانه وتعالى لم يقسم في القرآن ببشر مطلقاً ، اللهم إلا برسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:72] أي : بحق حياتك يا محمد إنهم لفي غفلة عمّا سينزل بهم ، إنهم لضالون في حيرة لا يعرفون لأنفسهم طريقاً ولا حقاً ولا رشداً .. ولما زعم المشركون أن الله تعالى قد قلى محمدًا وهجره أقسم الله تبارك وتعالى على أنه ما ودّعه وما قلاه ، فقال تعالى:{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:1-5].

فأما تكريم الله عز وجل لرسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعد وفاته ، فاختصه الله تعالى بالشفاعة العظمى يوم الدين ، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ).

ومن أعظم آيات التكريم : أن الله (عز وجل) جعله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رحمة للعالمين أجمعين ، حيث قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ) (رواه الحاكم في المستدرك )، وفي رواية : (بُعِثْتُ رَحْمَةً مُهْدَاةً).

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

مكارم الأخلاق في الرسالة المحمدية

أولا: العناصر:

1.       الإسلام دين مكارم الأخلاق.

2.       انهيار الأخلاق انهيار للأمم.

3.       الأخلاق ثمرة العبادات الصحيحة.

4.       كيف نسمو بأخلاقنا؟.

ثانيا: الأدلة:

       الأدلة من القرآن الكريم:

1.       قال الله تعالى : }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم{[القلم: 4] .

2.       وقال تعالى :}خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{[الأعراف: 199].

3.   وقال تعالى:}وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{. [فصلت : 33 - 35].

4.       وقال تعالى :{وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ  قالُوا سَلاماً{[الفرقان : 63].

5.   وقال تعالى :{يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{ [لقمان: 17- 19]. 

6.   وقال تعالى : }اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ * وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {[العنكبوت : 45 - 46].

7.   وقال تعالى :} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ}[البقرة: 197].

8.   وقال تعالى : } وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ  {[القلم : 10 - 16].

الأدلة من السنة :

1.     عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَان الْأَنْصَارِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قال:  سَأَلتٌ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فقَالَ: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَّ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) (صحيح مسلم).

2.  وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) (سنن الترمذي).

3.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد).

4.  وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) (رواه الترمذي).

5.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا ، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ ) ( رواه أحمد ).

6.  وعَنْ سَعْد بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنِي عَائِشَةَ - حَدِّثِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَتْ : (أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟) قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: (فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ الْقُرْآنَ) (رواه مسلم).

7.  وعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ) (رواه أبو داود).

8.  وعَنْ جَابِرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ : (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: (المُتَكَبِّرُونَ) ( رواه الترمذي) .

 

ثالثا: الموضوع:

لا شك أن وجوه العظمة في الدين الإسلامي متعددة ، ومن عظمته أنه دين شريعة وأخلاق ، يجمع بين القيم والمثل الإنسانية الرائعة ، التي تجسد الصورة المثلى للأخلاق الفاضلة، وتتجلى عظمة هذا الدين في شموليته لجميع جوانب الحياة ، فلم يترك فضيلة من الفضائل إلا دعا إليها وحث على التمسك بها ، ولم يدع في نفس الوقت أي رذيلة من الرذائل إلا نبه عليها وأمر بالابتعاد عنها .

ومن الفضائل التي دعا إليها ورغَّب فيها وحث على التخلق بها : التحلي بمكارم الأخلاق، كالصبر والحلم والرفق، والصدق والأمانة ، والرحمة والوفاء ، والكرم والحياء والتواضع، والشجاعة والعدل والإحسان ، وقضاء الحوائج ، وغض البصر وكف الأذى ، وطلاقة الوجه وطيب الكلام ، وحسن الظَّن ، وتوقير الكبير ، والإصلاح بين النَّاس ، والإيثار ، ومُراعاة مشاعر الآخرين ، وغيرها من مكارم الأخلاق. ولعل هذا ما يشير إليه قوله (عز وجل): {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] .

وقد وردت بذلك نصوص الكتاب والسنة ، ومن ذلك قوله سبحانه - آمرًا رسوله (صلى الله عليه وسلم)-:}خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{[الأعراف: 199]. وقوله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة : 83] ، وقوله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء : 114]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ومن تأمل آيات القرآن ، ودقق النظر فيها، ظهر له آيات كثيرة تدعو  إلى مكارم الأخلاق ، ووجوب التحلِّي بها ، وما ذلك إلا لكون الأخلاق ميزان شرعي يهذِّب الإنسان ، ويرقى به إلى مدارج الكمال.

          كما أكدت نصوص السنة النبوية المطهرة على أهمية الأخلاق في حياة الإنسان ، مبينة الأجرَ العظيم لمن تخلق بالأخلاق الفاضلة ، ومن ذلك قوله (صلَّى الله عليه وسلَّم) : (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ) (رواه الإمام مسلم). والبرّ : اسم جامع لأنواع الخير . وقوله (صلَّى الله عليه وسلَّم ): ( مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ في الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ )، وفي رواية : ( مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ ) (رواه الترمذي في سننه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ).

ولقد كان (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يحثُّ على مكارم الأخلاق ويرغب فيها ، فمرة يقول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِكُمْ ) (مسند أحمد). وسئل (صلى الله عليه وسلم): أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (سنن ابن ماجه) ، ولما سُئِلَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَكْثَرِ مَا يدخل الناس الجنة ، قَالَ : (تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ) (سنن الترمذي)، ثم جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) مكارم الأخلاق من أسباب محبته ، فقال: ( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا) (سنن الترمذي).

وللأخلاق في الإسلام مكانة خاصة ومنزلة عالية ، فهي لبُّ الدين وجوهره ، فقد سئل (صلى الله عليه وسلم) ما الدين ؟ قال: ( حسن الخلق ) (رواه مسلم). بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أولاها عناية فائقة ، حيث أعلن (صلى الله عليه وسلم) أن الغاية الأولى من بعثته ورسالته إنما هي إتمام مكارم الأخلاق ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم الأَخْلاقِ) (الأدب المفرد للبخاري ) ، وحتى قبل الرسالة كان الناسُ يُسمُّونَه بالصادق الأمين ، إنها الأخلاق الإسلامية الكريمة المقرونة بالإيمان الصادق ، فكان (صلى الله عليه وسلم) مثلاً أعلى في حسن الخلق ، لذا وصفه ربه بقوله :{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{[القلم:4]. إنها لشهادةٌ عظيمةٌ من العليّ العظيم ، لنبيّه الكريم ، بعظمةِ أخلاقه وحسن خلقه ، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) أجمع الخَلْق خُلُقا ؛ لأنه كان أجمعهم للقرآن الكريم، يمتثلُ أوامرَه ، ويجتنبُ نواهيه ، فاجتمعت فيه الفضائلُ كلُّها ، وهذا ما أكدته أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ (رضي الله عنها) حين سئلت عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَتْ : (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ).

كان (صلى الله عليه وسلم) نموذجًا عمليًّا في امتثال الأخلاق القرآنية ، فقد كان أحسن الناس خلقاً ، وأكثرهم محبة ، ورأفة ورحمة ، وحلمًا وعفوًا ، وأصدقهم حديثًا ، وأوفاهم عهدًا وذمة ، وأكرمهم عشرة ، كان مضربَ المثل في تواضعه مع أنه سيد البشر ، من رآه هابه ، ومن خالطه أحبه ، وصفته أمُ المؤمنين خديجة (رضي الله عنها) فقالت : ( إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق ) ، ووصفه ربه - تعالى - بقوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }[آل عمران : 159]، بمثل هذه الأخلاق استطاع (صلى الله عليه وسلم) أن يملك القلوب والعقول.

ولقد ربَّى النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على مكارم الأخلاق ، وأمرهم أن يتزينوا بها ويتمسكوا بأحسنها ، حين قال لأبي ذر (رضي الله عنه): ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) ، فتعلموا الرفق والعفو والإحسان ، وتخلصوا من العصبية والغضب بالحلم والصفح ، وضربوا أروع الأمثلة في جمالِ الخلق وحسن المعاملة والعطاء أفرادًا وجماعاتٍ ، فلما هاجر الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وآخى بين المهاجرين والأنصار كان الأنصاري يشاطر أخاه المهاجر بنصف ماله ، فالأخلاق الإنسانية تقوم على مبدأ العطاء ، وقد أطلعنا القرآن الكريم على نماذج رائعة ليست مقصورة على أفراد معينة ، بل أصبحت صفة للمسلمين عامة ، قال تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9].

لذلك كانوا بهذه الأخلاق سادةَ الأمم ، ومحطَّ الأنظار ، وموضعَ القدوة حين كانوا متمسكين بأخلاقِهم السامية ، كان الناس يدخلون في دين الله أفواجا لما يرون من حسن المعاملة ، وجميل الأخلاق ، وحين بدأ الانحراف عن هذا المنهج القويم وساءت أخلاق الناس ؛ فُقدت القدوة وضاعت القيم ، وتبدلت المفاهيم ، وصدق الإمام مالك (رحمه الله) حين قال : (ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).

فالأخلاق الفاضلة هي التي تعصم المجتمعات من الانحلال، وتصونها من الفوضى والضياع، فسلامة الأمة وقوة بنيانها، وسمو مكانتها وعزة أبنائها، بتمسكها بالأخلاق الفاضلة ، كما أن شيوع الانحلال والرذيلة نتيجة لنبذ الأخلاق والأفعال الحميدة. 

صَـلاحُ أَمـــرِكَ لِـلأَخـلاقِ مَرجِـعُـهُ

فَقَـوِّمِ النَـفـسَ بِـالأَخـــلاقِ تَستَـقِـمِ

وَالنَفسُ مِن خَيرِهـا فـي خَيـــــرِ عافِيَـةٍ

وَالنَفسُ مِن شَرِّهـا فـي مَرتَـعٍ وَخِـــــمِ

لذا كان التحذير من انهيار الأخلاق وتردِّيها ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا ) (المستدرك للحاكم) ، والسَّفْسَافُ : الْأَمْرُ الْحَقِيرُ ، وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضِدُّ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ.

فبالأخلاق تحيا الأمم وتبقى آثارها خالدة ، وبزوالها وانهيارها تنهار الأمم وتسقط ، فكم من حضارات انهارت ، لا بسبب اقتصادها ، أو قوتها العسكرية - فحسب- ، وإنما بتردي أخلاقها ، ويقول الشاعر:

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ  

فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

وإذا تأملنا العبادات في القرآن والسنة وجدنا أن من أهم مقاصدها : تهذيب سلوك المسلم وتزكية أخلاقه ، فما من عبادة شرعها الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج إلا ولها أثر يظهر على سلوك الفرد في السمو الأخلاقي ، بل يتعدى هذا الأثر من الفرد إلى المجتمع ، فإن الإسلام ليس طقوسًا جوفاء تؤدى في المسجد ولا علاقة لها بالواقع ، فيخرج المصلي بعدها ليغش ويحتكر ، ويؤذي جاره ، وإنما العبادات شرعت في جميع الأديان لترتقي بالإنسان ، وتسمو بأخلاقه ، ففريضة الصلاة أبان الله - تعالى - الحكمة من إقامتها ، فقال تعالى:}اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُون{[العنكبوت : 45]. فالإبعاد عن الرذائل ، والتطهر من سوء القول والعمل ، هو حقيقة الصلاة ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم): ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي ، وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلَى خَلْقِي ، وَلَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَتِي ، وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِي ذِكْرِي ، وَرَحِمَ الْمِسْكِينَ، وَابن السَّبِيلِ وَالأَرْمَلَةَ ، وَرَحِمَ الْمُصَابَ ) ( رواه البزار) ، وعن ابن مسعود (رضي الله عنه): ( من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ) ( رواه الطبراني بإسناد صحيح ). فالذي لا تأمره صلاته بالبعد عن الرذائل من القول والعمل، فإن صلاته لم تُحقق مقصداً من أهم مقاصدها.

وكذلك الزكاة ، والصيام ، والحج ، وسائر العبادات ، شرعت كلها لتزكية النفس ، والارتقاء بها إلى مكارم الأخلاق ، فقال تعالى عن الزكاة :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة :103]. ومن أجل ذلك وسَّع النبي (صلى الله عليه وسلم) في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم) : ( تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ تُكْتَبُ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَإِمَاطَتُكَ الشَّوْكَةَ وَالْحَجَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ، وَإِرْشَادُكَ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) (رواه البزار).

وفريضة الصوم عبادة من العبادات التي فرضها الله على عباده من أجل تحقيق التقوى ، فالثمرة والغاية التي يريدها ربنا سبحانه من الصيام هي تقوى الله (عز وجل) ، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة : 183]. فمن خلال الصيام تتقوى إرادة المسلم، ويتعود على ضبط أخلاقه وشهواته. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ) (رواه البخاري) .أي ينبغي أن يعصمه صومه عن الأخلاق السيئة وعن الرذائل ، فالصوم لابد وأن يترك أثرا في سلوك المسلم وتهذيب أخلاقه.

وقال تعالى عن فريضة الحج :{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } [البقرة : 197]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (رواه مسلم).

فالعبادة لابد وأن تترك أثرًا إيجابيًّا يعود على الفرد والمجتمع ، فإذا لم تؤثر هذه العبادة في خلق الإنسان وتهذيب سلوكه فلا قيمة لها ولا ثمرة لها في الآخرة ، لأن سوء الخلق يأكل تلك العبادات وتلك الحسنات كما تأكل النار الحطب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ)؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) ]رواه الترمذي[، ولما سئل (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا ، وَصِيَامِهَا ، وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد(. 

إن مكارم الأخلاق تشمل كافة المخلوقات ، فلا فرق بين مسلم وغيره ، إنما الجميع أخوة في الإنسانية ، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]، ولما قام النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لجنازة مَرَّتْ بِهِ ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ ، قَالَ: ( أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟)  )رواه البخاري( . وقال تعالى : {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{[العنكبوت: 46]. وعَنْ مُجَاهِدٍ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) ( رواه الترمذي ).

ولم تقتصر مكارم الأخلاق على البشر فحسب ، بل إن دائرة الأخلاق تشمل الحيوان أيضا، فإن الله أدخل رجلا الجنة بسبب كلب سقاه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ     (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ، فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ) ( رواه البخاري) ، وفي المقابل أدخل الله امرأة النار بسبب هرة ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ) قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: (لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا ، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا ، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (رواه البخاري).

إذا أردنا أن نرتقي بأخلاقنا ومجتمعنا فلا بد من الاقتداء بالقدوة الحسنة ، فالقدوة عامل أساسيّ في تكوين الأخلاق ، قال تعالى : } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]{الأحزاب :21[، فالوالد قدوة لولده ، ولقد أخبرنا رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن المولود يولد على الفطرة النقية ، فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم تأتي القدوة فتغير فيه إلى الأحسن ، أو إلى الأسوأ ، فعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ... ) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ):{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ}[الروم:30]     ( رواه البخاري ).

وكذلك المعلم قدوة لتلاميذه بصلاحه وأخلاقه ، يتخلق الطلاب بخلقه ويقتدون به ، فقد دخلَ الشَّافِعِيُّ يَوْمًا إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ ، وَمَعَهُ سِرَاجٌ الْخَادِمُ ، فَأَقْعَدَهُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ مُؤَدِّبِ أَوْلادِ الرَّشِيدِ ، فَقَالَ سِرَاجٌ لِلشَّافِعِيِّ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ! هَؤُلاءِ أَوْلادُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُوَ مُؤَدِّبُهُمْ ، فَلَوْ أَوْصَيْتَهُ بِهِمْ ، فَأَقْبَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ ، فَقَالَ لَهُ : لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَبْدَأُ بِهِ مِنْ إِصْلاحِ أَوْلادِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِصْلاحُ نَفْسِكَ ، فَإِنَّ أَعْينَهُمْ مَعْقُودَةٌ بِعَيْنِكَ ، فَالْحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا تَسْتَحْسِنُهُ ، وَالْقَبِيحُ عِنْدَهُمْ مَا تَرَكْتَهُ...)(حلية الأولياء لأبي نعيم).

جدير بالذكر أن مكارم الأخلاق ليست قاصرة على الفرد فقط ، فهناك الأخلاق الفردية التي يلتزم بها الفرد من الأوامر والنواهي ...إلخ ، والأخلاق الأسرية بين الزوجين ، وبين الأبناء والآباء ، والأقارب والأرحام ...إلخ ، والأخلاق الاجتماعية داخل المجتمع في البيع والشراء والجوار والزمالة والعمل ...إلخ ، والأخلاق الدولية بين الدول وبعضها ، وأخلاق الحرب والسلم.

ومن الأمور التي تساعد العبد على حسن الخلق : الإخلاص لله تعالى ، ثم الدعاء بحسن الخلق ، ثم مجاهدة النفس وشهواتها ، ثم محاسبة النفس دائما ، مع النظر إلى مآلات سوء الخلق وما يجره على الفرد والمجتمع من مفاسد.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

صفات المؤمنين في القرآن الكريم

 أولاً: العناصر:

1-      معرفة الله طريق الإيمان.

2-      الإيمان والعمل الصالح قرينان.

3-      من صفات المؤمنين:

                          أ ـــ الخشية من الله (عز وجل).

                          ب ــ  حسن التوكل على الله (عز وجل).

                          ج ـــ  المحافظة على الصلاة والخشوع فيها.

                          د ـــ  الإنفاق في سبيل الله .

                          هـ - الصدق ، والأمانة ، والوفاء بالعهد ، والحياء ، وكريم الأخلاق.

    4-    ما أعده الله عز وجل للمؤمنين من النعيم المقيم.

   ثانيـــاً: الأدلـــة:

       الأدلة من القرآن الكريم :

1-   قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون :1-10].

2-   وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2، 4]

3-   وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57: 61 ].

4-   وقال تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 195 : 160].

5-    وقال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }[ الفرقان : 63 : 67].

6-     ويقول تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

7-   ويقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].

    الأدلة من السنة :

1- عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَالَ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) (صحيح مسلم).

2- وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟" قَالَ: فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَادَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، مَرَّتَيْنِ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ "(شعب الإيمان).

3-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (صحيح مسلم) .

4-    وعن عُمَر (رضي الله عنه) قَالَ: سمعتُ رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً) (رواه الترمذي).

5-    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى عُمَرَ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: ( أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ؟) فَسَكَتُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَقَالَ عُمَرُ فِي آخِرِهِمْ: نَعَمْ، نُؤْمِنُ عَلَى مَا أَتَيْتَنَا بِهِ، وَنَحْمَدُ اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ، وَنَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (مُؤْمِنُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) (رواه الطبراني).

 

ثالثاً: الموضــــوع :

من رحمة الله (عز وجل) ولطفه بعباده أن أرسل إليهم رسلاً لهدايتهم إلى طريق الحق، وإلى  الصراط المستقيم ، حتى لا يكون لأحد من الخلق حجة أمام الله عز وجل ، قال تعالى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165] .

والإيمان بالله - تعالى- هو أسمى علاقة جاء بها الرسل (عليهم السلام) ، ومعناه : استقرار العقيدة في القلب بالإيمان بالله وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وعلى المؤمنين أن يؤدوا مطلوب الإيمان ، وهو تنفيذ التكاليف التي يأتي بها المنهج الإلهي ، والمبلِّغ عنه سيدنا رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الأوامر و النواهي.

          ومعرفة الله (عز وجل) هي أول طريق الإيمان ، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19] .

ومن المعلوم أن الإيمان بالله (عز وجل) مرتبط بالعمل الصالح ، لا ينفك أحدهما عن الآخر، كما جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة ، ومنها: قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] ، وقوله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس: 9] ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] ، إلى غير ذلك الآيات الكريمة ، والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وله شعب متعددة تتفاوت من مؤمن لآخر حسب درجة إيمانه بالله تعالى ، فعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ )، والأعمال الصالحة من جملة شعب الإيمان.

وقد جاء في حديث جبريل- عليه السلام- المشهور بيان لحقيقة الإيمان الّذي ينبغي أن يتحقق في قلب المؤمن ، يقول الفاروق عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَالَ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) (صحيح مسلم).

ولقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم صفات كثيرة لعباده المؤمنين ، منها:  كمال الخشية لله تعالى ، إذ أن الخشية من الله تعالى من أعلى المقامات وأجلها ، يقول الله  تعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:2- 4]. والوجل هو كمال الخشية لله تعالى ، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون:57 -60] ، وقال تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11 ] .

ولقد ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أروع الأمثلة في كمال الخشية من الله تعالى ، فعَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ) (رواه ابن خزيمة). وكان (صلى الله عليه وسلم) يسأل الله تعالى الخشية ، فعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ (رضي الله عنه) قَالَ : صَلَّى بِنَا عَمَّارٌ صَلَاةً، فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ فِيهِمَا بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَدْعُو بِهِ:( اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ) (رواه أحمد).

يقول الشاعر:

خف الله وارجوه لكلِّ عـظـيمةٍ * * * ولا تطع النَّفس الّلجوج فتنـدمـا

وكن بين هاتين من الخوف والرَّجا* * * وأبشر بعفو الله إن كنت مسلمـا

ومن صفات المؤمنين كذلك التوكل على الله (عز وجل) ، ومعناه: صدق اعتماد القلب على الله (عزّ وجلّ) في استجلاب المصالح ودفع المضارّ ، وتفويض الأمور كلّها إليه، مع اعتقاد أنّه لا يعطي ولا يمنع ، ولا يضرّ ولا ينفع سواه سبحانه وتعالى ، فالمؤمن يتوكل على الله (عز وجل) ويأخذ بالأسباب المؤدية لإتمام الأعمال دون الاعتماد عليها ، فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، فعن عُمَر (رضي الله عنه) قَالَ : سمعتُ رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً) (رواه الترمذي).

أمّا من يدعي التوكل على الله عز وجل دون السعي والعمل فليس من التّوكّل في شيء ، وإنّما هو اتّكال أو تواكل حذّرنا منه رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ونهى عن الأسباب المؤدّية إليه، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ قَالَ: فَقَالَ: ( يَا مُعَاذُ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ) قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ( فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ :(لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا) (صحيح مسلم) فحسن التوكل على الله (عز وجل) مرتبط ارتباطا وثيقا بحياة المؤمن ، لا يتحقق جلب النفع أو دفع الضر إلا بحسن التوكل.  

ومن صفات المؤمنين - أيضًا - المحافظة على الصلاة والخشوع فيها ، وفي ذلك يقول الله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } ، فالصلاة هي شعار الإسلام  جاء الأمر بها في آيات عديدة منها ، قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، وجعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد أركان الإسلام الخمسة ، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قَال: قال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفقٌ عَلَيهِ) .

والناس متفاوتون في أحوالهم مع الخشوع في الصلاة ، فمنهم من يحظى بأجر الصلاة كاملا، ومنهم من ليس له من صلاته إلا النصب والتعب ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ) (سنن البيهقي) ، فالصلاة سببٌ في تهذيب السلوك والأخلاق، والبعد عن المنكرات ، فمن أقامها كانت سبباً في بعده عن المعاصي والفواحش ، قال تعالى:{... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }[العنكبوت: 45 ]. ومما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة‏‏ ما رواه أنس بن مالك (رضي اللّه عنه) قال‏:‏ قال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) ( صحيح البخاري ).

ومن صفات المؤمنين كذلك : الإنفاق في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل المتضمن الزكاة المفروضة وصدقات التطوع ، فعن ابن عمر (رضي الله عنه) عن النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ) (صحيح البخاري ) ، وعن أَبي مسعود البدري (رضي الله عنه) عن النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ) (صحيح مسلم) ، فالمؤمن يعلم أنه مستخلف في المال، وأن الفضل بيد الله فينفق لينفق الله عليه، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ الله، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، فَقَالَ: أمَا إذ قلتَ هَذَا، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ) (صحيح مسلم) .

وقد أشار القرآن الكريم إلى صفات أخرى للمؤمنين إضافةً إلى ما ذكر  ، ومنها : أنهم عن اللغو معرضون ، وللأمانات والعهود راعون ، وفي ذلك يقول تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11] . فبينت الآيات أن الفلاح والفوز لمن اتصف بهذه الصفات من خشوع في الصلاة ، وإعراض عن اللغو ، وإيتاء للزكاة ، وحفظ للفروج عن الحرام ، والحفاظ على الأمانات وتأديتها لأصحابها ، والوفاء بالعهود ، كل ذلك عده القرآن من صفات المؤمنين وأخلاقهم.

          فحري بكل مسلم أن يتخلق بهذه الأخلاق الواردة في القرآن الكريم بحق أهل الإيمان ليضمن لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة ، فالإيمان إذا تحقق في قلب العبد كما ينبغي صانه عن كل صور الانحراف والتشدد والتعصب ، وجعله محبًّا للخير لنفسه ولغيره ، ويتجنب شهادة الزور والكذب ومجالس اللغو ، ويسعى لتحقيق الخير والصلاح لمجتمعه ووطنه ، أما من ادعى الإيمان وانحرف بأخلاقه وتصرفاته عن الوجهة الشرعية الصحيحة فلم يكتمل إيمانه ، لأن الإيمان  لابد له من حقيقة تدل عليه ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):" انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ " قَالَ: فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَادَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، مَرَّتَيْنِ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ "(شعب الإيمان).

       على أن المؤمن إنما يتصف بكل الصفات الكريمة من الصدق ، والأمانة ، والوفاء بالعهد، والكرم والحياء ، والاستقامة ، والرحمة ، والسماحة ، والتواضع ، والعدل ، والإحسان ، والإيثار ، وسائر مكارم الأخلاق التي حث عليها القرآن الكريم ، قال تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال سبحانه:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [المعارج: 32]، وقال في علامات الصادقين المتَّقين:{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177].

       وقد أعد الله تعالى للمؤمنين المتصفين بكريم الأخلاق نعم الجزاء وحسن الثواب ، قال سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: 107- 109] .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

أهمية التخطيط في حياة الفرد والمجتمع

أولا : العناصر :

1.    أهمية التخطيط في الإسلام .

2.    القرآن  الكريم يرشدنا إلى التخطيط .

3.    التخطيط في حياة الأنبياء والرسل .

4.    عناصــــــــــــــــــر التخـــطيط الناجــــــح .

5.    حاجتنا إلى التخطيط لتغيير واقعنا المعاصر.

6.    التخطيط الجيد يؤدي إلى استقرار الأسرة والمجتمع .

ثانيا: الأدلة :

        الأدلة من القرآن الكريم:

1-      قال الله تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }[سورة المؤمنون : 115 - 116].

2- وقال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }[ سورة يوسف : 47: 49] .

3- وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال60] .

4-وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف93-97] .

الأدلة من السنة:

1-      عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم)  إِلاَّ يَأْتِي  فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ ِ لَمْ يَرُعْنَا إِلاَّ وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم) فِي هَذِهِ السَّاعِةِ إِلاَّ لأَمْرٍ حَدَثَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ ، يَعْنِي:  عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : (الصُّحْبَةَ) ، قَالَ:  يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا ، قَالَ: ( قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ( (صحيح البخاري) .

2-   وعَنْ الْبَرَاءِ ( رضي الله عنه )  قَالَ : لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ (يوم أحد) وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم )جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ  - عبد الله بن جبير – وَقَالَ: ( لَا تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا ) ، فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ : الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ( صلى الله عليه وسلم ) أَنْ لَا تَبْرَحُوا فَأَبَوْا ، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا ( صحيح البخاري)  . 

3-   وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( رضي الله عنه )  قَالَ  : كَانَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ : لِي مَالٌ ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَال َ: (لاَ) قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟ قَال: (لاَ) قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَال َ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِير ٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ ، يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ) (صحيح البخاري) . 

4-   َوقالَ رَسُولُ اللّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِأَصْحَابِهِ ( يوم بدر ) : (أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ)  فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ :  يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَال َ: ( بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ). قَالَ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ فَإِنّي عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا، بِهَا قَلِيبٌ قَدْ عَرَفْت عُذُوبَةَ مَائِهِ وَمَاءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْزَحْ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهَا حَوْضًا وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ وَنُغَوّرُ مَا سِوَاهَا مِنْ الْقُلُبِ ( مغازي الواقدي )  .

5-   وعندما تجمعت الأحزاب للهجوم على المدينة في غزوة الخندق ندب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الناس وأخبرهم خبر عدوهم ، وشاورهم في أمرهم : أيبرز من المدينة أم يكون فيها ، ويحاربهم عليها وفي طرقها ؟ فأشار سلمان (رضي الله عنه ) بالخندق، وقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا ، فأعجبهم ذلك ، وأحبوا الثبات في المدينة ، وأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) بالجد ، ووعدهم النصر، إذا هم صبروا واتقوا ، وأمرهم بالطاعة . (سبل الهدى والرشاد )  . 

ثالــثاً : الموضـــوع:

إنّ الله (عز وجل ) لم يخلق الإنسان عبثًا ، بل جعل له في الحياة رسالةً وهدفًا يسعى لتحقيقه، قال سبحانه وتعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون : 115 ، 116].

 وهذا الهدف لن يتحقق إلا بتدبيرٍ وإعدادٍ وتخطيطٍ ، فالإنسان الذي يسير على غير هدى لا يعرف له وجهة ، ولا يدرك له غاية ، فهو إنسانٌ تتعاوره الضربات لتسقطه صريع المحن ، بائس الحال ، شقي النفس ، قليل الإنجاز أو عديمه ، قال عمر )رضي الله عنه) : إنِّي أَكْرَهُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ يَمْشِي سَبَهْلَلًا ، أَيْ : لَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا فِي أَمْرِ الآخِرَةٍ. ( الآداب الشرعية لابن مفلح ) ، وقد صح في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَال : قَالَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم): ( ِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغ) ( صحيح البخاري ) .

والتخطيط  للمستقبل أخذ بالأسباب ، وهو لا يتنافى مع التوكل على الله تعالى، فلا حرج على المسلم أن يقول : إن شاء الله سأفعل كذا  ، قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: ٢٣، ٢٤] .

 وقد أشار القرآن الكريم في قصة ذي القرنين إلى أنه أخذ بالأسباب، وخطّط للمستقبل،وفى ذلك يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف93-97]. 

   وفي قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) كان التخطيط سببًا لنجاة البلاد والعباد من مجاعة مهلكة، وخطر محدق ، قام بذلك نبي الله يوسف ( عليه السلام )  في خطة استغرق تنفيذها خمس عشرة سنة، وذلك في تأويل يوسف ( عليه السلام )  لرؤيا الملك كما حكي القرآن الكريم على لسانه في قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}( سورة يوسف - 47: 49 ) لقد وازن سيدنا يوسف (عليه السلام )  بين الإنتاج المتقن والعمل الدؤوب  والاستهلاك الرشيد ،  والادخار المحكم، لقد أدرك المشكلة ففكر في الحلِّ ولم يبخل به على من سجنوه ظلمًا وعدوانًا ، فإنّ المصلحة العامة عنده مقدّمة على المصلحة الخاصة ، وهذه دروس بالغة الأهمية ، فلا ينبغي الاكتفاء بعرض المشكلة فقط والوقوف عندها ، بل ينبغي السعي لإيجاد المخرج من الأزمة.

ومن أراد أن يتعلم التخطيط فليتأمل هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) نموذجًا للقائد والمعلِّم ، فتراه وهو في رحلة الهجرة يخطط ويدبر ويثق في نصر الله (عزّ وجلّ) أولاً وأخيرًا. إنه يأتي بعلي بن أبى طالب ( رضي الله عنه ) ؛ لينام في فراشه على سبيل التمويه ، ويسلك طريقًا وعِرًا غير مأهول ولا معتاد ، ويختبئ في الغار حتى يهدأ الطلب عليه وعلى صاحبه ، ويدبر من يأتيه في الغار بالأخبار والطعام، ومن يعفي على الآثار ، ويحسن انتقاء من يقوم بكل مهمة ، وهُو في هَذا كلّه متوكلٌ على الله تعالى مُعلنًا أنه في معية الله تعالى  فيقول لصاحبه : { ..لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..}[التوبة:40] .

ومن حسن التخطيط والأخذ بالمشورة معًا ما كان منه ( صلى الله عليه وسلم ) : في غزوة بدر حين قال لأصحابه : ( أَشِيرُوا عَلَيّ فِي الْمَنْزِلِ) فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ :  يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: ( بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ). قَالَ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ فَإِنّي عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا ، بِهَا قَلِيبٌ قَدْ عَرَفْت عُذُوبَةَ مَائِهِ وَمَاءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْزَحْ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهَا حَوْضًا وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ وَنُغَوّرُ  مَا سِوَاهَا مِنْ الْقُلُبِ ( مغازي الواقدي ).

وفى غزوة أحد يدير المعركة باقتدار حقّق به المسلمون النصر في أول المعركة ،  وهو يخطط للميدان تخطيطًا تميز بالمرونة ، فقد انسحب عبد الله بن أبي بن  سلول بثلث الجيش قبل بداية المعركة ،  ومع ذلك يعيد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توزيع الجيش ليسيطر على الميدان ، ويوزع المسلمين على أماكن القتال ، وعندما خالف المسلمون الخطة دارت عليهم الدوائر ، فقد روى الإمام البخاري بسنده من حديث  الْبَرَاءِ ( رضي الله عنه ) قَالَ : لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عبد الله بن جبير( رضي الله عنه )  وَقَالَ : ( لَا تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا ) ، فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ : الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم) أَنْ لَا تَبْرَحُوا فَأَبَوْا فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا .

وفى غزوة الخندق يخطط ( صلى الله عليه وسلم ) ويستشير أصحابه ، ويأمر بحفر الخندق حول المدينة ، وهو أمر لم يكن معلومًا في خطط العرب في القتال ؛ ليحافظ على الدولة من الأعداء المتربصين بها ، المحاصرين لها ، حتى كشف الله غمهم ، وأزاح همهم .

و إن من حسن التخطيط حسن توظيف المهارات ، بأن تضع الرجل في موضعه المناسب ليحسن العمل ، يظهر ذلك جليًا من خلال عدة مواقف للنبي  ( صلى الله عليه وسلم ) نذكر منها :

1-   اختياره لأسامة بن زيد ( رضي الله عنهما ) قائدًا لجيش من جيوش المسلمين على الرغم من صغر سنه .

2-   ترتيبه لقادة الجيش في غزوة مؤتة ؛ لأجل تحقيق النصر على الروم ، حيث وضع كل رجل في موضعه.

3-   اختياره لزيد بن ثابت ( رضي الله عنه )  ؛ ليتعلم اللغة العبرانية ويتولى الترجمة له ( صلى الله عليه وسلم ).

4-   اختياره لمعاذ بن جبل ( رضي الله عنه ) لمهمة القضاء في اليمن ؛ لفقهه وعلمه وبراعته.

من هذا نرى مدى إدراكه ( صلى الله عليه وسلم ) لمهارات كل فرد من أصحابه ،  ومدى الاستفادة منها بحسن توظيفها .

وعلى المستوى الشخصي يوجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه إلى النظر للمستقبل نظرةَ تدبيرٍ وحسابٍ لظروف الزمن ومتغيرات الحياة ، فها هو سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه ) يقول : كَانَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّة َ، فَقُلْتُ : لِي مَال ٌ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ : (لاَ) قُلْتُ : فَالشَّطْرِ؟ قَال َ: (لاَ) قُلْت ُ: فَالثُّلُثِ؟ قَال َ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِم ْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَة ٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ ، يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ) (صحيح البخاري)،

فهذا توجيهٌ إلى أمرين:

 الأول :  التخطيط للأسرة في مستقبلها المادي تخطيطًا يقيها صروف الزمان.

الثاني : فضل النفقة على الأهل.

وقد تعلم عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه )  ذلك من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا به يخطط للدولة الإسلامية فيقيم فيها الدواوين ، ويرتب الولاة ، وينظم بيت المال ، وحين تتعرض الدولة لمجاعة في عهده يحسن إدارة الأزمة والتخطيط لمواجهتها ، وهو بهذا الفكر وهذه الإدارة  يقفز بالدولة الإسلامية الفتية قفزات واسعة ، سادت بها الدنيا شرقاً وغرباً .

ثم جاء حفيده عمر بن عبد العزيز ( رضي الله عنه )  الذي أعاد التخطيط للبلاد ؛ ليعيد توزيع الموارد للبلاد بالعدالة الاجتماعية المرجوّة ، ويخطط لاستغلال الفائض من الزكاة ؛ ليعيد توزيعه فيما ينفع الناس ، فيوزّع على الفقراء ، ثم يسد الديون ، ثم يُزوّج الشباب الذي لا يستطيع النكاح ، ثم يعطى فقراء أهل الكتاب ، ولحسن تخطيطه وصدقه مع ربه يبارك الله له حتى أطعم الحيوان والطير على رؤوس الجبال .

ما أحوجنا إلى هذا التخطيط في حياتنا ؛ لنحقق الكثير لديننا وأنفسنا وبلادنا !

إن العظماء هم الذين يعرفون هدفهم فيخططون لبلوغه، فإن كانوا أفرادًا كانوا ناجحين ، وإن كانوا قادة كانوا لشعوبهم ملهِمِين وبالمسؤولية قائمين .

إن بلدنا في حاجة ماسّة إلى أن نضع خططًا قوية تنهض بحاضرها ومستقبلها في كل المجالات الزراعية والتجارية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية والإدارية، ولابدّ أن تراعي هذه الخطط الحفاظ على الكفاءات ، وتُقِيم مبدأ تكافؤ الفرص بما يحقق العدالة الشاملة ، فبدون تخطيط سليم ووعي لمستقبلنا ، وإدراك لما حولنا لن يتحقق لنا تقدم ورفاهية.

وفى الوقت الحالي تمر بلادنا بمنعطف خطير في تاريخها، لا يسمح بالفوضى ، بل لابد من الإعداد الجيد، والتخطيط السليم، والأخذ بالأسباب، وحسن التوكل على الله، والثقة فيه، فليحدد كل منا رسالته وهدفه في الحياة ، وليجتهد لتحقيق هدفه ، وبلوغ أمله، فالتخطيط السليم والعمل الجاد ثمرتهما حياة طيبة وأجر حسن، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل97].

وللتخطيط أهمية ٌ في حياتنا الخاصة ، فإنهم يقولون : التدبير نصف المعيشة ، ويقولون:  ما عال من اقتصد  ، وحسن التدبير وتصريف الأمور وفق الإمكانات المتاحة وعدم تكليف النفس فوق طاقتها أحد أهم عوامل استقرار الأسرة والمجتمع .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

ترتيب الأولويات وأثره في حياة الفرد والمجتمع

أولاً : العناصر:

1-     الإسلام يراعي ترتيب الأولويات.

2-     ترتيب الأولويات على مستوى الفرد والأسرة .

3-    أولويات يفتقدها المجتمع المعاصر.

4-    أثر ترتيب الأولويات في تقدم الأمم والمجتمعات .

5-    نماذج من الأولويات :

-         العلم قبل العمل .

-         تقديم قضاء حوائج الناس من إطعام الجائع ومداواة المريض على حج النافلة وتكرار العمرة .

-         تقديم الأكثر احتياجًا على الأقل .

-         تقديم العامّ النفع على قاصر النفع أو محدود النفع .

-         العفو والصفح أولى من المعاقبة والانتقام .

-         إبراء المعسر أولى من إنظاره .

-         فضل الأمّ على سائر الأقارب في الإحسان إليها والوفاء بحقها .

ثانيًا : الأدلة :

            الأدلة من القرآن الكريم :

1-    قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }[ البقرة -215] .

2-    وقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125].

3-    وقال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا }[النساء: 36].

4-    وقال تعالى:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:123]  .

5-    وقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

الأدلة من السنة :

1-  عَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) قَال َ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَقَالَ: ( أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ) . فَقَالَ:  لاَ ، فَقَالَ : ( مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى ) . فَاشْتَرَاهُ نُعَيْـمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِىُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ( ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَىْءٌ فَلأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَىْءٌ فَلِذِى قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِى قَرَابَتِكَ شَىْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا ) . يَقُولُ:  ( فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ ). (صحيح مسلم) .

2-  وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ) (متفق عليه ).

3-  وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ (رضي الله عنهما) قَالَ : آخَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)  بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدر داء ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا : مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ :  أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ : مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَال َ: فَأَكَلَ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ : نَمْ ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَال َ: نَمْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ : قُمِ الآنَ ، فَصَلَّيَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم ) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم) :(صَدَقَ سَلْمَانُ). (صحيح البخاري ).

4-   وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) أَنَّ مُعَاذًا (رضي الله عنه) قَال َ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) (يعني إلى اليمن) قَالَ : (إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (متفق عليه).

5-   وعن أَبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : ( إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ) ( سنن أبي داود ).

6-   وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ( رضي الله عنهما ) أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَال َ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ) ( المعجم الكبير للطبراني ).

7-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَال َ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : ( أُمُّكَ ) ، قَالَ:  ثُمَّ مَنْ قَالَ ( ثُمَّ أُمُّكَ ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ قَالَ: ( ثُمَّ أُمُّكَ ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ قَالَ : (ثُمَّ أَبُوكَ ) (متفق عليه).

8-  وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ( رضي الله عنهما )أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الأنصاري : سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )  لِلزُّبَيْرِ : ( اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) (صحيح مسلم).

ثالثًا : الموضوع :

من الواجبات الشرعية لكل مسلم أن ينضبط لديه ميزان الدين الصحيح ، فيرتب الأوامر الشرعية والتعاليم الإسلامية حسب وضعها في دين الله تعالى ، حتى لا يؤخر ما قدمّه الدين أو يقدِّم ما أخره، أو يضيع الفاضل بانشغاله بالمفضول ، فيظن المرء أنه محسنٌ والحال أنه مخدوع ، يقول الله تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا  . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا  }[ الكهف 103 – 104 ].

والقرآن الكريم حافل بكثير من الآيات التي ترغب المسلم في السعي نحو الأفضل والأكمل في كل شيء ، وتطالبه بأن يستفرغ جهده لتحقيق الأولى في عمله الديني والدنيوي معًا، من هذه الآيات قوله تعالى : {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها} [الأعراف : 145] ، وقوله جل شأنه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}[النساء: 86] ، وقوله سبحانه : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:25]، وقوله تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء:  53] ، إلى غير ذلك من الآيات التي يشتمل عليها القرآن الكريم وكلها تدعو المسلم بالسعي الدؤوب نحو الأفضل والأكمل في كل شيء.

وفي السنة النبوية إشارات إلى وضع كل شيء في مكانه الجدير به، وعدم الانشغال بالنوافل عن الحقوق والواجبات ، فهذا سيدنا سلمان الفارسي (رضي الله عنه) الذي آخَى النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) بَيْنَهُ وبين أَبِي الدرداء ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مبتذلة ، فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ قَالَ فَأَكَل َ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَال َ: نَم ْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَال َ: نَمْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ : قُمِ الآنَ فَصَلَّيَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ( صلى الله عليه وسلم )  فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ( صلى الله عليه وسلم (: (صَدَقَ سَلْمَانُ).

ويتضح من توجيهات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه في مواضع عديدة أن تقديم الأولويات من أوجب الواجبات ، لأنها تحدث توازنًا في حياة الإنسان ومعاشه . 

ومراعاة الأولويات في حياتنا تستلزم العلم بالواقع والفقه بالواجبات الشرعية معًا، ولهذا فقد قدّم الإسلام العلم على العمل ، ورفع شأن العلماء العاملين على العابدين بغير علم، فعن أَبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )  قَال َ: ( إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ )، فالعلم شجرة والعمل ثمرة ، العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل ، والرواية مع الدراية.

وإننا إذ نتكلم عن ترتيب الأولويات فهناك مشكلات تتقلب فيها الأمة ، علينا أن نرتبها ونبحث لها عن حلول ، فهذا أولى من أن نهتم بأمور هي من نوافل العبادات ، كمن يهتم بصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وهو للواجبات مضيع ، ولحقوق العباد آكل ، أو كمن يحرص على حج النافلة وهو لمصالح العباد معطل ، فالذين يحجون ويعتمرون مرات ومرات تطوعًا وتنفلًا مع احتياج بعض أهليهم وجيرانهم وبني وطنهم إلى الطعام والكساء والدواء واحتياج أوطانهم إلى مقومات أساسية لا تستقيم حياة أبنائه إلا بها ، وبخاصة في مجالات الصحة والتعليم ، فهؤلاء نذكرهم بأمرين :

أولهما : أن قضاء حوائج الناس والقيام بمتطلبات حياتهم ليس مجرد نافلة، إنما هو واجب شرعي ووطني ، يقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ( : "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ" ( أخرجه البزار ) ، ويقول الحق سبحانه : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [ الماعون 1 – 3 ].

فإذا كان هذا جزاء من لا يحض غيره وهو لا يملك فما بالنا بمن لا يؤدي حق الله تعالى؟ يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة : 34 ] ، ويقول سبحانه مخاطبًا أهل النار : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [المدثر: 42 - 44]، ويقول سبحانه: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُم مَّنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد : 38].

وعلى العكس من ذلك فإن جزاء المحسنين المنفقين جد عظيم عند الله تعالى وعند الناس، يقول الحق سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ) ( متفق عليه).

الثاني : أن قضاء حوائج الناس مقدم على ألف حجة وحجة بعد حجة الإسلام التي هي حجة الفريضة ، ومن ألف عمرة نافلة ، فالأول الذي هو قضاء حوائج الناس إصلاح للفرد والمجتمع ، والآخر الذي هو حج النافلة وتكرار العمرة لا يخرج عن دائرة صلاح النفس ، والإصلاح مقدم على الصلاح  وقد يصير ذلك ضروريًا ومُحَتَّمًا في مثل الظروف الاقتصادية التي نمر بها .

كما أن الأول مصلحة عامة ، والثاني يدخل في دائرة المصالح الخاصة ، والعام مقدم على الخاص ، والأعم نفعًا مقدم على محدود النفع أو قاصر النفع .

والأول الذي هو قضاء حوائج الناس لا يخرج عن كونه فرض عين أو فرض كفاية ، ولا شك أن الفرض والواجب عينيًا كان أم كفائيًّا مقدم على سائر النوافل لا على حج النافلة وتكرار العمرة فحسب ، ولهذا فإننا نرى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقدم قضاء حوائج الناس على الاعتكاف في مسجده هو ( صلى الله عليه وسلم )  : ( أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ) .

وقد نقل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في إحيائه عن أبي نصر التمار أن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال : قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له كم أعددت للنفقة؟ فقال : ألفي درهم، قال بشر :  فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال : ابتغاء مرضاة الله ، قال : فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال : نعم قال اذهب فأعطها عشرة أنفس ، مدين يقضي دينه ، وفقير يرم شعثه ، ومعيل يغني عياله ، ومربي يتيم يفرحه ، وإن قوي قلبك تعطيها واحدًا فافعل ، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ، قم فأخرجها كما أمرناك ، وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر - رحمه الله - وأقبل عليه وقال له : المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا فأظهرت الأعمال الصالحات ، وقد آلي الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين .

ومن نماذج الأولويات التي ينبغي أن يلتفت إليها المؤمن : أن العفو والصفح أولى من الانتصار ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين} [ الشورى: 39-40] ، فإذا كان الانتصار وردُّ العدوان لا لوم فيه ولا عدوان ولا مؤاخذة ، فإن المغفرة أفضل وأليق بالمؤمن.

ومن هذه النماذج أيضًا أن الصدقـة حال الصحة أولى من الوصيـة: فعن أبي هريـرة (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال : (أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم) قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا، وقد كان لفلان (صحيح البخاري) ، ومن ثم فإن الإحسان في وقت الصحة والعافية ، أفضل وأكثر أجرًا من بذل المال حال المرض واقتراب الأجل.

ومن ذلك ضرورة الوعي بترتيب الأولويات في باب الصدقة الجارية مثلًا في هذا الزمان أن يوجه كثير من الناس أموالهم في بابٍ واحد من أبواب الصدقات كمن يبني مسجدًا في قرية يوجد بها مساجد أكثر من حاجة المصلين ، في الوقت الذي هي في أمسِّ الحاجة إلى مستشفى أو مدرسة أو غير ذلك من مصالح الناس ومرافقهم الضرورية ، أو ما تقتضيه مصلحة الدين والبلاد والعباد ، فإن كان يبنيه لنفسه فليفعل ما يشاء ، وإن كان يبنيه لله فمصالح العباد واحتياجاتهم مما يحبه الله ويرغب فيه ؛ لأن ذلك دليل على الإخلاص وعلى ابتغاء ما عند الله .

ومن الأولويات التي يقررها الإسلام أن إبراء المعسر وإعفاءه أولى من إنظاره ، يقول الحقّ سبحانه:{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) (صحيح مسلم ).

ولعل من أشد الأزمات التي نتعرض لها اليوم ، بل هي أساس أزمات كثيرة : أزمة عدم الوعي بالقضايا الجوهرية والمصيرية ، والاهتمام بقضايا بعيدة عن الواقع ، ومن ذلك ضرورة الوعي بترتيب الأولويات ، ومن هنا رأينا من يحرص على المفضول ويترك الأفضل ، ومن يحرص على بعض المستحبات ويُفرِّط في الفرائض والواجبات أو يتساهل في المحرمات ، الأمر الذي يستلزم المعرفة بفقه الأولويات وكيفية الموازنة بين المصالح والمفاسد والترجيح بينها إذا تعارضت.

وقد كان ابن عمر (رضي الله عنهما) يقول لأهل العراق : "ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأَجْرَأَكُم على الكبيرة" (صحيح مسلم) ، يعني ما أكثر سؤالكم عن الصغائر مع جرأتكم على الكبائر .  

وحتى نكون واعين بمشكلاتنا قادرين على حلها لابُدّ أولاً من إصلاح الأسرة التي هي نواة المجتمع ، فنرتب أولويات الحياة الأسرية والتي من أهمها : البر والصلة بين أفراد الأسرة ، فلدينا مشكلة العقوق بين الأبناء والآباء  والتي اهتمّ بها القرآن وكثيرًا ما تحدّث عنها وأمر ببر الوالدين ، وبخاصة الأم ، فقال الحقّ سبحانه وتعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}[ الأحقاف : 15-16 ] .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه ِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال َ: ( ثُمَّ أُمُّكَ) قَال َ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ : ( ثُمَّ أُمُّكَ) قَال َ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ : ( ثُمَّ أَبُوكَ) (صحيح البخاري) .

وتقديم الأمّ هنا ؛ لضعفها وحاجتها إلى مزيد رعاية وعناية ولأولويتها بالاهتمام .

كما أنّ من الأولويات: الاهتمام برعاية الأبناء وتربيتهم تربية تتفق مع مبادئ الإسلام : تقدم أولويات التربية من حيث الأخلاق ، والحفاظ على العبادة ، وتقديم القدوة الصالحة  التي تتمثل في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام ، مع مراعاة عدم الإمعان في الرفاهية لدرجة خرق المروءة ، أو القسوة والشدة لدرجة انعدام الرحمة ، فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  (رضي الله عنه) أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ (رضي الله عنه) أَبْصَرَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم ( يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ : إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ( صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ)(صحيح مسلم).

فإذا أحسنا ترتيب أولوياتنا وأحسنا توظيف طاقاتنا وجميع إمكاناتنا العلمية والثقافية والمادية وفق هذه الأولوية فإن ذلك بلا شك يسهم في نهضتنا ورقينا وتقدمنا بإذن الله تعالى .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

مبدأ الحق مقابل الواجب وسيلة لإصلاح المجتمع

     أولاً- العناصر :

1-    الحق والواجب مبدأ إسلامي يقيم التوازن في حياة المسلم.

2-    التقدم والرقي الحضاري مرهون بأداء الواجبات ومعرفة الحقوق.

3-    الحق مقابل الواجب في الحياة الاجتماعية.

4-    الحق مقابل الواجب بين المواطن والدولة.

5-    الحق مقابل الواجب في العمل العام و الخاص.

6-     حق الطريق.

    ثانيًا – الأدلة :

         الأدلة من القرآن :

1-      قال تعالى: {... وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [البقرة: 40].

2-      وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

3-      وقال تعالى:{...وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة: 228].

4-      وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

5-      وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].

6-      وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

7-      وقال تعالى : {...فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

     الأدلة من السنة:

1-    عَن ِابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمًا فَقَالَ: ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ..) (سنن الترمذي).

2-    وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِى أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: ( تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِى عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ) (متفق عليه).

3-    وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ). قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: ( يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ). قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ( فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ). قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ) (متفق عليه).

4-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ) قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ) (متفق عليه) .

5-    وعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِى بُيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِى كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) (سنن الترمذي).

       الآثار:

1-      وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن أبا بكر (رضي الله عنه) لما بويع بالخلافة صعد المنبر  فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : "أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي ، وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي، الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ -إنْ شَاءَ اللّهُ-، وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ -إنْ شَاءَ اللّهُ-، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمْ اللّهُ) (السيرة النبوية لابن هشام) .

2-  وقال سيدنا علي ( رضي الله عنه ) في خطبة له خطبها بصفين: ( أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ اَلْحَقِّ مِثْلُ اَلَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، وَاَلْحَقُّ أَوْسَعُ اَلْأَشْيَاءِ فِي اَلتَّوَاصُفِ وَ أَضْيَقُهَا فِي اَلتَّنَاصُفِ، لاَ يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ وَ لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ) ( نهج البلاغة ).

    ثالثًا - الموضوع :

الإنسان مدني بفطرته ، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن غيره، ولا يقضي حاجته وحده، وإقامة الحياة وإنشاء الحضارة والعمران يتطلب التعايش بين الناس، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13] ، وهذا التعايش لن يتم ولا يكون سلميًّا متوازنًا إلا إذا قام على مبدأ معرفة الحق مقابل الواجب، وهو مبدأ إسلامي أصيل وتوجيه رباني عظيم يتربى عليه المؤمن من خلال معرفته بدينه، فأنت تقرأ قول الله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فالعبادة حق الله تعالى على خلقه وواجبهم نحوه، والإعانة من الله تعالى لخلقه منحته وعطاؤه، فحق الله على عباده مقدم على طلب الإعانة، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ(رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: ( يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ) ، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ:  ( هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ) ، قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ( فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: ( يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ: ( هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ) ، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ:  ( أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ )، وكذلك وضح لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا المبدأ وبينه في قوله : ( احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ).

وعلى هذا المبدأ – الحق مقابل الواجب – تُبنى الحضارات وتعمر البلاد ويعم الصلاح ويأتي الإصلاح، ويتحقق التمكين في الأرض، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

إن معرفة الإنسان حقوقَه وواجباتِه تجعله إنسانًا إيجابيًا في مجتمعه نافعًا لوطنه لا يصطدم مع الآخرين من حوله فهو لا يعتدي على حقوق الآخرين فلا يأخذ ما ليس له ولا يُنزَعُ منه ما هو له فحين إذٍ لا نجد حقدًا ولا حسدًا ولا أنانيةً، وتعم المحبة والمودة.

أما جهل الإنسان بحقوقه وواجباته نحو عمله وأسرته ووطنه وعمله وجيرانه وأقرانه فيجعل المجتمع يعاني الكثير من المشكلات والآفات، لأن في ذلك اختلالاً للتوازن، وإذا اعتمدت الأمة مبدأ السهولة والمطالبة بالحقوق وأغفلت مبدأ القيام بالواجب فإنها أسرع إلى الزوال، فحرصُ الإنسانِ على حقه وتركُه واجبَه هو الأثرة والأنانية، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِى أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، قَالُوا:  يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ:  (تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِى عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِى لَكُمْ ) ، والأثرة والأنانية تحيل المجتمع إلى ساحة من الصراع، وهذا لا يتفق مع مراد الإسلام وهدفه من إقرار مبدأ الحق مقابل الواجب.

إن الحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب ولكل سعيٍ أثرُه ومنفعته وإن قَلّ.

إن معرفة الحقوق والواجبات سبيل النهوض بالبلاد والرقي بالأمة، وهي حقوق متبادلة بين الأفراد يعم نفعها على الجميع ولا تأتي في صالح فرد دون الآخر، فهناك مثلاً حقوق للآباء والأمهات في أعناق الأبناء يجب أداؤها ومراعاتها، وفي مقابلها حقوق للأبناء في أعناق الآباء والأمهات، فحق التربية والتهذيب والتعليم وغيره واجب على الآباء، يقابله حق البر من الأبناء لهم، فلابد للآباء أن يؤدوا واجباتهم ليساعدوا الأبناء على الحق الذي لهم، فرحم الله والدًا أعان ولده على بره،  وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوجه الآباء إلى ما تطيب به نفوس  بنيهم ويساعدهم على البر، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ انْطَلَقَ بِي أَبِى يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّى قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي. فَقَالَ (أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ) . قَالَ لاَ. قَالَ ( فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي - ثُمَّ قَالَ - أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً). قَالَ بَلَى. قَالَ : ( فَلاَ إِذًا )(صحيح مسلم).

وحقوق الأبناء والآباء تأتي في مراحلها وحسب تدرج المراحل العمرية للإنسان، فإذا كنت اليوم ابنًا فأنت غدًا أبٌ ، وهكذا تتغير الحقوق والواجبات في كل مرحلة عن غيرها. لكن الحق مقابل الواجب بين الآباء والأبناء قد يكون الوفاء به من قِبل الله تعالى، فهذا خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) يَبَرُّ أباه ويسلك كل السبل في هدايته وإرشاده، ثم يلقى منه الصدود والإعراض، يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 41 - 47].

فهذا رفق الابن المؤمن، وهذا ردُّ الأب الكافر، فكان الجزاء من الله تعالى في ولده إسماعيل (عليه السلام) الذي أطاعه فيما لا يُطاع فيه أحد من الخلق: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 101، 102].

وهناك الحقوق والواجبات المتبادلة بين أفراد الأسرة الواحدة، فللزوج حقوق على الزوجة وللزوجة حقوق على الزوج، والله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وقد بيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: «أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِى بُيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِى كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ».

كما فرض الإسلام حقوقًا بين المسلم وأخيه المسلم بيَّنها النبي (صلى الله عليه وسلم) في أحاديث عديدة منها قوله: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»، فكل حق من هذه الحقوق هو حق لك على أخيك المسلم، وواجب له عليك.

وكذا حقوق الجار التي جعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) شرطًا للإيمان فقَالَ: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ) ( متفق عليه )، فكل حق من حقوق الجيرة ككف الأذى وحسن المعاملة، ومساعدته حين يحتاج المساعدة، وعيادته إذا مرض، وتهنئته في فرحه، وتعزيته في مصيبته، وغير ذلك هي لك حقوق على جارك، وفي نفس الوقت هي عليك واجبات له.

وهناك حقوق وواجبات متبادلة بين المعلم والتلميذ، فحق الأستاذ على التلميذ من الأدب والتوقير والطاعة يقابله حق التلميذ على أستاذه من حيث تقديم العلم النافع وحسن الأداء والرعاية للتلاميذ.

          إن الأخذ بمبدأ مقابلةِ  الحق بالواجب ضرورة شرعية ومجتمعية لضمان العدل بين الناس والتعايش في سلام وأمان، فإذا نظرنا إلى هذا المبدأ بين صاحب العمل والعامل وجدنا أن الإسلام قد بين حقوق وواجبات الطرفين، فالعامل يجب عليه أن يلتزم بأخلاقيات العمل التي دعا إليها الإسلام من الصدق والوفاء بالعقود، وأداء الأمانة في العمل وغيره على الوجه المطلوب والشكل المرغوب، فعَنْ عَدِىِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِىِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّى عَمَلَكَ، قَالَ: ( وَمَا لَكَ) قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ: ( وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِىَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِىَ عَنْهُ انْتَهَى) (صحيح مسلم).

يقول الإمام المناوي (رحمه الله تعالى) : وهذا مسوق لتحريض العمال على الأمانة وتحذيرهم من الخيانة ولو في تافهٍ ، وقد جاء واضحًا صريحًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [ النحل 91]، وفى مثل قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ( الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً، أَوْ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا) (السنن الكبرى للبيهقي) ، كما بيَّن في المقابل حقوق العامل، وقد كفلتها له الدعوة الإسلامية كاملة غير منقوصة، وألزمت صاحب العمل بأداء هذه الحقوق، فمن ذلك أن الإسلام وضع أجر العامل في مرتبة من القداسة عالية، وتوعد من يأكل حقه بأشد العذاب، وفى هذا يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن ربه سبحانه : ( قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) ( صحيح البخاري) ، وهذا لما يترتب على أكله من فساد كبير، بل أمر (صلى الله عليه وسلم) بإعطائه حقه بعد العمل مباشرة قبل أن يهدأ بدنه من قوة العمل، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : ( أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) (سنن ابن ماجه)

والمواطنون لهم حقوق على الدولة منها: حمايتهم وحماية ممتلكاتهم وتوفير الأمن والاستقرار، وضمان  المسكن الملائم والتملك والعمل، وحرية التنقل وحرية الرأي، وضمان التعليم والصحة، وإقامة المرافق العامة كالنقل والمواصلات، والمياه النظيفة، وضمان حرية العبادة،  وتحقيق العدل بين الناس، وهذا أبو بكر (رضي الله عنه) في كلماته الأولى للأمة بعد أن بويع بالخلافة يوضح جليًا دور الحاكم في إقامة العدل بين المحكومين وحمايتهم فيقول: ( أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي ، وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي، الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ -إنْ شَاءَ اللّهُ-، وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ -إنْ شَاءَ اللّهُ-، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمْ اللّهُ).

          أمّا الواجبات التي على  المواطن تجاه وطنه - وتُعدُّ من الأمانات التي يجب عليه أن يقوم بها قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء: 58] لأنه سيُسأل عنها يوم القيامة قال تعالى :{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] – نقول هذه الواجبات هي : المحافظة على المال العام كالمرافق العامة والطرق، وحافلات النقل، ومؤسسات العمل، والحدائق العامة ، والمدارس والجامعات والمستشفيات، واحترام القوانين المنظمة للأعمال، ونشر ثقافة التراحم والتسامح والمحبة بين أبناء الوطن جميعًا، فرسالة الإسلام قد لخّصها القرآن الكريم عندما حدد أهدافَ مهمةِ النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، رسول الرحمة والإنسانية فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

ومن أهم الحقوق حق الطريق والمحافظة على آدابه ، واحترام القوانين والإرشادات الخاصة بالسير فيه للأفراد والمركبات حفاظا على أمن المجتمع وسلامته.

ومن حق الوطن على أبنائه كذلك المشاركة في تنميته زراعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، وعلميًا، ودعم المنتجات الوطنية، والإسهام في توظيف الشباب في مؤسسات وشركات رجال الأعمال وأصحاب المصانع، واحترام الآخر مع اختلاف انتمائه الديني أو الثقافي، أو السياسي وعدم اللجوء إلى العنف والإرهاب ، أو إشاعة الفوضى والتخريب وحمل السلاح في وجه المواطنين المسالمين الآمنين ، أو حراس الوطن وحماته من الجيش والشرطة، والخروج عن إطار القانون والإفساد والفساد الاجتماعي، وغير ذلك من الواجبات اللازمة على المواطن تجاه وطنه .

إن الله عز وجل هو الكريم عظيم الجود، خزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا ينقطع، ومع هذا يريد من العبد أن يقدم بين يديه شيئًا حتى يثيبه، يقول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، ويربط الله (عز وجل) بين ما يقدمه العبد وما يمنحه الله إياه ، كأنه يشترط عليه أن يقدم أولاً حتى يعطيه، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] كل هذا مع غناه عن خلقه؛ لكنه سبحانه يريد أن يبث في عباده مبدأً مهمًا   وهو  أن من يريدُ عليه أن يقدم أولاً.

لكننا هنا لابد أن نشير إلى مبدأ لا ينبغي أن يخفى على أحد وهو أن هذه الحقوق والواجبات في الأصل عبادة يتوجه بها العباد إلى الله تعالى قبل كل شيء، فمثلًا صلة الرحم وبر الآباء عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله تعالى، فالجزاء عليها من الله تعالى لا  من العبد، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)  قائلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ: ( لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (صحيح مسلم ولم يرخص له النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يقاطعهم كما قاطعوه، وهذا الأمر عام في كل الحقوق والواجبات، فعلى كل واحد فينا أن يعطي الذي عليه حتى وإن لم يأخذ الذي له، فلو نظرنا إلى العمل مثلًا لوجدنا الله تعالى يحب إتقان العمل ،كما أخبر بذلك النبي (صلى الله عليه وسلم ): ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ( رواه الطبراني) ، فهذا يعني أن إتقان العمل عبادة قبل أن يكون وفاءً بحق صاحب العمل، وهكذا يجب أن تكون نظرتنا للأمور، أن نعامل الله تعالى في أعمالنا وعلاقاتنا قبل أن نعامل العباد.

وهكذا إن لم يؤدَّ إليك ما هو لك فليس هذا مسوغًا أن تهمل وتترك ما هو  واجب عليك، بل أدِّ ما عليك وقم بواجبك قاصدًا وجه الله تعالى، فهو المكافئ والمجازي والمحاسب، فإن الإنسان إذا أدى ما عليه فالله مثيبه ومكرمه ولا يضيع أجره، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: 90]، وقال : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].

ولنعلم أنه ما ضاعت أمة ولا هلك مجتمع إلا حينما تغافل الناس وتركوا مبدأ الحق مقابل الواجب، فالبعد عن هذا المبدأ بُعْدٌ عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وطريق لنشر الفوضى والأنانية والكثير من العلل الباطنة والظاهرة، وهذا يؤدي إلى تقويض بنيان المجتمع، وهذا ما يأباه العاقل لوطنه، فما بالكم بالمؤمن المخلص؟! إنه يتمنى الرفعة والعلو لمجتمعه ووطنه، ومن ثَمَّ فهو حريص على هذا المبدأ والقيام به لما فيه من نشر الخير والأمن والأمان والحب والوئام.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

خطورة التكفير والتخريب والفتوى بدون علم

أولاَ : العناصر:

1.   الإسلام دين الوسطية والاعتدال.

2.   الإسلام يرفض التشدّد والغلوّ والتّطرف. 

3.   التحذير من تكفير المسلمين ، وبيان أضرار ه على الفرد والمجتمع . 

4.   كيف نعالج ظاهرة التكفير؟.

5.   خطورة الفتوى بدون علم.

ثانياَ : الأدلة:

الأدلة من القرآن :

1-    قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }[البقرة: 143].

2-        وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125 [.

3-    وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}[النساء:94].

4-        وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}]الأحزاب : 58 [.

5-        وقال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[الأنعام: 144].

 الأدلة من السنة :

1-    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (صحيح البخاري).

2-    وعن أنس ( رضي الله عنه )  أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول:  )لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ (رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) )(رواه أبو داود).

3-    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)  (رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة).

4-    عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه )  يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ( صلى الله عليه وسلم )  : ( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ ) (صحيح مسلم).

5-        وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم )  أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم ) فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) (رواه أبو داود).

6-    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه )  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا )(رواه البخاري).

7-    وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم )  قال: ( أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ . فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ ) .

8-     وعن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ : ( ...وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ – رجع عليه) (صحيح مسلم).

9-    وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:  ( إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْىِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْىِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )(سنن الدارقطني).

ثالثاً : الموضوع:

فلقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالاستقامة والاعتدال ، وإن ‌الدين الإسلامي يعارض التطرف والتعصب، ويحترم التعددية الثقافية والدينية والحضارية وينبذ العنصرية ، ويدعو للوسطية التي شَرَّفَ بها أُمّةَ الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) ، وجعلها أُمَّةً وسطًا بين سائرِ الأُمم، فقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة: 143] .

ونهاهم عن الغلو والانحلال، فقال تعالى:{ يَاأَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } (الآية 171 سورة النساء) ، فلا إفراط ولا تفريط ، لا غلو ولا تطرف ولا تشدد في الإسلام ، إنه دين الوسطية والاعتدال والعدل ، دين الرحمة والتسامح والوفاء والصدق ، دين الأخلاق الحميدة الفاضلة.

ولم تعرف البشرية نظاماً ولا ديناً اشتملت مبادئه على الوسطية والسماحة واليسر كالإسلام ؛ لأن تعاليمه تتفق وطبيعة الإنسان الضعيف{ ُيرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء: 28]، ولذا أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم ( بالقصد والاعتدال واليسر والسماحة ، فقال(صلى الله عليه وسلم ( ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ) (رواه البخاري).

وفي مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه المجتمع من الجماعات التكفيرية التي تتبنى الإرهاب والتطرف ، ومن دعاة العنف والتخريب والمتسرعين في الفتوى بغير علم ، حثّ الإسلام على الدعوة بالتي هي أحسن ، فقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46]. وقال تعالى :{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل: 125].

      لذلك حذر النبي (صلى الله عليه وسلم ( من الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حدّ الاعتدال  فعن أنس ( رضي الله عنه ) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ( كان يقول: (لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِى الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ (رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) .(رواه أبو داود).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم (: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ) (رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة)، فالإسلام يرفض الغلو والتطرف والتشدد في الدين ؛ لأنه خلاف ما جاء به.

ومَن تأمَّل مقاصدَ الشّرع في العبادات والمعاملات والآدابِ والأخلاق والأوامِر والنّواهي تبيّن أن له مقصداً كبيراً وغاية عُظمى، وهي جمعُ الكلِمة وغرسُ المحبّة وزرعُ الأُلفة ونشر المودّة بين أفرادِ الأمّة، والحثّ على التناصُر والتعاون ، والبعدُ عن أسباب العداوة والبغضاء وما يحمِل على الكراهة والشّحناء ، وما يثير الأحقادَ والأضغان ، والتحذيرُ الشديد مِن الطّعن في المسلمين والتّشهير بهم وإساءةِ الظنِّ بهم واتهامهم ببدعةٍ أو كفر أو فسوقٍ أو نفاق أو ظلمٍ أو جهل ، ومن ثم فإن الإسلام دين الوسطية واليسر والتسامح ، ودين المحبة والألفة والتعاون ، وليس دين قتل أو تخريب أو إرهاب .

أما ما يحدث من تكفير وتطرف وغلو في مجتمعنا.. وما ينشأ عنه من ترويع وإرهاب وسفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت ، فكلها  أعمال إجرامية دخيلة على بلادنا وعلى عاداتنا وتقاليدنا ، إنها إفساد في الأرض وإشاعة للرعب والخوف ، واستهداف للأمن والأمان والاطمئنان ، والإسلام بريء منها ، وكذلك كل مسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر بريء منها، فديننا الحنيف حذّر من إرهاب الآخرين ، ونهى عن ترويع الآمنين وتخويفهم، وحرّم التعدي عليهم ، لأنه إجرام تأْباه الشريعة والفطرة ، يقول (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ )(صحيح مسلم)

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم (  أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم (  فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) (رواه أبو داود) .

ولا يمكن لوطني عاقل أن يقبل بمظاهر الحرق والتخريب والتدمير التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون تظاهراً سلمياً مقبولاً، أو مجرد تعبير عن الرأي، أو مجرد احتجاج، فضلاً عن أن يكون مشاركاً فيها، أو مؤيداً لها، أو متعاطفاً معها إلا إذا كان قد انسلخ من كل معاني الوطنية، فإن من يسلك هذه المسالك التكفيرية أو التخريبية أو يقدم على الفتوى بدون علم لن يجنى إلا حسرة وندماً وسوء عاقبة .

إن الإسلام وشريعته السمحة منذ نزول الوحي علي سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم(  يمنع أي تعدّ سواء أكان علي أصحاب الديانات المخالفة أو علي المتّحدين في الديانة ، كما يتبرأ ممن يحملون السلاح علي الأمة ويخرجون علي المجتمع ؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم( (من حمل علينا السلاح فليس منا) (متفق عليه) .

ويتوعد القرآن الكريم من يستحل القتل ودم الأبرياء بالعقاب الأليم، يقول تعالي: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].

فالإسلام أكّد علي حفظ الحرمات - حرمة النفس والعرض والمال - وحذر من العدوان عليها ، وشرع الحدود والعقوبات صيانة لتلك الحقوق ، فكل من يرهب ويفزع الآمنين ويشهر السلاح يكون من أهل الفساد ومن المحاربين ويستحق قوله تعالي:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ  فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة 33].

فالإرهاب والإضرار بالناس والتعدي عليهم وهم آمنون ، وقذف الأحكام والفتاوى جزافاً على الناس ليس من الدين في شيء .

والمتأمل في زماننا هذا يجد أن بعض الناس أصبح يطلق الأحكام كيفما يشاء بدون علم ولا بصيرة ، فمن وافق هواه واتبع فكره أطلق له عبارات المدح والثناء ، ومن خالفه في بعض الأفكار والأمور أطلق عليه أبشع الألقاب والصفات ، وربما وصل ذلك إلى وصفه بالردة والخروج عن الملة -والعياذ بالله - لمجرد فعله معصية أو ارتكاب كبيرة بحق الله سبحانه وتعالى.

وإن من أخطر تلك الأحكام المتساهل بها هو (التكفير) ، فإذا شرُف المرء بالإسلام ودخل فيه يقيناً فلا يجوز الحكم عليه بالخروج منه إلا بحجة قاطعة ويقين جازم ، لا بالظنون والشكوك والأوهام والتخرصات والهوى الذي يحكم به الإنسان لمجرد هواه من غير بينة من رب العالمين.

ومن عِظمِ ذلك جاءت نصوص الكتاب الكريم باحترام المسلمين –  دينهم وأعراضهم -  حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}[النساء:94].

فنهاهم أن يطلقوا الكفر على من أظهر الإسلام حتى يتبين حقيقة الأمر ، فإن من أعلن إسلامه وجب علينا قبول إسلامه والحكم عليه بالإسلام ظاهراً إلى أن يأتي ما يناقض ذلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58[، فرميه بالكفر من أعظم الأذى والإيلام له، ثم حذرنا الحق-  سبحانه – من الحكم على الأمور بلا علم ولا بصيرة ، فقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء: 36[.

          وكذلك بينت السنة النبوية خطورة إطلاق الكفر بمجرد الظن والهوى بغير علم وحذّرت المسلم من ذلك، فقال (صلى الله عليه وسلم): ( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) (رواه البخاري). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ  فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ ) أي:  إذا قلت لإنسان يا كافر فإنه يبوء بها إما أنت أو هو فإن كان ليس كذلك رجع ذلك الإثم عليك فيخشى عليك بأن تكون كافراً بعد إسلامك .

إن للتكفير أخطاراً عظيمة ، ويترتب عليه أمور عظيمة ، فقف عند حدك أيها المسلم ولا تحكم إلا بحكم شرعي ، فإن أثر التكفير على الفرد، والجماعة المسلمة ، وعلى الإسلام عموماً، فضرره على الفرد: إذا حكمت عليه بالكفر فمعناه أنك حكمت بردته، وحكمت عليه بالخلود في النار ، وفرقت بينه وبين امرأته، ولم تجعل له ولاية على أولاده ، ولا ميراث له، ولا تصل عليه، ولا تدفنه في مقابر المسلمين، ولا يجوز التوارث بينه وبين أبناءه وزوجه ؛ لأنك حكمت عليه بالكفر ، فيترتب على هذا الحكم أمور كثيرة فكيف ترضاها أيها المسلم بلا دليل ولا روية، إن ذلك خطر عظيم.

وأما ضرره على الجماعة المسلمة ، فإنه يشتت الكلمة ويفرق الصف ، ويغرس العداوة والبغضاء في النفوس ، ويخالف ما دعت الشريعة إليه من التعاون والتآلف والتناصر ، ويغلق باب التناصح والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن،  إذ الداعي إلى الله لا يهمه التكفير وإنما مبدؤه الإصلاح والترغيب في الإسلام ، وبيان محاسنه وفضائله ودعوة الناس إليه ، أما أن يواجه الناس بالتكفير من قبل أن يقيم عليهم الحجة فهذا أمر خطير يترتب عليه مفاسد عظيمة.

وأما ضرره على الإسلام عموما فإن هؤلاء الذي يكفرون الناس بلا حجة يشوهون سمعة الإسلام، ويظهرون أن دين الإسلام دين الإرهاب وسفك الدماء ، وانتهاك الأعراض ونهب الأموال، ويشوهون صورة الإسلام بما يحدثونه ، إذ هذه الكلمة تسبب لهم عدم احترام الدماء والأموال والأعراض حيث حكموا بالكفر فرتبوا على هذا الكفر ما يقصدون وما يريدون وهذا أمر خطير .

إن قضية التكفير والتخريب والفتوى بدون علم قضية خطيرة ، فكم فرقت الأمة في القرون الخالية ، وكم زلت بها أقدام ما كانت لتزل ، وضلت فيها أفهام ما كانت لتضل وذلك بالتباس الأمر على بعض الناس حتى ترتب على ذلك أمور خطيرة .

وعلاج هذه الظاهرة يتمثل في توعية المجتمع المسلم بكافة أطيافه ، وأن نوضح لهم خطر هذا المنهج وضرره ومساوئه ومفاسده في الحاضر والمستقبل ، وأن تكون التوعية والتربية الصالحة على الخير لا على هذا الأمر الخطير لنكون على بصيرة من أمرنا ، وأن نعالج الأفراد الذين وقعوا فيما وقعوا فيه بأن نزيل عنهم الشبهة والغشاوة التي طرأت عليهم ونوضح لهم الحق بالتوعية الصادقة والنصيحة الهادفة ، فكم من أناس انخدعوا واغتروا بدعاة ضلال وفساد ظنوا أنهم على خير وأنهم محقون ولكنهم مسيئون لهم فساءت أفهامهم وقلَّ إدراكهم ، فلا بد من توجيههم وإزالة كل الغشاوة التي علقت بأذهانهم.

ومن ثمَّ كان النهي عن تكفير المسلمين جزافاً بدون علم أو سند شرعي ، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام: 144]. فإن كثيراً من العامة يفتي بعضهم بعضاً بما لا يعلمون ، فتجدهم يقولون : هذا حلال وهو مما حرمه الله ، أو يقولون : هذا حرام وهو مما أحله الله ، أما يعلم هذا الذي يفتي بغير علم أن الله سائله عما قال يوم القيامة ؟ أفلا يعلم أنه إذا أضل شخصاً فأحل له ما حرم الله أو حرم ما أحل الله له فقد باء بإثمه وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟ قال تعالى:{ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116-117]، وها هو أبو بكر رضي الله عنه ( يقول أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم ) ( رواه ابن ماجه).

          وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها ، فقال له أصحابه:  قد استحيينا لك ، فقال لكن: الملائكة لم تستح حين قالت: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة: 32]( إعلام الموقعين لابن القيم ).

وعن أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه )  قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم (: ( مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ) (رواه أبو داود في سننه). وفي رواية : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم (:( مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبَتٍ ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ). (سنن ابن ماجة) ، وعَنْ      عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه ) قَالَ: إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابُ الرَّأيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بالرَّأي فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (سنن الدارقطني) .

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

خطورة الإسراف والتبذير على الفرد والمجتمع

أولاً: العناصر:

1-    الإسلام دين الوسطية والاعتدال.

2-    محاربة الإسلام للإسراف والتبذير.

3-    من صور الإسراف والتبذير:

أ‌-    الإسراف في استخدام الماء.

ب- الإسراف في استخدام الطاقة.

ج - الإسراف في الطعام والشراب واللباس.

د‌-      الإسراف في الولائم العامة والخاصة.

هـ - الإسراف في الكماليات.

4-    خطورة الإسراف والتبذير على الفرد والمجتمع.

5-    الإسراف والتبذير من أسباب هلاك الأمم.

6-    من عناية الإسلام بالمال شرع الحجر على السفيه والمبذر، وهو نوعان :

      أ- حَجْرٌ لحق الغير.  

     ب -  حَجْرٌ لحق المال.

ثانيًا : الأدلة :

الأدلة من القرآن :

1-    قال تعالى: {...وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27].

2-    وقال تعالى: {...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

3-    وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

4-    وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا }[الإسراء:29].

5-    وقال تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9].

6-    وقال تعالى: { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}[الواقعة:41- 45].

7-     وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[النساء:5].

 الأدلة من السنة:

1-    قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه : بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما): كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ (وَاشْرَبْ) مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ (رواه البخاري)

2-    وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ ؟ فَأُرَاهُ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ، ثُمَّ قَالَ  (هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ) (السنن الكبرى للنسائي).

3-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) (متفق عليه).

4-    وعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ (رضي الله عنها) قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ رِجَالاً يخوضون فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (صحيح البخاري) .

5-    وعن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ:( مَا مَلَأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ، يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) (شعب الإيمان).

ثالثًا: الموضوع:

إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال ، والقسط والميزان ، وبهذه المبادئ تميز عن غيره من الأديان في كل نواحي الحياة، في أحكامه وتوجيهاته، ومواقفه في العادات والعبادات، والمعاملات والتصرفات، والأخلاق والسلوك، والعقل والفكر، فالتوسط والاعتدال أصل من أصوله التَّشريعية ، ومبادئه الأساسية ، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}[ البقرة :143].

     وكذلك من أصول الإسلام التشريعية أيضًا: حفظ الأمور الضرورية للنَّاس، وهي: الدِّين، والنَّفس، والمال، والعِرْض، والعقل، ومن هذا المنطلق جاءت النُّصوص الشَّرعية تحذِّر من الإسراف والتَّبذير، وتنْهى عن البخل والتَّقتير.

كذلك أكد الإسلام أن المسلم الحق معتدل في حياته ، ومقتصد في أموره كلها، لا إِفْراطَ ولا تفرِيطَ ، لا غُلُو ولا مُجافَاةَ، لا إسراف ولا تقتير، لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)، قال المناوي (رحمه الله تعالى): وهذا الخبر جامع لفضائل تدبير المرء نفسه، فالإسراف يضر بالجسد والمعيشة، والخيلاء تضر بالنفس حيث تُكسبها العُجْب، وبالدنيا حيث تُكسب المقت من الناس، وبالآخرة حيث تُكسب الإثم .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) : كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ . ويقول أبو بكر الصديق(رضي الله عنه) : إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد ، فالاقتصاد في الإنفاق طريق الغنى والسعادة والراحة ففي الأثر: مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ ، وفي الأثر أيضًا : من اقتصد أغناه الله، ومن بذر أفقره الله .

كما مدح الله سبحانه وتعالى المحافظين على هذه الوسطية وهذا التوازن وعدّهم من عباد الرحمن الذين ينالون كل خير ويجزون الغرفة بما صبروا، فقال سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

إن الإسراف من أمراض هذه الأمّة ، وآفة من آفات العصر الحديث ، وداء فتَّاك يهدّد الأمم والمجتمعات، ويبدّد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة، فالمسرف لا يَقدر نعمة الله حقَّ قدرها ، فيتناول هذه النعمة بما ينبغي لها من المحافظة عليها، واستعمالها فيما خُلقت له، واستخدامها فيما يحبُّ الله تعالى ويرضى ، بالقصد وبالاعتدال والتوسط ، دون إسراف ولا تقتير، فهذا هو شأن الإنسان المؤمن، وهذا ما أقام الله عليه الحياة، وأقام عليه هذا الكون ، كما قال سبحانه:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ*وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:7-9] ، لا طغيان: لا تجاوز للحدِّ. ولا إخسار: لا نقص عنه، ولا تطفيف فيه.

ومن الجدير بالذكر أن الإسلام يسعى إلى إقامة اقتصاد دائم متين ، أساسه المعاملات الشرعية، لذلك حرم كل ما من شأنه الإخلال بهذه المعاملات ، فنهى عن الإسراف والتبذير نهيا شديدًا، فقال عزَّ من قائل:{ َكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31] ، وقال جلّ وعلا في ذمِّ المبذرين:{...وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء: 26-27]، فالتبذير المنهي عنه إنفاق المال في غير حقه ، وتفريقه فيما لا ينبغي.

وفي تشبيه المبذر في هذه الآية بالشيطان في سلوكه السيئ ، وفي عصيانه لربه ، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التي يجب على العاقل أن يبتعد عنها ، حتى لا يكون مماثلاً للشيطان الجاحد لنعم ربه ، الكافر بها.

ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين؛ لأنهم ينفقون في الباطل، وينفقون في الشر، وينفقون في المعصية، فهم رفقاء الشياطين وأصحابهم، فالشيطان لا يؤدي حق النعمة، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين.

فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله، حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله، والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والحياة الاقتصادية ، وانتشار الجرائم بكل أنواعها، بالإضافة إلى فساد القلوب والأخلاق ، لذلك أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالتوازن والتوسط في النفقة ، فقال سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا }[الإسراء:29]، ويقول سبحانه: {والَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 67].

فالتوجيه القرآني يرشد الإنسان إلى أن يكون متوسطًا في أموره كلها، معتدلاً في إنفاق أمواله، بحيث لا يكون بخيلاً ولا مسرفًا ؛ لأن الإسراف والبخل يؤديان به إلى أن يصير مذمومًا من الخلق والخالق ، ومغمومًا منقطعًا عن الوصول إلى مبتغاه بسبب ضياع ماله، واحتياجه إلى غيره.

إن الناظر اليوم في أحوال كثيرٍ من الناس على اختلاف طبقاتهم يراهم قد بالغوا في الإسراف والتبذير في جميع شئون حياتهم وأمورهم، فإذا نظرنا إلى مظاهر الإسراف والتبذير في حياة الفرد والمجتمع نجدها كثيرةً ومتعددةً ، فنرى إسرافًا في الطعام والشراب مع أن الإسلام نهى أتباعه عن ذلك ، فقال تعالى :{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، وقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :(مَا مَلَأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ، يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) ( شعب الإيمان).

وكذلك نهى الإسلام عن الإسراف في الملبس بجانب الطعام والشراب ، بل نهى حتى عن الإسراف في الصدقات، فقال (صلى الله عليه وسلم) في حديث عمرو بن شعيب الذي ذكرناه آنفًا: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ) ، كذلك نرى إسرافًا في الولائم العامة والخاصة وذلك للتفاخر والتعاظم والتكبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ (صحيح مسلم) ، وإسرافًا في الكماليات، فنجد أقوامًا من الناس يتباهون بكثرة الإنفاق ولو بالدَّين تكبرًا وتفاخرًا ، وإسرافًا في استخدام الماء ، حيث يستخدم بعض الناس الماء استخدامًا فيه سرفٌ شديد ، فإنهم يهدرون الماء في الحقول، وفي البيوت، وفي المدارس، وفي الطرقات يغسلون بها سياراتهم بخراطيم المياه دون ضابط مما يسبب إهدارًا للماء وإفسادًا للطريق، إنهم لا يدرون أن الله تعالى سيحاسبهم على كل نقطة ماء يهدرونها، فالماء أغلى ما في الحياة، بل هو الحياة، يقول الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].

فلنتق الله فيما أنزله الله تعالى من السماء طهورًا، وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن الإسراف في الماء حتى في الوضوء ، ففي سنن النسائي وابن ماجه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال:( هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ )، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: (مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ ) فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : (نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) ( سنن ان ماجة).

وكذلك نجد إسرافًا في استخدام الطاقة ، فنرى الكثير من الناس يسرفون في استخدام الطاقة بسفه شديد أو بغفلة وعدم إدراك للأمور أو تكاسل أو نحوه ، بل إن بعضهم يسرقونها، ويتهربون من سداد فواتيرها، وهذا محرم شرعًا ؛ لأن ذلك يعدُّ خيانة للأمانة ، وإهداراً للمال العام، وإسرافًا في الشهوات والملذات، ومنشأ ذلك كله الجهل والغفلة ، والبعد عن تعاليم الإسلام، ومن ثمَّ فقد حرم الإسلام كل مظاهر الإسراف والتبذير وحياة الترف  لما في ذلك من أضرار دنيوية وأخروية .

ولخطورة الإسراف والتبذير قرر الإسلام حكمًا شرعيًّا وهو: الحجر على السفيه ومنعه من التصرف في المال بكل أنواعه، وجعل له وليًا يعطيه قدر حاجته، فقال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[النساء:5] ، فالآية الكريمة نهت الأولياء عن إعطاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط عيشهم، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم، والمراد بالسفهاء كل من لا يحسن المحافظة على ماله لصغره، أو لضعف عقله، أو لسوء تصرفاته سواء أكان من اليتامى أم من غيرهم.

والحجر ينقسم إلى قسمين: الأول: الحجر لحق الغير مثل: الحجر على المفلس فإنه يمنع من التصرف في ماله محافظة على حقوق الغير، فقد حجر الرسول ( صلى الله عليه وسلم) على معاذ وباع ماله في دينه- ( رواه سعيد بن منصور).

والثاني: الحجر لحق المال مثل: الحجر على الصغير والسفيه والمبذر والمجنون فإن في الحجر على هؤلاء مصلحة تعود عليهم وعلى المال بالحفظ، ذلك لأن المال إنما هو مال الله، يقول سبحانه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد: 7]، ويقول سبحانه:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور: 33]، فنحن مستخلفون فيما تحت أيدينا من أموال، فمن أحسن الاستخلاف كانت له حرية التصرف في ماله، ومن أساء الاستخلاف أو لم يكن أهلاً له وجب أن يكون له وليٌّ يحول بينه وبين الإسراف والتبذير.

وللإسراف والتبذير أضرار وخيمة على الفرد والمجتمع، حيث يؤدي إلى الاستخفاف بنعم الله والانغماس في الشهوات والأنانية وحب الثراء ونسيان المحرومين، كما يؤدي إلى ظهور طبقة مترفة تعيش على الفواحش وتضييع الثروات واختلال التوازن في المجتمعات، فقد ذم الله تعالى الترف وعابه وتوعد أهله في كتابه ، إذ قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41- 45].

كما أن التبذير والإسراف يؤدي بصاحبه إلى إضاعة المال وتبديد الثروة، فكم من ثروات عظيمة وأموال طائلة بددها التبذير وأهلكها الإسراف، وأفناها سوء التدبير، وقد نهانا الإسلام عن إضاعة المال  والتخوض فيه بغير حق ، ففي حديث المغيرة (رضي الله عنه) قال: سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ) ، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).

والإسراف والتبذير هما من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}[غافر:28] ، وقال سبحانه: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ}[الزخرف:5] وقال سبحانه:{ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[ يونس:12].

فالإسراف يحرم الإنسان محبة الله (عز وجل) اسمعوا قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. وماذا يصنع من حُرِم محبة الله؟! وهل يفلح إنسان حرمه الله تعالى من محبته؟! إنه يعيش في قلق، ويعيش في اضطراب، ويعيش في ألم نفسي، وإن أحاطت به الدنيا من كل جانب.

وكذلك الإسراف والتبذير من أقصر الطرق إلى جهنم، قال تعالى: {..وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[غافر:43]. بل إن الإسراف والتبذير يشكلان جريمة على العالم كله ويدفع ثمنها الضعفاء والفقراء ومتوسطوا الحال طيلة حياتهم ويرثها أجيالهم المستقبلية.

فالتاريخ والواقع ينبئان بالعلاقة الطردية بين مستوى الرفاهية والبذخ والترف الذي يعيش فيه الأفراد وبين معدلات الاندثار والهلاك التي يحتمل أن يصاب بها مجتمع ما ، فكلما زادت معدلات الإسراف والإنفاق زادت احتمالات السقوط والتردي الاجتماعي التي ربما أصيب بها المجتمع في مرحلة تالية، وهذه سنة كونية وشرعية لا تتبدل؛ قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[الإسراء: 16].

فالإسراف والتبذير طريق من طرق كفران النعمة، يؤدي إلى الهلاك والتدمير، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] .

لأجل ذلك كان التحذير الشرعي المستمر من الإسراف والتبذير والترف، بل والحث على التقلل من مباهج الحياة الدنيا قدر ما يستطيع الإنسان، لكيلا تسيطر عليه شهواتها وملذاتها وتسيِّره حيث تشاء، فيصير عبدًا لها، فالأفراد يكتسبون قوتهم باستعلائهم على الشهوات والملذات واستغنائهم عنها.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

خطورة الإدمان والمخدرات

أولًا : العناصر:

1-     نعمة العقل ووجوب المحافظة عليها.

2-     آفة المخدرات ومفاسدها. 

3-     الآثار السيئة للمخدرات على الفرد والمجتمع.

4-     وسائل العلاج وتضافر الجهود للقضاء على الإدمان.

ثانيًا : الأدلة:

     الأدلة من القرآن:

1-  قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[المائدة:90- 92].

2-     وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

3-  وقال تعالى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..}الآية  [النساء : 140 ].  

4-     وقال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة 195].

5-  - وقال تعالى: { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة : 100] .

6-  وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم :6] .

الأدلة من السنة :

1-      عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية لابن ماجه من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما): قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ).

 

2-  وعَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ أَصْحَابِي مِنَ الْيَمَنِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لَنَا شَرَابًا نَتَّخِذُهُ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلادِنَا ، وَنَحْنُ نُعَالِجُ أَعْمالا شَدِيدَةً فَنُقَوَّى بِهِ وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (هَلْ يُسْكِرُ ؟ ) قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : (فَاجْتَنِبُوهُ) (رواه أبو داوود).

3-     وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ) (رواه أبو داوود).

4-  وعن ابْن عُمَرَ (رضي الله عنهما)  قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) (رواه أبو داود).

5-  وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ ) (صحيح مسلم).

6-  وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): (لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ) (سنن ابن ماجه).

7-   وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ) (سنن ابن ماجه).

8-  وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) (متفق عليه).

9-     وعن أُمَّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) تَقُولُ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ) (مسند أحمد).

10-   وعَنْ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه) (أخرجه البخاري).

 

11-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ (رضي الله عنه): ( قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا) (البخاري ومسلم) .

ثالثًا: الموضوع:

              لقد كرم الله (عز وجل) بني آدم بخلال كريمة وأنعم عليهم بنعم كثيرة امتازوا بها عن غيرهم من المخلوقات ، فقد كرمهم بالعقل، وزينهم بالفهم، ووجههم بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان ، به يميز بين الخير والشر ، والضار والنافع ، به يسعد في حياته ، ويأمن في آخرته ، وبه يدبر أموره وشئونه ، وبالعقل يكون مناط التكليف ، وهو جوهرة ثمينة ، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية ، اعترافا بفضلها ، وخوفا من ضياعها وفقدانها ، وبالعقل يشرف العقلاء ، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له ، كما قال تعالى :{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الحديد:17]. وإذا ما فقد الإنسان عقله ، لم يُفَرَّق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات بل ربما فاقه الحيوان الأعجم بِعلة الانتفاع ، فمن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.

        هذا العقل الثمين، هناك من لا يعتني بأمره ، ولا يحيطه بالحفظ والحماية ، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته ، فَتُعمى بصيرته ، كل هذا يبدو ظاهرًا جليًّا في الذي يتناول كأس خمر ، أو جرعة مخدر ، أو استنشاق مسكر ، أو شرب مفتر يُفقد الإنسان عقله ؛ فينسلخ من عالم الإنسانية ، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة ؛ فتشل الحياة ، ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه ، ويظلم نفسه ، ويقتل إرادته ، ويمزق حياءه.

        ومن هنا فإن اهتمام الشرع الحنيف بنعمة العقل يتطلب من المسلم أن يحافظ عليه وأن لا يتناول من الأشياء ما يفسده أو يعطل وظيفته أو يضره ويؤذيه ، ومن أجل ذلك حرم الإسلام كل ما يضر بالعقل فجعل من مقاصد الشريعة التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها ضرورة الحفاظ على العقل.

        هذا والاعتداء على العقل له صور عديدة ، ومن ذلك عدوان الشخص على عقله بتدميره عن طريق تعاطي المخدرات التي تفسده وتشل فاعليته ، فتضر بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ نظرًا لأن هذا السلوك المنحرف من شأنه أن يفقد المجتمع عضوًا كان من المفروض أن يكون عضوًا صالحًا وعقلًا مفكرًا يساعد في بناء مجتمعه وتقدمه.

        فعقل كل فرد من أفراد المجتمع ليس حقًّا خالصًا له يتصرف فيه كيف يشاء ، بل للمجتمع حقٌّ فيه أيضًا باعتبار كل شخص لبنة من لبنات المجتمع ، وأن مصالح الأمة لا تستقيم إلا إذا كانت عقول أبنائها سليمة من الآفات ؛ قادرة على التفكير السليم والتخطيط الدقيق لكل ما من شأنه أن يعود بالخير والسعادة على الأفراد والجماعات.

          ومن أجل ذلك قرر الإسلام عقوبة على الشخص إذا تناول عَمْدًا ما يُفسد عقله ؛ لأنه بذلك قد تسبب في ضرر المجتمع ، فضلًا عن الضرر الذي جلبه على لنفسه.

          يقول الحسن البصري - رحمه الله- : ( لو كان العقل يشترى، لتغالى الناس في  ثمنه ، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده).

وأفضل قَسْمِ الله للمرء عقله            وليس من الخيرات شيء يقاربه

ويزري به في الناس قلة عقله        وإن كــرمت أعراقـــه ومنــاســبه

          ولما كان الهدف  الرئيسي للشريعة الإسلامية الحفاظ على مصالح العباد والبلاد من المفاسد والأضرار التي تلحق بهم حرّمت كلَّ ما يذهبُ العقل أو يشوِّشُ عليه ، أو يخرجه عن وعيه وإدراكه ، فحُرِّمت الخمر والمخدرات بأنواعها ، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:90- 92] .

         وتنبيها إلى أهمية الطاعة في الخير وضرورة الانتهاء عن الشر نلاحظ أنه عندما سمعَ أصحابُ النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه الآيات كانتِ الوقفةُ الأخيرةُ مع الشهوةِ التي مالت إليها النفوسُ ، وامتثلوا (رضي الله عنهم وأرضاهم) لأمر الله (عز وجل) في الحال، فأريقتِ الخمورُ حتى جرت في طرق ِ المدينةِ ، وفي ذلك روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ (رضي الله عنه): قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا) (البخاري ومسلم) ، وهذا الموقف يدل على سرعة الانقياد والامتثال لأمر الله تعالى .

        ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن هذا الزمان الذي تكثر فيه أنواع المسكرات تحت مسميات مختلفة، الأمر الذي جعل بعضهم يدعي أنه لا يشرب الخمر التي حرّمها الله (عز وجل) متغافلا أن كل مسكر حرام أيًّا كان اسمه ، فعن أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ( لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا)، لهذا وضع الإسلام وصفًا عامًا للخمر ينطبق على أي نوعٍ من الأنواع المعروفة ، أو التي تُستحدث من المسكرات ، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أن رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)، وعند مسلم أيضًا من حديث ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ في الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ ، لَمْ يَشْرَبْهَا  في الآخِرَةِ )، كما أخرج أبو داود والترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).

          فمن هنا نعلم أن اسم الخمر شامل لكل ما يُسكر  ، مهما أحدث الناس له من أسماء، وسواءً أكان مائعًا أم جامدًا، طالما توافر فيه المعنى المُحرَّم وهو الإسكار ، وإنما اعتبر إسكار الجنس دون القَدْر ، لأن الأمر لا يتعلق بقدر معين ولا بشارب معين، بل ما أسكر جنسه أيَّ شاربٍ فهو حرام كما دلت الأحاديث الشريفة المذكورة وغيرها.

        فالخمر حرمها الله (عز وجل) ، بل إن اللعنة تصل إلى كل من امتدت يده لها من قريب أو بعيد، فعن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ)(أخرجه أبو داود )، ولِمَ لا ؟! ولحظة تعاطي الخمر والمخدرات هي لحظة سقوط الإيمان من قلب المؤمن، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (متفق عليه)، فكيف به إن مات وهو على هذا الحال؟! أهُناك خاتمةٌ أسوأ من ذلك والعياذ بالله؟!

        ويلتحق بتحريم الخمر المخدرات بجميع أنواعها ومسمياتها، وكل ما يؤثر على النشاط الذهني والحالة النفسية لمتعاطيها، وكل ما يتداوله المتعاطون ممّا يغيب العقل أو يفتِّر الجسم ، يستوي في ذلك كل ما يدخل الجسم بأي طريقة كانت: بشربٍ أو شَمٍّ أو حَقْنٍ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ)، فالمخدرات داء عضال يفتك بشباب مجتمعنا فيجعلهم جثثًا هامدةً، وعقولًا خاوية، وقلوبًا فارغةً في الوقت الذي نحتاج فيه إلى رجال يلبون نداء الوطن دفاعًا عن الأرض والعرض، ويكونون لبنة أساسية في تنمية الوطن.

          ولما كان للخمر والمخدرات تأثير على عقل الإنسان نهى الله شاربها عن القرب من العبادة أثناء سكره وخاصة الصلاة ، فقال (عز وجل): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].

            ومن هنا يجب على الأسرة أن تحافظ على عقول أبنائها من خطر الخمر والمخدرات والسموم البيضاء ، حتى نعالج المجتمع من الإدمان وينتشر الأمان ، ويسود السلام ، ويكون الوئام، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم :6]. وعَنْ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:(كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه) (أخرجه البخاري)، فينبغي تضافر الجهود وقيام الدول والحكومات بكل ما من شأنه أن يجنب شبابنا مخاطر الإدمان والمخدرات.

          ويجب على المجتمع بأسره أن يقف في وجوه تجار المخدرات والمهربين والمروجين والمتاجرين بالمسكرات ، بل ومساعدة الحكومات في القضاء على هذه الظاهرة التي تهدد مجتمعنا في أعز ما يملك - وهم شبابنا وأبناؤنا - وأن تشدد العقوبة الرادعة على من يعبثون بعقولهم ، حتى يستقر المجتمع وينعم بالأمن والصحة ، فقد رُفعَ إلى عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) قومٌ يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له : إن فيهم صائمًا فقال ابدؤوا به ، ثم قال : أما سمعت قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..} [النساء :140 ].  

        ومن ثم فواجب علينا آباءً ومسئولين، ومربين ومواطنين استشعار خطورة هذا الداء ، وأن نتعاون جميعًا على نبذه وبيان أضراره ، فخطر المخدرات يستهدف المجتمع كله ، في تدينه واقتصاده ، وصحته وأخلاقه ، وتماسك أُسره ، واستقرار معيشته.

        ويكفي استشعارًا لخطر المخدرات أنَّ من وقع في شباكها وذاق سمّها تأتي عليه لحظة يتحول فيها من إنسان سوي إلى كائن مسعور ، يمكن أن يسرق ويقتل ، أو يبيع دينه في سبيل الحصول على ما يسكت خلاياه العصبية ، في مشهد يشبه حالة الجنون .

          إن خطر المخدرات لا يقتصر على الأمراض بل تجر صاحبها إلى الانحدار  في المستوى التربوي والتعليمي والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي ، وهذا يدعونا جميعًا أن نقول بصوت واحد مرتفع لا للمخدرات لا للإدمان.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

خطورة النفاق والكذب

وضرورة التنشئة على الصدق ومكارم الأخلاق

أولا : العناصر :

1- حقيقة النفاق وأنواعه.

2- صفات المنافقين.

3- خطر النفاق على الأمة.

4- آثار الكذب على الفرد والمجتمع.

5- ضرورة التنشئة على الصدق ومكارم الأخلاق.

  ثانيًا : الأدلـة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1- قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون: 1، 2].

2-  وقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145].

3-  وقال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: 4] .

4- وقال تعالى : {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:9-10].

5- وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 13] .

6- وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: 11- 12].

7- وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة: 67].

8-  وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة: 73].

9-  وقال تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119].

10-        وقال تعالى:{إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].

الأدلـة من الســنة :

1-  عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قال: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

2-  وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما ) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).

3-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: ( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ) (متفق عليه).

4-  وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ  مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ) (مسند أحمد).

5-  وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَلِ كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) (مسند أحمد).

6-  وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قال : قِيلَ للنبي (صَلى الله عَلَيه وَسَلم): أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ ؟). فَقِيلَ لَهُ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً ؟ فَقَالَ: ( نَعَمْ ). فَقِيلَ لَهُ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّاباً ؟ فَقَالَ :(لاَ) (رواه مالك في الموطأ).

7-   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).

8-  وعَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُول: ( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار) (متفق عليه).

9-  وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قَالَ : دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا ، فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ ) قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ ) (رواه أبو داود).

   ثالثًا: المـــوضــــــوع:

إن من عظمة الدين الإسلامي أنه ما ترك خصلة من خصال الخير ولا طاعة من الطاعات تقربنا من رحمة الله -عز وجل - وجنته ورضوانه إلا وأمرنا بها ورغبنا فيها ، وما ترك خُلقًا ذميمًا ولا خصلة من خصال الشر تبعدنا عن رحمة الله - تعالى - إلا ونهانا عنها وحذرنا منها ، فهو دين يجمع بين القيم والمثل الإنسانية الرائعة التي تجسد الصورة المثلى للأخلاق الفاضلة.

ومن الخصال الذميمة والأمراض الخطيرة التي نهانا عنها وحذرنا منها : مرض النفاق ، فهو مرض من الأمراض الاجتماعية وآفة من الآفات الخطيرة التي انتشرت في أوساط المسلمين وشاعت في مجتمعاتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ، والتي تهدد كيان الأمة وتزعزع عقيدتها التي تقوم على الإخلاص في عبادة الخالق والصدق في معاملة المخلوقين.

وحقيقة النفاق: أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن ، فقد يبطن الكفر ويظهر الإيمان ، وقد يبطن الكراهية ويظهر المودة ، أو يبطن الحقد ويظهر الفرح والحب ، أو يبطن الشر ويظهر الخير إلى غير ذلك من المظاهر التي يعرفها الناس. 

وقد ظهر النفاق في العهد المدني ، فحين هاجر الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى المدينة وعَلَت كلمة الإسلام وأصبح للمسلمين قوة ، لم يعد بإمكان بعض الكافرين الموجودين في المدينة الجهر بالعداء لدعوة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فأضمروا الكفر وأظهروا الإسلام حفاظًا على وجودهم ومصالحهم ، فسماهم الله تعالى بالمنافقين.

وقد ذكرهم سبحانه في عدة سور في القرآن الكريم منددًا بهم، ومحذرًا من خطرهم ، وخَصَّ الله تعالى سورة باسمهم ، وهي سورة (المنافقون) ، قال تعالى :{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 1، 2].

والنفاق نوعان: أكبر ، وأصغر.

النوع الأول: النفاق الأكبر وهو أخطر النوعين ، وهو النفاق الاعتقادي الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر - وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية ، ويخلد صاحبه في النار بل يجعله في الدركات السفلى من النار ، قال سبحانه :{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: 145].

النوع الثاني: النفاق الأصغر: وهو النفاق العملي ، وهو انحراف في السلوك ، والتلبس بشيء من علامات المنافقين كالكذب في الحديث ، والخلف في الوعد ، والغدر والخيانة ونحوها، وذلك بأن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالفها ، وهذا النوع لا يخرج من الدين بالكلية؛ إلا أنه طريق إلى النفاق الأكبر .

وهذا النوع من النفاق حذرت منه السُّنَّة ، والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة (رضي الله عنهم ) في ذكر آية المنافق ، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه ) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قال: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما ) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).

فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، ومن كانت فيه واحدة منها صار فيه خصلة من النفاق.

والمنافق أشر الناس؛ لأنه يبالغ في مدح الناس بالباطل من أجل المآرب والمصالح الشخصية ، ويتَلوَّن حسب الطلب ، فيقابل هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه آخر، وقد ذم الإسلام ذا الوجهين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: ( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ) (متفق عليه).

هذا النفاق الأصغر هو النفاق الذي كان يخافه السلف الصالح - رحمهم الله - على نفوسهم، مع عمق إيمانهم وكمال علمهم ، فقد أخرج البخاري : تعليقًا – أن ابن أَبِي مُلَيْكَةَ (رحمه الله) قال : ( أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ).

لقد اشتد خوف السلف الصالح على أنفسهم أن يكونوا من جملة المنافقين  ، فعَنْ حُذَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: دُعِيَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) لِجِنَازَةٍ، فَخَرَجَ فِيهَا أَوْ يُرِيدُهَا ، فَتَعَلَّقْتُ بِهِ فَقُلْتُ: اجْلِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أُولَئِكَ، فَقَالَ: (نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ؟) ، قَالَ: (لا ، وَلا أُبَرِّئُ أَحَدًا بَعْدَكَ) (مسند البزار).

فتأمل ما كان عليه الصحابة الأبرار من خوف شديد من النفاق ودواعيه ، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان ، فمع ضعف الإيمان تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه.

وإن المتأمل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  يجد أن الله تعالى حذر من المنافقين عامة ، فقال تعالى : {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] .

لقد فضحهم الله سبحانه ، وكشف أسرارهم في القرآن الكـريـم ، وجَلَّى لعباده صفاتهم ؛ ليكونوا منها ومن أهلها على حذر ، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن فـي سـبــع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قـــال ابـــن القيم (رحمه الله): (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) (مدارج السالكين)، وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم ، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله ، إنهم لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران ، رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب ، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة: 9،10].

وكذلك حذر الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من الوقوع في شعب النفاق ، وأنذر من سلوك المنافقين ، خوفًا على أمته من النفاق والمنافقين ، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ) (مسند أحمد). ومعنى (عَلِيمِ اللِّسَانِ): عَالِمُ اللِّسَانِ جَاهِلُ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ.

وصدق رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فإن أخطر المصائب في تاريخ الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا تأتي من طريق المنافقين ، ولا نكاد نرى عصرًا من العصور في تاريخ المسلمين إلا ونجد للمنافقين فيه دورًا خطيرًا ، فقد أفسدوا عقائد كثير من الناس ، فالمنافقون قوم ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مُسُوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب. إنهم يستخفون من الناس ولا يراقبون عالم السرائر، ويحرصون على تزيين ظواهرهم بالأقوال والأفعال ويخفون في بواطنهم السوء.

ولخطورة هذا الصنف من الناس ذكر الله تعالى للمنافقين صفات كثيرة ، أخطرها : الكفر بالله ، قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] .

ومن صفاتهم: الفساد في الأرض بالكفر والنفاق، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:11، 12].

ومن صفاتهم : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، والبخل بالمال ، كما أخبر الله عنهم بقوله : {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

ومن صفاتهم : البهتان والكذب ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]. فالكذب علامة واضحة تشهد على صاحبها بالنفاق ، كما ورد في حديث أبي هريرة ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) [ البخاري، مسلم]. إلى غير ذلك من الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.

إن أكبر خطر تهددت به الأمة الإسلامية على مر العصور هو النفاق ، فإذا نظرنا في مسيرة التاريخ الإنساني لوجدنا أن النفاق هو العامل الأخطر في تقويض الدولة الإسلامية، لأنه يدب في جسد الأمة كما يدب السرطان في جسد الناس، ولا يشعرون به إلا وهم جثة هامدة ، وهذا ما يحدثه النفاق في وحدة الأمة، حيث يجعلها جثة هامدة عن طريق إحداث الفتنة والاضطرابات والفرقة، والعمالة مع أعداء الإسلام في هدم الإسلام والمسلمين.

فالنفاق داء الأمة العضال ، خطره عظيم ، والمنافقون أشد خطرًا على المسلمين؛ لأنهم يخالطونهم ويعلمون أحوالهم ، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى : {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: 4] .

ومما يؤكد خطر النفاق : أن الكثير من شعب النفاق الأصغر – الذي لا يخرج عن الملة – قد عمت وانتشر ت في مجتمعات المسلمين ، كالكذب ، وخلف الوعد والغدر والخيانة ، وغير ذلك ، بل استفحل الأمر وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صورًا أو أنواعًا من النفاق الأكبر في بلاد المسلمين.

ولما كان خطر الكفار والمنافقين على الأمة الإسلامية عظيمًا أمر الله رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بمجاهدتهم والغلظة عليهم ، فقال تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [التوبة: 73].

ولئن كانت وصية ربنا سبحانه لنا ملازمة التقوى والتزام الصدق لكونهما طريق مرضاة الله وعنوان الفوز بجنات النعيم  ، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119] ، فإن من أقبح الصفات وأشنع الخصال صفة الكذب.

فالكذب من السلوكيات المذمومة التي حذر منها القرآن الكريم ، أمره خطير وشره مستطير ، فهو جماع كل شرٍّ وأصل كل ذمٍّ لسوء عواقبه وخبث نتائجه ، وإن كان علامة وخصلة من خصال النفاق إلا أنه أولى صفات المنافق ، وركن من أركان النفاق، فإذا ذُكر النفاق في القرآن ذُكر معه الكذب ، وإذا ذُكر الكذب ذُكر معه النفاق ، قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:9-10].

فالكذب عنوان النفاق ، إضافة إلى أن وجوده في الشخص دليل على ضعف الإيمان، لذلك أثر عن رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قوله: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَلِ كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) ،  ولقد نفى رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن المؤمن أن يكون كذابًا ، حين سئل: ( أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ فَقَالَ :( نَعَمْ ؟). فَقِيلَ لَهُ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً ؟ فَقَالَ: ( نَعَمْ ). فَقِيلَ لَهُ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا ؟ فَقَالَ : ( لاَ ) ( رواه مالك في الموطأ]. وما ذاك إلا لأن الكذب صفة ذميمة، تهدم شخصية المسلم بين الصادقين، وتعرضه لعقاب الله عز وجل ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}[غافر: 28] ، وقال سبحانه: {إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل: 105].

إن للكذب أشكالًا وألوانًا أخطرها وأقبحها : الكذب على الله – عز وجل – فقد وصفه الله – تعالى -  بأبشع الظلم، وتوعد عليه أليم العقاب وسوء المصير ، قال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. فالكذب حرام بكل أشكاله وألوانه، وإن الكذابين الأفاكين لا مكان لهم في الإسلام، ولا خلاق لهم عند الله، وليس لهم في الآخرة إلا النار وبئس القرار.

إن الذين يكذبون على الله - من المتطاولين والمتعالمين - وينسبون لشرعه ما ليس منه تحليلًا وتحريمًا من أجل تبرير مصالحهم وتصرفاتهم، يسلكون مسلكًا خطيرًا يؤدي إلى العبث بمصالح الأمة ، وسفك دمائها ، وبث الفرقة والشتات في صفوفها ، لذا حذرنا ربنا سبحانه من هذا المسلك في قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].

كذلك من أخطر الكذب وأشنعه : الكذب على رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ولخطورة عواقبه حذر منه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ووصف صاحبه بأنه يشتري بذلك مقعده في النار، فعَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُول: ( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار). (متفق عليه).

إن الكذب بالإضافة إلى كونه محرمًا شرعًا فله عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة، فمن خبيث ثماره ووخيم عواقبه أنه يخلف في الفم نتنًا يجعل الملائكة تنفر منه، فعن ابنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أن النبيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَ: ( إذا كَذَبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلَكُ مِيلاً مِنْ نَتنِ ما جاءَ به )(سنن الترمذي )، ويقول الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223].

ومن آثار وعواقب الكذب في الآخرة أن مآل صاحبه يوم القيامة نار جهنم والعياذ بالله ، كما جاء في الحديث: ( وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ).

وهكذا بقية شُعَب النفاق العملية ، من إخلاف الوعد ، وفجور في الخصومة ، وخيانة في الأمانة وغيرها، قد نتساهل بها أحيانًا وهي طريقُ الضلالِ والنفاقِ الأكبر ، فليحذر العاقلُ من شُعَبِ النفاق كُلِّها ويتهم نفسه كما اتهم السابقون أنفسهم ، وليطيِّب أعماله كما طيَّبها السابقون، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، فلنحذر ذا الوجهين هو من شرار الخلق ، كما قال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه) (رواه البخاري) ، فهذا الصنيع وإن كان في عرف المتأخرين دهاءٌ ولباقة فهو في عرف المتقدمين كذب ونفاق وخيانة .

لذلك فإننا بحاجة شديدة إلى اجتثاث هذا الخلق الشنيع من بيننا و تطهير المجتمع من مظاهره ، وأن نتحلى بخلق الصدق الذي أمرنا به ربنا سبحانه وتعالى ، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119] ، وكذلك وصانا به رسولنا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فقال : (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).

كما يجب علينا أن نغرس فضيلة الصدق في نفوس أطفالنا ، حتى يشبوا عليها ، وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قَالَ : دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا ، فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ ) (رواه أبو داود). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: ( مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ: تَعَالَ هَاكَ، ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ )(رواه أحمد).

فلننظر كيف علَّم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأمهات والآباء أن يُنشئوا أولادهم تنشئة يقدسون فيها الصدق ، ويتنزهون عن الكذب ، ولو أنه (صلى الله عليه وسلم) تجاوز عن هذه الأمور وحسبها من التوافه الهينة لخشي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

حرمة التلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الأساسية

أولاً : العناصر:

1.     حث الإسلام على التراحم والإحسان بين الناس في المعاملة.

2.     الحث على الكسب الحلال ، والتحذير من الكسب الخبيث .

3.     النهي عن الغش ، والاحتكار ، وغلاء الأسعار.

4.     النهي عن التلاعب بأرزاق الناس وأقواتهم.

ثانياً: الأدلة:

الأدلة من القرآن:

1-    قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195]

2-    وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة: 172].

3-  و قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }[النساء: 29].

4-    وقال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161].

5-  وقال تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[ أول سورة المطففين].

الأدلة من السنة :

1-  عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ( رضي اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (سنن الترمذي).

2-  و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى)(صحيح البخاري).

3-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ) ( صحيح البخاري).

4-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ ) (صحيح مسلم).

5-  و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: ( يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ"، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (سنن الترمذي).

6-  وعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ (رضي الله عنه)  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :(لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ).(صحيح مسلم).

7-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
(صلى الله عليه وسلم) : " مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً ، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ " (مسند أحمد) ، وفي رواية : (... وقد بَرِئَت منه ذمة الله ورسوله) (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال).

8-  وعن عُمَرَ بن الخطاب (رضي الله عنه)  قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامًا ضَرَبَهُ اللهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ ) (سنن ابن ماجه).

9-  و عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي اللَّهُ عَنْهُمَا ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الله ، وَالله بَرِئٌ مِنْهُ ، وَأَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعًا ، فَقَدْ بَرِِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ الله) ( مسند أحمد).

10-وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ (رضي الله عنه) قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (رواه أحمد). وعند البيهقي في السنن الكبرى "كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

ثالثًا : الموضوع:

فإن الإسلام بوسطيته وشمولية منهجه جاء بما يتماشى مع حياة أتباعه الاجتماعية ، ويتوافق مع تطلعاتهم المعيشية واحتياجاتهم الدنيوية، فلا يصطدم مع طبيعتهم البشرية بل يهذبها ويصون كيانها، ولا يقف حائلاً دون رغباتهم الإنسانية بل يشبعها وينظم دوافعها دون ميل أو حيف، فهو دين شامل لكل نواحي الحياة، فلا تجد أمرًا من أمور الدنيا يحتاجه الناس، إلا وجد له العلاج الأمثل الناجح الذي يعالج هذا الأمر في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة: 3].

ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بسبل التعامل الحلال ، وبتيسير الأمور على العباد ، وحثت على تبادل المنافع بين الناس بما يحقق لهم السعادة والاستقرار ، فأمرت بالتراحم والإحسان بين الناس في التعامل حتى تنتشر بينهم المودة والمحبة ، ويشيع التعاون والتآزر   في معاملاتهم ، قال تعالى : {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيََ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (سنن الترمذي).

 ولما كان الإنسان مجبولاً على حب المال حريصاً على طلبه وتحصيله - لأن به قوام حياته وانتظام أمر ه ومعاشه - جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح ، فأباح كل كسب ليس فيه اعتداء ولا ظلم ولا ضرر على الغير ، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة: 172].

ومن ثمَّ حثت الشريعة الإسلامية التاجر المسلم على السهولة واليسر ، والسماحة وحسن المعاملة ، ونبل الأخلاق في البيع والشراء ، وحضت على الشفَقَة والعَطف بإخوانه المسلمين، لا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يرهق كواهل إخوانه ، فذلك سبب إلى وجود البركة في الرزق ، والسعة في الأموال، لأن النبي(صلى الله عليه وسلم ) لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة ، فقد دعا (صلى الله عليه وسلم )  بالرحمة لمن فعل ذلك ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم )  قَالَ : (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) (صحيح البخاري). وفي رواية للترمذي من حديث جابر – أيضاً - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ): (غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ سَهْلاً إِذَا بَاعَ، سَهْلاً إِذَا اشْتَرَى، سَهْلاً إِذَا اقْتَضَى) .

وفي المقابل حرمت الشريعة الإسلامية كل صور المعاملات المحرمة ، التي تؤدي إلى الكسب  الخبيث ، والتي من شأنها أن توغر الصدور ، وتفسد العلاقة بين المسلمين ، فحرمت أكل أموال الناس بالباطل ، والغش في التعامل بين المسلمين ، وحرمت احتكار السلع الأساسية التي يحتاجون إليها ورفع أسعارها ، وحرمت التضييق على عباد الله في أرزاقهم ، والتلاعب بأقواتهم و حاجاتهم الأساسية .

فكل ذلك من المحرمات والكسب الخبيث ؛ لأنه إثراء بغير حق على حساب أقوات الناس وحاجاتهم الأساسية ، بل نوع من أنواع الغلول (السرقة) والله تبارك وتعالى يقول:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161]. وسوف يسأل عنه الإنسان يوم القيامة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): ( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ )(رواه الترمذي).

ولما كانت المكاسب الخبيثة محرمة ؛ لما يترتَّب عليها من ظلمٍ وعدوان ، وعدم تحقيق العدل والمساواة بين المسلمين، فقد حذَّرنا منها ديننا الحنيف ، وسدَّ الأبواب الموصلة إليها ،  وحرِص على توجيهِ المسلم وإرشادِه حتى يكونَ حريصًا على تنقيةِ مكاسبِه من كلِّ كسبٍ خبيثٍ أو مالٍ محرَّم ، ومن ثمَّ حرَّم الكسبَ الخبيث بكل الطرق والأساليب .

ومن ذلك : أكل أموال الناس بالباطل ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ): (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) (صحيح مسلم).

إنَّ المتأمِّلَ في عالم الناس اليوم يرى أنه عالمٌ تغيَّرت فيه كثيرٌ من القِيَم الصّحيحة ، وتبدَّلت فيه المفاهيمُ المستقيمة ، عالمٌ سَيْطَرَ ت فيه المادة على نفوسِ كثير من الناس ، وإيثارُ المالِ هَيْمَن على قُلوبِهم، فراحوا يجمعون الدّنيا بكلِّ طريق ويستكثِرون منها بأيِّ سبيل، وتساهلوا في جمع الأموال، لا يهمهم حلال أم حرام ، حتى صدَق عليهم  إخبارُ المصطفى (صلى الله عليه وسلم )  بقولِه : (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ) (صحيح البخاري).

ونظراً لما يترتب على الكسب الخبيث من آفاتٍ وشرورٍ جاءت شريعة الإسلام ضابطةً لتصرفات البيع والشراء والتعاملات المالية بما يحقق التوازن بين سعْي التجار في تحصيل الأرباح، وسعْي العامة في تلبية احتياجاتهم، فحرمت كل ما يؤدي إلى التلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الأساسية ، ومن ذلك : الغش بجميع صوره :

فقد أكد القرآن الكريم حرمة هذه الآفة الخطيرة - وهي الغش - وتوعد عليها بالويل والخسران ، لمن يتلاعب بالوزن والكيل ، فقال سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[ أول سورة المطففين].

وقد حذر نبي الله شعيب (صلى الله عليه وسلم )  قومه من بخس الناس أشياءهم والتطفيف في المكيال والميزان ، كما حكي الله ( عز وجل) ذلك عنه في القرآن ، فقال:{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأََرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود: 85].

فالذي يغش الناس يعتبر آكلاً للحرام؛ لأنّ الواجبَ على البائع الصدقُ في بيعه، وأن لا يخدَع ولا يغشَّ ولا يخون ، بل يكون إخبارُه صحيحًا صِدقًا ، فإن دلَّس وغشَّ وخان كان آكلاً للمال الحرام.

ومن الغش : دسُّ الرديء في ثنايا الجيد ، و بيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة ، وكذلك إخفاء العيب الموجود في السلعة ، فإن باع بيعًا يعلَم أنَّ فيه عيوباً قد لا يطَّلع المشتري عليها إلاّ بعد حين يُعتبر بهذا آكلاً للحرام ؛ لأن الواجب عليه أن ينصَحَ لإخوانه، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّه لنفسه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم )  مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: ( يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟)، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ( أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ )، ثُمَّ قَالَ: ( مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (سنن الترمذي).

وكذلك من المكاسب الخبيثة التي حرمها الإسلام ونهى عنها: احتكار السلع الأساسية التي يحتاجها الناس ، ورفع أسعارها ، وتلاعب بعض التجار بأقوات الناس وضروريات حياتهم.

والاحتكار : حبس ما يحتاج إليه الناس من مال أو منفعة أو عمل ، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يرتفع سعره ويغلو غلاءً غير معتاد ، بسبب قلّته مع شدة الحاجة إليه ، لتحصيل أكبر كسب ممكن . وهذا ليس خاصاً بالأقوات بل هو عامٌ في كل ما يحتاجه الناس ويقعون في حرجٍ أو ضيقٍ إذا فقد أو قَلَّ  أو ارتفع سعره ارتفاعاً فاحشاً ، سواءً كان طعاماً أو لباساً أو دواءًً أو عقاراً ، أو غير ذلك مما يحتاجه الناس .

فإن العدالة الاجتماعية في المعاملات الإنسانية تقتضي أن يرعى الناس حقوق وحاجات بعضهم البعض ، وأن لا يكون كل منهم سبباً في تضييق العيش على الآخر والإضرار بمصالحه، فذلك مما تستنكفه الفطر السليمة وتترفع عنه الطبيعة الإنسانية ، وقبل ذلك تحرمه الأديان السماوية ؛ ذلك لأنه مسبب للفرقة مستنبت للكراهية والضغينة ، مولد لثقافة الحقد والبغضاء بين الناس، كما أنه ضرار بالناس ، والنبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول: (لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ) (رواه أحمد في مسنده) .

لقد عانى كثير من المسلمين من احتكار السلع الضرورية وغلاء أسعارها، ولا يزال ذلك في ازدياد، مما أثَّر على معيشة كثير من الناس، وأدى بهم إلى زيادة الحاجة والعوز ، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات ، وهذا بطبعه فيه إضرار بهم، وهو أيضًا منهي عنه شرعًا؛ فقد تضافرت الأحاديث النبوية على التشنيع على المحتكرين لأرزاق وأقوات الناس بغية التغالي في أسعارها، ومن ذلك: قوله (صلى الله عليه وسلم ): (مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً ، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ ) (مسند أحمد) ، وفي رواية : (... وقد بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ ورسولِه) (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ( رضي اللَّهُ عَنْهُمَا ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : ( مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الله ، وَالله بَرِئٌ مِنْهُ ، وَأَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ الله) (رواه أحمد في مسنده).

 ومما لاشك فيه أن احتكار السلع يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار ؛ لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار ، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييقٍ لأبواب العمل والرزق ، وانتشار الحقد والكراهية بين الأفراد مما يساعد على تفكك المجتمع وانهيار العلاقات بين أفراده ؛ لذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ ) (رواه مسلم) ، (والخاطئ هو الآثم).

وليعلم المحتكر أن هذا الربح الزائد الذي يجنيه من احتكاره حرام ، لأنه ليس نظير زيادة في البضاعة ولا في صفاتها ، ولا نظير خدمة خاصة يقدمها البائع ، إنما هو إلجاء أصحاب الحاجات إلى شراء حاجاتهم بأكثر من أثمانها الحقيقية ؛ من أجل ذلك كان المحتكر للسلعة ملعوناً ، وخاطئاً، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله ، وتوعده الله بالعقاب الأليم، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ): ( الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ) (السنن الكبرى للبيهقي) ، وعن عُمَرَ بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم )  يَقُولُ: ( مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامًا ضَرَبَهُ اللهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاَسِ) (سنن ابن ماجه).

فالتاجر الذي يزيد في السعر من غير مبرر  أو يكتم ما في السلعة من عيوب، أو يبخس في الكيل والوزن ، أو يتلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الضرورية يعد آكلاً للحرام.

أما التاجر الذي يرأف بالناس يرأف الله به، ومن يرحمهم يرحمه الله، ومن ييسر عليهم ييسر الله عليه ، ومن صدق في بيعه وشرائه نال الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويكفيه شرفًا وفخرًا أن ينال الجنة بفضل الله  تعالى  ورحمته؛ فقد روى الترمذي منْ حديث أَبِي سَعِيدٍ ، قال (صلى الله عليه وسلم): ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ).

هكذا جاء الإسلام بشريعته الخالدة داعيًا إلى الخير والعدل والتسامح ومحاربًا لكل  ما هو فاسد ويضر بالفرد والمجتمع ؛ لأن التسعير من غير ضرورة ظلم كبير ، والاحتكار نوع من التلاعب بالأسعار واستغلال حاجة المحتاجين .

ولا شك أن لغلاء الأسعار آثارًا سيِّئةً على الفرد والمجتمع، فقد يعجز الفقير عَن شِراءِ حاجاته الضرورية، وقد يتحمَّل ديونًا يعجَز عن أدائها، وقد يلجأ إلى طرق محرمة للحصول على المالِ، وتتعمَّق الفجوة بين الناس، وتهِن الروابِطُ، وتنقَطِع الصِّلات؛ ولذا روي عنه (صلى الله عليه وسلم )  الوعيدَ الشديد لمن دخَل في شيءٍ من أسعارِ المسلمين ظلمًا وعُدوانًا لِيُغَلِّيَهُ عليهم، فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)  يقول: ( مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (رواه أحمد). وعند البيهقي في السنن الكبرى: ( كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

حرمة المال العام والخاص

     أولاً - العناصر:

1-  منزلة المال في الإسلام.

2-  حماية المال العام ضرورة شرعية.

3-  صـور الاعتداءات على المال العـام.

4-  حرمة الاعتداء على المال الخاص.

5-  من حفاظ الإسلام على المال ما شرعه من حدود وأحكام لحمايته.

    ثانيًا – الأدلة :

          الأدلة من القرآن :

1-  قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]

2-  وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188) .

3-  وقال تعالى : {...وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161].

4-  وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن: 15].

5-  وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

6-  وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء: 10]

     الأدلة من السنة والآثار:

1-        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)(صحيح البخاري).

2-        وعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ:(إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(صحيح البخاري). و(يتخوضون ) أي : يتصرفون في مال المسلمين بالباطل.

3-        وَعن الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَدِيٍّ، قَالَ: خَاصَمَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ، رَجُلًا مِنْ حَضَرَمَوْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي أَرْضٍ، فَقَضَى عَلَى الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَضَى عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْيَمِينِ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنْ أَمْكَنْتَهُ مِنَ الْيَمِينِ يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَتْ وَاللهِ - أَوْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ - أَرْضِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) قَالَ رَجَاءُ: وَتَلَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مَاذَا لِمَنْ تَرَكَهَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: ( الْجَنَّةُ ) قَالَ: فَاشْهَدْ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُهَا لَهُ كُلَّهَا ( مسند الإمام أحمد).

4-        وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) وَذِمَّةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنْ رِبًا فَهُوَ مِثْلُ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً، وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (المعجم الكبير للطبراني).

5-        وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قِيلَ لَهُ فِي رَجُلٍ كَانَ يُمْسِكُ بِرَأْسِ دَابَّتِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ: اسْتُشْهِدَ فُلَانٌ فَقَالَ: (إِنَّهُ الْآنَ يَتَقَلَّبُ فِي النَّارِ) قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: (غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرَ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَذْتُ شِرَاكَيْنِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: (شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) (مصنف عبد الرزاق).

6-        وعن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (رضي الله عنه) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي قَالَ فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا) (متفق عليه).

7-         وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ) (صحيح البخاري).

8-        وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ). (صحيح مسلم).

9-        وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ )، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (صحيح مسلم).

ومن الآثــار:

10-   وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (رضي الله عنهما) قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه) قَالَ: يَا عَائِشَةُ انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَالْجَفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا ، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا، فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا نَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مِتُّ فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ) (مجمع الزوائد).

11-   وكان مُعَيْقيبُ على بيت مال عمر، فكنس بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال لي: ويحك يا معيقيب، أوجدت عليّ في نفسك شيئًا؟ قال قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) في هذا الدرهم؟! [الورع لابن أبي الدنيا].

    ثالثًا - الموضوع:

إنَّ المال نعمة من نعم الله (عز وجل) التي أنعم بها على عباده لتستقيم به شئونهم، وهو نوع من أنواع الزينة في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف: 46).

ولا ينكر أحد ما للمال من أهمية في تسيير أمور الحياة، والنهوض بالأفراد والأمم لتحقيق وسائل العيش الكريم، والرقى إلى مدارج التقدم، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حيث قال:

بالعِـلمِ والمـالِ يَبني النّـــاسُ مُلْـكَهُمُ              لــم يُبنَ مُلْكٌ علـى جهــلٍ وإقــــلالِ

فالمال قِوام الحياة الإنسانيَّة ، به يؤدي الإنسان رسالته، وبه يقضي حاجاته، وهو سلاحه في المهمات والملمات، ويؤيد ذلك ما قاله السلف: " المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس"، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

ومع أنَّ المال يكتسب هذه الأهمية في الحياة، إلا أن الإسلام جعله وسيلة لا غاية، فالمال في الإسلام وسيلة لعبادة الله تعالى وإقامة شرعه المطهر، ووسيلة للصلاح والإصلاح، ووسيلة للبر والصلة والتكافل بين المسلمين، ووسيلة لدعم قضايا المسلمين، فلا يجوز للإنسان أن يرفعه فوق منزلته، ولا أن يكون هو الغاية في حياته ، فالمال وسيلة إذا استخدم في الصلاح كان نعمة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ) (الأدب المفرد) ، وإذا استُخدم في الفساد كان وبالاً، وشقاءً وتعاسةً على صاحبه، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شيكَ فَلاَ انْتَقَشَ (أي إذا أصابته الشوكة فلا أخرجت منه بالمنقاش)

والمال إما أن يكون مالاً عامًا أو خاصًا، فالمال العام له حماية بموجب الشرع مثل حماية المال الخاص؛ بل إن المال العام أشد حرمة لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، ولذلك حذر الإسلام من إتلافه أو سرقته أو الإضرار به ، قال تعالى : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران/161].

ولقـد تضمنت الشريعة الإسلامية الأحكام والمبادئ لحمايـة المال وتحريم الاعتداء عليه ، وطلبت من الفرد حماية ماله الخاص حتى ولو استشهد في سبيل ذلك ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم): يَقُولُ:( مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فَهُوَ شَهيدٌ) (متفق عليه).

          أمّـا الملكية العامـة فالحفاظ عليها مسئوليتنا جميعًا، لأن منفعتها تعود على الناس كافـة ، ولقـد فرض الله عليهم حمايتهـا ، ويدخل ذلك في نطـاق المسئولية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فحماية المال العام ضرورة شرعية ، لأن به تدار  شئون البلاد والعباد ، ويعتبر الاعتداء عليه اعتداءً على مجموع الأفراد والمجتمع ، لأن الذي يسرق من المال العام فإنه يسرق من الأمة كلها، وعليه إثم كل من له حق في هذا المال ، فسرقته أعظم جرمًا من سرقة المال الخاص، كان مُعَيْقِيب على بيت مال عمر، فكنس بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال مُعيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال لي: ويحك يا مُعيقيب، أوجدت عليّ في نفسك شيئًا؟ قال قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) في هذا الدرهم؟!

فكما يجب الحفاظ على أموال الناس الخاصة يجب الحفاظ على المال العام، فقد جاء في الحديث:  أن رجلاً سرق شملةً من الغنيمة قبل تقسيمها - وهى مال عام - فبيَّن النبي(صلى الله عليه وسلم)  أنه يتقلب في النار بسببها، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)  قِيلَ لَهُ فِي رَجُلٍ كَانَ يُمْسِكُ بِرَأْسِ دَابَّتِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ: اسْتُشْهِدَ فُلَانٌ فَقَالَ: (إِنَّهُ الْآنَ يَتَقَلَّبُ فِي النَّارِ) قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: (غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرَ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَذْتُ شِرَاكَيْنِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: (شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)،  والغلول معناه : السرقة في خفية من المتاع من خلف الإمام، وكل المعاني لهذه الكملة تؤكد أن الغلول هو السرقة من المال العام.

ومن هنا وجب على كل مسلم أن يحترم المال العام، وأن يكون أمينًا عليه، حافظًا له، لهذا قال تعالى– على لسان سيدنا يوسف– (عليه السلام): (اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).

إن المال العام أمانة عند كل من يكون تحت يده شيء منه، فيجب عليه أن يحافظ على تلك الأمانة، وأن يرعاها، وأن يردها كاملة غير منقوصة ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58).

ومما يدل على عظم حرمة المال العام ما جاء في الصحيحين من حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي قَالَ فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا) (متفق عليه).

ولقد تربى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الحفاظ على المال العام ومراعاة حرمته،  فها هو الصديق (رضي الله عنه) لما تولى الخلافة في صبيحة ولايته يخرج من بيته واضعًا حبله على عاتقه ذاهبًا إلى السوق متاجرًا ليعيش من كسب يده، فينادى عليه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائلاً: يا أبا بكر قد كفيناك اجلس لمصالح المسلمين، ثم ينادى عمر (رضي الله عنه) على أبى عبيدة بن الجراح أمين الأمة ويقول يا أبا عبيدة: اجعل لأبى بكر ما يكفيه وأهله من بيت المال، فيقول أبو عبيدة: له مقدار شاة في كل يوم وليلة ، وله ثوب في الصيف وثوب في الشتاء، لا يأخذ ثوب الصيف إلا إذا سلم ثوب الشتاء، ويستمر أبو بكر على هذا مراعيًا حقَّ الأمة حريصًا على مالها العام حتى نهاية حياته ، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (رضي الله عنهما) قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا عَائِشَةُ انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَالْجَفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا ، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا، فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا نَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مِتُّ فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ) (مجمع الزوائد).

          ولما تولى الخلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سار بالمسلمين أعظم سيرة حافظًا لهم ولأموالهم مراعيًا حرمة المال العام حتى إنه سار يوما فرأى أبقارًا سمانًا فقال لمن هذه الأبقار ؟ فقالوا له : إنها لعبد الله بن عمر ، فقال (رضي الله عنه) : ضموها إلى بيت المال فوالله ما سمنت إلا باسم أمير المؤمنين، إذا رعت هنا أو هناك قالوا : دعوها إنها أبقار ابن أمير المؤمنين، ردوها إلى بيت المال. 

وها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) يستدعى أحد عماله ليحاسبه عن رعيته ويوقد أمير المؤمنين مصباحًا ليتم الحساب في ضوئه ، ولما انتهى حساب الرجل بدأ يسأل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عن صحته وعن أولاده ، فيقوم عمر بن عبد العزيز إلى المصباح فيطفئه ثم يوقد مصباحًا آخر  ، فيسأل الرجل أمير المؤمنين عن ذلك العمل ، فيقول (رضي الله عنه) : عندما كنت أحاسبك عن الرعية كنا نستضيء بمصباح يوقد بزيت من بيت مال المسلمين، أما وقد انتقل الحديث والسؤال عنى وعن أولادي أوقدت غيره من مالي الخاص لأنه لا يحل لنا عندئذ أن نستضيء بمصباح يوقد بزيت من مال المسلمين.

فالمال العام مِلْكٌ للمسلمين جميعًا، وليس مِلْكًا لفِئَة معيَّنة من الناس، والقائمون عليه إنَّما هم أُمَناء في حِفْظه وتحصيله ، وصَرْفه لأهْله، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يعتديَ عليه، أو يأخُذَ منه ما لا يستحقُّ،  لأن ذلك يعد خيانة وظُلمًا واعتداءً على المسلمين جميعًا.

والمتأمِّلُ في عالم الناس اليوم يرى أنه عالمٌ تغيَّرت فيه كثيرٌ من القِيَم الصّحيحة ، وتبدَّلت فيه المفاهيمُ المستقيمة ، عالمٌ سَيْطَرَت فيه المادة على نفوسِ كثير من الناس ، وإيثارُ المالِ هَيْمَن على قُلوبِهم، فراحوا يجمعون الدّنيا بكلِّ طريق ويستكثِرون منها بأيِّ سبيل، وتساهلوا في جمع الأموال، لا يهمهم حلال أم حرام ، حتى صدَق عليهم إخبارُ المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بقولِه: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ) (صحيح البخاري).

وعلى مر العصور والأزمنة يتعرض المال العام للاعتداءات ، وإن تغيرت في الشكل والطريقة والأسلوب إلاّ أن مضمونها واحد ، ويتمثل ذلك في استئثار أحد الأفراد به وحده بدون حق ، أو انتزاع ملكيته من مجموع الناس إليه بدون حق ، أو سوء استخدامه أو إتلافه.

وفي الآونة الأخيرة كثرت صور الاعتداءات على الملكية العامة والمال العام لأسباب شتى من بينهـا: ضعف القيم الإيمانية والأخلاقية ، ونتج عن ذلك كثير من الفسـاد الاجتماعي والاقتصـادي ، من أجل ذلك حـرم الله الاعتداء عـلى الأمـوال بأي صورة مـن الـصور ، فقـال عزَّ وجلَّ: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188) .

ومن صور الاعتداء على المال العام : السرقة، أو السطو ، أو التحايُل، أو الاختلاس ، أو الرِّشوة ، أو التربُّحُ من الوظيفة ، أو تضييع وقت عمله الذي يتقاضى نظيره أجرًا، أو استغلال المال العام لأغراض سياسية حزبية فئوية ، وغير ذلك من صور الاعتداء ، وشَرَع العقوبة على ذلك ، فقال تعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[المائدة: 38]، بل شرع حد الحرابة لمن يسطو عليه غصبًا فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

ومن صور الاعتداء على المال العام كذلك اغتصاب الأرض بوضع اليد عليها ظلمًا، أو الاعتداء على أملاك الدولة والأوقاف، فعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عن رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ) (متفق عليه).

وكما حرم الإسلام الاعتداء على المال العام، كذلك حرم الاعتداء على المال الخاص وجعله محرمًا على الغير ، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ) (صحيح مسلم).

إن الله تعالى برحمته وفضله يتجاوز ويعفو عن عبده فيما كان بينه وبين ربه، فالله تعالى يغفر ما كان في حقه سبحانه، أما ما يتعلق بحقوق العباد فإن الله تعالى لا يغفر حتى يغفر له المظلوم ويعفو عنه، فإذا لم يعفُ فإن الله (عز وجل) يقتص له في الآخرة من حسنات الظالم بما يفي حقه، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ). قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).

ولقد وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في خطبة عرفة في حجة الوداع وأعلن للدنيا كلها حرمة الأموال فقال (صلى الله عليه وسلم) في هذه الخطبة البليغة الرائعة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا : يَوْمٌ حَرَامٌ ، قَالَ : فأي بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا : بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ : فأي شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) (صحيح البخاري)  .

هكذا يدعو الإسلام أتباعه إلى حرمة الاعتداء على المال العام ، والدعوة إلى احترام أموال الناس الخاصة ، وعدم التعرض لها وأكلها بالباطل .

وبهذا حفِظَ الإسلام المالَ وصانَه عن الفَساد؛ حتى يؤدِّي دورَه باعتباره قيمةً لا غِنى عنها في حِفْظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضاريَّة والإنسانيَّة، والتي دون مراعاتها وحِفْظ نظامها يخرب العالَم، وتَستحيل الحياة الإنسانيَّة ويَقف عطاؤها واستثمارُها في هذا الوجود.

 وخلاصة القول: إننا يجب أن نحافظ على المال العام ، وسائر مرافق الدولة من المدارس، والمعاهد، والمستشفيات، والطرقات ووسائل النقل، وسائر المرافق العامة باعتبارها ملكًا لنا جميعًا ، وأمانة في أعناقنا .

ونؤكد أن الاعتداء عليها أشد جرمًا من الاعتداء على المال الخاص ، وأنه يجب علينا جميعًا أن نتصدى لكل ألوان التخريب أو الإفساد التي يمكن أن تطال هذه المنشآتِ العامةَ، مؤكدين على أن المساس بها تخريب أو إفساد يعد جريمة شرعية وخيانة وطنية.

 

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الرشوة والمحسوبية وخطورة كل منهما على الفرد والمجتمع

أولاً : العناصر:

1.     النهي عن أكل أموال الناس بالباطل.

2.     التحذير من الرشوة.

3.     الرشوة تقوّض بنيان المجتمع.

4.     الرشوة وتعطيل مصالح العباد.

5.     التحذير من استخدام النفوذ الوظيفي للمصالح الشخصية.

ثانياً : الأدلة: 

الأدلـة من القرآن:

1.     قال تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:188].

2.     وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[النساء:29].

3.     وقال تعالى: { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء:85].

4.     وقال تعالى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42].

الأدلـة من السنة:

1.     عَنْ أَبِى بَكْرَةَ نفيع بن الحارث (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ - في حجة الوداع- : (… إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا أَوْ ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) (متفق عليه).

2.     عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا )(رواه البخاري).

3.     وعَنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ( الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ ) ، يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا(رواه الإمام أحمد في مسنده).

4.     وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ( رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ) (رواه الطبراني في الصغير).

5.     وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ) (المستدرك).

6.     وعن أبي حميد الساعدي (رضي الله عنه) قال : استعمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلا على صَدَقَاتِ بَنِي سُليم يُدْعَى ابن اللُّتبيّة فلمّا جاء حَاسَبَه ، قال هذا مالُكُم وهذا هَدِيّة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( فهلاّ جَلَستَ في بيتِ أَبيكَ وأمّكَ حتّى تأتِيكُم هَدِيتّكُم إنْ كنتَ صَادِقًا ) ، ثُم ّخَطَبنا فَحِمدَ الله وأَثنى عَليْه ثُمّ قال: ( أمّا بَعدُ فإنّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُل مِنكُم علَى العملِ مما ولّاني الله فيأتي يقول:  هذا مالُكم وهذا هدّية أُهْدِيتْ لي أفلا جَلس َفي بيت ِأبيه وأمِّه حتّى تَأتِيَهُ هَديّته ، والله لا يأخذُ أحدٌ منْكم شيئًا بغير حقّه إلا لقي الله يحملُهُ يوم القيامة ، فلأعْرِفنَّ  أحدًا منكم لقي الله يَحملُ بَعيرًا له رُغاء ٌ، أو بقرة ًلها خوارٌ ، أو شاةً تَيْعَرُ ، ثمّ رفع يدَهُ حتّى رُئِيَ بياض إبِطِه ِيقول: (اللهُم هلْ بلغتَ بصْر عيني وسمْع أُذني) (رواه البخاري).

7.     وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ) لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ( (المستدرك على الصحيحين)، وفي قصة المخزومية التي سرقت خير دليل على تحريم الرشوة ؛ فقد فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: ( وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (صحيح مسلم).

 ثالثًا : الموضوع:

 فإن المتتبع لشريعة الإسلام يرى أن المال الصالح قوام الحياة ، ولقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم ، وعلى حفظ المال والنفس والعقل والعرض.

كما أن الإسلام يدعو إلى كسب المال واستثماره وتنميته بالطرق المشروعة ، ويأبى أي عدوان على حقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] ويقول جلّ شأنه: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }[البقرة: 188] .

وكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل ، فكذلك العدوان على المال ، وفي خطبة الوداع بيَّنَ النبيُّ(صلى الله عليه وسلم ) ما ينبغي لحقوق الناس المالية من قداسة، فقال بعد أن تساءل : ( أي شهر هذا ؟ أي بلد هذا ؟ فَإِنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَلَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذَا فِي شَهْرِكُم هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ) (صحيح البخاري).

فمن خالف أمر الله بأكل الحرام فهو المعتدي ، ولا يرضى المسلم أن يُخْرج نفسه عن نطاق محبة الله باعتدائه ، لأن الله يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[ المائدة:190] .

إن من طرق اكتساب المال الذي حرمته شريعتنا تحريمًا جازما الرشوة ، أخذًا وإعطاءً وتوسطًا ، وذلك لخطرها الكبير على المجتمعات الإنسانية ، فهي من أشدّ الأمراض الاجتماعية فتكًا بالأمم ، فهي تفتك بالمجتمع فتكًا ذريعًا، وتهدر أخلاق الأمة وكيانها وتعود عليها بالوبال والدمار في الأسر والمجتمعات والأفراد والمال في الدنيا ويوم العرض على الكبير المتعال ، فإذا فشت الرشوة في أمة من الأمم واسْتَمْرَأ الناس تعاطيَها فاعلم أن الضمائر قد ماتت ، وأن نظام الأمة قد قُوِّض ، فقد شدّد الشرع على آخذها ودافعها والساعي بينهما بأن جعلهم مطرودين عن رحمة الله ، متعرضين لسخطه وغضبه، فَنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) (الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ ) يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا  وما دخلت الرشوة عملًا إلا عاقته، ولا مجتمعًا إلا أفسدته ، فكلٌ منهم ظالم المرتشي لأخذه الذي يحمله على الجور في حكمه ، أو التساهل في عمله، والغلظة على من لا يدفع شيئًا ، وتقطيب وجهه أمامه حتى يجعله يهاب من مراجعته ؛ والدافع لها عون كبير على الظلم ، وعلى تشجيع الظالمين ، ومفسد لقلوبهم على الآخرين، الذين تأبى أذواقهم السليمة ، ومظهرهم المستقيم، وعقيدتهم الحية عن دفع الرشوة ؛ والساعي بينهما راضٍ لفعلهما ومقرٌ لمنكَرهما ، والراضي كالفاعل . فالرشوة ُ أكل للأموال بالباطل، وتناول للسحت ، يقول تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ويقول سبحانه في شأن اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة 42] ، يُروى عن عمر (رضي الله عنه)  أنه قال: بابان من السحت يأكلهما الناس ، الرشا ومهر الزانية (أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/ 240) وعزاه في الدر المنثور (3/ 81) أيضًا لعبد بن حميد) .

ولم يتوقف الأمر على مجرد النهي عنها وذمها ، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد اللعن الصريح الذي يعني الطرد من رحمة الله تعالى ، وما هذا إلا لأن الرشوة قتل لكفاءات المجتمع، ودعوة صريحة لهدم أساساته التي يقوم عليها ازدهاره وتقدمه ، وهي تقديم أهل الكفاءة والخبرة ، فإذا تقهقر هؤلاء وتصدر المشهدَ أربابُ الأموال الذين لا علم لهم ولا كفاءة ولا مقدرة على قيادة دفة الأمور، فإن المجتمع  يصير علي شفا جُرُفٍ هار ، معرض للانهيار في أية لحظة ، فهو وإن بدا قوياً في ظاهره ، إلا أنه خاو ٍ من أي مضمون ، ما هو إلا مجرد قشرة خارجية لا يتعدى سمكها قيمة الأموال الزائلة التي شكلهتا وحددت معالمها .

إن ضعاف النفوس من محبي المال يعينون الفاسدين علي إفسادهم ، ويساهمون من حيث لا يشعرون في تقويض قدرات مجتمعهم وفشله ، فحبهم للمال يدفعهم ويسوقهم إلى ارتكاب خطيئة الرشوة ودفع المجتمع إلى الهاوية ، فإن لم يتحملوا المسئولية التي أنيطت بهم فإنهم يعرضون أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم إلي الهلاك غير المباشر والذي قد لا يظهر أثره في وقت سريع ، وإنما يسقط المجتمع على المدى الطويل عندما يتحول المجرم إلي بريء والبريء إلي مجرم بفعل الرشوة ، وعندما يتحول صاحب الكفاءة إلى كم مهمل ، وعندما يتحول الشخص التافه إلى قائد أو مسئول أو حتى موظف في غير مكانه .

ففي الحديث الشريف: عن ابن عباس (رضي الله عنهما ) قال: قال رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ): ( مَنِ استعملَ رجلاً من  عصابةٍ وفي تلكَ العصابةِ من هو أرضى للهِ منه فقد خانَ اللهَ وخانَ رسولَهُ وخانَ المؤمنين) (المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

ومن أقبح وأخسِّ الأساليب الملتوية للحصول على الرشوة: تعطيلُ مصالح الناس والتسويف في إنجازها إلى أن يتم أخذ الرشوة، وفي ذلك خيانة للأمانة التي يقول الله تعالي فيها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ*  وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }[الأنفال:28،27].

وهكذا تضيع الأمانات بسبب الرشوة ، وتؤكل بسببها أموال الناس بالباطل، وتتحول الأعمال الشريفة إلى أعمال لصوصية ، كرشوة المسئولين في مشاريع الدولة العمرانية من قبل بعض أصحاب الأعمال ، وكرشوة بعض المشرفين على الأعمال من أجل التقصير بالعمل ، وعدم تنفيذ الشروط المبرمة بالعقود ، وعدم الوفاء بما عليها من التزاماتفالمرتشي يخون الأمانة التي عُهِدَ بها إليه ، ويمنع الحق عن صاحبه ،ويشجع على ضياع الذمم ، وخراب الضمائر وإهدار الشرف والكرامة . والراشي كذلك يساعد المرتشي على أموال الناس بالباطل ، وينمي فيه الخلق السيئ ، وييسر له التحكم فيما هو حق لغيره ، ويستحل ما ليس له ، ومن أجل هذا كان الراشي والمرتشي ملعونين على لسان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فعن عبد الله بن عمرو (رضى الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( لعنةُ اللهِ على الراشِي والمرتَشِي) (سنن ابن ماجة ) ، أي: الآخذ والمعطي .

فالرشوة في الإسلام محرمة بأيةِ صورة كانت ، وبأي اسم سميت ، سواء أسميت هدية  أم مكافأة ، فالأسماء لا تغير من الحقائق شيئًا ، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني . ومن المقرر  في الشريعة الإسلامية أن هدايا العمال غلول– وهو الخيانة في المغنم ، والسرقة من الغنيمة قبل القسمة . يقال : غل في المغنم يغل غلولا فهو غال ، وكل من خان في شيئ خفية فقد غلَّ – والمراد بالعمال كل من تولى عملا للمسلمين ، وهذا يشمل السلطان ونوّابه وموظفيه ، أيًا كانت مسؤولياتهم ، ومهما اختلفت مرتباتهم وتنوعت درجاتهم ، فعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلا على صَدَقَاتِ بَنِي سُليم يُدْعَى ابن اللُّتبيّة فلمّا جاء حَاسَبَه ، قال هذا مالُكُم وهذا هَدِيّة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :(فهلاّ جَلَستَ في بيتِ أَبيكَ وأمّكَ حتّى تأتِيك  هَدِيّتُك  إنْ كنتَ صَادِقًا ، ثُم ّخَطَبنا فَحِمدَ الله وأَثنى عَليْه ثُمّ قال : أمّا بَعدُ فإنّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُل مِنكُم علَى العملِ مما ولّاني الله فيأتي يقول : هذا مالُكم وهذا هدّية أُهْدِيتْ لي أفلا جَلس َفي بيت ِأبيه وأمِّه حتّى تَأتِيَهُ هَديّته ، والله لا يأخذُ أحدٌ منْكم شيئًا بغير حقّه إلا لقي الله يحملُهُ يوم القيامة ، فلأعْرِفنَّ  أحدًا منكم لقي الله يَحملُ بَعيرًا له رُغاء ٌ، أو بقرة ًلها خوارٌ ، أو شاةً تَيْعَرُ ، ثمّ رفع يدَهُ حتّى رُئِيَ بياض إبِطِه ِيقول: (اللهُم هلْ بلغتَ بصْر عيني وسمْع أُذني ) (صحيح البخاري) ، ففي هذا الحديث وعيد شديد لمن يستغل نفوذه ويستبيح لنفسه أن يأخذ ما لا يحل له أخذه ، وإن ألبسه أثوابا مستعارة كالهدية والوساطة وغير ذلك ، فهذا خيانة في الأمانة ، وسحت لا يبارك الله له فيه ولا في نفسه ولا في أولاده ولا في عائلته ولا إنفاقه في الأمانة ولا مأكله ولا مشربه ، فكل جسم نبت من حرام فالنار  أولى به ، كما في حديث كعب ابن عجرة الأنصاري (رضي الله عنه ) قال : قال لي رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبتَ من سحتٍ ، وكلُّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنارُ أولى به …)  (المعجم الصغير ) . فيتعين على الحاكم ومن له ولاية تتعلق بأمور الناس أن لا يقبل الهدية ممن لم يكن معتادًا الإهداء إليه قبل ولايته ، فهي في هذا المقام تعتبر رشوة .

ومن ثم فإنه ينبغي على المسلم أن يحذر استغلال وظيفته ومكانه ، بأن يجعل ذلك سببًا لجذب المال ، والثراء من خلال أداء العمل ، فيحابي ويجامل لأجل أن ينال مطامع مادية في عمله ، فذلك المكسب مكسب خبيث ، وأخذ للمال بغير حق ، ولأجل هذا حرّم رسول الله (صلي الله عليه وسلم ) الرشوة ، تحذيرًا للمسلمين من شرها ، وإبعادًا لهم من ضررها ، وحماية لدينهم ، وحماية لأموالهم ، وحماية للمجتمع عموماً . فكم من مظالم انتهكت  وكم من دماء ضيعت ، وكم من حقوق طمست ، ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون فحسبهم الله الذي لا تنام عينه ، وويل لهم مما عملت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .

فأيّ خير يرجى في قوم مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرءوس  لرؤسائه من قرابين؟! وأيّ إنتاج يرتجى لأعمال لا تسير عندهم إلا بعد هدايا الراشين والمرتشين ؟! فالرشوة تهدر الحقوق ، وتعطل المصالح ، وبها يقدم السفيه الخامل،  ويبعد المجد العامل ، فكم ضَيعتْ من حق ، وأَهدرتْ من كرامة ، ورفعتْ من لئيم ، وأهانت من كريم . إن الرشوة قضية خطيرة ينبغي التصدي لها بقوة والأخذ على متعاطيها بيد من حديد .

 

*     *     *

 

 

فهرس الموضوعات

 

براءة الإسلام من العمليات الانتحارية والتفجيرية والتخريبية

أولاَ :العناصر :

1.         الإسلام دين الأمن والأمان . 

2.         حرمة النفس الإنسانية .

3.         كف الأذى مقياس لخيرية الإنسان .

4.         براءة الإسلام من القتل والتخريب والتفجير .

5.         الفرق بين التضحية بالنفس والعلميات الانتحارية .

ثانياً : الأدلة :

الأدلة من القرآن

1-    قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *  أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}[البقرة: 11، 12]

2-        وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }[المائدة : 32].

3-    وقال تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[سورة قريش].

4-    وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 110].

5-    وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَيُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[النور: 55].

6-        وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }[الأحزاب 58].

الأدلة من السنة :

1-    عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم)  : ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) (سنن الترمذي).

2-    وعَنِ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ( رضي الله عنهما ) أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم)  أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ : ( مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ) (صحيح مسلم).

3-    و عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ )صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ) (سنن الترمذي).

4-    وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) : ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) (متفق عليه).

5-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ )صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ : آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) (سنن ابن ماجة).

6-    وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ )صلى الله عليه وسلم)  قَالَ : ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا ) (صحيح البخاري).

7-    وروى الترمذي في سننه من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ وَأَبي هُرَيْرَةَ  (رضي الله عنهما ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم)  قَالَ:  (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِى دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِى النَّارِ ).

ثالثَا : الموضوع:

فإن الله - سبحانه وتعالى – خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليَعْمَرُها ، وأنعم عليه بنعمة الأمن وأحاطه بسياج من الضوابط الصارمة التي تمنع المعتدين من الوصول إلى إزهاق نفسه أو انتقاص حريته ، قال تعالى : {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ }[هود: 61].

وإذا كان الله تبارك وتعالى قد منَّ على الإنسان بنعمة الأمن فانه سبحانه جعل استدامة هذه النعمة مرهونًا بالتمسك بالشرع والوقوف عند حدوده وآدابه ، فإذا ما أهمل الإنسان العمل بالدين وتفلت من الضوابط الشرعية نزع الله عز وجل عنه هذه النعمة السابغة وألبسه لباس الجوع والخوف ،  فقال تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والخوف بما كانوا يصنعون ) [النحل : 112].

إن العالم اليوم تعتريه موجات عنيفة من الخوف و الفزع وعدم الاستقرار  نتيجة قيام بعض الأفراد غير المسئولين ، بل غير العقلاء بالاعتداء على بعض الأفراد بالقتل والاختطاف ، وعلى بعض المنشئات بالتدمير والتخريب ، وهو ما يسمى الآن بظاهرة  التفجيرات الانتحارية والإرهابية ، والإسلام بعيد كل البعد عن هذه العمليات وبريء منها وممن ينفذها أو يشارك فيها ، لأن في ذلك هدم لبنيان الله ، وإفساد في الأرض ، وترويع للآمنين ، وحينما يواجهون بما يفعلونه يدّعون أنهم يصلحون ولا يخربون ، فهؤلاء صدق فيهم قول الله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *  أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].

إن نعمة الأمن، تشكل مع العافية والرزق ، الملكَ الحقيقيَ للدنيا.. فعن عبيد الله بن محصنٍ الأنصاري عن النبي )صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي).

فالأمن هو : اطمئنان الفرد والأسرة والمجتمع دونما خوف على النفس والعرض والمال، والأمن مِنْ أن يعتدي عليهم أحد دون وجه حق ، ولقد ذكر هذا المعنى في قول الله تعالى:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[سورة الفيل: 4]، ففي الجمع بين إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل هاتين النعمتين معاً ، إذ لا عيش مع الجوع ، ولا أمن مع الخوف ، وتكمل النعمة باجتماعهما .

ففي رحاب الأمن ، يأمنُ الناس على أموالهم ومحارمهم وأعراضهم. وفي ظلال الأمن، يعبدون ربهم ويقيمون شريعته ويدعون إلى سبيله ، في رحابِ الأمن وظلِه تعم الطمأنينةُ النفوس، ويسودها الهدوء ، وترفرف عليها السعادة ، وتؤدي الواجبات باطمئنان ، من غير خوفِ هضمٍ ولا حرمان .

إن عقد الأمن لو انفرط ساعة لرأيت كيف تعم الفوضى وتتعطل المصالح ويكثر الهرج . ففي ظل الأمن والأمان تحلو العبادة ، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً ، لأن الأمن والأمان هما هدف كل المجتمعات على اختلاف مشاربها ، بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء ، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة ، التي إذا آمَنَتْ أَمِنَتْ، وإذا أمنت نمت ؛ فانبثق عنها أمن وإيمان ، إذ لا أمن بلا إيمان ، إذ أن الأمن والإيمان قرينان ، فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان .. قال تعالى :{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]

إذا الإيمـــان ضــــاع فلا أمـــان           ولا دنيــــــا لمـــــــن لم يحي دينــــــا

ومن رضي الحيـــاة بغـــير دين            فقــــد جــعــــل الفنـــــاء لهــــا قـرينــا

والحق الذي لا مراء فيه أن الإسلام برئ من الإرهاب ومن القائمين به ، وأنه دين الأمن والأمان ، والسلم والسلام ؛ لأنه دين يصون النفس الإنسانية ويحرم الاعتداء عليها لما لها من حرمة مقررة ، حتى إنه جعل الاعتداء على نفس واحدة اعتداء على الناس جميعا ، فقال جل شأنه {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة :32] .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ )رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ )صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ : آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ). (سنن ابن ماجة). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ وَأَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنهما ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِى دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِى النَّارِ ).

ليس هذا فحسب ،  بل إن الإسلام ينهى عن المسلم عن مجرد الإيذاء باللسان ،  فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ )رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) : ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) (سنن الترمذي). وفي رواية عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ( رضي الله عنهما ) أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ: (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ) (صحيح مسلم). فلا خير فيمن يدعي الإيمان وهو يؤذى الناس بالقول والفعل ، لا نستطيع أن نسمي مثل هذا مؤمناً ، وقد تبرأ منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا) (صحيح البخاري).

ولخطورة هذا الأمر نبه الرسول )صلى الله عليه وسلم) على أن مجرد سباب المسلم لأخيه المسلم فسوق ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ )رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم): ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) (متفق عليه) ،  فإذا لم يستطع المرء أن يفعل خيراً مع أخيه أو مجتمعه فلا أقل من أن يكف أذاه ويمسك شره عن الناس ، وهو في ذلك مأجور ، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 110]

إننا في زمن اختلطت فيه المفاهيم فسمي الإرهاب جهاداً وسمي البغي عدلاً ، ولبس الباطل ثوب الحق ، وانطلقت أبواق الدعاية لتتهم الإسلام بالإرهاب 0

والإسلام بريء من هذا الافتراء ، فلفظ الإسلام مأخوذ من مادة السلام ؛ لأن الإسلام والسلام يلتقيان في توفير الطمأنينة والأمن وصيانة الحرمات ، والله تعالى من أسمائه السلام ، ورسول الإسلام )صلى الله عليه وسلم) يدعو الناس إلى السلام الذي يجمع القلوب على المحبة فيقول )صلى الله عليه وسلم) :( لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ) (صحيح مسلم) 0

ومَن تأمَّل مقاصدَ الشّرع في العبادات والمعاملات والآدابِ والأخلاق والأوامِر والنّواهي تبيّن أن له مقصداً كبيراً وغاية عُظمى، وهي جمعُ الكلِمة وغرسُ المحبّة وزرعُ الأُلفة ونشر المودّة بين أفرادِ الأمّة، والحثّ على التناصُر والتعاون ، والبعدُ عن أسباب العداوة والبغضاء وما يحمِل على الكراهية والشّحناء ، وما يثير الأحقادَ والأضغان ، والتحذيرُ الشديد مِن الطّعن في المسلمين والتّشهير بهم وإساءةِ الظنِّ بهم واتهامهم ببدعةٍ أو كفر أو فسوقٍ أو نفاق أو ظلمٍ أو جهل، ومن ثم فإن الإسلام دين الوسطية واليسر والتسامح ، ودين المحبة والألفة والتعاون ، وليس دين قتل أو تخريب أو إرهاب .

أما ما يحدث من تكفير وتخريب وتفجير وغلو في مجتمعنا.. وما ينشأ عنه من ترويع وإرهاب وسفك للدماء البريئة ، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت ، فكلها أعمال إجرامية دخيلة على بلادنا وعلى عاداتنا وتقاليدنا ، إنها إفساد في الأرض وإشاعة للرعب والخوف ، واستهداف للأمن والأمان والاطمئنان ، والإسلام بريء منها ، وكذلك كل مسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر بريء منها، فديننا الحنيف حذّر من إرهاب الآخرين ، ونهى عن ترويع الآمنين وتخويفهم، وحرّم التعدي عليهم ، لأنه إجرام تأْباه الشريعة والفطرة ، يقول )صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ ) (صحيح مسلم) ، وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ )صلى الله عليه وسلم)  أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيّ )صلى الله عليه وسلم)  فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) : ( لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) (رواه أبو داود)

ولا يمكن لوطني عاقل أن يقبل بمظاهر الحرق والتخريب والتدمير التي لا يقرها شرع أو دين بأي حال من الأحوال ، فضلاً عن أن يكون مشاركاً فيها، أو مؤيداً لها، أو متعاطفاً معها إلا إذا كان قد انسلخ من كل معاني الوطنية، فإن من يسلك هذه المسالك التكفيرية أو التخريبية أو التفجيرية لن يجنى إلا حسرة وندماً وسوء عاقبة.

ولا ينكر أحد أننا في ظروف استثنائية في تاريخ مصرنا العزيزة ، فإما أن يكون وطن أو لا يكون ، وقد يظن البعض  من الذين يفجرون أنفسهم أنهم يقومون بعمل بطولي ويضحون بأرواحهم من أجل فكرة ،  أو معتقد ، أودين ، وهذا فهم خاطئ ، فهناك فرق بين التضحية بالنفس وبين من يفجر نفسه لإيذاء الآخرين فليس هناك شرع يبيح أو يجيز ذلك.

وفي العمليات الانتحارية تتعدد الجرائم ، فمفجر نفسه سواء أصاب غيره أم لم يصب منتحر يعجل بنفسه إلي الهلاك في الدنيا والآخرة ، وقد نهى الحق سبحانه وتعالى عن قتل النفس، أو الاعتداء عليها بأي لون من الألوان ، فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29] وقال أيضاَ:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام: 151]، فإن فجَّر عن بعد في غيره فهو قاتل ومفسد ومعتد على الآخرين.

على أن هذه التفجيرات الإجرامية إذا استشرت ولم تواجه بيقظة وحزم من الجميع أكلت الأخضر واليابس، وارتدت على أصحابها والمحرضين لهم، والصامتين عن جرائمهم، والمترددين والخائفين.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الحفاظ على المياه وترشيد استخدامها

أولا: العناصر:

1-      الماء نعمة من أعظم النعم الإلهية.      

2-       الماء أصل الحياة ... وعنصر التطهير.

3-   القصد والاعتدال من أهم المبادئ الإسلامية، ويتأكد على ذلك في الحفاظ على المياه وترشيد استهلاكها، وعدم الإسراف فيها.       

4-      نهي الإسلام عن تلويث المياه.

5-      أهمية العلاقات الدولية في الحفاظ على مواردنا المائية ، ودور الأزهر والأوقاف في ذلك.

ثانياً: الأدلة.

       الأدلة من القرآن.

1-      قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63].

2-   وقال تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *  أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68 - 70].

3-      وقال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }[ الملك:30].

4-   وقال تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[النور: 45]. 

5-      وقال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء: 30].

6-   وقال تعالى : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } [الأنفال: 11].

7-      وقال تعالى:{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:18].

الأدلة من السنة:

1- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ) (صحيح مسلم).

2-  وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما)  قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) رَجُلاً يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : (لاَ تُسْرِفْ ، لاَ تُسْرِفْ) ( سنن ابن ماجة).

3- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ فَقَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) (سنن ابن ماجة).

4- وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالبَسُوا غَيْرَ  مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ ) ، وفي رواية : ( فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ) ( رواه أحمد).

5- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ(رضي الله عنه)  قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبَرَازَ في الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ) (سنن أبي داود).

6- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ )(رواه مسلم).

 ثالثًا: الموضوع:

مما لاشك فيه أن الماء عصب الحياة في كافة مناحيها ، حيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونه ، مما يتطلب خلق الوعي عند الجميع بأهميته وترشيد استهلاكه ، والحفاظ عليه ، فهو ضرورة في الحياة ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30].

 إن واجبنا نحو الماء يتمثل في النقاط التالية:

أولاً: المحافظة على الماء ومصادره:

إن الماء ثروة غالية نفيسة ، ولكن الناس لا يقدرونها حق قدرها؛ لأن الله تعالى هيأها لكل المخلوقات مجاناً في الأنهار والبحار والأمطار ، كما قال تعالى: { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ}[إبراهيم: 32].  وقال تعالى: { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}[النازعات : 30 ، 31].

ومن فضل الله تعالى على عباده أن جعل الماء أرخص الأشياء ؛ لأنه أوجده وهيأه للناس بوفرة، وهذا ما جعل كثيراً من الناس لا يحسون ولا يقدرون هذه النعمة العظيمة إلا إذا فقدوها أو حرموا منها ولو نسبياً ، ساعتها يدرك الإنسان قدر الماء وفائدته. وقد قيل قديماً: لا يعرف الشيء إلا بفقده.

ومما ينبغي أن يعلم: أن الماء خاصة لا يقبل الزيادة مثل الثروة الزراعية أو الحيوانية ؛ لأن الله تعالى يقول:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].

وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير الماء ، والماء محدود فالواجب على البشر أن يحافظوا على هذه الثروة النفيسة ولا يسيئوا إليها بالتلوث والإهدار في غير وجهها الصحيح أو الإسراف في الاستهلاك لغير حاجة أو مصلحة لها اعتبارها عند العقلاء من الناس .

ولقد نبه علماء "الجيولوجيا" وغيرهم على أن الماء من أهم مكونات البيئة وأن الحاجة إليه عامة ، وأن البشرية مقبلة على أزمة في المياه توشك أن تكون هذه الأزمة من أسباب الحروب بين الناس، وأن الماء في المستقبل سيكون أهم وأغلى من البترول وربما ظهرت مؤشرات لهذه الأزمة نلحظها اليوم.

          وإذا أمعنا النظر في تعاليم الإسلام وأحكامه نجد أنه عنى عناية بالغة بالحفاظ على الثروة المائية وذلك من خلال عدة توجيهات ملزمة للناس ، تتناول الجوانب الأخلاقية، والجوانب القانونية ، والتي نوضحها في الأمور الآتية:

*- الاستخدام الأمثل للماء :

ينبغي للإنسان أن يستخدم الماء الاستخدام الأمثل باعتبار أن الماء من أعظم النعم التي أنعم الله بها عليه وعلى الكائنات الحية من حوله ، ويتمثل الاستخدام الأمثل للماء في الالتزام بالآتي:

أ- المحافظة على الماء نقياً طاهراً:

          وتكون المحافظة على طهارة الماء ونقاوته بعدم تلوثه بأي ملوث من الملوثات التي تخرجه عن خصائصه وطهوريته التي أوجده الله عليها ، وتجعل الماء خبيثاً غير طيب ضاراً غير نافع، وأن يستخدم الماء في الأغراض النافعة لا في الأغراض الضارة وآفة الحضارة الحديثة أنها لم تراع ذلك في استخدام الماء فكان تلوث الماء في الأنهار والبحار وغيرها سبباً في موت كثير من الكائنات الحية في الماء أو إصابتها بما يضرها ويضر الإنسان معها. قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ } ( الملك: 30) .

ب- عدم الإسراف في الماء:

          لقد نهى الإسلام عن الإسراف فى الماء كما نهى عن الإسراف في كل شيء فقد روى أكثر من صحابي عن عائشة وجابر أن أعرابياً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وسأله عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : هذا الوضوء ، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم(رواه النسائي، وأبو داود بلفظ فمن زاد على هذا أو نقص).

وروى ابن ماجه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلاً يتوضأ فقال: ( لا تسرف لا تسرف) (ابن ماجة). ويدخل في إطار الإسراف كل ما يقع تحت يدي الإنسان من الأشياء والآلات والأدوات والمساكن فيجب عليه أن يحافظ عليها وألا يفسدها أو يعتدي عليها بالإتلاف أو الإهمال أو إضاعتها فتضيع بذلك ثروة على المجتمع كله.

ثانياً: العناية بالمصادر المائية:

          من التوجيهات الإسلامية النهى عن تلويث الماء بأي سبب من الأسباب ، فالماء أساس الحياة كما قال تعالى:{وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.[البقرة: 164 وقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام: 99].

          ومن الأحاديث النبوية الشريفة الواردة فى العناية بالمصادر المائية ، ما ورد عن معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبَرَازَ فِى الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ) (رواه أبو داود ). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ  (أي الراكد) ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ) (رواه مسلم).

 * - التوعية بخطر تلوث المصادر المائية:

          خلق الله الأرض وما عليها من أنهار وبحار نظيفة لا تحمل أي نوع من أنواع التلوث ، متوازنة لا خلل فيها ، صالحة لحياة الإنسان وقيامه بمهمته ، تلك هي فطرة الله التي فطر الكون والأشياء عليها، قال تعالى:{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }.[الفرقان: 48] و قال تعالى:{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}‏(النمل:88).

فالماء فطره الله من غير خبث ولا تلوث ولا خلل فى التكوين صالح لقضاء احتياجات المخلوقات، إنما يأتي الخلل والتلوث والخبث بما يفعله الإنسان من إساءة في استخدام هذه النعمة واستعمالها ، فالمسئول عن تلوث الماء ومصادره إذاً هو الإنسان الذي استجاب لظلمه وجهله قال تعالى:{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }(الأحزاب: 72) .

ولم يتبع الإنسان وحي ربه الذي هداه السبيل وأضاء له الطريق وأرشده إلى كل خير وحفظه من كل شر، قال تعالى:{ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً}[الجن: 16].

           فأصل المياه العذبة من الأمطار التي تتحول إلى أنهار وبحيرات ، بالإضافة إلى الأنهار المتجمدة فى شمال الكرة الأرضية وجبال الجليد الموجودة فى القطبين والآبار والعيون فى جوف الأرض. فالأنهار هي المورد الرئيسي للمياه العذبة حيث يعتمد كثير من البشر عليها فى أغراض الزراعة والتصنيع وتوفير مياه الشرب والنظافة.

تنمية الموارد المائية:

   علينا فى سبيل تنمية مواردنا المائية أن نسلك طريقين:

الطريق الأول: التوعية بخطر استنزاف الموارد المائية:

          إن استنزاف الموارد المائية يعد مشكلة من مشاكلنا العصرية بحيث أصبح الإنسان فى العالم مهدد بأنه قد يأتي يوم ليس ببعيد يجد أن الماء لا يكفيه وذلك ليس لقلة الماء فإن الله تعالى خلق الماء كاف لجميع خلقه ولكن ظلم الإنسان لنفسه ولغيره وكفرانه بنعمة الماء هما اللذان أديا بالإنسان إلى هذه العاقبة الوخيمة. قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم: 34] ، فاستنزاف الماء نقيض المحافظة عليه فلنكن على وعي من هذا كله حيث إن ذلك إنذار بالخطر الذي بات يهدد البشرية كلها.

   ويتمثل استنزاف الموارد المائية فيما يلي:

1-  استخدام المياه في غير ما خلقت له:

    فالماء خلقه الله تعالى ليحي به أو يسقيه الإنسان والحيوان ، وليكون وسيلة للطهارة والنظافة ولتعيش فيه الأحياء التي يحتاج إليها الإنسان فى مأكله ، كما قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}[ الفرقان: 48 ، 49] ، وقوله تعالى: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } [الأنفال: 11] ، فلا يجوز للإنسان أن يضيع الماء فى غير ما خلقه الله له وذلك بإهداره فى غير محله.

2-  الإساءة في استخدام المياه :

   ومن مظاهر الإساءة فى استخدام الماء وسوء استعماله ما يلي:

1- عدم إصلاح صنابير المياه فى المنازل والمحلات والمصالح العامة والخاصة.

2- ظاهرة غسل السيارات بالماء الصالح للشرب بصورة فيها إساءة إلى استعمال الماء.

3- رش الشوارع بالمياه النقية بصورة تؤدى إلى الإسراف فى الماء.

4- الإساءة في ري الأراضي الزراعية والحدائق العامة وذلك بترك الماء يغمر الأرض الزراعية والحدائق لغير حاجة.

الطريق الثاني: التوعية بخطر الإسراف:

          لما كان الإسراف فى الماء مظهر من مظاهر استنزاف الموارد المائية فإن الإسلام نهى عن الإسراف فى عديد من الآيات والأحاديث النبوية ، وحثنا على القصد والاعتدال وبين أن التبذير مدخل من مداخل الإسراف ، وحسبنا فى ذم المسرفين أن الله تعالى لا يحبهم كما لا يحب الظالمين والمفسدين، قال تعالى:{‏ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31].

          وكما نهى عن الإسراف نهى عن التبذير ، قال تعالى: ‏{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً }‏[ الإسراء: 27].

          والفرق بين الإسراف والتبذير : أن الإسراف هو تجاوز الحد في استهلاك الحلال المباح ، أما التبذير فهو استغلال الحلال المباح فيما حرم الله وإن قلّ ، فمن تجاوز الحد في استخدام الماء ولو فى النظافة والطهارة الشرعية فقد أسرف وأساء. ففي الحديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة )(رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم).

          وكان (صلى الله عليه وسلم) مثالاً فى الاعتدال فى استخدام الماء ، مع أن بعض الناس يسرف في الوضوء، وقد نهانا عن الإسراف فى الماء ، ففي الحديث : أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرّ بسعد بن أبى وقاص وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد ؟ فقال أفي الوضوء سرف ؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار ) ( رواه أحمد ).

 أهمية العلاقات الدولية في الحفاظ على الموارد المائية :

إن العلاقات الدولية في الحفاظ على الموارد المائية تتمثل في تطور العلاقات الدبلوماسية المصرية مع دول حوض النيل ، وتفعيل دور المؤسسات الدينية من (الأزهر، والأوقاف ، والكنيسة ) في التعامل مع قضية مياه النيل للمساهمة في تفعيل التواجد المصري في دول حوض النيل ، من خلال البعثات التعليمية ، أو الدينية ، أو الثقافية، بما يضمن تفهم موقف مصر واحتياجاتها للمياه.

كما تقوم القوى العالمية بالتنسيق مع مجموعة الدول الذين يشتركون في نهر واحد بالتعاون الدولي بين الحكومات ، لتقسيم عادل للمياه ، ضماناَ للتوصل لاتفاقيات مقبولة في سبيل إدارة أفضل لموارد المياه المشتركة ، حتى يمكن تقليل الأضرار للحد الأدنى بعيدا عن مبدأ الحق المطلق للدول التي تمر أو تنبع من أراضيها الأنهار.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

ضوابط البيع والشراء

أولا: العناصر:

1-  التحلي بالأمانة والصدق.

2-  الحث على السماحة واليسر.

3-  حرمة الغش والتدليس.

4-  النهي عن تطفيف الكيل والميزان.

5-  حرمة الاحتكار.

     ثانيًا: الأدلة من القرآن والسنة:

            من القرآن الكريم:

1-  قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275].

2-  وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172].

3-  وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[ النساء: 29 ،30].

4-  وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ}[التوبة : 119].

5-  وقال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 85].

6-  وقال تعالى:{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:1ـ 3].

     من السنة النبوية :

1. عَنْ أَبِى سَعِيدٍ (رضي الله عنه) أن النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (رواه الترمذي).

2. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: ( يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟)، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: ( أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ)، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (سنن الترمذي) ، وفي رواية عند الحاكم: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)

3. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري).

4. وعن أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، و َقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ) (صحيح مسلم).

5. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا؛ فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ؛ قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (رواه البخاري).

6. وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (لأَلْقِيَنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) مِنْ قَبْلِ أَنْ أُعْطِىَ أَحَدًا مِنْ مَالِ أَحَدٍ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ) (رواه البيهقي في السنن الكبرى).

7. وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم).

8. وعَنْ  عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)  قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) فَقَالَ : ( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) (سنن ابن ماجه) .

9. وعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ) (رواه ابن ماجه).

10. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: ( مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ، وَأَيُّمَا  أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه أحمد).

11. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فقد بَرِئَت منه ذمة الله ورسوله) (مسند أحمد ، والهندي في كنز العمال واللفظ له).

ثالثًا: الموضوع:

 من جوانب عظمة الدين الإسلامي التي تميز بها من بين سائر الأديان والشرائع أنه ما ترك خصلة من خصال الخير تبث بين الناس المودة والرحمة والألفة والمحبة إلا أمر بها ورغب فيها الناس كافة.

وبما أن النفس البشرية  جُبلت على حب المال الذي به قوام الحياة وانتظام أمر المعاش جاءت الشريعة الإسلامية بتعاليمها السمحة تحث أتباعها بضرورة  السعي في تحصيل المال واكتسابه من طرق مباحة ومشروعة ، فأباحت جميع صور الكسب الحلال التي ليس فيها اعتداء ولا ظلم ولا ضرر على الغير، قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقَالَ سبحانه وتعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) (صحيح مسلم).

والبيع والشراء أحدُ طرق الاكتساب المباحة لتعلق مصالح العباد به كما قال تعالى: {وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَواْ}[البقرة:275] ، وعدَّه النبيُ الأمين (صلى الله عليه وسلم ) من أهم المكاسب وأطيبها ، فعَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (كَسْبُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) (رواه الحاكم في المستدرك) ، والبيع والشراء ضرورة من ضروريات الحياة يتحقق بهما إعمار الكون واستقرار المجتمع وأمنه.

من هنا حثت الشريعة الإسلامية في البيع والشراء على السهولة واليسر ، والسماحة وحسن المعاملة في البيع والشراء ، وطلب الربح اليسير دون عنت أو مشقة على الناس ، وضرورة الشفَقَة والتلطف بالمتعاملين ، حتى تتحقق البركة في الرزق ، والسعة في الأموال ، وجعلت الالتزام بهذه التعاليم بابًا عظيمًا من أبواب الرحمة والإحسان ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري) ، وفي رواية الترمذي (رحمه الله) من حديث جابر- أيضاً - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ ، كَانَ سَهْلاً إِذَا بَاعَ ، سَهْلاً إِذَا اشْتَرَى ، سَهْلاً إِذَا اقْتَضَى).

        والبيعُ الذي أباحه الله وتعلَّقت به مصالح الناس هو البيعُ الذي يحصُل به تبادلُ المنافع بين الناس من غير ضررٍ يلحَق بأحد المتبايعَين ، ولذا حذَّرنا الله من أن يأكلَ بعضنا مالَ بعض ، قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}[النساء:29ـ 30].

فقضية البيع والشراء في الإسلام قائمة على أسس العدل ، والصدق ، والرضا ، والقبول، والوضوح التام ، بعيدًا عن الظلم والغرر واستغلال حاجات الناس ، والتراضي بين المتعاقدين ، فعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (لأَلْقِيَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُعْطِىَ أَحَدًا مِنْ مَالِ أَحَدٍ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ ) (رواه البيهقي في السنن الكبرى) ، وهذا هو الطريق لحصول البركة في البيع والشراء ، فعَنْ عَبْدِ       اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ ، قَالَ: سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا ) (رواه البخاري).

والتاجر الصادق الأمين يحشر يوم القيامة بصحبة الأنبياء والشهداء والصالحين ، هكذا أخبر من لا ينطق عن الهوى ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ) (رواه الحاكم في المستدرك). فالصدق والأمانة في البيع والشراء يجلبان البركة ويساعدان على تأليف القلوب ، وقد قص علينا النبي الأمين (صلى الله عليه وسلم) مثلاً راقيًا لصدق وأمانة متعاقدين فحلت البركة والألفة وتحقق الود المطلوب تحقيقه بين المسلمين ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا؛ فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ؛ قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (رواه البخاري). 

ويكفي أن الله (عز وجل) ثالث الشريكين المتعاقدين ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) رَفَعَهُ ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا ) (رواه أبو داوود). فالخيانة على العموم صفة من صفات المنافقين ، جعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) علامة يُعرف بها المنافق ، بل إن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) نفى الإيمان عن خائن الأمانة ومضيعها ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَّا قَالَ: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) (أخرجه أحمد والبزار) ، وذلك لما يترتب على خيانة الأمانة من فساد المعاملات بين الناس ، وقطيعةٍ بين أفراد المجتمع، وتباغضٍ يفضي إلى النزاع والشقاق ، وتكدُّس في المحاكم بالعديد من القضايا التي يعدُّ سببها الأول خيانة الأمانة ، فحري بكل تاجر أن يكون صادقا أمينا في بيعه وشرائه وسائر معاملاته حتى تتحقق البركة.

ومن الضوابط التي وضعها الإسلام أيضا في المعاملات عامة والبيع والشراء خاصة : حرمة الغش أو التدليس ، فالغش صناعة لا يحسنها إلا المنافق ، فهو مظهر من مظاهر الكذب ، والكذب أمارة من أمارات النفاق ، والغش خيانة وخداع وهو محرم بإجماع المسلمين ، وصاحبه ليس على طريق النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا على هديه ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (... مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) (رواه مسلم). إنه إعلان حرب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحاب الضمائر الفاسدة التي لا تراقب ربها سرا ولا علانية ، وتحذير لكل من تسول له نفسه الخبيثة غش المسلمين وخداعهم وأكل أموالهم بالباطل ، فهل من عاقل؟ .

فالغش داء عضال وآفة خطيرة، لا يقتصر خطرها على الفرد فحسب ، بل يمتد أثرها إلى المجتمع كله ، والغش يكون في النوع والجودة ، وذلك بدسِّ الرديء في ثنايا الجيد ، وبيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة ، فيخفي البائع العيب الموجود في سلعته الرديئة ويظهرها كأنها سليمة ليس بها عيب من العيوب. وهذا ما وضحه النبي الأمين (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حين مَرَّ عَلَى صُبْرةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟) قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فقَالَ: أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه مسلِم).

إن الغش مرض ملعون ، إذا تخلل في قلب العبد أهلكه لا محاله ، وكان عاقبة أمره خسرًا. ولله در من قال:

أيَا بَائِعاً بالغـشِّ أَنـتَ مُعَـرَّضٌ *** لدَعوَةِ مَظْلُومٍ إلى سَامِعِ الشَّكْوَى
          فَكُلْ مِنْ حلالٍ وارْتدِعْ عن مُحرَّمٍ *** فَلسْت على نارِ الجحِيمِ غداً تَقْوَى

وكذلك من الضوابط التي وضعها الإسلام في البيع والشراء: حرمة التطفيف  في الكيل والميزان ، والتطفيف معناه: الاستيفاء من النّاس عند الكيل أو الوزن ، والإنقاص والإخسار عند الكيل أو الوزن لهم ، ويلحق بالوزن والكيل ما أشبههما من المقاييس والمعايير الّتي يتعامل بها النّاس (المفردات للراغب) ، فالله (عز وجل) أمر بإقامة الوزن بالقسط في كتابه الكريم ، قال تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[الإسراء: 35]. 

وقد حذر نبي الله شعيب (عليه السلام )  قومه من بخس الناس أشياءهم والتطفيف في المكيال والميزان ، كما حكي الله - عز وجل- ذلك عنه في القرآن ، فقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]. وقد عقّب القرآن الكريم النهي عن التطفيف بقوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وفيه دلالة على أنّ البخس في الميزان والتطفيف من عناصر الإفساد للمجتمع ، فالتطفيف يؤدي إلى فقدان الثقة بين أفراد المجتمع ، وعدم الاطمئنان، وتسود المجتمع حالة من الانحراف والتحايل والمكر والخديعة ، فتفسد القيم الإنسانية ، ويعم الفساد الأرض ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)  قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) فَقَالَ : ( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) (سنن ابن ماجه).

والتطفيف في الكيل والميزان من الكبائر التي تهوي بصاحبها في النار ، قال سبحانه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *  وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1- 3] ، قال مالك بن دينار (رضي الله عنه ): دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار ، جبلين من نار فقلت : ما تقول ؟ أتهجر ؟ قال : يا أبا يحيى ، كان لي مكيالان ، أكيل بأحدهما ، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما ، فمات من وجعه (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي).

ومن الضوابط التي وضعها الإسلام في البيع والشراء: حرمة الاحتكار للسلع الأساسية التي يحتاج إليها الناس ، والاحتكار معناه : حبس السلعة والامتناع عن بيعها ، أو محاولة الاستحواذ عليها في السوق بقصد رفع أسعارها وزيادة تحقيق الأرباح على حساب الناس والمجتمع ، وربما حتى على حساب الأمن القومي للبلاد ، وهو دليل على دناءة نفس صاحبه وسوء خلقه ، لذا نهى النبي الكريم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن كل ألوان الاحتكار وكنز السلع لرفع ثمنها على الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فقد بَرِئَت منه ذمة الله ورسوله) (مسند أحمد ، والهندي في كنز العمال واللفظ له).

وفي ذلك ما يؤكد حرمة استغلال حوائج الناس، أو التلاعب بأقواتهم وحاجاتهم الأساسية التي يحتاجون إليها ، سواء في طعامهم أم في غيره، لأن ذلك يُعدّ كسبًا خبيثًا محرَّما ، وهذا ما حذَّرنا منه ديننا الحنيف ، فقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ) (متفق عليه).

إن المحتكر لا خلق له ولا وطنية ، غلبته أنانيته ونقيصته فجعلهما فوق كل اعتبار ، فاختار الأثرة على الإيثار ، فهو يتاجر بأقوات الناس ومقومات حياتهم ، ويبني ثراءه على حساب عنتهم ومشقتهم ، وهذا بطبعه فيه إضرار بهم ، حذرنا منه ديننا الإسلامي الحنيف الذي يأمرنا بالتراحم وعدم استغلال حاجات الناس ، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ) (رواه ابن ماجة) ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال : ( مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ، وَأَيُّمَا  أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه أحمد) ، وذلك لأنه يستجلب سخط الله (عز وجل) وسخط الناس ودعاءهم عليه ، ونقمتهم وبغضهم له.

وقد حرم الإسلام الاحتكار  لما  له من أضرار على الفرد والمجتمع ، فهو يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار ؛ لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار ، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم ، وتضييقٍ لأبواب العمل والرزق ، وانتشار الحقد والكراهية والعداوة والبغضاء بين أفراد الأمة ، مما يكون سببا في تفكك المجتمع وانهيار العلاقات بين أفراده ، إضافة إلى ذلك ما يترتب عليه من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية، مثل البطالة والتضخم والكساد والرشوة والمحسوبية والنفاق والسرقة والغش ، لذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ) (رواه مسلم)، (والخاطئ هو الآثم).  

وليعلم المحتكر والمستغل أن الربح الزائد الذي يجنيه ويتحصل عليه من احتكاره واستغلاله حرام شرعا ، قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:161] بالإضافة إلى أنه جلب لنفسه اللعنة والطرد من رحمة الله (عز وجل) ، وبرئت منه ذمة الله ورسوله وتوعده الله بالعقاب الأليم ، فعَنْ  عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ) (رواه البيهقي في السنن الكبرى).

إنّ المؤمنَ الحق هو من يراعي حقوق العباد في بيعه وشرائه ، لتكون تجارته نافعة ، ومكسبه طيب حلال ، فيسعَد في دنياه وآخرته، أمَّا الأساليب الخبيثة في البيع والشراء ، فحري بكل مسلم أن يترفّع عنها طاعةً لربّه ، وصيانة لعرضه ودينه ، ومحافظة على أموال المسلمين ، وبُعدًا عن كلّ ما يضرّه في دينه ودنياه.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الزكاة وسد حاجات المجتمع (مصرف سداد ديون الغارمين)

أولاَ:العناصر:

1-      منزلة الزكاة في الإسلام.

2-      المعاني السامية للزكاة في الإسلام (الزكاة طهارة ونماء وزيادة) .

3-      . مصارف الزكاة .

4-      الزكاة مورد أساسي لمصرف الغارمين وكفالة العاجزين .

ثانياَ:الأدلة:

       الأدلة من القرآن:

1- قال تعالى:{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(البقرة: 110).

2-  وقال تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:3]. 

3-  وقال تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[ التوبة:103].

4-  وقال تعالى:{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[التوبة:11].

5-  وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[ سبأ:39]. 

6-  وقال تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24، 25].

7-  وقال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:60].

الأدلة من السنة : 

1-    عَنِ ابْنِ عُمَرَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم):(بُنِيََ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ).( متفق عليه).

2-    وعن ابن عباس (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث معاذاً (رضي الله عنه) إلى اليمن فقال له: ( إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ ) (مسند أحمد).

3-    وعَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه )عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ) (مسند أحمد) .

4-    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ - أي اشترى ثماراً وتلفت وعليه دفع ثمنها وهذه الحالات تتكرر كثيراً-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِغُرَمَائِهِ : خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) (رواه الترمذي و قَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

5-    وعن أبي هريرةَ  (رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما مِن يومٍ يصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسكا تلفًا) (رواه البخاريّ ومسلم). 

6-    وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ ) (المعجم الكبير للطبراني).

 ثالثاَ : الموضوع:

          فإن الإسلام يقوم على ركائز قوية ، وأسس ثابتة، وقواعد مترابطة، ترسخ العقيدة الصحيحة في نفس المسلم، وتغرس فيه حب العبادة لله تعالى، وتنمي فيه روح الألفة والمحبة لإخوانه المسلمين، ومن بين تلك الأسس التي يقوم عليها الإسلام فريضة الزكاة ، ففي الحديث المتفق عليه يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :( بُنِيََ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ).

ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة على عباده ، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فهي عبادة مالية اجتماعية مهمة ، وهي الفريضة الثانية في الإسلام ، قرنت في القرآن الكريم بالصلاة في عشرات المواضع ، تعظيماً لشأنها ، وتنويهاً بذكرها، وترغيباً في أدائها ، وترهيباً من منعها، أو التساهل فيها، وتعدد ذكرها تارةً بلفظ الإنفاق ، وتارةً بلفظ الزكاة ، وثالثةً بلفظ الصدقة ، ففي مطلع سورة البقرة يصف الله المتقين الذين ينتفعون بهدي كتابه فيقول : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3) .

          وفي موضع آخرَ من نفس السورة يقول سبحانه : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(البقرة: 110).

ويقول سبحانه : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

          إنها فريضة لازمة يكفر من جحدها ، ويفسق من منعها ، ويقاتل من تحدى جماعة المسلمين بتركها ، يقول الله سبحانه : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[التوبة:11] ، وحسبنا أن الخليفة الأول أبا بكر(رضي الله عنه)  جهز جيشاً كبيراً لقتال المرتدين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة ، وقال: ( وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (صحيح البخاري).

وقد شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة لحكم عالية وأغراض سامية ، تعود على الأفراد والمجتمعات بالفضل العظيم، والخير العميم، يقول تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].

فالزكاة طهارة للمال ونماء له ، وطهارة لنفس الغني من الشح والبخل ، وطهارة لنفس الفقير من الحسد والحقد ، وسد حاجة الفقراء وإغناؤهم ورفع الفقر عنهم ، ووقاية للمجتمع من سخط الله وغضبه ، وفيها تثبيت لأواصر المحبة والتراحم ، والمودة والتكاتف والتلاحم ، ليشعر الفقير في المجتمع المسلم أنه أمام تعاون لا تطاحن ، وأمام إيثار لا أثرة، وأمام مساواة وعطف  و إخاء، لا ظلم و لا جفاء ، فليست الزكاة محض مال يؤخذ من الجيوب ، بل هي غرس للرأفة والرحمة في القلوب.

          فالزكاة طهارة لنفس الغني من الشح والبغض: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9) ، وهي في الجانب الآخر طهارة لنفس الفقير من الحقد والحسد والضغينة على ذلك الغني، ومن شأن الإحسان أن يستميل قلب الإنسان ، وعلى الجملة فهي طهارة للمجتمع كله أغنيائه وفقرائه من عوامل الهدم والتفرقة والصراع ، فعن ابن عباس (رضي الله عنه) أن النبي   (صلى الله عليه وسلم ) بعث معاذاً (رضي الله عنه) إلى اليمن فقال له: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ ) (مسند أحمد).

كما أنها طهارة للمال وحفظه،  فقد أخرج الحاكم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ ) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ ) (المعجم الكبير للطبراني).

وكما أن الزكاة طهارة للغني والفقير ، وطهارة للمال فهي سبب لنماء المال وبركته ، وهذه حقيقة لا مرية فيها ولاشك ،  فقد أفصح عنها الكتاب العزيز، وأكدتها السنة المطهرة ، يقول تعالى : {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه( عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنَّهُ قَالَ : (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عبداً بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) (رواه مسلم ).

فالزكاة هي السبيل لحصول النماء والبركة ، فعن أبي هريرةَ (رضي الله عنه( قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): (ما مِن يومٍ يصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر : اللّهمّ أعطِ ممسكا تلفًا) رواه البخاريّ ومسلم . 

إن الزكاة حق واجب على الأغنياء للفقراء ، وامتحان يمتحن الله به الأغنياء ، فهي ليست منة يمتن بها الغني على الفقير ، ولا مجرد تفضل يتفضل بها عليه ، وإنما هي فرضٌ فرضَ الله أداءه ليعلم من يُخرج زكاته موقناً بها حامداً لله وشاكراً له على أدائها فيؤديها عن طيب نفس ، وبين من يخرجها - وهو كاره - كأنها مغرم أو غرامة عليه ، كما هو حال المنافقين من الأعراب الذين قال الله عنهم: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة: 98].

هذه هي الزكاة جعلها الإسلام رابطاً بين الغني والفقير ، فالغني يرحم الفقير ، والفقير يحسن إلى الغني ،  فتتقوى الرابطة والعلاقة بينهما ؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

إن الزكاة علاج لمشكلة الفقر ، هذه المعضلة الاجتماعية التي عجز العالم عن حلها وعجزت الأنظمة البشرية على القضاء عليها فإن الإسلام قد فرض الزكاة دواء أصيلاً وعلاجاً جذرياً لحل هذه المشكلة ، فهي مورد أساس للعاجزين الذين لا يستطيعون العمل ، والأرامل اللاتي مات عنهن أزواجهن ولا مال لهن ، واليتامى والشيوخ والمرضى والمقعدين ومن أصابتهم الكوارث فأقعدتهم عن الكسب.

إن الإسلام لم ينس هؤلاء ، لقد فرض الله لهم في أموال الأغنياء حقاً معلوماً وفريضة مقررة ثابتة هي الزكاة ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24، 25]، فالهدف الأول من الزكاة هو إغناء الفقراء بها .

ولقد حدد الله تعالى مصارف الزكاة وأهلها المستحقين لها بمقتضى علم وحكمة ، وعدل ورحمة ، فشملت جميع الطوائف الفقيرة والبائسة والمستضعفة ، وكفلت لهم ما يغنيهم عن ذل السؤال، وعن الحاجة. ، فقال سبحانه :{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 60].

وإذا نظرنا إلى مصارف الزكاة الثمانية لوجدنا أن من أبرز مصارفها : {الغارمين} وهم الذين استدانوا في غير معصية الله ، أو تحملوا الديون وتعذر عليهم أداؤها ، و لا يقدر ون على سدادها ، فيجوز الدفع إليهم، لأنهم فقراء اليد .

ففي داخل المجتمع يمكن أن يوجد من يحجم عن إقراض الآخرين مخافة أن يتعرضوا لإفلاس أو يمتنعوا عن التسديد، نتيجة ضيق ذات اليد ، إلا أن الزكاة منحت لهؤلاء تأميناً على أموالهم بحيث إنه إذا ما وقع المحظور فإن في الزكاة سهماً لمواجهة مثل هذه الحالات .

والغارمون : جمع غارم ، وأصل الغرم في اللغة : اللزوم ، ومنه قوله تعالى في جهنم : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }[الفرقان: 65] ، ومنه سمي الغارم ، لأن الدين قد لزمه ، فقد روى الطبري عن أبي جعفر -ونحوه عن قتادة-: الغارم: المستدين في غير سرف ، وينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال (تفسير الطبري).

فالغارمون هم المدينون العاجزون عن وفاء ديونهم، فإن وقعوا في عجز، وجب على المسلمين مدّ يد العون لهم من الزكاة؛ لتمكين أمثالهم من سداد ديونهم، ومن استمرارهم في رسالتهم ، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم )  أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ) (مسند أحمد) .

  والفقر المدقع : أي الشديد والذي ألصق صاحبه بالتراب ؛ والغرم المفظع : ما يلزمه أداؤه إجباراً فوق طاقته ؛ والدم الموجع : قضية إطفاء الفتنة ودفع الدية.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )  فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ - أي اشترى ثمار اً وتلفت وعليه دفع ثمنها وهذه الحالات تتكرر كثيراً- ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )  : (تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )  لِغُرَمَائِهِ : خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) (رواه الترمذي و قَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وقوله( صلى الله عليه وسلم ) (خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) يدل على تخفيف الدين عن المدين ، وتخليص ذمته من المطالبة المستقبلية ، وبيان أنه ليس عنده شيء ، فتطيب قلوبهم بما أخذوا ، فيسهل عليهم ترك ما بقي ، وليتشارك المتصدقون في أجر المعونة وثوابها ، وليكون ذلك سُنَّه حسنة .

فهذا دليل على أن الغارمين الذين استدانوا لحاجة أساسية ، أو ضمنوا ديناً فلزمهم دفع الدين ، أو تحملوا حمالة من أجل إطفاء الفتنة ، هؤلاء الغارمون يأخذون من مال الزكاة ما يفي بديونهم، حتى يتحقق التكافل الاجتماعي الذي يحفظ على المجتمع تَوَازُنه ، بالعَطْف، والمودَّة، والإيثار ، ونقاء السَّرِيرة ، ونَبْذ سُمُوم الأَحْقَاد والتَّحاسُدِ ، فإن فريضة الزكاة مورد أساس لكفالة العاجزين.

وبذلك تسري روح المحبة والمودة والإخاء في أفئدة المسلمين أغنياء وفقراء ، حتى يصير المجتمع كالجسد الواحد ، كما يقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجســد بالسهر والحمى) (متفق عليه) ، وعَنْ أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه( قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفر مَعَ اَلنبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) ، إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى رَاحِلَة لَهُ  قَالَ : فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً ، فَقَالَ رَسُولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْل مِن زَاد فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ ، قَالَ : فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ اَلْمَالِ مَا ذَكَر ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَهُ لاحق لأَحَدٍ منا فِي فَضْل) (أخرجه مسلم).

فهؤلاء أولى بالزكاة من الذين امتهنوا التسول وجعلوه مهنة سهلة فتراهم يطاردون الناس في كل مكان على أبواب المساجد بل في داخلها وفي الشوارع وفي إشارات المرور ، وربما طرقوا الأبواب على ساكنيها وألحوا في المسألة إلى غير ذلك من الصور المزرية التي لا تخفى على أحد .

فعلينا أن نتذكر المستحقين وحاجاتهم ، والضعفاء وضعفهم ، والفقراء وفقرهم ، والمحتاجين ومعاناتهم ، فكم من أسرة تراكمت ديونها ، وكم من بيت مرض من يعوله ، وكم من أناس تعرضوا لنازلة أو مصيبة استنزفتهم، وكم من رجال أصيبوا بحالات نفسية جراء الواقع الأليم ، وكم من شرفاء تفيض أعينهم من الدمع لا يجدون ما يشترون به حاجاتهم الضرورية ، عن أبي هريرة (رضي الله عنه( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )  قال : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ  في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ .... ) الحديث (رواه مسلم).

ولنعلمْ أن من أحب الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله تعالى : إدخال السرور على القلوب بأية وسيلة، وبأية صورة، وبأي لون من ألوان القربات، وهذا هو جوهر رسالة الإسلام ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )  : « أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا ، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا » (المعجم الكبير للطبراني).

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

دور الشباب في بناء المجتمع

أولاً : العناصر:

1-  عناية الإسلام بالشباب .

2-   ضرورة الإفادة من طاقات الشباب وحسن توجيهها .

3-  الشباب والعمل .

4-  نماذج من دور القيادات الشبابية في بناء الأوطان .

5-  العلاقة بين الشباب والشيوخ علاقة تكامل لا علاقة صراع .

6-  الدور الوطني لشباب الجامعة يتمثل في حرصه على التفوق والابتكار لا التخريب والهدم .

ثانياً : الأدلة :

         الأدلة من القرآن:

1-  قال تعالى : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا }[مريم : 12].

2-  وقال تعالى : {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف : 13].

3- وقال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات : 101 ، 102].

4- وقال تعالى : {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا }[الأنبياء : 78، 79].

 الأدلة من السنة:

1-    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).[رواه البخاري].

2-    وعَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ (رضي الله عنه ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):  ( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ) (رواه الترمذي).

3-    وعَنْ عَمْرو بْنٍِ مَيْمُونٍ (رضي الله عنه ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ). (السنن الكبرى للنسائي).

4-    وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال : جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا) (رواه الترمذي) .

 

ثالثًا: الموضوع:             

فإن الشباب مرحلة القوة والنشاط ، يتميز فيها الشخص بالتفتح الذهني ، والقوة البدنية ، والأمل الواسع ، والانفتاح على كل ألوان الحياة بأكبر نصيب ، لا يهدأ له بال حتى يرضي آماله ، ويحقق طموحه ، وهو بهذه الميزات قوة لا تعدلها في نمو الحياة وازدهارها إذا أحسن استغلاله واستثماره في مجالات الحياة المختلفة ، ولهذا قال الله تعالى عن هذه المرحلة من العمر التي عبر عنها بالقوة : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَة ً}[الروم:54]. قوة في الكيان الجسدي ، وفي البناء الإنساني ، وفي التكوين النفسي والعقلي، فهي المرحلة التي يستطيع الإنسان أن يعطي فيها ما لا يقدر عليه في مراحل العمر .

ولهذا اعتنى الإسلام بالشباب عناية فائقة ، فقدم القرآن الكريم العديد من النماذج الشابة من الأنبياء والمرسلين ، وغيرهم من الصالحين ، ليكونوا قدوة صالحة لشباب المسلمين ، وربى         النبي (صلى الله عليه وسلم ) جيلاً من شباب الصحابة الكرام الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء ، والتضحية والفداء ، والعلم والعمل ، فكانوا خير قادة وأفضل سادة ، ولقد صور القرآن الكريم هذه الحقيقة في قصة أصحاب الكهف ، وهم شباب قاموا داعين لتوحيد الله تعالى في مجتمع طغت فيه الوثنية ، وانتشر فيه الإلحاد  ، قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف :13] ولفظ ( الفتية ) ينطبق على المرحلة الزمنية التي يطلق عليها مرحلة الشباب بكل خصائصها وسماتها .

وهذا خليل الرحمن إبراهيم ( عليه السلام ) يقوم بواجبه الدعوي في مرحلة الشباب ويتحدى مجتمعاً غفل عقله فعبد ما يصنع بيده ، وهذا ماحكاه القرآن الكريم على لسان القوم حين حطم الخليل( عليه السلام ) أصنامهم ، قال تعالى : { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم } [الأنبياء : 59،60] .

كما أشار القرآن الكريم إلى ما أوتيه سيدنا سليمان ( عليه السلام ) من وافر الفطنة وحدة الذكاء وهو في مرحلة الشباب ، فقال : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } [الأنبياء : 78ـ80]  .

وهذا يحي (عليه السلام) نودي ليحمل عبْ الدعوة ، وينهض بالأمانة في قوة وعزم الشباب، لا يضعف ، ولا يتهاون ، ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة ، مع ما أتاه الله من المؤهلات التي لا تتوفر إلا للشباب { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } [مريم:12] .

وهذا نبي الله موسى (عليه السلام) في ريعان شبابه ، حينما فرَّ إلى أرض مدين ، وجد مجتمعاً انعدمت فيه القيم لا يعبأ بالضعفاء ،كتلك المرأتين اللتين اضطرتهما الحاجة إلى موارد الرجال ، فثارت نخوته وفطرته السليمة ، كما ينبغي أن يفعل الشباب ذووا الشهامة ، وهو غريب في أرض لا يعرفها ، لا سند له فيها ولا ظهير ، تلبية لدواع المروءة والنجدة والمعروف ، يقول تعالى :     { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص:23،24] .

وقد حث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشباب على فعل الخير والطاعة ، وبين لهم فضل العبادة ، لاسيما في مرحلة الشباب ، حيث يظلهم الله في ظله ، فقال في حديثه الشريف : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ، الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) [صحيح البخاري] . فجعل منزلة الشاب الطائع لله تعالى تلي منزلة الإمام العادل لما لمرحلة الشباب من خصائص تميزها عن غيرها من مراحل العمر .

وقد اهتم الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بالشباب اهتماماً كبيراً ، تربية ، وتوجيهاً وتعليماً ، فعن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال : ( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا فَقَالَ ( يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ) ( رواه الترمذي) .

كما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان كثيراً ما يطلب مشورة الشباب ، وينزل على رأيهم، كما حدث في غزوة أحد ، حين نزل على رأيهم بملاقاة المشركين خارج المدينة .

وإذا كان الإسلام قد اهتم بالشباب هذا الاهتمام ، وأولاه هذه العناية الفائقة فلا بد إذاً من الاستفادة من طاقات الشباب في عصرنا ، وحسن توجيهها فيما يخدم بناء الوطن بناءً قوياً اقتصاديا وثقافياً ، وهذا ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم ) فقد كان يختبر ذكاء الشباب من صحابته ويعهد إليهم بما يتفق وإمكانات كل واحد منهم ، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال : قال (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللهِ فَاسْتَحْيَيْتُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنَا بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هِيَ النَّخْلَةُ ) (صحيح البخاري) .

وأمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) أن يتعلم السريانية فتعلمها في وقت قصير ، فعنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ قَالَ : فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ : فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ) (سنن الترمذي) .

ولا نعجب عندما نرى سيدنا أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) في الثامنة عشرة من عمره ، وقد ولاه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إمرة جيش فيه كبار الصحابة (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكان أول بعث يتابع تنفيذه في زمن سيدنا أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) ، بلغ ذلك الجيش الذي قاده هذا الشاب ثلاثة ألاف من أصحاب رسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فلما جلس أبو بكر للخلافة أشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفاً عليهم ، فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بعد موت رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، كما أشار عليه بعضهم أن يغير أسامة لحداثة سنه ، فامتنع أبو بكر من رد الجيش أو تغيير القائد ، وأمر بإنفاذه ، وقال : لا أحل راية عقدها رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فأنفذ الجيش بمن فيه ، واستأذن أبو بكر القائد أسامة في أن يأذن لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في الإقامة ، لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له . وسار أسامة بجيشه فنصرهم الله نصراً عظيماً ، وردهم إلى المدينة سالمين . 

وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يستشير عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) ويقربه منه ، روى أن المهاجرين قالوا لعمر (رضي الله عنه) : أَلا تَدْعُو أَبْنَاءَنَا كَمَا تَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: ذَاكُمْ فَتَى الْكُهُولِ إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَؤولا، وَقَلْبًا عَقُولا (شرح السنة : للإمام البغوي).

هذا وقد وجه الإسلام الشباب إلى استثمار طاقاتهم فيما ينفع العباد والبلاد وذلك عن طريق العلم والعمل ، فقد دعا الإسلام إلى الأخذ بالعلم ، وحث على طلبه ونشره ، قال تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[المجادلة:11].

ولذلك برز في تاريخ المسلمين المُشرق علماء في شتى التخصصات أفادت البشرية منهم أيما إفادة كابن سينا ، والحسن بن الهيثم ، والرازي ، وجابر بن حيان وغيرهم ممن تركوا خلفهم ثروة علمية خدمت البشرية في كافة المجالات.

وإن الإسلام لا يقبل أن يعيش الشباب عالة على المجتمع ، بل دعا الشباب إلى العمل والإنتاج ، فعن كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):( إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) [المعجم الكبير للطبراني] .

وقد عمل النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في شبابه برعي الغنم ، كما عمل بالتجارة في مال السيدة خديجة (رضي الله عنها) ، فهل لشبابنا أسوة وقدوة في رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؟ ، وبخاصة في اغتنام شبابهم في الخير ، فعنَ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):( لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟) (رواه الطبراني ، وكذا أخرجه الترمذي وقال :حديث صحيح) .

وذكره (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الشباب بعد العمر من باب ذكر الخاص بعد العام لما لمرحلة الشباب من خصوصية ليست لغيرها من مراحل العمر .

وقد رأينا في عصرنا الحاضر نماذج لطاقات من الشباب العامل المنتج والمبتكر الذي استطاع أن يخدم نفسه مادياً ويخدم البشرية علمياً وتقنياً ، وإذا لم تستثمر أمتنا طاقات الشباب فمتى تنهض ؟ يقول الشاعر :

إذا المــرء أعيتـــه المــروءة ناشـــــئاً              فمطلبهــا كهـلاً عليــه شــديـــدٌ

إننا في حاجة إلى أن نعيد تأهيل الشباب تأهيلاً مبنياً على العلم والدين الصحيح ودفعه إلى العمل والإنتاج والابتكار بعيداً عن تلك الثقافات التي تسربت  إلى أخلاقيات المجتمع عامة والشباب خاصة ، وأن نغرس في نفوس الشباب احترام الآخر .

كما أنه لن ينهض مجتمع إلا بالتعاون المثمر القائم على المحبة والمودة والاحترام الكامل بين الشباب والشيوخ ، حيث يفيد الشباب من حكمة الشيوخ ، ويفيد الشيوخ من طاقة وقوة الشباب، فيوجه كل واحد منهما طاقته إلى ما يعود نفعه خيراً على الوطن والمواطنين ، وهذا التعاون أحرى ما يكون بين كافة أطياف المجتمع وفئاته وطبقاته ، وخاصة بين الطالب وأستاذه ، فطالب العلم يجب عليه أن يخفض الجناح لمعلمه ، ويتذلل له كي يفيد من علمه ، ويجني منه خبرةً وخيراً .

قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : ذللت طالباً فعززت مطلوباً  ، وقال بعض الحكماء : من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقى في ذل الجهل أبداً " [ أدب الدنيا والدين] .

وفي المقابل يجب على العالم أن يتواضع لطلابه فيهش لهم ويرحمهم ويصبر عليهم ، قال بعض السلف : من تكبر بعلمه وترفَّع وضعه الله به ، ومن تواضع بعلمه رفعه الله به،  فكلما ازداد علم العالم ازداد تواضعه ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا) (الأدب المفرد) .

على أننا نؤكد أن ما يحدث من بعض طلاب الجامعات ضد القيم الجامعية وأخلاق طالب العلم ، ضروب من الفساد والتخريب أحياناً ، كل ذلك يتنافى مع ما يجب أن يكون طالب العلم من القيم والأخلاق ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يتفق مع نخوة ومرؤة الشباب ،  ولله در القائل :

  والعــلـم إن لــم تكتـنفـــــه شمــــــــائــل         تعــلــــيـــه كان مطيــــــــة الإخــفـــــاق

           لا تحســـــــبن العــــــلم ينفــــع وحـــــده        مــــــا لــــم يتــــوَّج ربـــــــه بخـــــلاق

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

من أوجه العظمة في الحضارة الإسلامية

أولاً- العناصر:

1-     عظمة الحضارة الإسلامية وجوانبها الأخلاقية.

2-     من أوجه عظمة الحضارة الإسلامية:

أ‌-  العدل .

ب‌- الرحمة.

 جـ-  احترام آدمية الإنسان.

د-  القدرة على العيش  المشترك  مع الآخرين.

هـ- مراعاتها لحاجات الروح والجسد معًا.

ثانيًا – الأدلة:

الأدلة من القرآن:

1-        يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

2-        ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].

3-        ويقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

4-        ويقول تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

5-        ويقول تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

6-        ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

7-        ويقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103].

8-        ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].

الأدلة من السنة والآثار:

1-  عَنَْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ( صحيح البخاري).

2-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) (صحيح البخاري).

3-  وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ : قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، فَقَالُوا : لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ): ( و َأَمْلِكُ أَنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ ؟ ) (سنن ابن ماجه).

4-  وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ، ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ ) (صحيح مسلم).

5-  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) (سنن الترمذي).

6-  وعن جابر الجعفي عن الشعبي قال: وجد عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح القاضي  يخاصمه، قال: فجاء عليُّ فقال: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، مالي بينة، فقضى بها شريح للنصراني، قال فأخذه النصراني ومشى خُطىً ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد إن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس. ( البداية والنهاية لابن كثير) .

7-  وذكر ابن عساكر أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كتب رسالة إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة قائلاً له: انظر الأرض التي يخاصم فيها فلان القائد فلانًا التاجر فادفعها إلى فلانٍ القائد. فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها لفلانٍ التاجر، فلست أخرجها من يديه إلا ببينة، فكتب إليه أبو جعفر المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتَدفعنَّها إلى فلان القائد! فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد فلانٍ التاجر إلا بحق! فلما جاءه الكتاب قال أبو جعفر: ملأتُها والله عدلاً، صار قضاتي يردونني إلى الحق. (تاريخ دمشق لابن عساكر).

ثالثاً: الموضوع:

إن الحضارة الإسلامية عظيمة وعريقة، وتراث المسلمين مليء بالكنوز والجواهر الثمينة التي اندثرت عبر تاريخ طويل، ولا ينبغي أبدًا أن تكون حالة الضعف والتردّي الحضاري التي يعانيها المسلمون اليوم محبطة ومثبطة لعزائمنا، فهي مرحلة مؤقتة لا تساوي في عمر الزمن شيئًا.

لقد بنى المسلمون حضارتهم على دعائم قوية وقيم أخلاقية راسخة كالعدل والرحمة والحق والموازنة بين متطلبات الروح والجسد، والموائمة بين كل طبقات المجتمع.

والعدل من أهم أسس الحضارة الإسلامية، ومن ملامحها التي تدل على عظمتها، إنه من أهم مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية في المجتمع المسلم، وقد جعل القرآن الكريم هدف إرسال الرسل هو إقامة العدل، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فعظمة النظام الإسلامي تتجلى في أنه يقود أتباعه إلى العدل مع العدو كالصديق، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، يعني لا يحْمِلَنَّكم بغض قوم على ظلمهم.

إن العدل في تراث المسلمين وثقافتهم ودولتهم شمل الراعي والرعية، شمل كل طبقات المجتمع دون تمييز أو انحياز بين عظيم وحقير، فهذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يكتب رسالة إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة قائلاً له: انظر الأرض التي يخاصم فيها فلان القائد فلانًا التاجر فادفعها إلى فلانٍ القائد. فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها لفلانٍ التاجر، فلست أخرجها من يديه إلا ببينة، فكتب إليه أبو جعفر المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتَدفعنَّها إلى فلان القائد! فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد فلانٍ التاجر إلا بحق! فلما جاءه الكتاب قال أبو جعفر: ملأتُها والله عدلاً، صار قضاتي يردوني إلى الحق.(تاريخ دمشق لابن عساكر)، إنه العدل الذي هو أساس الملك ودعامة من أهم دعائم نهضة الأمم، ولهذا قيل: ((إنّ اللهَ ينصرُ الدولةَ العادلةَ ولو كانتْ كافرةً، ويخذُلُ الدولةَ الظالمةَ ولو كانتْ مسلمةً)[كتاب الحسبة لابن تيمية].

وهذا الأصل الحضاري الإسلامي العظيم – العدل – لم يقف عند حدود المسلمين بل أنصف غير المسلمين في الدولة الإسلامية لدرجة جعلت أحد قضاة المسلمين يحكم لصالح نصراني يخاصم الخليفة، فعن جابر الجعفي عن الشعبي قال: وجد عليُّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شُريح القاضي  يخاصمه، قال: فجاء عليٌّ فقال: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شُريح إلى عليّ فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، مالي بينة، فقضى بها شريح للنصراني، قال فأخذه النصراني ومشى خُطىً ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق (أي: سقطت الدرع) ، فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس. (البداية والنهاية لابن كثير).

فما أعظمه نظامًا، وما أعرقها حضارة تلك التي يظلل العدل فيها كل أطياف المجتمع، لقد سادت في حضارة الإسلام ودولته على مر تاريخها وعبر مراحلها المختلفة مفاهيم تهدف إلى القضاء على كل نظم التعسف والاستبداد والإذعان المذل، وعلى كل ما فيه اضطهاد وتنكيل ونيل من كرامة الإنسان وكل ذلك لإعادة كرامة الإنسان إليه ورفعه إلى مستوى الإنسانية اللائق به بغض النظر عن لونه أو جنسه انطلاقًا من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].

وإذا كان الناس قبل الإسلام قد انقسموا إلى سادة وعبيد فقد سوى الإسلام بين بني الإنسان، ويكفي هنا أن نذكر قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»[سنن النسائي]، وبذلك رفع قدر الرقيق إلى الدرجة التي جعلت ذكوان – وكان بصحبة الحسين رضي الله عنه- يقول لابن الزبير (رضي الله عنهما) وهو من سادات العرب وفي مجلس معاوية (رضي الله عنه) خليفة المسلمين: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، وأنا مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنت ابن الزبير بن العوام بن خويلد، فنحن أكرم ولاءً وأحسن فعلًا.

ومن أهم الدعائم التي قامت عليها الحضارة الإسلامية الرحمة، وتبدو عناية الإسلام ببثّ خلق الرحمة في قلوب أتباعه من أول وهلة في القرآن الكريم، فقد افتتحت سور القرآن الكريم كلها - عدا سورة التوبة - بالبسملة التي تشتمل على اسمين من أسماء الله عز وجل – الرحمن الرحيم – دون غيرهما، ففي ذلك دلالة على تقديم الرحمة في الإسلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"[صحيح البخاري]، وقد بعث الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) رحمة لجميع خلقه، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ومن رحمته  (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يعطف على الأطفال ويرقّ لهم، ويقبّلهم ويضمّهم ويداعبهم، وجاءه ناس من الأعراب فرأوه يُقبّل الحسن بن علي (رضي الله عنهما) فتعجّبوا وقالوا: تُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "وَأَمْلِكُ أَنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ"، ولم تكن مواقف عنايته ورحمته بالأطفال بالمواقف العابرة، بل كانت سمته (صلى الله عليه وسلم) لدرجة أن الأطفال لتعلقهم به كانوا يستقبلونه إذا جاء من سفر ليداعبهم، وكأنه ليس أمامه من الهموم والمشاغل غيرهم!  يقول عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنهما):  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلاثَةً عَلَى دَابَّةٍ"[صحيح مسلم]،  لقد شملت رحمته (صلى الله عليه وسلم) البهائم التي لا تعقل ، فكان يحثّ الناس على الرفق بها حتى عند الذبح، فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، كما حثَّ على عدم تحميلها ما لا تطيق، فقد دَخَلَ (صلى الله عليه وسلم) حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ إِلَيْهِ ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذَفَرَتَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ : ( مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟) قَالَ: فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: (أَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟! ، فَإِنَّهُ شَكَا لِي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ) [المستدرك للحاكم).

إنها الرحمة التي حث عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخبرنا أنه لن يرحم الله تعالى إلا أصحابها، فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) (سنن الترمذي)، ولذا لا تعجب حين ترى أن الله تعالى أدخل امرأة النار بسبب حبس قطة وذلك لقساوة قلبها ، وأنه تعالى أدخل رجلا الجنة بسبب رحمته بكلب يلهث من شدة العطش فيرقُّ له ويرحمه ويسقيه.

على هذا النحو سار المجتمع المسلم فصار متراحمًا يرحم فيه القوي الضعيف، لا يهان فيه يتيم، ولا يذل فيه محتاج، يقوم كل راعٍ فيه بواجبه نحو رعيته، فهذا عمر بن عبد العزيز حاكم الدولة الإسلامية الواسعة يشغله حال امرأة سوداء في مصر، فلقد أرسلت المرأة رسالة إلى الخليفة – وكان بريد عمر (رضي الله عنه) يحمل إليه أي رسالة وإن كانت من آحاد الناس، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتابا تذكر فيه أن لها حائطا قصيرا وأنه يُقتحم عليها منه فيُسرق دجاجها، فكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرت من قِصَر حائطك وأنه يُدخل عليك منه فيُسرق دجاجك، فقد كتبت لك كتابًا إلى أيوب بن شرحبيل - وكان أيوب عامله على مصر - آمره أن يبني لكِ ذلك حتى يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله والسلام"، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت إليّ تذكر قِصَر حائطها وأنه يُسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها وإذا هي سوداء مسكينة فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين فيها وحصنه لها) ( سيرة عمر لابن عبد الحكم ).

ومن أعظم السمات التي تميزت بها الحضارة الإسلامية أن كونت مجتمعًا مترابطًا تجمع الأخوةُ جميعَ أعضائه، فلم تهتم الحضارة الإسلامية فقط بالفرد كفرد، وإنما اهتمت به باعتباره وحدة لبناء المجتمع، هذه الأخوة فرضها الله تعالى علينا وربط بها بين جميع المؤمنين، يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، والآية التي بدأت بإثبات الأخوة بين المسلمين ختمت بقوله "وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" أي: اتقوا الله فيما ذكر في هذه الآية من الأخوة لعلكم ترحمون، فتأمل كيف علق الله تعالى الرجاء في رحمته على مراعاة الأخوة!! وكأن الله تعالى يقول لنا: لن أرحمكم حتى يرحم بعضكم بعضًا.

إن من أجلّ النعم التي امتنّ الله تعالى بها على نبيه (صلى الله عليه وسلم) وعلى الصحابة معه الاعتصام بحبل الله تعالى والتأليف بين قلوبهم، يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103]، إن هذه الجماعية والاتحاد والتكاتف بين جميع المسلمين من أهم سمات هذا الدين العظيم، وإنك لتستشعر ذلك كل صلاة وأنت تقرأ الفاتحة حين تصل إلى قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5، 6]، فأنت وحدك تصلي وتناجي ربك، فلماذا لم تكن الآية الكريمة: ( إياك أعبد وإياك أستعين) بصيغة المفرد؟ ولماذا لم تكن ( اهدني الصراط المستقيم؟ ) ذلك لأن الله تعالى يريدك أن تتحدث بلسان الأمة كلها، يريد الأمة كلها جسدًا واحدًا وكيانًا واحدًا، وفي صلاة الجماعة غاية العبرة، لقد جعل الله تعالى فضلها على صلاة المنفرد سبعًا وعشرين درجة، فلماذا؟ مع أن قائلاً قد يقول: أنا في بيتي وحدي أقرب إلى الخشوع وأبعد عن رؤية ما يصرفني عن خشوعي، ولا يكون ثمة مجال لأن يراني الناس فيدخل في نفسي شيء من الرياء! نقول: لا ، إن الله تعالى لا يريدك وحدك ولكن يريدك وسط الصف مع إخوتك المسلمين، مع الكيان الكامل للأمة.

هذا المنهج الإسلامي الذي قامت عليه أعظم حضارة هو المنهج الذي تربى عليه قوم غلبهم حب إخوانهم فآثروهم على أنفسهم مع شدة حاجتهم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ولهذا لم يرَ التاريخ البشري على امتداده مثل هذه الصور التي حدثت من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الهجرة، يتكافلون ويتكاتفون، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا ، وَمَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بِأَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَلَا دِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ»[مصنف ابن أبي شيبة]، هذه الأخوة حين جمعت قلوب المسلمين صارت الأمة كيانًا متماسكًا قويًا، أما حين خفتَ ضوؤها وتغلبت الأثرة والأنانية على الكثيرين حل الضعف في المجتمع وضعُفَ كيان الأمة.

          ولقد كانت الحضارة الإسلامية في جوهرها التزامًا أخلاقيًا قبل أن تكون حضارة إنتاج واستهلاك فالجانب الأخلاقي – والذي غاب عن حضارات الدنيا قديمًا وحديثًا – أهم مرتكزات الحضارة الإسلامية، ومع هذا الالتزام الأخلاقي ومع هذا المنهج القويم برع المسلمون في النواحي العلمية وقدموا إسهامات غيرت وجه التاريخ، وما من علم من العلوم الحديثة إلا وفيه أصول إسلامية عربية تبدو لمن يبحث في تاريخ هذه العلوم، وما ذلك إلا لأن الإسلام حرر عقل المسلم ليتيح أمامه الإفادة من علوم الدنيا كلها فهضمتها العقلية الإسلامية وأضافت إليها من إبداعات المسلمين ما جعلها حضارة لا تماثلها حضارة، حضارة متكاملة تجمع بين الجانب الأخلاقي والجانب المادي، فالحضارة الإسلامية تتسم بالشمول والتكامل، فهي  تنظيمٌ كامل لعلاقة الإنسان بالكون والحياة وعلاقته بربه سبحانه وتعالى، ثم هي تنظم علاقته مع بني جنسه، إنها حضارة الاعتدال والوسطية،  وسطية ليس فيها غلو في جانب الروح ولا طغيان في جانب المادة، وسطية توائم بين حقوق الفرد ومتطلبات المجتمع، وسطية تُعنى بعمارة الدنيا لكن هدفها الأسمى هو الآخرة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فما أحوجنا إلى أن نعود إلى هذه المبادئ والقيم الأخلاقية والدعائم الحضارية التي تميزت بها حضارتنا عبر التاريخ والتي فيها مساعدتنا في المستقبل .

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

أخلاق الإسلام في التعامل مع الضعفاء وذوى الاحتياجات الخاصة

 

أولاً- العناصر:

1.          الإسلام دين الرفق والرحمة.

2.          مكانة الضعفاء عند الله تعالى.

3.          مراعاة الإسلام لذوى الاحتياجات الخاصة وحقوقهم.

4.          مراعاة الإسلام لحقوق اليتامى والمساكين.

5.          حفظ الإسلام لحقوق المرأة المادية والأدبية.

ثانيًا : الأدلة :

         الأدلة من القرآن الكريم:

1.     قال تعالى {...وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 156].

2.     وقال تعالى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [التوبة: 91 - 93].

3.     وقال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220].

4.     وقال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 9، 10].

5.     وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

6.     وقال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127].

الأدلة من السنة :

1.     عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ) (صحيح البخاري).

2.     وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ ) (صحيح البخاري ).

3.     وعَنْ أَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: ( إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ) (صحيح البخاري).

4.     وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ) (رواه الحاكم فى المستدرك).

5.     وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم): (تُطْعِمُهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْربِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْهُ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) (مسند أحمد- السنن الكبرى للنسائى).

6.     وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ، أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ، حَتَّى يَبِنَّ  أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ) وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ) (رواه أحمد).

7.     وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَغُلَامٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ يَحْدُو، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ) (رواه مسلم).

8.     وعن يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى (رضي الله عنه) يَقُولُ: ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ) (سنن النسائي).

ثالثاً - الموضوع:

الإسلام دين الرفق والرحمة والمحبة والمودة، يجعل لجميع الفئات والطوائف في المجتمع حقها في العيش الكريم والحياة السعيدة، ويراعى فيه الضعيف قبل القوى والصغير قبل الكبير، والمريض قبل الصحيح، بل إن شئت فقل يراعى حق الحيوان، فذاك ما يتضح من توجيهاته وتعاليمه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (صحيح البخاري) ذلك لأنّ رحمة الله عزَّ وجلَّ وسعت كلّ شيء، قال تعالى:{...وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 156].

وتتجلى الرحمة فى تشريعات الإسلام التى من أهمها مراعاة الفئات الضعيفة التى لا تقوى على قضاء حوائجها، أو السعى فى مصالحها ، وهى فئات مهمة فى المجتمع لا يمكن أن يغفلها، لأنّ الإسلام لا يعرف ما يسمى بالفئات المهمشة ، فالجميع فيه سواء الرّجل والمرأة، الصغير والكبير، الغنى والفقير ، إنه دين يُحدث التكامل ويقيم التوازن بين أفراد المجتمع،  فينعكس أثر ذلك على المجتمع بأسره حبًا وحنانًا ومودة وسعادة.

          وحين يعطي الإسلام الضعفاء مزيدًا من الرعاية والعناية، فإن ذلك فى مصلحة الأقوياء والأصحاء والأغنياء إذ يزول الحقد والحسد والمرض النفسي، وتعمُّ روح الوئام والسلام، ويظهر المجتمع بصورة ترضى الله (عزوجل) وتستوجب رحمته، فالخير والبركة لا تحلُّ إلا بسبب مراعاة هؤلاء الضعفاء والقيام على قضاء حوائجهم،  فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ بن أبى وقاص (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ )، وهذه حقيقة يؤكدها النبى (صلى الله عليه وسلم) مبينًا فضل هؤلاء الضعفاء أطفالًا كانوا أو مرضى أو شيوخًا أو فقراء أو نساءً، فلقد جعلهم الله تعالى محل نظره وسبب رحمته، فمن أرضاهم رضي عنه، ومن أغضبهم أو انتقصهم حقوقهم وقدرهم غضب عليه .

وقد وصف الله عز وجل حالهم وبين قدرهم، فهم مع ضعفهم يتمنّى أحدهم لو يجد ما يُسهم به فى خدمة دينه ووطنه، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قول الله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة: 91 - 92].

          فإذا كان هذا حالهم وحال الخالق معهم، وإذا كانت هذه مكانتهم عند الله (عزَّ وجلَّ) فكيف بنا معهم ؟ لننظر كيف كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعامل مع هؤلاء الضعفاء، لا سيما وقد عاتبه الله (عز وجل ) في القرآن الكريم في أحدهم وهو : عبد الله بن أم مكتوم - كان كفيف البصر -  أتى رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت الآيات من قول الله تعالى :{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10]. فكان رسول الله (صلّى الله عليه وسلم)، يكرمه ويقول إذا رآه: ( مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة) ( تفسير ابن كثير- تفسير روح المعاني).

          لقد كان صلوات الله وسلامه عليه يسعى في قضاء حوائج هؤلاء الضعفاء، ويزور مريضهم ويخفف من آلامهم، ويطعم جائعهم ، ويقضى عن غارمهم ، ويهش ويبش لهم ويرحمهم،  فمن أحسن إلى  الضعفاء  زاد قربًا من رحمة الله (عز وجل)، قال تعالى : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يفعل هذا معهم والسعادة تَغْمُر قلبه والرحمة تملأ حنايا صدْره، فعن يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ (يستكبر) أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ) (سنن النسائي) ، ويبين ثواب من سعى فى خدمة هؤلاء الضعفاء وذوى الاحتياجات الخاصة، فَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ ) فيا له من ثواب جزيل وفضل عظيم لمن فَعَل فِعْل المصطفى واقتفى أثر المُجتبى (صلى الله عليه وسلم).

ولننظر كيف يحافظ الإسلام على حقوق هؤلاء الضعفاء الذين كرمهم الله (عز وجل ) ورفع قدرهم؟ إن الإسلام ينظر إلى هذا العجز أو المرض على اختلاف أنواعه ومقداره على أنه ابتلاء من الله (عز وجل )،لابد أن نتلقاه ونتقبله بالرضا والصبر والدعاء فهو منحة من الله يرفع بها المؤمن ويكفِّر بها من خطاياه ، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) ( صحيح البخاري) ، ومن ثمَّ فمن ابتلى فى ولده أو أهله أو نفسه بشيء من ذلك فليوقن تمام اليقين أن هذا من الله رحمةً به  ومنحةً إليه،  وليصبر وليتعلم كيف يتعامل مع الابتلاء وكيف يحافظ على حقوق الضعفاء.

والحذر كل الحذر من السخرية والاستهزاء بمن كان هذا حاله فقد قال الله (عز وجل): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] فيحرم التعرض لهم بنظرة تحمل ازدراءً، أو بقول ينال من حالتهم، أو بعمل ينتقص من حقهم ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) ( صحيح مسلم ).

إنّ المسلم صاحب أدبٍ وخلقٍ جمّ يحسن فى معاملة الناس جميعًا ويتأدب فى تعامله مع أحبابه من ذوى الاحتياجات الخاصة أو الضعفاء، ولقد علمنا الإسلام ماذا نقول إذا رأينا من ابتلى ببلاء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ رَأَى مُبْتَلًى، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلَاءُ ) (سنن الترمذي) ، وإنّ هذا من شكر الله تعالى على نعمه ، ولنعلم أن الصحيح قد يمرض وأن الغنى قد يفتقر وأن الحىَّ سيموت ، وكل شيء عند الله بقدر.

ومن حقوق الضعفاء التي كفلها لهم الإسلام توفير الحياة الكريمة في المأكل والمشرب والمسكن، وتوفير دور الرعاية الصحية والاجتماعية لهم ، ومن المعلوم أن نسبة العجز تختلف بين هؤلاء فلننمي فيهم الطاقات الكامنة ولنوظفها في محلها، فمنهم من يقدر على عمل إبداعي فكرى، ومنهم من يقدر على عمل رياضي بدني ، فهو إذا شارك الناس فيما يقدر عليه ووجد لمسة حانية ممن حوله، خفّ عنه الألم النفسي، وأحسّ بأنه جزء من مجتمع يحبه ويحافظ عليه.

ومن حقوق الضعفاء الحفاظ على أموالهم إن كانوا يتامى قد فقدوا الآباء، فقد أمر الإسلام الأوصياء، وكل من له صلة قرابة بيتيم أن يحسن إليه ويقوم على شئونه والقيام باحتياجاته ورعاية أمواله إن كان من ذوى الأموال ،كما قال تعالى عن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى أو يهملونها أو يستغلّونها فى مصالحهم الشخصية، وخاصة فى معاملة اليتيمات:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } [النساء: 127] والقسط هو العدل، وهو يقتضى ممن قام على مصالح اليتيم أن يتقى الله فيها ويرعاها كما يرعى ماله،وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] فهذا توجيه من الله (عز وجل ) برعاية اليتيم وإصلاح ماله وحاله سواء كان هذا اليتيم  قريبًا أو غريبًا، ولو تأملنا الآية ونظرنا على وجه التحديد فى موقع كلمة (إصلاح) ثم فكرنا في بدائلها اللغوية وما يرادفها وحاولنا أن نضع لها أي بديل لغوي- رأسيًا أو أفقيًا- في موضعها لوجدنا أن العربية فى عمقها واتساعها عاجزة عن أن توافينا بكلمة تقوم مقام كلمة (إصلاح) فى هذا الموضع ، فالإصلاح أمر جامع لما يحتاج إليه اليتيم ، فقد يحتاج إلى المال فيكون الإصلاح برًا وعطاءً ماديًا ،وقد يحتاج إلى من يتاجر له في ماله أو من يقوم على زراعته ، أو صناعته ، فيكون الإصلاح هو القيام بذلك كما قال عمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه): ( ابتغوا بأموال اليتامى، لا تأكلها الصَّدقة ) ( السنن الكبرى للبيهقي) ، وقد لا يحتاج اليتيم إلى المال ، وإنما يحتاج إلى التقويم والتربية فيكون الإصلاح هنا رعايةً وتربيةً ، وقد لا ينقصه هذا ولا ذاك ، وإنما تكون حاجته إلى العطف والحنو  والإحساس بالأبوة، فيكون الإصلاح إشباع ذلك عنده،

ولأجل هذا كان ترغيب النبي (صلى الله عليه وسلم) في كفالة اليتيم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ ) وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (صحيح مسلم ) ، وكان التحذير الأكيد والوعيد الشديد فى قول الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 9، 10].

وبهذا لا يترك الإسلام اليتامى نهبًا للأوصياء أو الطامعين أو مستغلي حالِ ضعفهم، وإنما يشدّد على حفظهم وتعهدهم بالرعاية والعناية ، لئلا تضيع حقوقهم وتُهْمَل تربيتهم، فنجد المجتمع يعانى من ظواهر سلبية كأطفال الشوارع والعاطلين والمتسوّلين.

كما يراعى الإسلام حقوق المرأة فى كل مراحل عمرها ويؤكد عليها ، فهي إن كانت طفلةً صغيرةً يصونها ويحافظ على حقها في الحياة والتربية والرّعاية مثل الذَّكَر سواءً بسواء، حتى فى الفرحة بمجيئها إلى الحياة ، بعد أن كانوا فى الجاهلية يحرمونها حق الحياة قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58، 59] بل يجعل الإحسان فى تربيتها طريقًا إلى مرضاة الرحمن وصلتها صلة لله رب العالمين ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ» [رواه الحاكم فى المستدرك] .

والمرأة إن كانت زوجة فحقها على زوجها العشرة بالمعروف والإحسان إليها فإن كرهها فلا يظلمها، ولا يبخسها حقها، وقدرها فلا يدري أين يكون الخير، كما قال القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] والعشرة بالمعروف من القوامة الصحيحة التي أسندها القرآن إلى الرجال في قول الله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[النساء: 34] وهى الرعاية والنفقة والحفاظ عليهن، وليس ذلك تفضيلًا للرجل على المرأة فى شيء وإنما الفضل بالتقوى، ومن ثمّ كان توجيه النبي (صلى الله عليه وسلم) لرعايتها والقيام على شأنها، فعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ (صلى الله عليه وسلم): «تُطْعِمُهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ، وَلَا تَضْربِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْهُ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ».

          وهى إن كانت أمًّا فبرها واجب وحسن صحبتها أوجب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) [صحيح البخاري]، وكرر الأم ثلاث مرات لأنها أضعف بدنًا وأقوى عاطفة، وقد يأتي عليها وقت تكون أشد احتياجًا إلى الرعاية والعناية .

وهكذا يراعي الإسلام الضعفاء على اختلاف أنواعهم وتباين أسباب ضعفهم، ما بين مريض أو  فقير أو يتيم أو امرأة صغيرة أو مسنّة، أو  أحد من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعلمنا الإسلام كيف نتعامل معهم ونراعي شعورهم، ولنعلم أنهم جميعًا يتمنون السعي في الخير  وتقديم ما به حفظ الدين والأوطان، غير أن العذر حال دون فعل ما يقوم به الأصحاء، ولنوقن تمام اليقين أن مساعدتنا لهم ماديًا ومعنويًا يعود خيرها علينا وعلى المجتمع بأسره، حيث تعم المحبة والسلام.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الإدمان وأثره المدمّر على الفرد والمجتمع

أولًا - العناصر:

1- الخمر أم الخبائث .

2- من مقاصد الشريعة الحفاظ على النفس والعقل .

3 – العبرة بالإسكار وتغييب العقل وليس بالأسماء أو المسميات .

4- موقف الإسلام من المخدرات بأنواعها.

5- خطورة الإدمان على الفرد والمجتمع.

6- تضافر الجهود ودور مؤسسات الدولة للقضاء على الإدمان .

7- ضرورة تشديد العقوبة على تجار المخدرات والضرب على أيديهم بقوة .

ثانيًا - الأدلة:

الأدلة من القرآن:

1-    قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:90- 92].

2-    وقال تعالى:{.. وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }[النساء29-30].

3-    وقال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة 195].

4-    وقال تعالى: { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة : 100) .

5-    وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(التحريم :6).

الأدلة من السنة :

1.     عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية لابن ماجة من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) : قَالَ رَسُولُ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم) (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).

2.     وعَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ (رضي الله عنه)   قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ أَصْحَابِي مِنَ الْيَمَنِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لَنَا شَرَابًا نَتَّخِذُهُ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلادِنَا ، وَنَحْنُ نُعَالِجُ أَعْمالا شَدِيدَةً فَنُقَوَّى بِهِ وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( هَلْ يُسْكِرُ ؟ ) قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : ( فَاجْتَنِبُوهُ ) ( أخرجه أبو داوود).

3.     وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ) (أخرجه أبو داوود).

4.     وعن ابْنَ عُمَرَ (رضي الله عنهما)  قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) (رواه أبو داود).

5.     وعن وَائِلٍ الْحَضْرَمِىِّ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِىَّ سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَى أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إ ِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ:( إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)(صحيح مسلم). وقال عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه): إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (السنن الكبرى للبيهقي).

6.     - وعن أنس (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  قال:( قال الله عز وجل: مَنْ تركَ الخمرَ وهو يقْدِرُ عليهِ لَأَسْقِيَنَّهُ منه في حَظِيرَةِ القُدسِ، ومَنْ تركَ الحَرِيرَ وهو يقدرُ عليه لأَكْسُوَنَّهُ إياه في حظيرةِ القدسِ) (أخرجه البزار).

7.     - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم): (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) (أخرجه ابن ماجة وغيره).

     ومن الآثار :

1.عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏عثمان (رضي الله عنه) ‏يقول: (اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلاَ قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ : أَنَا أَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا ، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلاَمٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعْوَتُكَ لِلشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ دَعْوَتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ كَأْسًا أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلاَمَ ، قَالَ : فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا ، فَقَالَ : زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ ؛ فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) ( السنن الكبرى للنسائي].

2.وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ مَشَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  (صلى الله عليه وسلم) بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَجُعِلَتْ عَدْلاً لِلشِّرْكِ (ذكره المنذري في الترغيب والترهيب وقال: رواه الطبرانيّ).

3.وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ (رضي الله عنه): (قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا) (متفق عليه).

4.ورُفعَ إلى عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) قومٌ يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له : إن فيهم صائمًا، فقال: ابدؤوا به، ثم قال : أما سمعت قوله (عز وجل) : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا....} [النساء : 140].

ثالثًا – الموضوع:

لقد جاء الإسلام برسالة إلى البشر أحلَّ لهم فيها الطيبات ، وحرَّم عليهم فيها الخبائث قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف:157) وتعاطي الخمور والمخدرات والمسكرات من هذه الخبائث ، وذلك لأنه يتسبب في ضرر النفس وهلاكها، يقول تعالى:{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة 195]، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم): (لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضْرَارَ).

ولما كانت الشريعة الإسلامية هدفها الرئيس الحفاظ على مصالح العباد من المفاسد والأضرار التي تلحق بهم حرّمت كلَّ ما يذهبُ العقل أو يشوِّشُ عليه ، أو يخرجه عن وعيه وإدراكه ، فحُرِّمت الخمر والمخدرات بأنواعهما ، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:90- 92] ، فعندما سمعَ أصحابُ النبي (صلى الله عليه وسلم)  هذه الآيات كانتِ الوقفةُ الأخيرةُ مع الشهوةِ التي مالت إليها النفوسُ ، وامتثلوا (رضي الله عنهم وأرضاهم ) لأمر الله(عز وجل)  في الحال، فأريقتِ الخمورُ حتى جرت في سككِ المدينةِ ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ(رضي الله عنه): ( قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا)(متفق عليه) ، وهذا الموقف يدل على سرعة الانقياد والامتثال لأمر الله تعالى.

ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن هذا الزمان الذي تكثر فيه أنواع المسكرات تحت مسميات مختلفة، لدرجة تجعل بعض شاربي الخمر يدعي أنه لا يشرب الخمر التي حرّمها الله (عز وجل) ، عن أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ( لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا»، لهذا وضع الإسلام وصفًا عامًا للخمر ينطبق على أي نوعٍ من الأنواع المعروفة أو التي تُستحدث من المسكرات، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أن رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)، وعند مسلم أيضًا من حديث ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِى الآخِرَةِ )، كما أخرج أبو داود والترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ )، فمن هنا نعلم أن اسم الخمر شامل لكل ما يُسكر جنسه مهما أحدث الناس له من أسماء، وسواءً أكان مائعًا أم جامدًا، طالما توافر فيه المعنى المحرم وهو الإسكار، وإنما اعتبر إسكار الجنس دون القدر،لأن الأمر لا يتعلق بقدر معين ولا بشارب معين، بل ما أسكر جنسه أيَّ شاربٍ فهو حرام كما دلت الأحاديث الشريفة المذكورة وغيرها.

فالخمر حرمها الله (عز وجل)  فهي حرام إلى يوم القيامة ، بل إن اللعنة تصل إلى كل من امتدت يده لها من قريب أو بعيد، فعن ابْنَ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ)(أخرجه أبو داود )، ولِمَ لا ؟! ولحظة تعاطي الخمر والمخدرات هي لحظة سقوط الإيمان من قلب المؤمن، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (متفق عليه) ، فكيف به إن مات وهو على هذا الحال؟! أهُناك خاتمةٌ أسوأ من ذلك والعياذ بالله؟!

ويلتحق بتحريم الخمر المخدرات بجميع أنواعها ومسمياتها، وكل مايؤثر على النشاط الذهني والحالة النفسية لمتعاطيها، وكل ما يتداوله المتعاطون ممّا يغيب العقل أو يفتِّر الجسم فهو حرامٌ، يستوي في ذلك كل ما يدخل الجسم بأي طريقة كانت: بشربٍ أو شَمٍّ أو حَقْنٍ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ)، فالمخدرات داء عضال يفتك بشباب مجتمعنا فيجعلهم جثثًا هامدةً، وعقولًا خاوية، وقلوبًا فارغةً في الوقت الذي نحتاج فيه إلى رجال يلبون نداء الوطن دفاعًا عن الأرض والعرض، ويكونون لبنة أساسية في تنمية الوطن.

ولما كان للخمر والمخدرات تأثير على عقل الإنسان نهى الله شاربها عن القرب من العبادة وخاصة الصلاة ، فقال (عز وجل): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].

جدير بالذكر أنه قد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك خطر الخمر والمخدرات وأضرارهما الصحية والنفسية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، فهما مفتاح كل شر ، كما ورد في وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) حيث قَالَ:(... وَلَا تَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ...) (رواه البخاري في الأدب المفرد ) ، وعن ‏ ‏أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏عثمان)رضي الله عنه) يقول: ‏(  اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلاَ قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ : أَنَا أَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا ، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلاَمٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ ، فَقَالَتْ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعْوَتُكَ لِلشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ دَعْوَتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ كَأْسًا أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلاَمَ ، قَالَ : فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا ، فَقَالَ : زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ‏) ، فالمدمن - نظرًا لغياب عقله- قد يرتكب آثامًا خطيرة، كالقتل، أو السرقة، أوالتخريب، أو التدمير، ولذا سعى أعداؤنا لإفساد شبابنا عن طريق الإدمان والمخدرات، وتيسير الحصول عليهما بأثمان بخسة.

فالإدمان لا يقف أثره عند الفرد وحده، بل يتعدى هذا الوباء إلى المجتمع، فتتفشى الجريمة، ويقل الأمن والأمان، وتكثر حالات الطلاق، ويكثر الفساد، وتغيب المودة والمحبة بين الناس، وتتدنى الأخلاق ، وتتحطم القيم، ويضيع الشرف فيؤدي ذلك حتمًا إلى تفكك الأسر وخراب البيوت وانهيار المجتمعات ، كل ذلك بسبب الخمر والمسكرات .

والناظر إلى المجتمعات التي يكثر فيها الإدمان يشاهد ذلك بوضوح، فلابد من تكاتف الجهود للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة المدمرة ، ومكافحتها عن طريق التربية الحسنة في البيوت، وعن طريق المدارس ووسائل الإعلام، وعن طريق العلماء والأدباء والمفكرين بتوعية الناس بالأضرار الجسمية والنفسية والاجتماعية الناتجة عن الإدمان قال تعالى : {..وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(المائدة :2) ، ذلك أنَّ الإدمان بلاءٌ عظيم وفساد ذريع، و سلاحٌ بأيدي أعداء الإسلام لتدمير كيان الأمة وإضعاف أخلاقها ، والقضاءِ على معنويّاتها وإذلالِها، وإخضاعِها وانكسارها ، ومن ثمّ فإنه يجب على المجتمع ضرورة التوعية الإسلامية المقنعة بأضرار الخمر والمخدرات والتدخين بحيث تشمل كل فئات المجتمع، وتوضح الأضرار التي تصيب الفرد والأسرة من جراء انتشار هذه الآفات وتبين أن الإسلام لم يحرم هذه الخبائث إلا لما تحمله من ضرر محض، فعن وَائِلٍ الْحَضْرَمِىِّ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِىَّ (رضي الله عنه)سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَا أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: ( إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ )، وقال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

إن واجب الأسرة أن تحافظ على عقول أبنائها من خطر الخمر والمخدرات والسموم البيضاء، حتى نعالج المجتمع من الإدمان وينتشر الأمان، ويسود السلام، ويكون الوئام يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(التحريم :6).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه) (أخرجه البخاري)، فينبغي تضافر الجهود فتقوم الدول الحكومات بكل ما من شأنه أن يجنب شبابنا مخاطر الإدمان والمخدرات.

ويجب على المجتمع بأسره أن يقف في وجوه تجار المخدرات والمهربين والمروجين والمتاجرين بالمسكرات، ويساعد الحكومات في القضاء على هذه الظاهرة التي تهدد مجتمعنا في أعز ما يملك - وهم شبابنا وأبناؤنا - وأن تشدد العقوبة الرادعة على من يعبثون بعقول شبابنا، حتى يستقر المجتمع وينعم بالأمن والصحة، فقد رُفعَ إلى عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) قومٌ يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له : إن فيهم صائمًا فقال ابدؤوا به ثم قال : أما سمعت قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِها ..}الآية  (النساء : 140 ). (فتاوى ابن تيمية).

فالمسلم الذي يسير على الإيمان والهدى، ويتجنب كل ما يذهب العقل من خمر أو مسكر امتثالاً لأمر الله (عز وجل ) ينفع نفسه وينفع مجتمعه ، وينال الثواب ، فعن أنس (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  قال:" قال الله (عز وجل) : (مَنْ تركَ الخمرَ وهو يقْدِرُ عليهِ لَأَسْقِيَنَّهُ منه في حَظِيرَةِ القُدسِ، ومَنْ تركَ الحَرِيرَ وهو يقدرُ عليه لأَكْسُوَنَّهُ إياه في حظيرةِ القدسِ).

إن ترك الخمر والمخدرات لو لم يكن واجبًا شرعيًا لاعتبره العقلاء من مكارم الأخلاق، فهو يتماشى مع الفطرة السليمة، ولهذا نجد سيدنا أبا بكر (رضي الله عنه) ينأى بنفسه عن ذلك كله، حتى في الجاهلية قبل أن يعرف الإسلام، فعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ( رضي الله عنه) فِي مَجْمَعٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): هَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ، قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَصُونُ عِرْضِي وَأَحْفَظُ مُرُوءَتِي، لِأَنَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ كَانَ لِعِرْضِهِ وَمُرُوءَتِهِ مُضَيِّعًا ) (معرفة الصحابة لأبي نعيم ).

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

فضل يوم الجمعة وآدابه

أولاَ : العناصر:

1- يوم الجمعة عيد للمسلمين. 

2-  التحذير من ترك صلاة الجمعة .

3- من آداب يوم الجمعة.        

4- ما يستحب فعله يوم الجمعة.

ثانياَ : الأدلة  .

         الأدلة من القرآن

1-         يقول الله تعالى: ( يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9]. 

2-         ويقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31].

3-         وقال تعالى : {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] .

         الأدلة من السنة:

1-   عَنْ أبي هُِرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) (أخرجه أحمد ومسلم).

2-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ وَأَضَلَّ النَّاسَ عَنْهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هُوَ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ ) (رواه الإمام أحمد في المسند).

3-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا ، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. (متفق عليه).

4-   وعن أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا ) قَالَتْ : بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)جَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَاسْتَأْذَنَ أَحَدُهُمْ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( تَدْرِينَ عَلَى مَا حَسَدُونَا ) . قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ :( فَإِنَّهُمُ حَسَدُونَا عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِى هُدِينَا لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى الْجُمُعَةِ الَّتِى هُدِينَا لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ ) ( السنن الكبرى للبيهقي).

5-       وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) (رواه مسلم).

6-   وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، إِلاَّ وَقَاهُ الله فِتْنَةَ الْقَبْرِ).(أخرجه أحمد  والترمِذي).

7-   وعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَغَسَّلَ ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا). (رواه الترمذي).

8-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ ).(أخرجه أحمد ومسلم).

9-   عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنهما) قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْجُمُعَاتِ ، أَوْ لَيُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ ) (صحيح ابن خزيمة).

 ثالثاَ : الموضوع:

فمما لاشك فيه أن يوم الجمعة هو خير الأيام وسيدها ، ويكفيه شرفاً وفخراً أن الله تبارك وتعالى اختصه بالذكر والثناء في كتابه الكريم فقال عز من قائل :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[سورة الجمعة : 9] ، وعَنْ أبي هُِرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) (أخرجه مسلم ).

ويوم الجمعة هو منحة الله تعالى وهبته لهذه الأمة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالاَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ ، وَالسَّبْتَ ، والأَحَدَ ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلاَئِقِ) ( أخرجه مُسْلم) .

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) في قوله عز وجل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قال : "يتجلى لهم في كل جمعة". 

ومن هنا فقد شدد النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)على من يتهاون في ترك صلاة الجمعة دونما سبب أو عذر مشروع ، فعن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( رضي الله عنهما ) قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (صحيح ابن خزيمة).

وليوم الجمعة فضائل كثيرة منها: 

 * أنه أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام، فهو عيد لنا،  وهو اليوم الذي خلق الله فيه آدم، وفيه أدخله الله الجنة، وفيه أخرجه الله منها، وفيه تقوم الساعة.

هذا يوم الجمعة  الذي هدانا الله إليه - نحن أمة الإسلام وأضل عنه الأمم من قبلنا ، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ وَأَضَلَّ النَّاسَ عَنْهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هُوَ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ ) (رواه الإمام أحمد في المسند).

* ومنها : أن فيه ساعة تفتح فيها أبواب السماء فيستجاب الدعاء ويقبل الرجاء ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ :( فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا ، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا) (متفق عليه).

          فالناسُ لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد ، كما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا شك في أن يوم الجمعة هو العيد الأسبوعي للمسلمين، قال ابن القيم: وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا.

          وعن أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي اللَّهُ عَنْهَا ) قَالَتْ : بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  جَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَاسْتَأْذَنَ أَحَدُهُمْ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( تَدْرِينَ عَلَى مَا حَسَدُونَا ). قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ :( فَإِنَّهُمُ حَسَدُونَا عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِى هُدِينَا لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى الْجُمُعَةِ الَّتِى هُدِينَا لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ ) ( السنن الكبرى للبيهقي).

* ومنها : أن يوم الجمعة سبب في تكفير السيئات ورفع الدرجات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ). (أخرجه مسلم).

قال العلماء معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها .ولما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم)  عن الكفارات قال :( الْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ خِلاَفَ الصَّلَوَاتِ ، وَإِبْلاَغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ ، قَالَ : مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه). (المسند الجامع)، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ( رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، إِلاَّ وَقَاهُ الله فِتْنَةَ الْقَبْرِ) (أخرجه أحمد  والترمِذي).

* ولقد شرع الله لنا يوم الجمعة نحن المسلمين ليكون عيدًا أسبوعيًّا، ومؤتمرًا دوريًّا ربانيًّا، يلتقي فيه الناس على طاعة الله، على كلمة التقوى، على ذكر الله عزَّ وجلَّ، كُره فيه الصيام، فلا ينبغي الصيام في يوم العيد، فهو أشبه بالعيد السنوي، ولهذا كان الصيام في يوم العيد حرامًا، وفي يوم الجمعة مكروهًا. ومعنى الصيام هنا صيام التطوُّع، مَن أراد أن يتطوَّع بالصيام في يوم الجمعة فذلك مكروه، ولكن إذا أراد أن يقضي ما فات عليه، أو صادف يومًا من الأيام التي يُسنُّ فيها الصيام، كأن صادف يوم عرفة، أو يوم عاشوراء، أو صام يومًا قبله ويومًا بعده، فلا حرج عليه.

*ولهذا جمَّله الله بهذه الصلاة الأسبوعية، صلاة الجمعة التي فرضها الله في هذا اليوم، وجعلها بدل صلاة الظهر، فإذا نُودي إليها لم يَسَع مسلمًا أن يتخلَّف عنها، فرضها على الرجال دون النساء، وعلى المقيمين دون المسافرين، وعلى الأصحَّاء دون المرضى، ولكن إذا صلَّى المسافر الجمعة، أو صلَّت المرأة الجمعة، فلا حرج عليها، وقد كان النساء يذهبن إلى مسجد النبيَّ (صلى الله عليه وسلم)   في صلاة الجمعة، وفي الصلوات الخمس ، يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9].

* فينبغي أن تتعطَّل أعمال الدنيا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، يَدَع البائع بيعه ، ويَدَع المشتري شرائه، ويَدَع المستأجر إجارته، ويَدَع العامل عمله، يَدَعُون هؤلاء أعمالهم، ويذهبون إلى صلاة الجمعة، إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ، إلى هذه الجماعة التي أوجبها الله تعالى في كلِّ أسبوع.

*وإذا كان الإسلام دين الجماعة، وليس دينًا فرديًّا، لا يحب للمسلم أن يعيش وحده، ( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) (المستدرك للحاكم (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا) (صحيح البخاري). و (يد الله على الجماعة ) (المستدرك للحاكم) ، فإنه حثَّ على صلاة الجماعة كلَّ يوم خمس مرات، فصلاة الجماعة سنَّة مؤكَّدة، بل واجبة في مذهب الإمام أحمد. فهو يرى أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال إلا من عذر، فمَن لا عذر له لا ينبغي أن يصلِّي وحده ، فإن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) همَّ أن يحرِّق على قوم بيوتهم؛ لأنهم يتخلَّفوا عن صلاة الجماعة (صحيح مسلم) ولم يُجِز لرجلٍ أعمى شاسع الدَّار أن يصلي في بيته ما دام يسمع النداء، قال له: لا أجد لك رخصة ( سنن أبي داود (.

وذلك ليجتمع المسلمون كلَّ يوم على هذه الصلوات، فتقوى صلاتهم، وتتوثَّق  رابطتهم، وتشتدُّ علائق أخوَّتهم، يسأل بعضهم عن بعض، فإذا غاب أحدهم عن الجماعة سألوا عنه، فإذا كان مريضًا عادوه، وإن كان مشغولاً أعانوه، وإن كان ناسيًا ذكَّروه، وهكذا كان المجتمع المسلم.

* ثم يأتي الشرع الإسلامي ليوجب صلاة الجمعة في كلِّ أسبوع، صلاة الجماعة في مسجد الحيِّ، وصلاة الجمعة في المسجد الجامع، وهو تجمُّع أكبر، وهو تجمُّع واجب، وتجمُّع مفروض، يخرج المسلم من بيته، أو من متجره، أو من أيِّ مكان هو فيه، إذا سمع النداء، ليجيب نداء الله، ويؤدِّي فرض الله، ويلتقي مع أخيه على طاعة الله، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة:9).

إنه سعي إلى ذكر الله؛ لأنَّ صلاة الجمعة عبادة لله، وخطبة الجمعة خطبة لذكر الله، ليست لذكر فلان ولا علان، قد يخطب الخطيب في قضايا الناس، ويتحدَّث عن مشكلات الناس، ويجيب عن تساؤلات الناس، ولكن تظلُّ الخطبة لإقامة ذكر الله، يتخلَّلها ذكر الله، والتذكير بالله، وبأسماء الله، وبلقاء الله، وبحساب الله، وبدين الله، وبفرائض الله، وبحرمات الله. هي ذكر لله؛ ولذلك تبدأ بالحمد الله، وبالشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وبالحث على تقوى الله.

 * ومن حقوق وواجبات هذا اليوم العظيم علينا – يوم الجمعة – التبكير إلى الصلاة وإتيان المسجد قبل الأذان، وهذه سنة مهجورة، هجرها الكثير من الناس مع أنها من أجل القربات وأنفس الطاعات ، يقول (صلى الله عليه وسلم)   كما في الصحيحين: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) (متفق عليه) .

وفي الحديث الصحيح يقول (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَغَسَّلَ ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا) (رواه الترمذي).

 

*     *     *

 

 

فهرس الموضوعات

 

حرمة المساجد والحفاظ على قدسيتها

أولاَ : العناصر:

1-         مكانة المسجد ومنزلته في الإسلام.

2-         فضل بناء المساجد وعمارتها.

3-         علاقة المسلم بالمسجد.

4-         الحفاظ على قدسية المساجد وحرمة الاعتداء عليها.

5-         من آداب المساجد كراهة رفع الأصوات فيها.

6-         الحفاظ على مكانة العلماء وتوقيرهم.

 

ثانياَ : الأدلة:

         الأدلة من القرآن:

1-         قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18].

2-    وقال تعالى:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].

3-    وقال تعالى:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[ النور:36-37].

4-         وقال تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31].

5-    وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114].

الأدلة من السنة :

1- عَنْ أَبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( أَحَبُّ البِلادِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأبْغَضُ البِلاَدِ إلَى اللهِ أسْوَاقُهَا) (رواه مسلم).

2- 2- وعَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه)  قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ)(رواه مسلم).

3- 3- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه)  قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ ) ( رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَالْبَزَّارُ،  وَقَالَ الهيثمي: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرِجَالُ الْبَزَّارِ كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد).

4- 4- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  عَنِ النَّبِيٍّ (صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ في الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ) (متفق عليه).

5- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)  أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ )(متفق عليه).

6-  وعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ (رضي الله عنه)  قَالَ : ( كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ - أي رماني بالحصباء ، وهي الحصى الصغار- فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ : مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا : مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  ( رواه البخاري).

      ثالثاَ : الموضوع:

فإن للمساجد مكانة عظيمة وأهمية بالغة عند المسلمين ، فهي بيوت الله عز وجل في أرضه، أمر الله تعالى برفعها وتشييدها وتعظيم قدرها ؛ لعبادته وذكره ، وتلاوة كتابه ، وأداء رسالة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، ونشر تعاليمه وتبليغ منهجه ، فقال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36-37] ، ثم كرَّمها الله - سبحانه - بأن أضافها إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف ، فقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [ الجن:18] .

وفي الحديث القدسي عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  قال فيما يرويه عن ربه  :( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، وحق على المزور أن يكرم زائره) (رواه أبو نعيم).

فزائر المسجد هو ضيف الله ، والضيف إذا نزل بساحة الكرماء، ومنازل العظماء نال من جودهم وفضلهم، فكيف بضيف نزل بأكرم الأكرمين، وحلَّ ببيت رب العالمين ؟ فحق على المزور أن يكرم زائره ، ما أن يدخل بيته حتى يوكل به ملك يقول: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه ما دام في مجلسه الذي صلى فيه حتى يخرج من المسجد، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال : (صَلَاةُ الْجَمِيعِ – الْجَمَاعَةِ – تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ).

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيٍّ (صلى الله عليه وسلم)  قال : ( مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ في الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ) (متفق عليه) . فأيّ رفعة أعظم من هذه الرفعة؟ وأي قدر أرفع من هذا القدر؟

وكذلك كرَّمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأخبر بأنها أفضل البقاع في الأرض ، وأحب البقاع إلى الله سبحانه ، ففي صحيح مسلم من حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : ( أَحَبُّ البِلادِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأبْغَضُ البِلاَدِ إلَى اللهِ أسْوَاقُهَا) ، وذلك لأنها تؤدي دوراً من أهم الأدوار، وهو الاتصال بين الأرض والسماء ، بين العبد وربه ، فهي البقعة الطاهرة التي تهفو إليها النفوس ، وتسكن إليها القلوب ، يخلو فيها المسلم مع خالقه ، فيبكي على خطيئته ، ويجدد توبته ، يأوي إليها منقطعاً عن صخب الحياة المادية، متحرراً من قيود الهموم الدنيوية، فيجد فيها مَراتِعَ من رياض الجنة ، ويتعرض لنفحات الله - عزَّ وجل-، وأما كون الأسواق أبغض البقاع فلِأَنَّهَا مظنة الْغِشّ وَالْخِدَاع وَالْأَيْمَان الْكَاذِبَة وَإِخْلَاف الْوَعْد وَالْإِعْرَاض عَنْ ذِكْر اللَّه ، وَغَيْر ذَلِكَ مما في معناه .

          ومما يدل على مكانة المساجد وعظم منزلتها عند الله ، أنه - سبحانه وتعالى- هو الذي رغَّب في بنائها وعمارتها، فقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:18]، فبِناء المساجد من أعظم القُرَب لمن أخلص لله عز وجل ؛ وكذلك رغَّب النبي (صلى الله عليه وسلم)  في بنائها وحثَّ على عمارتها، وأمَرَ بتطهِيرِها وتنظيفِها ، وتنزيهِهَا وتطيِيبِها ، ففي الصحيحين عَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  يَقُولُ : ( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ).

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أمَرَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  ببناء المساجِدِ      في الدور- يعني: في القبائل- وأن تُنَظَّف وتُطَيَّب.( أخرجه أحمد وأبو داود).

ولأهمية ومكانة وقدسية المساجد في الإسلام كان أول عمل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)  بالمدينة المنورة هو بناء المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساسية في تكوين المجتمع المسلم ، فهو المدرسة التربوية الكبرى التي تتربى فيها الأمة، كبيرها وصغيرها.

وما دام رب العالمين قد رفع شأن المساجد وأعلى ذكرها ، وكذلك رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم)  فلا بد لنا أن نحترمها، ونرفع قدرها ، وأن نتحلى بآدابها ، ورعاية حرمتها، والحفاظ على قدسيتها ؛ لنكون عباداً خاضعين خاشعين لربّ العالمين، عاملين بسنة خير المرسلين (صلى الله عليه وسلم)  ، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ )رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  يَقُولُ:( الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ )( رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ).

إن علاقة المسلم بالمسجد علاقة تعظيم وتوقير وإجلال، وعلاقة عبادة وخشوع ، ويظهر ذلك التوقير في سلوكه ، وملبسه ، ومراعاته قدسية المكان ، يتجلى ذلك في قوله تعالى : (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31].

فالمساجد إنما جعلت للذكر والطاعة ، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال في شأنها : (... إِنَّمَا هي لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)( رواه مسلم).

ففيها تؤدى الصلوات جماعة وفرادى، وفيها يدعو المسلم ربه وحده ، ويقرأ القرآن بتدبر وخشوع ، والاجتماع لحفظه ومدارسته ، وإضافتها إلى الله تعالى تقتضي شرفها وتميزها عن بقية البقاع ، وذلك ما يوجب احترامها.

ولهذه الأهمية العظيمة أُمِرْنا بمراعاة حرمتها ، والمحافظة عليها من كل مالا يتناسب مع ما بُنيت له ، قال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114].. لذلك نهى النبي (صلى الله عليه وسلم)  عن البيع والشراء في المسجد ، أو إنشاد الضالة ، أو عن إيذاء المصلين والملائكة برائحة كريهة كأكل ثوم أو بصل أو كراث أو نحوها ، أو أن يستهان بالمسجد أو يُعبث فيه ، وغير ذلك من الآداب التي يجب مراعاتها.

ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها : عدم رفع الصوت حتى بالقراءة والذكر، لأن المصلي يحتاج إلى التدبر والخشوع، والقارئ يشغله برفع صوته؛ لهذا نهى الرسول (صلى الله عليه وسلم)  عن رفع الصوت فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ )رضي الله عنه) قَالَ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  في الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ : ( أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْقِرَاءَةِ ) أَوْ قَالَ:( في الصَّلاَةِ) (أخرجه أبو داوود).

وعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ (رضي الله عنه) قَالَ: ( كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ - أي رماني بالحصباء ، وهي الحصى الصغار- فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ : مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا : مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ ، قَالَ : لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ( رواه البخاري).

ومن ثم فإنه يجب عدم رفع الصوت في المساجد ،  والإنصات للخطبة يوم الجمعة؛ لحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : ( إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ )(متفق عليه).

لكن ما نراه اليوم من مخالفة كثير من الناس لهذه الأهداف العالية والتي من أجلها بنيت المساجد لأمر يحزن القلوب، حيث نرى ونسمع ارتفاع الأصوات والتشويش على المصلين ، وهذا مخالف لتعاليم الإسلام، لا عذر لفاعله أمام الله عز وجل ، لأنه بذلك يعطل أداء شعائر الله، فيكون من الظالمين الذين توعدهم الله - عز وجل- بالعقاب الأليم ، فقال تعالى :{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[البقرة:114].

فعلى المسلمين أن يراعوا حرمة بيوت الله عز وجل ، وعدم رفع الصوت فيها، وتجنيب المساجد الصراعات الحزبية والسياسية التي تؤدي إلى التفرقة.  

ولا يجوز شرعاً امتهان وتشويه وازدراء علماء الإسلام ، وعدم احترامهم وتوقيرهم ، فهم ورثة الأنبياء ، وهم هداة هذه الأمة الذين ينيرون لها الطريق ، ويعلمون الناس الخير.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

نعمة الأمن والاستقرار

    أولاَ : العناصر:

1-  الحفاظ على النفس والمال والعرض في الإسلام.

2-  الأمن الاجتماعي.

3-  الأمن النفسي.

4-  دورنا في الحفاظ على أمن الفرد والمجتمع.

     ثانياً : الأدلة :

            الأدلة من القرآن :

1- قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18].

2- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11].

3- وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[البقرة: 126] .

4- وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

5- وقال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

6- وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]0

7- وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}[سبأ: 18].

8- وقال تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] .

 

الأدلة من السنة :

1-  عن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وترضى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ ) (رواه الترمذي ، وابن حبان في صحيحه).

2-  وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: (مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا ) (سنن ابن ماجه ).

3-  وعن أبي حرة الرقاشي عن عمه ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيب ِنَفْسٍ مِنْه)(مجمع الزوائد).

4-   وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ( مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ) (رواه الترمذي).    

5-  وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه ) قَالَ: مَا خَطَبَنَا النَّبِيُّ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَّا قَالَ: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ) (رواه الإمام أحمد ).

ثالثاَ : الموضوع :

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بقدرته ، ورباهم بحكمته ، وأنعم عليهم بنعم كثيرة وعظيمة لا تعد ولا تحصى ، فقال تعالى :{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18].

وقد أمر الله تعالى عباده جميعاً أن يذكروا نِعمَهُ عليهم ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] ، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] .
ومن أعظم نعمِ الله تعالى التي يجب أن نذكُرَها ونُذكِّرَ بها : نعمةَ الأمن والاستقرار، فهي من أجلِّ نعم الله تعالى على الإنسان ؛ فبدونها لا يهدأ بال ، ولا تطمئن نفسٌ ، ولا يهنأ إنسان بالحياة حتى لو أوتى الدنيا بحذافيرها. فالأمن للإنسان أهم من طعامه وشرابه، فقد يجوع ويعطش فيصبر، ولكنه يخاف فلا يكاد يهنأ براحة بال ولا يهدأ له حال .

ومن ثمَّ فإن الأمن نعمةٌ عظيمة ، لا يعرف قدرها إلا من فقدها ، وهو مطلب الناس أجمعين، تلك النعمة طلبها إبراهيمُ عليه السلام لأهلِهِ وقومِهِ، قالَ اللهُ تعالَى حكايةً عنْهُ: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة: 126].

فإبراهيمُ عليه السلام سأل الله -عز وجل- أن يمُنَّ على مكة بالأمن والرزق ، وقدَّم الأمن على الرزق، لأن الرزق لا يكون له طعم ولا يستطيع المرء البحث عنه إذا فُقد الأمن ، فبالأمن يهنأ الإنسان ويشعر بلذة الطعام والشراب ، فاستجاب الله لدعاء نبيه وخليله، وجعل من مكة مستقراً وبلداً آمناً بإرادته ومشيئته، وجعلها وطناً للإسلام بعد اختياره للمصطفى ( صلى الله عليه وسلم) نبياً عربياً، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام.

وموسى عليه السلام لما ألقى العصا – كما أمرَه ربُه جل وعلا – ورأى أنها قد انقلبتْ إلى حيةٍ تسعى، ولَّى مدبراً ولم يلتفتْ من شدة الخوف، فهو أحوج ما يكون في مثل هذه الحالة إلى الأمن، فأعلمه ربه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه ، وتسكن نفسه ، ناداه ربُه قائلاً:{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ}                                                                                       [القصص:31]

كمَا امتَنَّ اللهُ جلَّ جلالُهُ علَى أهْلِ قُريشٍ، فحبَاهُمْ برَغَدِ العيشِ فِي الحياةِ، والأمْنِ فِي الأوطانِ، قالَ تعالَى عنْهُمْ:{ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] .

ومما يدل على أهمية هذه النعمة ما رواه الترمذي وغيره من حديث ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وترضى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ ) (رواه الترمذي ، وابن حبان في صحيحه).

فالأمن نعمةٌ، واختلاله شرٌ ونقمة، بل إن اختلاله يؤثر حتى في العبادات – وهي الهدف الأول من خلق الإنسان – ولهذا كانت صلاة الخوف مختلفة عن صلاة الأمن في صفتها وهيئتها، والحج كذلك يشترط في وجوبه على الإنسان أمن الطريق؛ فإذا كان الطريق غير آمن فلا يجب عليه الحج، فالعبادات لا يتأتى الإتيان بها على أكمل صورها إلا بنعمة الأمن والاستقـرار.
ولا يُغيِّر الله على قومٍ أمنَهم ورخاءَهم إلا حين يكفُرون بنعم الله قال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل: 112].

والمتأمل في جوهر الشريعة الإسلامية ليلحظ بوضوح أنها قد جاءت لتحقيق مصالح العباد بالأمن والاستقرار، فحفظت للناس- كافة – حقوقهم في دينهم ، وأنفسهم ، وعقولهم، وأموالهم ، وأعراضهم ، وجعلت الحفاظ على هذه الضروريات من أهم مقاصدها التي لا تستقيم الحياة إلا بها، لأن الإنسان يحتاج في حياته إلى الأمن على نفسه ودينه وعرضه وماله.

ومن ثمَّ فقد حرم الإسلام الاعتداء على الكليات الخمس ، واعتبر مرتكبها فاسقاً ما لم يحدث توبة ، ومنها: حرمة النفس: فقد نهى الشارع الحكيم عن قتل النفس لما لها من حرمة عند الله عز وجل ، فقال تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33 ] ، ثم جعل عز وجل قتل نفس واحدة بمثابة قتل للناس جميعاً ، فقال تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة :32 ].

والأمر لا يقف – هنا- عند حد القتل المادي فقط، بل يشمل أيضًا القتل المعنوي في شتَّى صوره وأشكاله، سواء كان ذلك بالإذلال أو القهر أو التعذيب أو سلب الحرية ، أو بغير ذلك من الصور، فحرمة النفس المؤمنة أعظم عند الله من حرمة الكعبة؛ كما جاء في قول النَّبِـي (صلى الله عليه وسلم) مخاطبًا الكعبة: (مَا أَطْيَبَكِ! وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلا خَيْرًا ) (رواه ابن ماجة).

كذلك نهى الشارع عن أكل أموال الناس بالباطل لحرمتها ، فقد أمَّنَ الإسلام مال المسلم، فمنع المسلم من أكل الحرام، ومنعه من المكاسب الخبيثة المحرمة التي لا تتفق مع الشرع ، وأمَّنَهُ من التعدي عليه فأوجب قطع يد السارق؛ حفاظًا على المال من الضياع ، وحذر الأمة من أن يأكل بعضهم مال بعض، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}[النساء:29] وحرم التعدي عليه ظلمًا وعدونًا، قال (صلى الله عليه وسلم):  (لا يَحْلُ مَالُ امرئ مُسْلِمٍ إلا بِطِيب نَفْسٍ مِنْه ) (مجمع الزوائد).

وكذلك حفظ الشارع للعرض حرمته فأوجب صيانته ، وتوعد المخالف باللعنة ، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النور:23]، كذلك نهى الشارع عن الاقتراب من الفاحشة فقال تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } [الإسراء :32] ، وعلى ذلك فإن وقعت هذه الجريمة النكراء كان الحدّ  وكانت العقوبة كما يصورها قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].

وبعد أن أمر الإسلام بحفظ الحرمات من النفس والمال والعرض أكد كذلك على الأمن الاجتماعي ، فأمَّنَ الإسلام المجتمع من الفوضى والاضطرابات والنزاعات والشقاق ، فأوجب طاعة ولاة الأمور في طاعة الله فقال وهو أصدق القائلين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء59] ، فبالولاة يقيم الله العدل في الأرض، وبالولاة ينتصف للمظلوم من ظالمه، وبالولاة تحقن الدماء، وتُصان الأعراض ويُقام شرع الله.

وأمَّنَ الأعراض فحَرَّمَ على المسلم أن يغتاب أخاه أو يسعى بالنميمة أو يسخر من أخيه أو يستهزئ به أو يلمزه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات11].

وأمَّنَ المجتمع من إشاعة الفاحشة، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ، وقال تعالى:{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب60].

وقد شرع الله  تعالى  القصاص والحدود والعقوبات الشرعية زواجر ليُؤَمِّنَ الناسَ على دمائهم وأعرضهم وأموالهم ، وإلا سُلبت نعمة الأمن – والعياذُ بالله- وفشا الجهل، وشاع الظلم، وسُلبت الممتلكات، وأكل القوي الضعيف، وعمت الفوضى ، وتعطلت المصالح ، وكثر الهرج .

إن الأمن لا يتحقق في حياة الناس بمجرد أمنهم على دمائهم وأموالهم فهذا أمن ناقص ، بل إن ذلك لن يتحقق إلا بشعور الإنسان بالأمن الداخلي في نفسه، وقلبه وتفكيره، وإحساسه بالطمأنينة والسكينة، وبعده عن أسباب الخوف والقلق والانزعاج. وهذا لا يتأتى إلا إذا أمن العبد على دينه فلم يفتن فيه، وأمن على نفسه من الظلم والاعتداء، وأمن على عرضه وعقله وماله، وكل هذا لا يطمح في الحصول عليه إلا في ظل الدين الذي أكمله الله عز وجل للأمة، ورضيه لها ديناً ، ألا وهو دين الإسلام العظيم، الذي شرع الله عز وجل فيه من العقائد والأحكام ما إذا أخذ العبد بها، فإنه يحصل على الأمن والأمان، والسكينة والاطمئنان.

فمِنْ أهمِّ عواملِ الأمن والاستقرارِ الإيمانُ باللهِ تعالَى واجتنابُ نواهيِهِ، كما قالَ سبحانَهُ: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82] ، فمَنْ حقَّقَ الإيمانَ، واجتنَبَ العِصيانَ، وهبَهُ اللهُ تعالَى الأمنَ ورزقَهُ الأمانَ ، بل إن سعادة الدنيا ونعيمها في تحقيق الأمن ، قال ( صلى الله عليه وسلم) :  ( مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ) (رواه الترمذي).

إن الأمن والاستقرار ليس مسئولية الحاكم وحده ، ولا مسئولية العالِمِ وحده، بل مسئولية الجميع، فعلى كل إنسان القيامُ بمسؤوليَّته وواجبه في المحافظة على هذه النِّعمة ؛ فالأمنُ نعمةٌ للجميع، تاجرًا، ومُعلِّمًا، ومُفكِّرًا، وإعلاميًّا، وغيرهم من جميع أطياف الوطن.

وحري بالمسلم أن يحافظ على هذه النعمة ، ويشكر الله تعالى عليها ؛ لأن الحياة لا تُطاق بدونها ، فالنعم تثبت بالشكر وتذهب بالجحود ، قال تعالى في ذلك: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[إبراهيم: 7].

فإذا شاع الأمن في أمة ، واطمأن كل فرد فيها على نفسه وماله وعرضه نَعِمَ المجتمع بحياة هادئة مستقرة ، لا رعب فيها ، ولا اضطراب ، ولا قلق ، ونَعِمَ المجتمع كذلك بالتقدم والازدهار حيث إنه لا تروج تجارة ، ولا تنتج صناعة ، ولا تربو  زراعة إلا في مثل هذا الجو الآمن الصافي ، بل ونَعِمَ المجتمع بعلاقات طيبة مع جيرانه من الدول الأخرى إذ لا اعتداء ، ولا خيانة  ولا نقض لعهد.

هذا هو دين الإسلام الداعي لكل أمن وأمان واستقرار ، النابذ لكل عدوان وإرهاب ، ففي الحديث الشريف يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) : (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ )  (رواه الإمام أحمد ). 

فالإيمان مصدر الأمان ، وصدق الشاعر حين قال :

إذا الإيمـــــان ضــــــاع فلا أمــــــان                 ولا دنيـــــــا لمـــــن لم يحي دينــــــا

ومن رضي الحيـــــــاة بغـــــــير دين                 فقــــد جــعـــل الفنـــاء لهــا قــرينـــا

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

العلم والعقل

        أولاً : العناصر:

1-     منزلة العلم والعلماء في الإسلام.

2-     دعوة الإسلام إلى التفكُّرِ وإعمال العقل والإبداع والابتكار.

3-     العلم والأخلاق.

4-     أدب طالب العلم .

5-     طلاب العلم يبنون ولا يهدمون.

6-     خطورة الفتوى بدون علم .

7-     العلم الذي نريده.

     ثانيًا : الأدلة:

           الأدلة من القرآن :

1-     قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

2-    وقال تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

3-   وقال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران 190 - 191].

4-   وقال تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

5-   وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].

6-     وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [الروم: 22].

7-    وقال تعالى :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[ العلق 1 – 5 ].

8-  وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } [البقرة: 170].

9-   وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[المائدة: 104]

10-   وقال تعالى في قصة موسى ( عليه السلام ) مع العبد الصالح في شأن طلب العلم : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66]

الأدلة من السنة : 

1- عن أبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه)  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر ) ( سنن أبي داود).

2- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ ) (سنن ابن ماجه).

3- وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ) (رواه الحاكم في المستدرك)

4- وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ )، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ ) (سنن الترمذي).

5- وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ( رضي الله عنهما ) قَالَ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ ( رضي الله عنها ): يَا ابْنَ أُخْتِى بَلَغَنِى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَارٌّ بِنَا إِلَى الْحَجِّ فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عِلْمًا كَثِيرًا - قَالَ - فَلَقِيتُهُ فَسَاءَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)قَالَ عُرْوَةُ : فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)  قَالَ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ ) (صحيح مسلم)

6- وعن أَبي كَبْشَةَ الأَنْمَارِىِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِى مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِى مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) (سنن الترمذي).

ثالثًا: الموضوع :

مما لا شك فيه أن العلم له مكانة عالية في الإسلام ؛ لأنه حياة القلوب ونور الأبصار، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله (عز وجل)، وبه يعبد ، وبه يوحد ، وبه يُمَجَّد وبه توصل الأرحام ، وبه ترفع الأمم أعلى الدرجات ، فالإسلام دين العلم ، لا يُعرَفُ دينٌ مثلُه أشاد بالعلم وحثَّ عليه ، ورغب في طلبه ، ونوَّه بمكانة أهله ، وأعلى من قدرهم ، وبين فضل العلم وأثره في الدنيا والآخرة ، وحضَّ على التعلم والتعليم ، وحسبنا أن أول آيات نزلت من الوحي على قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشارت إلى فضل العلم ، حيث أمرت بالقراءة وهي مفتاح العلم ، ونوهت بالقلم وهو أداة نقل العلم ، وذلك في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلمْ}                                                                                                      [العلق:1- 5]

فهذه أول صيحة تسمو بقدر القلم، وتنوِّه بقيمة العلم، وتعلن الحرب على الأُمِّيَّة الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل إنسان عظيم أن يقرأ وأن يتعلَّم ، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مكانة العلم في الإسلام لا تدانيها مكانة ، كما قال ربنا في كتابه : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

ولقد عني الإسلام أعظم العناية بالعلم، وحث أتباعه على طلبه، والبحث والتفكير في كل ميدان من ميادين المعرفة، وكل مجال من مجالات الحياة ، والقرآن الكريم كتاب العلماء الذين أوتوا العلم، وفي هذا يقول العليم الحكيم :{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].

ولقد أوضح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكانة العلم وفضيلة طلبه في حديث يدفع كل من قرأه بتدبر إلى المسارعة في طلب العلم ، وإفناء العمر في سبيل تحصيله ، فقال: ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) ( سنن أبي داود)، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ ) (سنن ابن ماجه).

إن التعلُّم والتعليم رُوح الإسلام، لا بقاء لجوهره ولا كفالة لمستقبله إلاَّ بهما، فعن أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الأَجْرِ ) ( رواه ابن ماجه) . فطبيعة الإسلام تفرض على الأمة المسلمة أن تكون أمة متعلمة ترتفع فيها نسبة المثقفين، وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين ، فإن قيمة العلم في الإسلام كقيمة الحياة بالنسبة للإنسان.

وكذلك أعلى القرآن الكريم من شأن العلم، فعبَّر عنه بالسلطان ، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا }[غافر:35]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ }[غافر:56].

ورحم الله سيدنا عليًّا (رضي الله عنه)حين قال:( العلم خيرٌ من المال  العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق).

فالعلم ضرورة مُلِحَّة، وحاجة ماسَّة ، عليها تتوقف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان طلب العلم فريضةً ، كما روى ابن ماجة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ).

إن الإسلام قد رفع منازل العلماء وقدَّر جهودَهم ، وسما بدرجاتهم حتى قرَنَهم الحق سبحانه بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته، قال تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18]. كما أشاد الله عز وجل بمكانة العلماء ورفع من شأنهم ، وبين أنهم أكثر الناس خشية لله بما أدركوا من آثار قُدرته وعظمته، فقال تعالى بعد أن لفَت الأنظار إلى نِعمه وآياته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].

 وقال تعالى:  {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:10،11].

وللعلماء مكانة عظيمة حفظها لهم الشرع لعظم قدرهم في الأمة ، فهم ورثة الأنبياء وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ ) (سنن الترمذي).

ومن هذين الحديثين الشريفين وغيرهما تتضح مكانة العلماء ومنزلتهم ، وصدق الله العظيم حيث قال:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].

وإذا كان الإسلام دين العلم فهو أيضًا دين العقل والفكر، يدعو إلى التفكر وإعمال العقل والإبداع والابتكار، فالعقل سر التكريم والتشريف الإلهي للإنسان ، فقد ميَّزه الله به ، وبه شرفه وفضله على غيره من الكائنات ، وعلى أساسه كان التكليف لبني البشر بعبادة الله تعالى وحده ، والإيمان بما أنزل من كتب وما أرسل من رسل.

      جدير بالذكر أن حفظ العقل يعد أحد مقاصد الشريعة الإسلامية ، وذلك باعتباره واحدًا من الكليات الخمس التي اتفقت كافة الشرائع والأديان على حفظها والمحافظة عليها ، ومن ثمَّ فإن الإسلام حافظ على العقل ، وحرم الاعتداء عليه بشئ يعطله عن إدراك منافعه ، ومن ذلك – على سبيل المثال - أنه حرم شرب المسكرات وكل ما يفسد العقل ، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[المائدة :90] ولا غرابة في اهتمام القرآن الكريم بالعقل والعناية به ، لأنه هبة من الله عز وجل.

والمتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يحث على التفكير في ملكوت السموات والأرض بأساليب مختلفة ، ليؤكد على مكانة العقل والعلم ، إذ العقل آلة التفكير، والعلم ثمرته، فبالعلم يَقف الإنسان على الحقائق، وتَزول عنه غِشاوة الجهل، ويُحرَّر من رِقِّ الأوهام والخُرافات ، وبذلك كان الإسلام دينَ الفكر، ودينَ العقل، ودينَ العلم.

وقد دعانا ربنا - سبحانه وتعالى- إلى استخدام نعمة العقل في التفكر والتأمل في ظواهر الكون للوقوف على عظمته سبحانه وتعالى ووحدانيته ، قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]. وقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [الروم: 22].

والمتتبع للبيان القرآني يلاحظ باستمرار الحض على التعقل والتفكر بصيغ متعددة في صور مترادفة ، نحو {لعلكم تعقلون} أو{ أفلا تعقلون} أو {لقوم يعقلون} أو{ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أو{لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وغير ذلك في السياق القرآني ، لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل ، والدعوة إلى الإبداع والابتكار.

ولقد مدح الله سبحانه وتعالى الذين يستخدمون عقولهم في التفكير وذمَّ غيرهم حيث قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:22]. فمن تكريم الإسلام للعقل: نعيُه على المقلدين الذين لا يُعمِلون أذهانهم ، وتحذيره من التقليد الأعمى والتعصب الأصم ، فقال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]

كما رفض الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلم أن يكون إمَّعة - يعني تابعًا في الخير والشر ، أو فيما ينفع أو يضر - فعَنْ حُذَيْفَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا)  (سنن الترمذي)

كما أمرنا عز وجل باستخدام العقل وتقويته بالعلم النافع الذي يُذهِب عن صاحبه الجهل وينير له الطريق ، فالجهل داء خطير ومرض عضال، إذا أصاب العبد كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه ويُنَوِّرْ عقله بالعلم النافع كان صاحبه في عداد الهلكى والموتى الأحياء، فالجاهل طريقه مظلم ومستقبله غامض ، ولا يرجى من ورائه أمل، وقد يقرأ ويكتب ويفهم الخطاب، وربما يحسن اللغات الأجنبية الأخرى، لكنه جاهل في سلوكياته بما لا يتفق مع أخلاق الإسلام وأدب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو الجهل الذي ذمه الله تعالى في القرآن ، فقال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ؛ لذلك نجده منبوذًا في المجتمع الصالح ، عن أَبي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) (سنن الترمذي)

      من هنا يتضح لنا قيمة العلم النافع المبني على خلق قويم ، فالعلم سر نهضة الأمم ، والأخلاق مقياس تطورها وتقدمها ورفعة شأنها، والعلم وحده لا يصنع الإنسان الكامل السعيد ، إن لم يرافقه أخلاق وقيم ، وصدق الشاعر حين قال :

لا تَحْـسَبنَّ الـعِـلمَ يَـنـفعُ وَحــدَهُ               مــا لَمْ يـُـتـَـوَّجْ ربـُّــهُ بِــخَـلاق

ومن ثم فالعلم وحده لا يصنع السعادة للبشرية ، إن لم يرافقه أخلاق وقيم، ولن تقوم نهضة لأمتنا إلا بهما معًا، لتقدم كل الخير للبشرية، التي خُلقت لتعبد ربها سعد وتهنأ، وتعيش في طمأنينة.

فعندما ربطت الأمة بين العلم والأخلاق ، عاشت في عزة ورفعة بين الأمم ، وحيث كان الخلق والعلم توأمين، كان الرقي ، وكان الازدهار، ولم يعرف في التاريخ مثل حضارة أمتنا العظيمة، التي كان أساسها العلم والأخلاق الفاضلة المستقاة من الإسلام ، وصدق النبي الكريم(صلى الله عليه وسلم) حيث قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم في المستدرك)

 جدير بالذكر أن العلم النافع هو العلم الذي يقود صاحبه إلى الفضائل ، ويحمله على التحلي بالأخلاق العالية ، ويوجهها ويرشّدها ويحافظ عليها ، فمن ثمرات العلم النافع أنه يساعد على البناء والتعمير ، وليس الهدم والتخريب ، يساعد في الإصلاح لا الإفساد ، فعلى كل طالب علم أن يتخلق بأخلاق الإسلام ، وأن يتأدب بآداب العلماء ، وأن يسخر العلم الذي تعلمه لخدمة البشرية وبناء القيم في النفوس ، حتى لا تنتشر الفوضى ويعم الفساد، فهِمَّةُ طالب العلم الابتكار والإبداع والتفوق، لا الهدم والتخريب والإفساد، فالعلم يدفع صاحبه إلى البناء لا الهدم، وإلى استخدام العقل لا إلى إهماله ولا إلى تعطيله.

ولابد لطالب العلم من آداب يجب أن يتحلى بها ، نتعلمها مما فعله سيدنا موسى كليم الله  ( عليه السلام) – وهو نبي مرسل من أولي العزم من الرسل – مع عبدٍ من عباد الله يتعلم منه، كما حكي القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } [الكهف66 – 69].

ولقد كان في الأمة الإسلامية نماذج من العلماء الذين أثْرُوا الحياة بعلمهم وأخلاقهم ، وإعمال فكرهم ، منهم على سبيل المثال: عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) حبر الأمة وترجمان القرآن، عُرِفَ بشيخ المفسرين ، وعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما ) من السبعة المكثرين لرواية الحديث، ومعاذ بن جبل حامل لواء العلماء يوم القيامة ، وأتى من بعدهم أئمة أعلام ملؤوا الأرض علمًا منهم : ابن النفيس الدمشقي الذي نبغ في الطب وأول من اكتشف الدورة الدموية ، وأبو بكر الرازي ، وابن سينا، وغيرهم كثير ممن أفادوا البشرية بعلمهم وكانوا مثلًا يحتذى بهم ، فالواجب على شباب الأمة أن يحذوا حذوهم وأن ينهلوا من العلم حتى ينهضوا بالأمة، على أن من الخطورة بمكان أن يتصدى الإنسان للفتوى بدون علم، فيضل الناس، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ ) (صحيح مسلم).

ومن هذا يتضح أن الإسلام يدعو إلى العلم ويُحرر العقل ، ويحثّ على النظر في الكون، ويُنشِئ العقلية العلمية التي تبدع وتبتكر، ويرفض العقلية الجاهلة المستسلمة لكل ما يتوارثه الناس، دون مناقشة له ، فالأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها ، هو الأساس لفلاحها أفرادًا وجماعات ، فالعلم مأمور به قبل العمل ، لأنه أساس له قال الله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19].

على أن العلم الذي نريده هو العلم الذي يبني ولا يهدم ، وليس العلم الشرعي فحسب ، إنما هو العلم الذي يأخذ بأيدينا إلى التقدم في جميع مجالات الحياة ، من الطب والهندسة ، والصيدلة ، وفي مجال النقل ، والتسليح ، والزراعة ، والصناعة ، وغير ذلك من المجالات التي تتقدم بها الأمة والمجتمع ، لذا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ( من سلك طريقًا يطلُب فيه علمًا  سلك الله به طريقًا من طُرُقِ الجنَّةِ ) واستخدام كلمة (علمًا) نكرة لتفيد العموم والشمول لكل أنواع العلم النافع.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الحفاظ على البيئة ودوره في التنمية

      أولًا : العناصر:

1-        النظافة سلوك إسلامي وإنساني.

2-        النظافة أحد أهم سبل الوقاية من الأمراض.

3-        الإسلام سبق كل المنظمات الدولية في الدعوة إلى الحفاظ على البيئة.

4-        حماية البيئة مسئولية الفرد والمجتمع والدولة.

5-        خطورة التلوث على حياة البشر.

6-        النهي عن قطع الشجر أو حرق الزرع حتى مع الأعداء .

7-        خطورة تجريف الأراضي الزراعية والاعتداء عليها.

8-        خطورة التعدي على المياه وتلويثها.

       ثانيًا – الأدلة :

          الأدلة من القرآن :

1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }[المدثر1- 6 ].

2- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[ المائدة 6 ].

3-  وقال تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة: 60].

4- وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [ الأعراف 56 ].

5- وقال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم 41 ].

6-  وقال تعالى : {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة190، وكذا المائدة 87].

7-  وقال تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[ البقرة 205 ]. 

      الأدلة من السنة :

1-    عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلى الله عليه وسلم) : (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ، نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ) (صحيح مسلم).

2-    وعَنْ سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طِيبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ الَّتِي تَجْمَعُ الأَكْنَافَ فِي دُورِهَا ) (سنن الترمذي).

3-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - وَفِى حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَلَى أُمَّتِى- لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ) ( متفق عليه).

4-    وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى رَجُلاً شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ : ( أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ ). وَرَأَى رَجُلاً آخَرَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: ( أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ ) ( سنن أبي داود )

5-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ  : ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) ( صحيح مسلم ) .

6-    وعن ابْنِ عُمَرَ( رضي الله عنهما ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِىَ ). فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ : ( هِىَ النَّخْلَةُ ). قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ قَالَ : لأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِىَ النَّخْلَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا ) ( متفق عليه )

7-    وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِى الطُّرُقَاتِ ). قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ). قَالُوا وَمَا حَقُّهُ قَالَ : ( غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) (متفق عليه) .

8-    وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلى الله عليه وسلم): ( اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبَرَازَ فِى الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ) (سنن أبي داود )

9-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ )(سنن ابن ماجة ).

10-  وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ عَلِّمْنِى شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ ، قَالَ: ( اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ) (صحيح مسلم )، وفي رواية أوردها الإمام البخاري في الأدب المفرد:  ( أَمِطِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ) .

11-  وعَنْ حُذَيْفَةَ بن أُسَيْدٍ (رضي الله عنه) أَنّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ ) (المعجم الكبير للطبراني).

ثالثًا : الموضوع

فإن الدين الإسلامي قد جاء لبناء مجتمع إنساني مثالي متكامل في جميع النواحي الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وأيضًا الصحية صيانة لحياة المسلمين والإنسانية جمعاء.

لقد اهتم الإسلام بصحة الإنسان اهتمامًا عظيمًا فحثَّهُ على النظافة ، وأمره بها، لأنها من أسباب صحة الأبدان ، فأخبرنا (سبحانه وتعالى) أنه أنزل من السماء ماءً طهورًا، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }[الفرقان: 48]. هذا الماء الطهور هو نظافةٌ للأبدان وسلامةٌ لها ، كما أخبرنا تبارك وتعالى أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وعَنْ سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طِيبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ الَّتِي تَجْمَعُ الأَكْنَافَ فِي دُورِهَا) (رواه الترمذي ).

ولما كانت النظافة ضرورية في حياة الإنسان ، لازمة له ، جعلها الإسلام نصف الإيمان ، فعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) (صحيح مسلم).

واهتمام الإسلام بالنظافة لا يدانيه اهتمام في الشرائع الأخرى، فلم يعد ينظر إليها على أنها مجرد سلوك إنساني مرغوب فيه أو متعارف عليه اجتماعيًا يحظى صاحبه بالقبول الاجتماعي فقط ، بل جعلها الإسلام قضيةً إيمانيةً تتصل بالعقيدة ، يُثاب فاعلها ويأثم تاركها.

ومن ثَمَّ فإن الإسلام يأخذ بيد أتباعه إلى العيش في بيئة طاهرة نقية ، ويدعوهم إلى الحفاظ على البيئة التي يعيش فيها الإنسان ، إيمانًا منه بما للبيئة من أثر خطير على صحة الإنسان ومعاشه وأخلاقه ، وهو بذلك قد سبق كل المنظمات العالمية في الدعوة إلى الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها ، فأرسى مجموعة من المبادئ التي تعتبر من أهم الإجراءات الوقائية للحفاظ على البيئة البشرية ، ويتمثل ذلك في عنايته بطهارة الإنسان ونظافته من خلال الدعوة إلى تنظيف الجسد والثياب، فشرع الوضوء للصلوات الخمس في اليوم والليلة ، وأوجب الغسل من الجنابة ، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:6] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }[المدثر:1- 4] ، وعن جابرِ بنِ عبدِ الله (رضي الله عنهما) قال: أتانا رسولُ الله
(صلى الله عليه وسلم) فرأى رجُلاً شعِثًا قد تفرَّقَ شَعرُهُ، فقال:( أما كان هذا يَجدُ ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهَ؟ )، ورأى رجُلاً آخر عليه ثيابٌ وسِخَة فقال: ( أَما كان هذا يجدُ ما يَغسِلُ به ثوبَهُ؟ ) (رواه أبو داود).

وقد حثَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) على استخدام السواك وتطهير الفم من بقايا الطعام، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي- أَوْ عَلَى النَّاسِ- لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ) (رواه البخاري).

والذي لاشك فيه أن كثيراً من الأوبئة إنما تنتقل نتيجة عدم العناية بالنظافة ، وأن إجراءات وزارة الصحة الوقائية لأكثر الأمراض تدعو إلى غسل اليدين قبل الأكل وبعده ، وإلى التهوية الجيدة للمكان ، وإلى غسل الفاكهة والخضر غسلاً جيداً ، وإلى حسن الطهي ونظافة أدواته، وكل هذا ينبثق من روح الإسلام وحثه على النظافة.

جدير بالذكر أن حماية البيئة لا تقتصر على شخص دون آخر ، إنما هي مسئولية مشتركة بين الجميع أفراداً ، وجماعاتٍ ، وحكوماتٍ ، فالمجتمع الراقي هو الذي يحافظ علي بيئته، ويحميها من أي تلوث أو أذى، لأنه جزء منها ، ولأنها مقر سكناه وفيها مأواه، ولأنها عنوان هويته، ودليل سلوكه وحضارته.

وجاءت التوجيهات الدينية حاملة بين طياتها الدعوة المؤكدة للحفاظ على البيئة ، برًا وبحرًا وجوًا، وإنسانًا، وحيوانًا، ونباتًا، إلى غير ذلك من مفردات البيئة، لأنها جميعًا منظومة واحدة لكيان واحد، فدعا الإسلام إلى الحفاظ على نظافتها وطهارتها وجمالها وقوتها وسلامتها، وتنحية الأذى عنها، ففي الحديث: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَإِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (صحيح مسلم). وكلمة الأذى تشتمل على كل ما يضر ويؤذي مثل الشوك والحجر في الطريق والنجاسة وغير ذلك من كل ما هو مؤذ أو مضر بالإنسان.

ومن توجيهات القرآن الكريم لحماية البيئة والمحافظة عليها : نهيه عن الفساد والإفساد في الأرض بأي صورة من صور الفساد المعنوي أو المادي ، فقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[البقرة:60] ، وقال سبحانه: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، وقال الله تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].

وقد نهى الإسلام المسلمين عن أن يحرقوا زرعًا، أو يقطعوا شجرًا، حتى مع الأعداء، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: ( اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا لاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا)( صحيح مسلم )

وهذا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يوصي قادة جيوشه قائلًا : (لَا تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرَمًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا وَلِيدًا، وَلَا تُخْرِبُوا عُمْرَانًا، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَعْقِرُنَّ بَهِيمَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَحْرِقُنَّ نَخْلًا، وَلَا تُغَرِّقُنَّهُ، وَلَا تَغْدِرْ، وَلَا تُمَثِّلْ، وَلَا تَجْبُنْ، وَلَا تَغْلُلْ) ( السنن الكبرى للبيهقي )

ومِنَ العنايةِ بالكونِ والبيئةِ الحثُّ علَى الزراعةِ، وجعْلُهَا مِنْ أبوابِ الصدقاتِ، كما حثنا النبيِ (صلى الله عليه وسلم) على عمارة الأرض ونشر الخير في جنباتها وبذل ثمراتها للإنسان والطير والحيوان: ففي الحديث عَنْ جَابِرٍ ابن عبد الله (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَلاَ يَرْزَؤُهُ ( أي : لا ينقصه ويأخذ منه) أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ)(صحيح مسلم). وفي الصحيحين من حديث أنس (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ).

ومِنْ ذلكَ المحافظةُ علَى الثروةِ الزراعيةِ، قالَ (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) (رواه أحمد في مسنده) والْعَافِيَةُ : هِيَ كلُّ مَنْ يطلبُ الرزقَ مِنْ إنسانٍ أوْ بَهيمةٍ أوْ طائرٍ.

أما ما يحدث الآن من اعتداء على الأرض الزراعية وتجريفها فهو  إهدار للثروة الزراعية، وتضييع لمورد من أهم موارد الإنتاج، وإهلاك لأقوات العباد، ذلك لأنه يؤدي إلى إضعاف الرقعة الزراعية، مما يضطرنا لاستيراد السلع ألأساسية كالقمح مثلا، وكذلك يؤدي الاعتداء على الرقعة الزراعية إلى الإسهام بنصيب كبير  في تلوث البيئة ، فمن المعلوم أن المساحاتِ الخضراءَ لها دور مهم في عملية تنقية الهواء من غاز ثاني أكسيد الكربون، والذي قد يتسبب في العديد من الأمراض، ومن ثَمَّ فإن أي اعتداء بأي صورة من الصور على المساحات المزروعة والحدائق المنتشرة يؤدي بنا إلى أمرين خطيرين يهددان أمن وسلامة المجتمع صحيًا ألا وهما: قلة الغذاء وتلوث الهواء.

فالأرض نعمة من نعم الله (عز وجل) جعل الله فيها أقوات العباد، فوجب علينا أن نشكره عليها وأن نحسن استعمالها فيما خلقت له، يقول تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}[يس33- 35 ] .

وحرصًا من الإسلام على وقاية البيئة وسلامتها فقد حذرنا من إفساد البيئة بما نقترفه في حقها من ممارسـات غير سـليمة في قوله تعالى:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].

ففي الوقت الذي نجد فيه من ينظف ويجمل الشوارع والمجتمع، نجد من يتعمد أن يلقي بالقمامة وبمخلفات الحفر والبناء في الطرقات العامة ، دون حرمة أو مراعاة لحقوق الطريق، فيجب الحفاظ على الطريق العام الذي يمر الناس فيه، وعلى نظافته وألّا يلقي الناس فيه أذي بل عليهم أن يمنعوا الأذى ، ففي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ) فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ:( إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) ، قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: ( غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ ، عَنِ الْمُنْكَرِ ) (صحيح البخاري).

ولابد أن يكون الإنسان على وعي تام بقضايا البيئة وأهمية الحفاظ عليها  وخطورة تلوثها التي تعود بالضرر عليه وعلى الآخرين، ولابد أن نُعَلِّمَ ذلك أولادنا في المدارس والنوادي وجميع صروح التعليم منذ نعومة أظفارهم نظافة أماكنهم وتجميلها حتى يتعودوا على ذلك ، فالحفاظ على البيئة أمر مكتسب نتعلمه ونتربى عليه ، ولابد أن يكون الكبار قدوة حسنة للصغار، فماذا ننتظر من طفل يرى والديه أو أحدهما يرمي بالقمامة من شرفة المنزل في طريق الناس أو على سطح جاره ، وماذا نتوقع من طفل يرى الكبار يبصقون في الطريق ، أو يكتبون على الجدران أو غير ذلك من جرائم التلوث السمعي والبصري واللفظي التي نراها يوميًا ! لاشك  أنه سينشأ على هذا السلوك، فالولد صنعة أبيه كما يقولون، لذا لابد من إعادة البناء ، ولهذا
فإن شريعة الإسلام ترفض مثل هذا السلوك وهذه الممارسات لمجافاتها لأخلاق المسلمين .

 ولما كان الماء عصب الحياة ولا يمكن أن تقوم حياة بدونه، كما أخبرنا ربنا في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء: 30]

حرص الإسلام على وقاية مصادره من التلوث حماية لصحة الإنسان، وهذه وقاية للمجتمع عامة؛ إذ حماية مصدر المياه وينابيعه هي حماية للمجتمع كافة، كما نهى عن التعدي عليه وتلويثه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ) (سنن ابن ماجة)، ذلك لأن البول في الماء الراكد الذي لا يتحرك يُلوِّثُ الماء ويفسده ويصبح مصدر عدوى ومرض وأذى لمن يستعمل هذا الماء الذي ألقى بالأذى فيه ، فقد أكد الأطباء أن البول والغائط من أخطر مسببات التلوث ونقل الأمراض الفتاكة، بل ليس النهي مقصورًا على الماء الراكد فقط ، بل كان النهي أيضًا عن البول في الماء الجاري ، فقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبال في الماء الجاري ؛ لأن فيه تلويثًا للماء وإفسادًا له ، وهذا ما نراه ونلحظه في عصرنا الراهن من بعض السلوكيات الخاطئة التي ترتكب في حق نهر النيل العظيم- شريان الحياة ومتنفسها- من اعتداء عليه بالرَّدم، والاستخدام الجائر، وتلويث مياهه بإلقاء النجاسات والملوثات ، وصرف مخلفات المصانع ، التي  تسبب في نقل كثير من الأمراض والأوبئة الضارة بصحة الفرد والمجتمع.

ولو نطق النيل لشكا حاله من التعديات والمخالفات التي وقعت عليه من بني الإنسان ظلمًا وعدوانًا، فلقد تعرض نهر النيل والمجاري المائية لمخالفات على مستوى مصر، بلغت 132 ألفًا و 438 مخالفة ما بين أعمال ردم ومبانٍ وأسوار وزراعة، [ حسب إحصائية وزارة الري كما ذكرت صحيفة الجمهورية في عددها الصادر في 15 فبراير 2014م ] .

ومن ثم فإن إفساد المياه أو تعريض الأماكن التي يرتادها الناس بإلقاء الفضلات فيها فساد للبيئة التي أمرنا الشرع الحنيف بالمحافظة عليها، فينبغي العناية بالبيئة والبعد عن كل ما يلوثها ويفسد الفطرة التي فطر الله الكون عليها.

ومن أهم وسائل الحفاظ على المياه : التعاون في منع الاعتداء عليها أو إهدارها، فإن الماء نعمة ينبغي أن نحافظ عليها ، وأن نرشد استخدامها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... ( وذكر منهم ): رَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ ) (صحيح البخاري)

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

فضل الشهادة وكرامة الشهيد

    أولاً : العناصر :

1-    فضل الشهادة ومنزلة الشهداء 0

2-    كرامة الشهيد عند الله 0

3-    شفاعة الشهيد لأهله يوم القيامة 0

4-    من هو الشهيد ؟.

    ثانيًا : الأدلة:

        الأدلة من القرآن:

1-      قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [آل عمران: 140].

2-   وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69].

3-   وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

4-      وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].

5-   وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } [التوبة: 111].

6-      وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

7-      وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

8-      وقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } [الحديد: 19].

    الأدلة من السنة:

1-   عن سَهْلَ بْنَ أَبِى أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) (رواه مسلم).

2-   أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَتْ:  يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرَْبٌ - أي لا يعرف له رامٍ- فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ ، قَالَ :( يَا أُمَّ حَارِثَةَ  إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى) (رواه البخاري).

3-   وعن أبي هُرَيْرَةََ ( رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ) (رواه البخاري).

4-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ- إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ ) (رواه البخاري).

5-       وعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ) (رواه الترمذي).

6-   وعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ) (رواه البخاري).

7-   وعَنْ أَبِي مُوسَى ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: ( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (رواه البخاري).

8-    وعن أَنَس بْن مَالِكٍ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ غَيْرُ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ  ) (رواه مسلم).

9-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: ( فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ : (قَاتِلْهُ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ : (فَأَنْتَ شَهِيدٌ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : (هُوَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).

10- وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دُونَ دَمِهِ أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ) (رواه أبو داود).

11- وعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا)  قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: ( أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ) قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أحمد).

ثالثاً : الموضــوع:

إن بلوغَ الأهداف الكبرى ونيلَ الغايات العظمى في هذه الحياة يستلزم تضحيات جِساماً مكافِئة لها ، ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات يقتضي سمو التضحيات وشرفها، ورقي منازلها ، ويأتي في الذروة منها التضحية بالنفس ، وبذل الروح – التي هي أعز مايملك – رخيصة في سبيل الله نصرة لدينه ، ورغبة في عزة البلاد وكرامة العباد0 

ولا مراء في أن الشهيد أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والصديقين ؛ فالشهادة اصطفاء من الله واجتباء ، وهي منحة يمنحها الله لأحب خلقه إليه بعد الأنبياء والصديقين واقرءوا في ذلك قول الله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [آل عمران: 140] ، وقول الله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69] .وكيف لا  ؟ وقد استعلى الشهيد  على شهواته ، وانتصر على رغباته ، واسترخص الحياة في نيل شرف الشهادة في سبيل الله؟

ونحن إذ نحيي يوم الشهيد إنما نعني شهيد الدارين الدنيا والآخرة ، ونذكر أنفسنا والجميع بهؤلاء الذين ارتقوا بأرواحهم إلى الله عز وجل وفازوا برضوانه ، ونستنهض همما تثاقلت إلى الأرض ، ورضيت بالحياة الدنيا من الآخرة : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . ونغبط أقواما على ما أكرمهم الله به من نعيم أيقنوا بصدق وعد الله لهم به فنالوه ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]، ونُرَجِّى أنفسنا بشهادة في سبيله ، وبجزاء كريم أكرمهم الله به، ولم لا ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) (صحيح مسلم).

إن الخوف من ألم القتل  وحب الحياة ، والخشية من الموت هي أكثر ما يقعد الناس عن خوض غمار المعارك فداء للدين وللوطن ، ومن أجل ذلك أكرم الله الشهيد بأعظم الكرامات ومنها: 

أولا : أن صفقته مع الله مضمونة الربح بمجرد الوفاء منه ببذل النفس ، والوعد الحق من الله (عز وجل ) جزاء ذلك هو الجنة ، يقول سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } [التوبة: 111]. إذا الله المشتري ، والثمن الجنة ، لا بل إنها جنان في الجنة ، فقد روي أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرَْبٌ - أي لا يعرف له رامٍ-  فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ ، قَالَ :( يَا أُمَّ حَارِثَةَ  إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)  (رواه البخاري).

ثانيا : ما أخبر الله تعالى به من أن الشهداء أحياءٌ وليسوا أمواتا ، يقول تعالى : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }[آل عمران: 169].

نعم إنهم أحياء وليسوا أمواتا ، ومن ثم فهم فرحون بما أعطاهم الله (عز وجل) حيث جنة الخلد  التي فيها مالا عين رأت  ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ويستبشرون بإخوانهم القادمين عليهم ، وذلك لحبهم إنزالهم هذه المنزلة التي أنزلهم الله إياها فلا حزن  ولا غم ولا هم؛ بل استبشار وفضل ونعيم ، والله إنها  للحياة بحق وإنه للرزق بحق.

ثالثا : تخفيف الله للألم الذي يجده الشهيد عند القتل إلى الحد  الذي قال عنه (صلى الله عليه وسلم) :( مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ) (الترمذي)، فلِمَ الخَوْفُ إذا؟.

رابعا : ضمان الله للشهيد إحدى الحسنيين : النصر والغنيمة أو الشهادة والجنة ، يقول (صلى الله عليه وسلم ): ( انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ) (رواه البخاري). إنهم أصحاب الأجر الوفير، والنور التام المنير  يقول تعالى : {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } [الحديد: 19].

خامسا : تميزهم يوم يقوم الناس لرب العالمين بهيئة خاصة  وبريح طيبة  تنبعث من أجسادهم تتطاول لها الأعناق وتنحني لهل الهامات  إجلالا واحتراما يقول (صلى الله عليه وسلم): (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ- إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ ). (رواه البخاري).

سادسا : النجاة من فتنة القبر ( أي من سؤال الملكين ) فقد روي أن رجلا قال:  يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال : (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) .

سابعا : يٌشَرف الله الشهداء يوم الحساب بأن يكونوا أول من يقضي بينهم مع النبيين يقول تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الزمر: 69].

ثامنا : إكرام الله للشهيد بمنح عظيمة وبشفاعة مخصوصة له في أهل بيته ، يقول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مبشراً الشهيد : ( لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ) (رواه الترمذي).

لأجل هذه الكرامة الربانية للشهداء ، ولعظم ما أعد الله لهم من الجزاء رأينا ما يلي :

           - رأينا النبي (صلى الله عليه وسلم) يتمنى أن لا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله ، وما منعه من الخروج في كل سرية إلا خشية أن يشق على أصحابه ، وكان (صلى الله عليه وسلم) يتمنى أن يقتل شهيدا في سبيل الله مرات متعددة ، يقول (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ) (رواه البخاري).

       - رأينا الشهيد وحده من أهل الجنة هو من يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لينال شرف وكرامة القتل في سبيل الله عدة مرات ، يقول : ( صلى الله عليه وسلم ) :( مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ غَيْرُ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ ) (رواه مسلم).

      ولكن من هو الشهيد ؟  لقد بين النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) أن الشهيد هو :

1- من اعتنق الحق وأخلص له وضحى في سبيله وبذل دمه ليروي شجرة الحق به ، وفي شأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (رواه البخاري).

2 – الذي يأبى الدنية ويرفض المذلة والهوان ، ويقاوم من يحاول أن يستولى على ماله أو متاعه ، وقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: ( فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ : ( قَاتِلْهُ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ:  (فَأَنْتَ شَهِيدٌ ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : (هُوَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).

3 – الذي يذود عن أرضه وعرضه ووطنه ، فليس الوطن والعرض أقل خطراً ومكانة عند المسلم من نفسه ودينه وماله ومتاعه ، وقد قال (صلى الله عليه وسلم ) : ( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دُونَ دَمِهِ أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ) (رواه أبو داود).

      ونؤكد أنه ما طمع فينا طامع ولا تجرأ علينا متجرئ ولا تطاول علينا متطاول إلا لأننا تشبثنا بالدنيا الفانية وأخلدنا إلى الهوى الذي يعمى ويصم، وتقاتلنا على الحطام الفاني ، وتنافسنا فيما لا وزن  له عند الله ، وآثرنا الفانية على الباقية  ، وقد حذرنا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك حين قال : (يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا) قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ) . قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أحمد) ، فلنكن أوفياء لدماء من سبقنا على درب الشهادة ، ولنضع نصب أعيينا دائما قول الحق سبحانه : {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

كما نؤكد أن قتل الأبرياء غدرًا وخيانة حتى لو كانوا مخالفين في الدين أو العقيدة أمر لا يقره دين ولا عقل سليم ولا إنسانية سوية، وأن الإسلام يرفض كل مظاهر الفساد والإفساد والتخريب والتدمير ، ونؤكد  أن العمليات الانتحارية والتفجيرية محض إفساد لا علاقة له بالشهادة في سبيل الله من قريب أو بعيد ، وأن المفجر لنفسه منتحر يعجل بنفسه إلى نار جهنم،  وأن مصر هي الدرع الحصين للعروبة والقلب النابض للإسلام ، وأن الذود عن حماها واجب شرعي  ووطني ، وأن محاولة النيل منها هي محاولة لضرب الأمة الإسلامية  كلها في قلبها النابض لصالح عدوها الصهيوني، وكل من يعنيه إضعاف أمتنا للاستيلاء على خيراتها  ومقدراتها، فلنقف صفا واحدا في سبيل الذود عن ديننا ووطننا ابتغاء مرضاة الله تعالى ووفاء لحق هذا الوطن  الذي منحنا الكثير  ، وقد آن  أوان رد الجميل.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الأمانة في القول والعمل

     أولاً : العناصر :

1-   الأمانة ومنزلتها في الإسلام.

2-   أثر تضييع الأمانة على الفرد المجتمع.

3-   خطورة الكلمة ومسئولية قائلها .

4-   النموذج البشري الأمثل للأمانة.

5-   جزاء تضييع الأمانة في الدنيا والآخرة .

6-   ضياع الأمانة من علامات الساعة.

     ثانيًا : الأدلة :

           الأدلة من القرآن الكريم:

1-قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء : 58].

2-وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 70 - 72].

3-وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون : 8 - 11].

4-وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال : 27 ، 28].

5-وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

6-وقال تعالى:{...فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283].

7-وقال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[آل عمران:75 ، 76].

8-وقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام: 152].

9-    وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...} [المائدة: 1].

الأدلة من السنة :

1-      عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ) قَالَ:  أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ (يعني رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ): (فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ (يَأْمُرُ) بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ) (صحيح البخاري)

2-      وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) (متفق عليه) .

3-      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) ( أخرجه البخاري).

4-      وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَّا قَالَ:( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ) (أخرجه أحمد والبزار).

5-      وعن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) ( أخرجه البخاري).

6-      وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ : كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وأبو بكر وَأَنَا غُلاَمٌ فَقَالَ لِي : ( يَا غُلاَمُ هَلْ مِنْ لَبَنٍ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ ؟ فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: انْقَلِص فَقَلَصَ، قال ثم أتيته بعد هذا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ،قال: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ ) (أخرجه أحمد) .

7-              وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ ) (أخرجه أبو داوود).

8-      وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ) (متفق عليه).

9-      وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَ) (أخرجه مسلم).

10- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) (صحيح البخاري).

     ثالثا : الموضوع :

           إن من أبرز ملامح الدين الإسلامي وأهم أخلاقياته خلق الأمانة، التي يقوم عليها بناء المدنية، والتي يكون بها حفظ العمران، وإصلاح حال الأمة، والتي لا بقاء لدولة بدونها، لأن عليها مدار الثقة في جميع المعاملات ، ومن ثَمَّ أمرنا الله (عز وجل) بها فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء : 58]،

         يقول المفسرون: ( الأمانة على أنواع:

1-       أمانة العبد مع ربه: وهي ما عُهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، لأن المعاصيَ كلَّها خيانة لله عز وجل.

2-       أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك: رد الودائع إلى أربابها، وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام، ويدخل في ذلك: عدل الأمراء مع الرعية ، وعدل العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى الاعتقادات السليمة، والأعمال التي تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنقذهم من الشرور والآثام وترغبهم في الخير والإحسان، وعدل الرجل مع زوجه بألا يفشي أحد الزوجين سرًا للآخر، ولا سيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادةً سواهما، فعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا ) (صحيح مسلم).

3-       أمانة الإنسان مع نفسه بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا، وألا يَقْدُمَ على عمل يضره في آخرته أو دنياه.

           ولما كان الأنبياء والرسل (عليهم السلام) قدوتنا وأسوتنا وجدنا أن أهم خلق اتصفوا به هذا الخلق، فهم أمناءُ الله ( عز وجل ) على وَحيه قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة : 67]، وقال(صلى الله عليه وسلم): ( ألا تُأَمِّنُوني وأنا أمينُ مَنْ في السماء، يأتيني خبرُ السماء صباحًا ومساءً ) (متفق عليه).

فخلق الأمانة مما يجب في حق الأنبياء والرسل، لذلك هم يأمرون به، ويحثون عليه، ويؤكد ذلك سؤال هرقل عظيم الروم أبا سفيان عن دين الإسلام وعن صفةِ نبيه (صلى الله عليه وسلم) أخبره أنه يأمر بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فقَالَ له هرقل : "هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ  " فأبو سفيان في هذا الموضع يذكر ما رآه أهم ما يميز الإسلام.

ولقد تَمَثَّلَ خلق الأمانة في أعلى صوره وأكمل معانيه في شخص سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى إن أعداءه وخصومه كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، وحين هاجر (صلى الله عليه وسلم) أمر عليًّا بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن ينام في فراشه وأن ينتظر ليرد الأماناتِ المودعةَ عنده إلى أهلها، وهم قوم كفار ناصبوه العداء، وأخرجوه وآذوه وآذوا أصحابَه وأخذوا كل ما يملكون، ذلك لأن المؤمن لا تحل له الخيانة حتى مع أعدائه، والله تعالى يقول:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، فالمؤمن لا يعرف الخيانة حتى مع الخائنين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): ( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ).

إن خيانة الأمانة صفة من صفات النفاق، جعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) علامة يعرف بها المنافقون، فقال (صلى الله عليه وسلم):  (  آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ )،  بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) نفى الإيمان عن خائن الأمانة ومضيعها فقال: ( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ) ، وذلك لما يترتب على خيانة الأمانة من قطيعةٍ بين أفراد المجتمع وتباغضٍ يفضي إلى النزاع والشقاق وفساد المعاملات بين الناس، وتكدُّس المحاكم بالعديد من القضايا التي يعدُّ سببها الأول خيانة الأمانة.

 إن الأمانة مسئولية كبرى عهد الله بها إلى الإنسان لأنه المخلوق المكلف من قبل الله (عز وجل)، وقد أعطاه الله (عز وجل) من النعم التي تعينه على أداء مسئوليته والقيام بأمانته، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب 72] والأمانة هنا كما قال جمهور المفسرين: كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمرٍ ونهي وشأنِ دينٍ ودنيا ، فالشرع كله أمانة.

ومن جملة هذه الأمانات : أمانة القول والعمل، فالكلمة أمانة، يجب على قائلها أن يتقي الله (عز وجل) فيها، لما لها من خطورة وما يترتب عليها من خير كبير أو شر مستطير، فقد ترفع صاحبها إلى مراتب الصديقين، وقد تهوي به في دركات الهالكين، فعن بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِىِّ (رضي الله عنه) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَابَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ) (سنن الترمذي).

إن كلمةً قد تخرج من فم الإنسان بلا تفكير ولا روية فتسبب بلاءً كبيرًا لا يمكن تداركه،  لذلك وجب على الإنسان ألا ينطق إلا بالقول الرشيد الذي يصلح ولا يضر ، يبني ولا يهدم، يعمر ولا يخرب ، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 70 - 71] ، ولذلك كان توجيه الإسلام إلى التثبت والتحقق من كل ما يقال أو يشاع ، إذ ليس كل ما يُقال يُصدق ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].

كما أن الأمانة في القول تتطلب الصدق وعدم التحدث بدون علم، ومن ذلك الإفتاء في دين الله (عز وجل) بغير علم، فالتحدث باسم الدين أمانة ومسئولية تحتاج إلى علم، ذلك لأن من يفتي يُبَلِّغُ ويُوقع عن الله (عز وجل)، وكونه يتكلم في دين الله بدون علم خيانة لله ورسوله، يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

أما الأمانة في العمل فتتطلب أن يراقب الإنسان ربه (سبحانه وتعالى) سواءً أكان صاحب العمل حاضرًا أم غائبًا، وسواءً أكان عملاً عامًا أم خاصًا، وقد قال أحد الحكماء: من الصعب بل ربما كان من المستبعد أو المستحيل أن نجعل لكل إنسان جنديًا أو شرطيًا يحرسه، فالحارس قد يحتاج إلى من يحرسه، والمراقب قد يحتاج إلى من يراقبه، ولكن من السهل أن نربي في كل إنسان ضميرًا حيًّا ينبض بالحق ويدفع إليه راقبناه أو لم نراقبه، لأنه يراقبه من لا تأخذه سنة ولا نوم، فعن عبد الله بن دينار، قال: خرجت مع ابن عمر إلى مكة، فعرسنا، فانحدر علينا راع من جبلٍ، فقال له ابن عمر: أراع ؟ قال: نعم، قال: بعني شاةً من الغنم، قال: إني مملوك، قال: قل لسيدك: أكلها الذئب ، قال: فأين الله عز وجل ؟ قال ابن عمر: فأين الله!! ثم بكى، ثم اشتراه بعدُ فأعتقه(سير أعلام النبلاء).

           ما أعظم هدي ديننا وهو يأمرنا بالحفاظ على الأمانة في كل شيء، لأن من علامات قيام الساعة ضياع الأمانة والتّفريط فيها والتّهاوُن في أدائها، وتغليب المصالح الخاصّة على المصالح العامّة فتقطع الأرحام ويُساء الجوار فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَسُوءُ الْجِوَارِ) ( أخرجه أحمد )، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: ( إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) (أخرجه الإمام البخاري)، وكل إنسان لا يؤدي ما يجب عليه من أمانة أو يراقب الناس ولا يراقب الله ( عز وجل) فهو خائن، والله لا يحب الخائنين، قال تعالى: {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}[النساء: 107، 108]، وقد نهانا الله (عز وجل) عن الخيانة، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27].

           وبيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن خائن الأمانة سيعذب بسببها في النار، وسوف تكون عليه خزيًا وندامة يوم القيامة، فعن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَن) (أخرجه مسلم)، فيا لها من فضيحة وسط الخلائق!! تجعل المسلم حريصًا على الأمانة حافظًا لها، ويكفي في خائن الأمانة قولاً أو عملاً أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خصيمه يوم القيامة  فعن أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ ) (أخرجه ابن ماجه).

ألا فليحذر الجميع من العقوبة التي تنتظر مضيع الأمانة، وعلى المجتمع بكل أطيافه أن يرجع إلى كتاب ربه، وسنة نبيه (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فتصفو القلوب ، وتتوحد المشاعر، وتتكامل الأدوار لرفعة هذا الوطن ، ويتحقق معنى الخلافة في هذه الأمة ، وتنطق بخيريتها جميع الأمم ونكون مثالًا ونموذجًا مشرّفًا لهذا الدين العظيم.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

رسالة المسجد

       أولاً : العناصر:

1-    مكانة المسجد وأهميته.

2-    فضل عمارة المساجد.

3-    دور المسجد ورسالته في الإسلام.

أ- دور المسجد في الدعوة إلى الله تعالى.

ب- دور المسجد في نشر العلم.

ج- رسالة المسجد ودوره في تقويم الأخلاق والحماية من الانحراف.

 د - دور المسجد في توحيد الأمة.

 هـ - دور المسجد في قضاء حوائج الناس.

4-    رسالة المسجد الاجتماعية.

5-    المسجد الجامع وأثره في المجتمع.

        ثانيًا : الأدلة:

            الأدلة من القرآن:

1-    يقول الله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36-38].

2-     ويقول تعالى:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].

3-     ويقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114].

4-     ويقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف:31]

5-    ويقول تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:29].

6-     ويقول تعالى:{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة: 108]

     الأدلة من السنة :

1-     عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى) - قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ ( يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ  بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ ) (صحيح مسلم).

2-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا ) (صحيح مسلم).

3-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)قال: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِى الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ) (متفق عليه).

4-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ - أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ أي يجمع القمامة وهي الكناسة فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: (أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي (أي أعلمتموني) بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ  أَوْ قَالَ قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهُ  فَصَلَّى عَلَيْهِ ) (صحيح البخاري).

5-    وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه): سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتكفل الله لمن كان الْمَسجِدُ بيتَهُ بالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَاز ِعَلَى الصِّرَاطِ إلى رضوان الله إلى الجنة ) (المعجم الأوسط للطبراني).

6-    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ جِيرَانِي؟ أَيْنَ جِيرَانِي؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، وَمَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاوِرَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟ ) ( أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده).

7-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً (أي في المسجد) فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ ) (سنن الترمذي). 

     ثالثًا : الموضوع:

إن للمساجد أهمية عظمى، ودورًا  أسمى في المجتمع المسلم، فهي بيوت الله تعالى، أمر برفعها وذكر اسمه فيها، يقول (عز وجل) :{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور:36-38].

والمساجد أطهر الأماكن في الأرض، وأحب البقاع إلى الله عز وجل كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا ) ، لذا شرفها الله بنسبتها إليه، ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى في كتابه العزيز، فقال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، إنه بيت الأتقياء، ومأوى الصالحين ، قلوبهم معلقة به، ونفوسهم تتوق دومًا إليه، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم: (... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ..) (متفق عليه)، وكذا في الحديث الآخر يقول (صلى الله عليه وسلم): (الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتكفل الله لمن كان الْمَسجِدُ بيتَهُ بالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَاز ِعَلَى الصِّرَاطِ إلى رضوان الله إلى الجنة ).

ولأن موقع المسجد هو موقع القلب من أي بلد إسلامي فقد كان أول ما قام به الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا، فبنى (صلى الله عليه وسلم) مسجد قباء، وهو الذي أُسِّسَ على التقوى من أول يوم، يقول ابن كثير (رحمه الله): حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يومِ بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعًا لكلمة المؤمنين ومَعقِلا وموئلا للإسلام وأهله.

وبناء المساجد ابتغاء وجه الله تعالى وتهيئتها للمتعبدين عبادةٌ عظيمةُ الأجر جليلة القدر، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى - قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ:- يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ ) ، فهكذا حضَّنا الإسلام على بناء المساجد وعمارتها، وجعل عمارتها والعناية بها دليلًا على صدق الإيمان، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، وتكون عمارة المساجد ببنائها وتنظيفها وفرشها وإنارتها، كما تكون عمارتها بالصلاة فيها وكثرة التردد عليها لحضور الجماعات وتعلم وتعليم العلوم النافعة.

فالمسجد مكان للخشوع والسجود لله رب العالمين، وهو كذلك مكان للتربية وبناء الإنسان، وهو مكان لبناء صرح الأخلاق الإسلامية الشامخ، ففي المسجد تقام الخطب والمحاضرات التي تُوَجِّهُ الناس لكل خير وصلاح للدين والدنيا.

ولهذه الأهمية العظيمة للمساجد أُمِرْنا بالمحافظة عليها من كل مالا يتناسب مع ما بُنيت له ، لذلك نهى النبي(صلى الله عليه وسلم) عن البيع والشراء في المسجد أو إنشاد الضالة أو أن يأكل الإنسان ثومًا أو بصلاً ويدخل المسجد، أو أن يُستهانَ بالمسجد أو يُعبثَ فيه.

ومن ثم فإنه ينبغي على كل من يذهب إلى المسجد أن يراعي حرمته ويتأدب بآدابه التي بينتها لنا السنة النبوية المطهرة ، فمثلاً يدخل برجله اليمنى قائلاً: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، ويخرج باليسرى قائلاً:  اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، وعلى الداخل للمسجد أو الخارج منه أن يمشي بالسكينة والوقار، فعن أبي قَتَادَةَ (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)قال: ( إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا ) (صحيح البخاري)، ومنها عدم رفع الصوت في المسجد، فعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:  كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ . فَجِئْتُهُ بِهِمَا قَالَ : مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا ؟ قَالَا : مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ . قَالَ : لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (صحيح البخاري). وقوله: فحصبني، أي: رماني بالحصباء، وهي الحصى الصغار.

ومنها عدم إنشاد الضالة في المساجد ، لنهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فعن أَبي هريرة (رضي الله عنه): أنَّه سمعَ رسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)  يقولُ: ( مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّها اللهُ عَلَيْكَ ، فإنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا ) (صحيح مسلم)، إلى غير ذلك من الآداب التي تحافظ على هيبة ونظافة المسجد، وتحقق جملة من رسالته الجليلة.

لقد كان المسجد هو الجامعةَ الأولى التي ربى فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على يديه خير تربية، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إلى هذه المدرسة فيصيبون فيها علمًا وهدى وفضائل وأدبًا وأحكامًا ما اتسعت لذلك أوقاتهم ، في حياته (صلى الله عليه وسلم) وبعد مماته، وليس أدلَّ على ذلك مما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) حين مر  يومًا في السوق على المشتغلين بتجاراتهم، فقال أنتم ههنا وميراث رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في المسجد؟! فقاموا سراعًا فلم يجدوا فيه إلا القرآن أو الذكر أو مجالس العلم، فقالوا: أين ما قلت يا أبا هريرة؟ فقال: "هذا ميراث محمد (صلى الله عليه و سلم) يُقَسَّمُ بين ورثته و ليس مواريثه دنياكم " ( المعجم الأوسط للطبراني).

فالمسجد مدرسة للعلم والتعليم، ومنبت التربية والتثقيف، فيه يتخرج العلماء والأبطال والقادة والمفكرون، وفيه يلتقي المسلمون على مائدة القرآن والسنة، بل إن المسجد يُعدّ مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم، من صنع الحياة وبناء الحضارات، ونشر الثقافات، وتنمية المهارات، وتلاحم الأمم، وتواصل المجتمعات، فالمسجد هو المدرسة التي تتربى فيها النفوس تربية روحية باتصالها بخالقها أثناء تأدية الصلاة والتعبد فيه، والمسجد هو المدرسة التي يتعلم فيها أمور الدين كل المسلمين: الرجال والنساء، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) (صحيح البخاري)، ففي المسجد يتعلم الرجل والمرأة – الكبير والصغير أمور الدين، ومكارم الأخلاق.

ولقد بدأ المسجد دوره الحيوي منذ عصر النبوة ، ولم تقتصر وظيفة المسجد في أول الأمر على الصلاة فقط ، بل كان المسجد أيضًا مركز الحكم والإدارة، والدعوة والإرشاد، وتوعية المسلمين، كان دارًا لمجلس الشورى، تناقش فيه أمور الأمة على ضوء الكتاب والسنة، كما كان محل القضاء والإفتاء والعلم والإعلام، وغير ذلك من أمور الدين والدولة، ومن ثم علت منزلة المسجد عند المسلمين.

وكان المسجد في عصر النبوة مقرًا لحركة الإسلام سلمًا وحربًا، جامعًا وجامعة، وفي عصر التابعين وما تلاه صارت المساجد في كل مكان وفي كل قطر من الأقطار الإسلامية مراكز إشعاع للعلم، يجتمع فيها طلاب العلم ويجلسون لعلماء الأمة كالإمام أبي حنيفة ، والإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، وكبار تلامذتهم ، وعلماء الأمصار كالثوري والأوزاعي ، وابن عيينة ، وغيرهم .

فكان للمساجد دور كبير في نشأة وتطور المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى، كما كانت تلك المساجد نواة للتعليم الجامعي في مجال العلوم الشرعية من فقه وأصول وتفسير وحديث وعقائد، وأكبر مثال على ذلك الجامع الأزهر بمصر، والجامع الأموي بدمشق، وجامع الزيتونة بتونس، فهي التي رَبَّتْ الأجيال وجندتهم لخدمة مصالح الأمة ، وخرجت أجيالاً حملت رسالة الإسلام عبر التاريخ ، فالمسجد مؤسسة اجتماعية ، وتربوية ، واقتصادية وسياسية ، وعسكرية وله دور فعال في جميع هذه المناحي.

ولهذا الدور العظيم للمساجد في بناء النفوس، وتهذيب الأخلاق، وتربية الأجيال، وتطهير المجتمع المسلم من كل ما يعلق به مما يخالف هدي الإسلام؛ حثَّنا ديننا على كثرة الذهاب إلى المساجد والتزوّد منها بالزّاد الطيب، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِى الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ )، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ جِيرَانِي؟ أَيْنَ جِيرَانِي؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، وَمَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاوِرَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟ ) وهذا من عظيم فضل الله تعالى على عباده أن يُشَرِّعَ لهم ما يصلح أحوالهم ثم يثيبهم عليه.

وفي المسجد يلتقي المسلمون في هذا الجو الإيماني الذي يبث روح التآلف بينهم،  فيعمل كل فرد على تعميق معاني الأخوة وتصفية النفوس من الشحناء وتفريج الكربات، والحثّ على البذل والإنفاق وتفقد المحتاجين، وسد حاجتهم، والنظر في أحوال المرضى ، ومد يد العون لمن يعانون من الفقر والضيق، وسد حاجات اليتامى والمساكين وانتشالهم من مذلَّة السؤال، فالتكافل الاجتماعي في ظل المساجد تبرز آثاره التربوية النافعة في معالجة النفوس وإصلاح القلوب وتهذيب السلوك والشعور الأخوي بين أفراد المجتمع. 

إن للمسجد دورًا عظيمًا في تقوية أواصر  الأخوة الإيمانية بين المسلمين وما يستتبعها من المحبة، والتزاور والتواصل وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وإعانة المحتاج والضعيف وإفشاء السلام، وطلاقة الوجه وطيب الكلمة، والتواضع وقبول الحق، والعفو والسماحة ودفع السيئة بالتي هي أحسن، والإيثار وحسن الظن، ونصرة المظلوم، وستر المسلم إذا وجدت منه هفوة، وتعليم الجاهل، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وأداء الحقوق إلى أهلها، والنصح لكل مسلم، وهذا كله منطلقه بيت الله، وفي المساجد أيضًا تتجلى وحدة المسلمين حين يقفون صفوفًا متساوية في الصلاة، وكم هو عظيم هذا المشهد حين يقف المسلمون صفًا واحدًا في الصلاة وقد ذابت وانصهرت جميع الفوارق محققين قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]، ولعل سائلًا يسأل: لماذا لا أصلي في بيتي حتى أكون أقرب للخشوع فلا يكون ثَمَّة مجال للرياء، ولا أرى ما يصرفني عن خشوعي؟!! لكنَّ الله سبحانه وتعالى يريدك مع غيرك من المسلمين، يريدك مع إخوتك لا يريدك وحدك، ولهذا فإنك تقرأ في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 5، 6] فلماذا لم تكن الآية : ( إياك أعبد وإياك أستعين.. اهدني الصراط...) على أساس أنك أنت وحدك الذي تناجي ربك؟!! إن الله تبارك وتعالى يريد منك أن تعبر بلسان الجميع تحقيقًا للوحدة ولفتًا للأخوة التي ربط الله بها بين الموحدين، ولأجل هذا كله جعل الله فضل صلاة الجماعة عظيمًا كما جاء عن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ) (متفق عليه)، إنه المسجد الذي يجمع ولا يفرق، يوحد قلوب المسلمين قبل أن يوحد أجسامهم.

 فالمسجد يحافظ على الألفة بين المسلمين، وينمّي المحبة بين العباد، ومن استخدم المسجد في غير ما أراده الله عز وجل لبيوته فقد ارتكب ظلمًا عظيمًا، واحتمل إثمًا مبينًا، مصداقًا لقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114] فالمساجد لا تستخدم في الترويج لسلعة، أو للبحث عن لُقطة، أو للإعلان عن أي عمل من شأنه أن يشق صف المسلمين، أو يمزق وحدة المجتمع، أو يدعو إلى فتنة، كل هذا ظلم عظيم، يحتمل فاعله عقابًا أليمًا في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.

ليتنا نُحيي دور المسجد الجامع، الذي يجمع قلوب المسلمين قبل أن يجمع أجسادهم، إننا بحاجة إلى أن يوجد في كل بلد من بلادنا مسجد جامع، يقدم للمجتمع العديد من الخدمات التربوية والأخلاقية فضلاً عن الخدمات الاجتماعية والصحية وغيرها، مما يعيد للمسجد دوره ومكانته في المجتمع، كما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وسلفنا الصالح.

                                         

*     *     *

 

 

فهرس الموضوعات

 

خلق الحياء والحفاظ على الأعراض

أولًا: العناصر:

1-         منزلة الحياء في الإسلام.

2-         الحياء من صفات الأنبياء والصّالحين.

3-         مظاهر الحياء وأقسامه.

4-         ثمرات الحياء.

5-         أثر ضعف الحياء في سلوكيات الناس.

6-         أثر الحياء في الحفاظ على الأعراض.

7-         الحياء من أهم سبل الوقاية من التحرش الجنسي.

ثانيًا : الأدلة:

        الأدلة من القرآن الكريم:

1-يقول الله تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].

2-    ويقول تعالى :{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 30، 31].

3-         ويقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } [الأحزاب: 53].

4-         ويقول الله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].

  الأدلة من السنة:

1-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) (متفق عليه).

2-وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ لِلأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ : ( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمَ ، وَالْحَيَاءَ ) (سنن ابن ماجة).

3-وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : ( إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ ) (سنن ابن ماجة ).

4-وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأولى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) (صحيح البخاري).

5-وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ) (متفق عليه).

6-وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( الْحَيَاءُ وَالْعِىُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ) (سنن الترمذي).

7-وعن عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: (الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ ). فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : " إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِى الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً" ، فَقَالَ عِمْرَانُ:" أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ " (متفق عليه).

8-وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ) (سنن الترمذي).

9-وعن سلمان (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وسلم): ( إنَّ ربكُم حَييٌ كريمٌ يستحيي مِنْ عبدِه إذا رَفعَ يَدَيهِ إليه أن يَرُدهما صِفْراَ ) (سنن أبي داود).

10-    وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ) (سنن الترمذي).

11- وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ (رضي الله عنهما) قَالَتْ: ( تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِى الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَىْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ - قَالَتْ - فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِى الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِى جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ - قَالَتْ - وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَأْسِى وَهْىَ عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ - قَالَتْ - فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِى ثُمَّ قَالَ (إِخْ إِخْ ). لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ - قَالَتْ - فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِى) (متفق عليه).

  الآثار:

1-    عن عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، ( اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَظَلُّ حِينَ أَذْهَبُ إِلَى الْغَائِطِ فِي الْفَضَاءِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِي اسْتِحْيَاءً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) (شعب الإيمان للبيهقي).

2-    وعَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ): ( مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، وَمَنْ كَثُرَ مِزَاحُهُ اسْتُخِفَّ بِهِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ، وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ ) (شعب الإيمان).

3-    وعن إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَة بْنِ قُرَّة قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَيَاءُ، فَقَالَ: (الْحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ) (حلية الأولياء).

4-     وعَن وَهب بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: ( الْإِيمَانُ عُرْيَانٌ ، وَلِبَاسُهُ التَّقْوَى، وَمَالُهُ الْفِقْهُ ، وَزِينَتُهُ الْحَيَاءُ ) (مصنف ابن أبي شيبة ).

5-    وَقَالَ الْحَسَنُ: ( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ كَامِلا، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ دِينٌ يُرْشِدُهُ ، وَعَقْلٌ يُسَدِّدُهُ ، وَحَسَبٌ يَصُونُهُ ، وَحَيَاءٌ يَقُودُهُ  )  (الآداب الشرعية لابن مفلح).

6-    وقَالَ الْأَصْمَعِيُّ (رحمه الله) سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: ( مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ) (الآداب الشرعية لابن مفلح).

7-    وعن عَائِشَة (رضي الله عنها) قالت: ( مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ عَشَرَةٌ يَقْسِمُهَا اللَّهُ لِمَنْ أَحَبَّ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَصِدْقُ التَأسِّي في طَاعَةِ اللهِ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ، وَمُكَافَأَةُ الصَّنِيع، وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتذَمُّمٌ لِلصَّاحِبِ، وإِقْرَاءُ الضَّيْفِ، وَالْحَيَاءُ رَأْسُهَا )  (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا).

8-    وعن سَلْمَان الفَارسِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ هَلَاكَ عَبْدٍ نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتاً مُمْقَتاً ) (الاستذكار لابن عبد البر).

ثالثًا : الموضوع:

           خلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا؛ بل هو أهم لوازم الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم، إنه معيار الأخلاق الحسنة وعلامتها؛ بل هو رأس مكارم الأخلاق، كما ورد عن أم المؤمنين  عَائِشَة (رضي الله عنها) قالت: (مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ عَشَرَةٌ يَقْسِمُهَا اللَّهُ لِمَنْ أَحَبَّ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَصِدْقُ التَأسِّي في طَاعَةِ اللهِ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ، وَمُكَافَأَةُ الصَّنِيع، وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتذَمُّمٌ لِلصَّاحِبِ [و هو أن يَحْفظ ذمَامَه ويَطْرح عن نَفْسه ذَمَّ النَّاس له إن لم يَحْفَظه، وإِقْرَاءُ الضَّيْفِ، وَالْحَيَاءُ رَأْسُهَا ).

 وخلق الحياء سمة بارزة تميز هذا الدين العظيم، فالنبي (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) يقول: ( إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ )، فالحياء ليس من نوافل الأخلاق في الإسلام بل هو من صميم الدين وجزء منه وشعبة من شعبه، كما جاء في الحديث: ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ )، إنه خلق يحبه الله عز وجل ويرضاه لعباده الصالحين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ لِلأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ : ( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمَ، وَالْحَيَاءَ )، بل إن الحياء يرتبط بالإيمان، فإذا غاب الحياء غاب الإيمان، ففي الحديث عن عبد الله بن عمر(رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): ( الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا ، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ ) (المستدرك على الصحيحين للحاكم).

والحياء جامع لكل خصال الخير، يدفع الإنسان إلى فعل المحاسن ويبعده عن القبائح، ما اتصف به مسلمٌ إلا حاز الخير الكثير، وابتعد به عن الشر المستطير، ونال به الثواب العظيم، فعن عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: ( الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِى إِلاَّ بِخَيْرٍ ). فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِى الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً.

           والحَيِيُّ من صفات الله عز وجل ففي الحديث: ( إنَّ ربكُم حَييٌ كريمٌ يستحيي مِنْ عبدِه إذا رَفعَ يَدَيهِ إليه أن يَرُدَّهما صِفْرًا )، وعن معنى اتصاف الله تعالى بذلك يقول الفيروزآبادي:  وأَمّا حياءُ الربّ - تبارك وتعالى - من عبده فنوع آخر لا تدركه الأَوهام ولا تكيّفه العقول، فإِنَّه حياءُ كرمٍ وبرٍّ وجُودٍ، فإِنَّه خير كريم يَستحى من عبْده إِذا رَفَعَ إِليه يديه أَن يردَّهما صِفراً، ويستحيي أَن يعذّب ذا شَيْبة شابت فى الإِسلام. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبْدُه ويستحى هو  (بصائر ذوي التمييز).

وخلق الحياء من أعظم الأخلاق التي تحلَّى بها الأنبياء والصالحون، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بلغ من الحياء غايته كما يقول أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) :  كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) حييًّا أعظم ما يكون الحياء، لا يجابه أحداً بما يكره، وإن غضَّ ذلك من راحته هو، حتى غار عليه ربه وأنزل قرآنًا يعلم فيه الناس كيف يتعاملون مع حبيبه (صلى الله عليه وسلم)، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}[الأحزاب: 53].

و الحياءُ الممدوح في كلام النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) إنَّما يُريد به الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل ، وتركِ القبيح ، فأمَّا الضعف والعجزُ الذي يوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ ، وعجزٌ ومهانة ، والله أعلم. (جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلى).

والحياء يكون من الله تعالى ومن النفس ومن الناس، أما الحياء من الله تعالى فهو أعلى درجات الحياء، فيستحي العبد من ربه أن يجده حيث نهاه، وهذا الحياء الذي بين العبد وربه قد بينه الحديث: ( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: ( لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ )، ولِمَ لا نستحيي من الله تعالى ونحن نتقلب في نعمه وإحسانه ولا نستغني عنه طرفة عين، ونحن تحت سمعه وبصره، وهو الذي خلقنا ويرزقنا فَنُطْعَمُ من خيره، ونتنفس في جوه، ونعيش على أرضه، فكيف لا نستحي منه؟! ولهذا أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلاً بالتَّسَتُّرِ ولو كنا في خلوة حياءً من الله تعالى، فعن بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ عَوْرَاتُنَا، مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: ( احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ )، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: ( إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تُرِيَهَا أَحَدًا، فَلاَ تُرِيَنَّهَا )، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ: ( فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ(سنن أبي داود)، فإذا كان هذا حال المؤمن حتى في خلواته فما بال هؤلاء المتكشفين المتبجحين بكشف العورات وإظهار القبائح أمام الخلائق!!! فالعبد إذا علم أن الله ناظر إليه؛ أورثه هذا حياء منه تعالى، وإذا تيقن العبد أن الله مطلع عليه وسيسأله يوم القيامة عن كل ما اقترفت يداه، فإنه سيخجل فيقبل على الفضيلة ويترك الرذيلة، لما احتضر الأسود بن يزيد (رحمه الله) بكى، فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قا: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك منى؟! والله لو أتيت بالمغفرة من الله ( عز وجل) لأهمّني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحييا منه.

وأما الحياء من الناس فهو مطلوب وهو من مكارم الأخلاق كذلك، وهو يكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح، رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) ( أَتَى الْجُمُعَةَ مُتَأخرًا َفوَجَدَ النَّاسَ قَدْ انْصَرَفُوا فَتَنكَبَّ الطَّرِيقَ عَنْ النَّاسِ، وَقَالَ : لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنْ النَّاسِ) (أدب الدين والدنيا للماوردي).

وأما حياء المرء من نفسه : فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحييًا من نفسه حتى كأن له نفْسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.(مدارج السالكين).

ومن مظاهر الحياء: أنْ يُطهِّر المسلم لسانه من الفحش والرذيلة فـ (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (صحيح البخاري). فالحياء مستحبٌ في كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل.

كذلك من مظاهر الحياء: أن يتوقى الإنسان ويتحاشى كلّ ما يجلب له السوء من موارد الشبه ومواطن الشائعات، فمن الحياء أن يحرص المسلم على سمعته فلا يقول أو يفعل ما يلوث سمعته، ويعرضه للسخرية والأقاويل المغرضة. قال الْأَصْمَعِيُّ (رحمه الله): ( سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ).

ومن الحياء التعفف عن قول ما لا يليق، ولنا عبرة فيما كان يصنعه النبي (صلى الله عليه وسلم) حين يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) (شرح مشكل الآثار للطحاوى) ، وكان يكني عن أشياء كثيرة، فلْنتأسَ به (صلى الله عليه وسلم) ولنتخلق بأخلاق الإسلام حتى نعالج هذا الحال المأساوي الذي صرنا إليه، فلقد صرنا نسمع كل قبيح من القول في الطرقات وفي المواصلات وفي الأماكن الخاصة والعامة، صرنا نرى من يجاهر بالمعاصي ويتظاهر بالقبائح في وضح النهار وأمام الناس دونما وازع من إيمان أو رادعٍ من حياء.

ومن مظاهر الحياء أيضًا: محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظها حقَ زوجها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة ، فحياء المرأة هو سياجها وحصنها وحماها الذي تحمي به شرفها، وتصون به عرضها، وتحفظ به سمعتها، لذا دعا الإسلام إلى رعايته وتنميته، وجعله من أَجَلِّ النعم التي يَنعم بها المؤمنون المقربون، وتتحلى به عَقيلات الأسر، وعريقات الأصول، يلتزمنه ويتخذنه سننًا وطريقًا يمشين عليه ، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:25].

إن أجمل ثياب تتزين به المرأة المسلمة ثياب الحياء، ومن حياء المرأة غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة، وهذا ما أمر به القرآن الكريم حيث قال: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].

إن الحياء يدفع صاحبه إلى المحافظة على أعراض الناس، ويصرف صاحبه عن التلذذ بالنظر المحرم، ولذلك يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30]، أما انعدام الحياء فيؤدي إلى عدم المبالاة بانتهاك أعراض الناس، ولا يدري من يفعل ذلك أنه يأثم بكل كلمة يقولها، وبكل نظرة محرمة يطلقها ، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) قال : ( عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ كُتِبَ حَظٌّ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَالْعَيْنُ زِنَاهَا النَّظَرُ ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْمَشْيُ ، وَالآُذُنُ زِنَاهَا السَّمَاعُ ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ ) (المستدرك للحاكم)، وهو بنحوه في (صحيح مسلم)وغيره.

إن من أخطر مظاهر قلة الحياء ما نراه من بعض الحالات الشاذة كالتحرش الجنسي، ولو علم هذا الشاب الذي يظن أنه خلا بإحدى الفتيات ليتحرش بها أو يخدش حياءها أن الله تعالى مطلع عليه ناظر إليه لانزجر  عن هذه القبائح، واستحيا من الله سبحانه، فمن استحيا من الله تعالى عرف كيف يحافظ على أعراض الناس التي حرمها الله تعالى كحرمة بيته الحرام، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وكما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ) (صحيح مسلم).

إن على الإنسان أن ينظر إلى ما يجب أن تُعامل به زوجه أو أخته أو ابنته، وهذا ما عامل به النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد الشباب عندما عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) على صرفه عن فاحشة الزنا، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : " إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ : (ادْنُهْ)، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا  قَالَ : فَجَلَسَ قَالَ : ( أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ) ؟ قَالَ : لاَ  وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : (وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ ) . قَالَ : (أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ) ؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ : (وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ). قَالَ : (أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ)؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ :( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ ) . قَالَ : ( أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ)؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ :( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ) . قَالَ : ( أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ) ؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : (وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ ) . قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ )، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ " (مسند أحمد).

إن الله (عز وجل) شرع لنا كل ما من شأنه أن يحفظ الأعراض ويصونها، ومن أجل ذلك شرع حد القذف، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور: 4، 5].

إن من أثر انعدام الحياء فساد الحياة كلها، فالحياء – كما قال بعضهم – مشتق من الحياة، فذهابه فساد للحياة كلها، فإذا بنا لا نجد ابنًا يعبأ بأبٍ، ولا صغيرًا يوقر كبيرًا، ولا تلميذًا يحترم أستاذًا، وقليل الحياء لا يعبأ بدُنُوِّ همته، ولا يبالي بالحفاظ على قدره، ولا يجد ما يحثه على الفضائل فينطلق في اجتلاب شهواته غير مبالٍ بحق الله تعالى ولا حق الناس، وصدق المعصوم (صلى الله عليه وسلم) حين قال: ( إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) فكما يقول ابن رجب (رحمه الله):  من لم يستحِ صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، وما يمتنع مِن مثله مَن له حياء  (جامع العلوم والحكم)، فكن حَيِيًّا ولا تكن مُتَكَشِّفًا غير مبالٍ بشيء، فالحياء يعني التَّسَتُّرَ وخوف إظهار العيب والقبيح، والحياء بذلك هو الذي يفرق بين الإنسان والحيوان، فالحيوان هو الذي لا يبالي بما استتر منه وما ظهر، إن عدم مبالاة الإنسان بإظهار القول البذيء والفعل القبيح معناه انعدام الحياء عنده، وانعدام الحياء يعني انعدام الإيمان كما سبق، وكما جاء في حديث النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم): (الْحَيَاءُ وَالْعِىُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ ) ، والعي معناه في الأصل الْعَجْزُ فِي الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ السُّكُوتُ عَمَّا فِيهِ إِثْمٌ لَا مَا يَكُونُ لِلْخَلَلِ فِي اللِّسَانِ، وأما البَيان فإنما أراد منه بالذم التَّعمُّق في النُّطق والتَّفاصُح وإظهار التَّقدُّم فيه على الناس وكأنه نَوع من العُجْب والكِبْر، وقال الإمام أبو حاتم-رحمه الله-:  إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه، ودفن مساويه، ونشر محاسنه. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره هان على الناس ومُقت، ومن مُقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن فَقَدَ عقله، ومن أصيب في عقله كان أكثر قوله عليه لا له. ولا دواء لمن لا حياء له

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

علـو الهـمة في خدمة الدين والوطن

أولاً: العناصر:

1.     علو الهمة من معالي الأمور.

2.     فوائد علوّ الهمة.

3.     أثر عُلُوّ الهمَّة في إصلاح المجتمع.

4.     دعوة الإسلام إلى استثمار الهمم في البناء والتعمير.

5.     نماذج لبعض أصحاب الهمم العالية .

ثانيًا: الأدلة:

       الأدلة من القرآن الكريم: 

1.   يقول الله تعالى: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133].

2. ويقول تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].

3.   ويقول تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة: 48].

4. ويقول تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد: 21].

5.   ويقول تعالى :{إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90].

6.   ويقول تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 128].

7. ويقول تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء: 19-21].

 

الأدلة من السنة والآثار:

1-   عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ....) (صحيح مسلم).

2-      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( ... إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ) (صحيح البخاري).

3-    وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِىَ الأَخْلاَقِ وَيَبْغَضُ سَفْسَافَهَا) (السنن الكبرى للبيهقي).

4-   وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ) (سنن الترمذي).

5-   وعن رَبِيعَة بْن كَعْبٍ الأَسْلَمِي (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ لِي : ( سَلْ ). فَقُلْتُ : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ : (أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ ). قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ. قَالَ : ( فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) (رواه مسلم).

6-   وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (رضي الله عنه) عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) يَقُولُ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا ، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):  ( مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ: ( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا". (رواه الترمذي).

7-   وعن عبد الله بن مسعود (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) أنه قال: (لَوْ أعْلَمُ رَجُلا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهُ مِنِّي تَبْلُغُهُ الإِبِلُ لأَتَيْتُهُ) (المعجم الكبير للطبراني).

 

 

ثالثًا: الموضوع:

إن من محاسن الأخلاق وطيب الصفات التي حثّ عليها ديننا الإسلامي الحنيف " علوّ الهمة وقوة العزيمة "، فهي سلم الرقي إلى الكمال في كل أبواب الخير ، من تحلى بها فاز برفع الدرجات في الدنيا والآخرة ، لذا دعانا إليها ديننا الحنيف ، قال تعالى :{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133] ، وعن رَبِيعَة بْن كَعْبٍ الأَسْلَمِي قَالَ : كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ لِي : (سَلْ ). فَقُلْتُ : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ : ( أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ ). قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ. قَالَ : (فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) (رواه مسلم) ، فما وصل السابقون إلى ما وصلوا إليه إلا بعلوِّ هممهم وقوة عزائمهم ، لذلك فإن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى المخلصين من أبنائها الذين يواصلون الليل بالنهار والسير بالسُرى ، يقومون على البذل والعطاء في سبيل ارتفاع شأن أمتهم وتقدم أوطانهم ، ويغيرون مجرى الحياة بعلو همتهم وقوة عزيمتهم.

ولله درُّ القائل:

على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ  ...  وتأتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ

فتعظُمُ في عين الصَّغيرِ صغارُها   ...   وتصغر في عين العظيمِ العظائمُ

إن عظيم الهمّة لا يرضى بالمرتبة السفلى أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور  ، ولا تهدأ نفسه إلا بالمنزلة العالية ، بل تتحدى همته ما يراه مستحيلاً ، وينجز ما ينوء به أولو القوة ، ويقتحم الصعاب والأهوال ، يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته ، وتحقيق بغيته ، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره ، وأن المصالح والخيرات ، واللذات والكمالات لا يُتوصل إليها إلا بالجهد والمشقة ، يقول أبو تمام:

بصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبرى فلمْ ترها     **     تُنالُ إلاَّ على جسرٍ منَ التَّعبِ

ولولا الهمم العالية ما تقدمت الأمم ، ولا اخترعت المخترعات ، ولا ابتكرت الآلات ، ولا تقدمت البشرية ، فكيف كان يمكن أن يصل إلينا الإسلام لولا رجال جاهدوا وارتفعت همتهم وعلت عزيمتهم فاجتازوا العقبات وتخطوا الصعاب وتكبدوا المشاقَّ حتى نشروا الخير في كل مكان؟!  كيف كان يمكن أن يصل إلينا العلم والدين لولا أئمة علت همتهم فواصلوا الليل بالنهار يجمعون أطراف العلوم؟!

ولقد جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ما يحثُّ المؤمنين على رفع الهمة وارتياد معالي الأمور ، والتسابق في الخيرات ، والتحذير من سقوط الهمة والرضا بالدون.

 فها هو  القرآن الكريم يثني على أصحاب الهمم العالية وعلى رأسهم الأنبياء (عليهم السلام) وفي مقدمتهم نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث تجلت هممهم العالية في مثابرتهم ودعوتهم إلى الله عز وجل ، قال تعالى :{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[ الأحقاف: 35].  

وكذلك دعانا القرآن الكريم - أيضًا - إلى الهمة العالية والسعي نحو الأفضل ، والتسابق في الخيرات ، يقول تعالى: {.. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة: 48]. وقال تعالى :{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]. ويقول تعالى :{ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ}[الأنبياء:90].

إن الله (عز وجل ) يحب أصحاب العزائم القوية والهمم العالية ويعينهم ويوفقهم ، ويُبغض أصحاب الهمم الضعيفة الذين يكتفون من كل شيء بأقله ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِىَ الأَخْلاَقِ وَيَبْغَضُ سَفْسَافَهَا». وقد أُثِر عَنْ الفاروق عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّهُ قَالَ : «لَا تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ صِغَرِ الْهِمَم»[أدب الدنيا والدين للماوردي]. 

إنّ عظيم الهمّة لا يرضى بالمرتبة السّفلى أو المرتبة المتوسّطة من معالي الأمور ، ولا يهدأ إلّا حين يضع نفسه في أسمى منزلة وأقصى غاية ، ويعبّر عن هذا المعنى النّابغة الجعديّ بقوله:

  بلغنا السّماء مَجْدُنَا وجُدُودُنَا              وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا

ويقول أبو فراس الحمداني :

      وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا           لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ

فعلو الهمة دليل على كمال الرّجولة وكمال المروءة ، وهو خلق يوصل إلى محبّة اللّه ومحبّة النّاس ، ويحقّق الرّفاهية والسّعادة للأفراد والشّعوب . ويثمر السعادة في الدّنيا والآخرة.

وفي السنة النبوية تربية للمؤمنين على السعي نحو الكمال وبلوغ القمم ومحاولة الوصول إلى الأفضل والأحسن ، ففي الصلاة : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا في الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا في الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا ، وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِى سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (رواه مسلم).

 وفي قراءة القرآن الكريم : الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ ) (رواه مسلم).

وفي قصة مشروعية الأذان : حينما رأى عبد الله بن زيد (رضي الله عنه) الرؤيا ، قال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): (أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ ، فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا ، فَلَمَّا أَذَّنَ بِلَالٌ نَدِمَ عَبْدُ اللهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَقَامَ ) (السنن الكبرى للبيهقي).

   فالحرص على بلوغ الكمال في العمل قربة وطاعة لله (عز وجل) ، وإن لم ينتفع الإنسان بذلك في الدنيا لأنه فعل شيئًا يحبه الله تعالى، فعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُمْكِن لَهَا ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : (سَوُّوا لَحْدَ هَذَا) حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ: ( أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ ) (شعب الإيمان) ، فها هو رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يأمر بالإتقان في أمر لا ينفع ولا يضر ، لكنه يريد أن يُربيَ المسلمين على الإجادة والإتقان، يريد تربية الشخصية المسلمة على تَلَمُّسِ طريق الكمال ، وابتغاء الأجر على ذلك من الله تعالى ، يقول تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وعلوّ الهمة خُلق يُورِدُ صاحبه موارد التّعب والعناء ، ولكن التّعب في سبيل الوصول إلى النّهاية من معالي الأمور يشبه الدّواء المرّ  فيسيغه المريض كما يسيغ الشّراب عذبًا باردًا ، وعظيم الهمّة قد يشتدّ حرصه على الشّرف حتّى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار.

وهناك مجالات متنوعة ومتعددة تحتاج إلى علو همة العبد ، منها: 

أولاً : العلم ، فالعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم ، وأشرف غاية تتسابق إليها الأمم ، تجعل الطّالب يقاسي شدائد ، ويتحمل متاعب ، ولا يستهين بالشّدائد إلّا كبير الهمّة ماضي العزيمة ، العلم من أسباب علو الهمة ، يرفع صاحبه عن الدنايا ، ويلزمه معالي الأمور ، ولقد ضرب الصحابة الكرام (رضوان اللّه عليهم) المثل الأعلى في علوّ الهمّة وخاصة في طلب العلم ، وكان على رأسهم عمر بن الخطّاب ، وعبد اللّه بن عبّاس (رضي الله عنهم) ، فعمر بن الخطّاب (رضي اللّه عنه) كان يتناوب مع جار له من الأنصار النّزول إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم) يقول: (... فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ...) (صحيح البخاري).

وها هو ابن عبّاس (رضي اللّه عنهما) يحدّث عن علوّ همّته في طلب العلم فيقول: (كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ يَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي) فَيَقُولُ: (يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا جَاءَ بِكَ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟، فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ) (المستدرك  للحاكم).

لقد كان الواحد منهم يسافر الأسفار البعيدة من أجل تلقي مسألة من مسائل العلم ، يتحمّل في سبيل ذلك الفقر والفاقة دون أن يضعف همته ، فها هو عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) مع فضله وسابقته وما تعلمه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتمنى لو علم من الناس من هو أعلم منه ليرحل إليه ، يقول: (لَوْ أعْلَمُ رَجُلا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهُ مِنِّي تَبْلُغُهُ الإِبِلُ لأَتَيْتُهُ) (المعجم الكبير للطبراني) ، فكادت هممهم تبلغ السماء رفعةً ، لذا قادوا الدنيا وتصدروا الأمم. 

إن مثل هؤلاء من أصحاب الهمم العالية هم الذين يُعَوَّلُ عليهم في حل المعضلات التي تعترض طريق الأوطان ، فهذا هو  زيد بن ثابت (رضي الله عنه) الذي طلب منه النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أن يتَعَلَّمَ لغة اليهود حتى يأمن شرهم ، فتعلمها في خمس عشرة ليلة ، فعَنْ خَارِجَةَ - يَعْنِى ابْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - قَالَ:  قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ (رضي الله عنه) أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ وَقَالَ :( إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي). فَتَعَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَمُرَّ بِى إِلاَّ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى حَذَقْتُهُ فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ[سنن أبي داود].

ثانيًا : العبادة ، إذ إنها حق الله تعالى على العباد ، وحقوق الله عز وجل أولى بالقضاء ،  وعلو الهمة في العبادة مجال رحب لقوة العزيمة والتسابق في الخيرات ، فالمؤمن عندما يقوى إيمانه يقبل على طاعة الله تعالى برغبة جامحة ، فيكثر من النوافل والقربات ، وقد تمرُّ به فترات فتضعف همته وتخور عزيمته ، فيقصِّر في أداء الواجبات.

وقد كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يتعوذ بالله من العجز والكسل ، ويعلمنا علوّ الهمة ويرشدنا إلى أن نبتغي الدرجات العلا ولا نرضى بالقليل من أعمال العبادة والأجر الأخروي ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( .. إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ) (رواه البخاري). فإذا أراد الإنسان الآخرة فليجتهد لها ، يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا }[الإسراء: 19 - 21].

 ولن نجد أفضل من رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليكون قدوتنا وأسوتنا في علوّ همته في كل المجالات عامة ، ومجال العبادة خاصة ، فعلى الرغم من أن الله (عز وجل) غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، إلا أنه كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه ، وبلغ من همته (صلى الله عليه وسلم) في الجهاد ليعلي كلمة الدين ما يجعله يتمنى أن يقتل في سبيل الله ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) (صحيح البخاري).

ولقد فقه الصّحابة (رضي الله عنهم) عن اللّه أمره ، وتدبّروا في حقيقة الدّنيا فاستوحشوا من فتنتها وتجافت جنوبهم عن مضاجعها ، وارتفعت همّتهم عن سفاسفها ، فلا تراهم إلّا صوّامين قوّامين، وقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشيد بعلوّ همّتهم في التّوبة والاستقامة ، وقوّة عزيمتهم في العبادة والإخبات.

ثالثًا : العلم والسعي نحو  تقدم الأمة ورفعة الوطن ، إنه مجال عظيم لا ينبغي للمسلم التقصيرَ فيه ، فمن علامات التقدم والتحضر أن يصبح التنافس سمة بين الأفراد والفئات المجتمعية  المتنوعة التي تهدف إلى خدمة الوطن ورقيه والاجتهاد في البذل والتضحية من أجل حمايته ورفعة الأمة ، أما عندما تتهاوى الهمم في ذلك وتضعف العزائم تحلّ بالأمة الضعف حتى تصير غنيمة لغيرها من الأمم ، وقد ضرب الصحابة (رضوان الله تعالى عليهم) مثلا أعلى في علو الهمة التي تسهم في خدمة المجتمع ، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (رضي الله عنه) عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا ، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):  « مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ: « يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ : لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. (رواه الترمذي).

إن التنافس الشريف يكشف عن معادن الناس وعلو نفوسهم ، وقوة عزائمهم ، كما يبين مواطن قصورهم ، فلا يستوي في الناس مبادرٌ إلى الخير ومتباطئ ، ومسابق في الخير  ومتثاقل؟! يقول تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[الحديد:10].

إن علو الهمة من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المؤمن الذي يريد الله والدار الآخرة، فالمؤمن الصادق الحريص على الخير ، لا تراه إلا صاحب همة عالية ، ومن علو همته لا يعرف العجز ولا يألف الكسل ؛ فإن ضعف الهمة يترتب عليه آثار سلبية ، فهو كارثة للأمة ، وهو سبب ضياع قوتها ، وتفريق كلمتها ، وتمزيق وحدتها ، وتداعي الأمم عليها ونهب خيراتها ، وهو الأمر الذي حذر منه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعَنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : ( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ) ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : ( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ) (رواه أبو داوود).   

وفي الختام هذه رسالة نوجهها إلى كل مسلم: أن يغرس في نفوس أبنائه منذ نعومة أظفارهم هذا الخلق الرّفيع ، وهذه القيمة العظمى (علوّ الهمّة) كي تؤتي ثمارها في المستقبل رجالا أشدّاء ، وجيلاً معافى في بدنه وعقله ، ينهض بالأمّة ويقيلها من العثرات ، وحرّاسا للعقيدة والوطن ، مؤكدين على المشاركة الإيجابية في جميع مناحي الحياة ، ومنها المشاركة الإيجابية    في جميع الاستحقاقات الوطنية.

إن ضعف الهمم كارثة الكوارث على المجتمع ، بل وعلى الأمة بأسرها ، فأيقظ همتك وقَوِّ عزيمتك قبل أن ترحل عن الحياة وما بلغت فيها شأنًا ، وضع لنفسك هدفًا أن تكون كَفُلَانٍ من العظماء ، أو كَفُلَانٍ من العلماء ، أو كَفُلَانٍ من العُبَّاد الصالحين ، فبعلو الهمم تبنى الأمم ، وبضعف الهمم تسقط الأمم.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

قيمة الوقت

        أولاً : العناصر:

1-     قيمة الوقت في الإسلام.

2-     أهمية الوقت في حياة المسلم.

3-     الحث على اغتنام الوقت واستثماره. 

4-    أثر  تنظيم الوقت في حياة الفرد والمجتمع.

 

ثانيًا: الأدلة:

   الأدلة من القرآن:

1-   يقول تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

2-    ويقول تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1 - 5] .

3-     ويقول تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 1 - 4] .

4-    ويقول تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى: 1 - 3].

5-  ويقول تعالى : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}[الإسراء: 12].

6-    ويقول تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].

7-  ويقول تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40].

8-  ويقول تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 78، 79].

9-    و يقول تعالى : {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة : 36].

 

      الأدلة من السنة والآثار:

1-    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) (صحيح البخاري).

2-    وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لَا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ ) ( المعجم الكبير للطبراني).

3-     وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ) ( المستدرك للحاكم).

4-    وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ). قَالَ: فَأَىُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ) (سنن الترمذي).

5-    وعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا ) (سنن أبي داود).

6-    وعن الْحَسَن الْبَصْرِيّ (رحمه الله) قال: طَلَبْتُ خُطَبَ النَّبِيِّ  فِي الْجُمُعَةِ فَأَعْيَتْنِي فَلَزِمْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: ( إِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ اللهُ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي كَيْفَ اللهُ بِصَانِعٍ فِيهِ، فَلْيَتَزَوَّدِ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبَابِ قَبْلَ الْهَرَمِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ قَبْلَ السَّقَمِ، فَإِنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِلْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) (شعب الإيمان).

7-    ومن كلمات الحسن البصرى: (ما من يوم ينشق فجره إلا نادى مناد من قبل الحق: يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود منى بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة) ( ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض ).

ثالثًا : الموضوع: 

       إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بقدرته ، ورباهم بحكمته، وأنعم عليهم بنعم كثيرة وعظيمة لا تعد ولا تحصى، فقال تعالى:{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:18] ، ومن تلك النعم التي يتقلب فيها الإنسان صباح مساء: نعمة الوقت ، التي غفل عنها الكثيرون، يقول سبحانه وتعالى - مذكرًا بهذه النعمة- : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم: 33-34] ، ويقول تعالى في سورة أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}[الإسراء: 12].

فالوقت الذي يعيشه الإنسان مِنْ جُملةِ النِّعَمِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّهَا وأَشْرَفِهَا، لأنه أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الحياة ، فعلى العاقل أن يستقبل أيامه استقبال الضنين للثروة الرائعة? لا يفرط فى قليلها ولا كثيرها، يقول الشاعر :

فَالوَقْتُ أَعْظَمُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ               وَأَرَاهُ  أَسْهَلَ  مَا  عَلَيْكَ  يَضِيعُ

ويقول الإمام الحسن البصري رحمه الله : (يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك) ( حلية الأولياء ).

        ولقد عني الإسلام بالوقت عناية بالغة، وحرص على بيان عظمته وأهميته ، وحث على شغله بالطاعات والقربات، وحذر أشد التحذير من التفريط فيه، وأنذر المفرطين في أوقاتهم من الحسرة والندامة على ذلك التفريط يوم القيامة، حيث يقول قائلهم حينئذٍ:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] ، وحيث يقولون في حسرة وندامة أيضًا: { رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}[إبراهيم: 44].

ولعظيمِ شرَفِ الوقتِ وأهميتِهِ أقسَمَ اللهُ تعالَى بهِ ، فِي أكثرَ مِنْ موضعٍ فِي كتابِهِ الكريمِ، فيقسم بالفجر في قوله تعالَى:{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ }[الفجر:1-2]، ويقسِم باللّيل والنهار في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2] ، ويقسم بالضحى في قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى: 1، 2] ، ويقسم بالعصر في قوله تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ }[العصر:1، 2]... إلى غير ذلك من الآيات.

    وإذا أقسم الله تعالى بشيء من خلقه فإنه بذلك يلفت أنظارنا إليه ، وينبهنا على جليل منفعته وعظيم آثاره ، و الحضِّ على الاستفادة منه،  فالعظيم لا يقسم إلا بشيء عظيم ، وقَسَمُهُ سبحانه بأوقاتٍ كثيرةٍ، وأجزاء من الزمن كالفجرِ ، والصبحِ ، والضحَى ، والعصر ، والليلِ وغير ذلك، إنما كان لفتًا للأنظار نحوَها لعظيم دلالتها عليه، ولجليل ما اشتملت عليه من منافع وآثار.

فعلى المسلم أن يعي هذه الحقيقة ويسير على هداها، يقول تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[يونس:6].

كذلك حظي الوقت بنصيبٍ وافرٍ من العناية في السنة النبوية المطهرة ، حيث بين النبي  (صلى الله عليه وسلم) قيمة الوقت وأهميته، فيما ورد في كثير من الأحاديث، مشيرًا إلى أن المؤمن بين مخافتين ، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فعن الْحَسَن الْبَصْرِيّ ، قال: طَلَبْتُ خُطَبَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)  فِي الْجُمُعَةِ فَأَعْيَتْنِي فَلَزِمْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)  فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: ( إِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ اللهُ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي كَيْفَ اللهُ بِصَانِعٍ فِيهِ، فَلْيَتَزَوَّدِ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبَابِ قَبْلَ الْهَرَمِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ قَبْلَ السَّقَمِ، فَإِنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِلْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) ( شعب الإيمان) .

      كما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الوقت من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الإنسان، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهميته، حيث يقول  (صلى الله عليه وسلم):         ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) (صحيح البخاري ).

       ثم يؤكّد النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) على أهمية الزمن و قيمته ، فيقرّر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله تعالى يوم القيامة ، فعن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)  : ( لَا تَزُولُ قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ ) (المعجم الكبير للطبراني).

وهكذا : يسأل الإنسان عن عمره عامّة، وعن شبابه خاصّة ، فالشباب جزء من العمر، لكن له قيمة متميّزة باعتباره سنّ الحيوية الدافقة، ومرحلة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، قال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً }[الروم:54].

كل ذلك يذكّر الإنسان بقيمة الوقت ، ويوقظ فيه الإحساس بأهمية الزمن ، فإن هذا الزمن إذا مضى لا يعود، وسرعان ما يمضي وينقضي ، وهذا ما عبر عنه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله البليغ: ( ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة ) ( ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض )، فإذا كان مرور يوم له هذه الأهمية فكيف بمرور عام؟!

ولو تدبر الإنسان لوجد أن عمره محدود جدًا ، كما بين النبي  (صلى الله عليه وسلم): (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ )(سنن ابن ماجه) ، وستون سنة - في الحقيقة- لا تكاد تعد شيئًا مذكورًا لو تأمل العبد وتفطن، وكثير من الناس لا يشعر بقيمة هذا الزمن ولا بأهميته وكأن أمرًا ما كان! ولو دقق وحسب لوجد أن العمر ضيق وقصير.

إن للوقت أهميةً عظيمة في حياة المسلم ، بل هو الحياةُ كلها ، هذا الوقت إما أن يكون الإنسان فيه خاسرًا ، وإمّا أن يكون فائزًا، وذلك بحسب استغلاله لعمره ، لأن العمر الذي يعيشه الإنسان هو المزرعة التي يجني ثمارها في الدار الآخرة ، فإن زرعه بخير وعملٍ صالح كان من الذين يُنادى عليهم في الدار الآخرة قال تعالى :{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }[الحاقة: 24].

أما من زرعه بالمعاصي والمخالفات، وجهل قيمة الوقت وضيعّه في حياته، فسيأتي عليه يومٌ يعرف فيه قدره وقيمة العمل فيه، وساعتها يندم يوم لا ينفعه الندم.

      وقد جعل الحق سبحانه التعمير وطول العمر موجبًا للتذكر والاستبصار، وجعل العمر الذي يحياه الإنسان حجة عليه. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟!

  لذلك فإن من التوفيق والسعادةِ أن يدرك الإنسان قيمة وقته وعمره ، وأن يصرفَ هذا الوقت في العمل الصالح والدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعلّم العلم النافع والذكر وقراءة القرآن ، وفي كل أمرٍ يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع، فمن فَعَلَ ذلك أدرك قيمةَ وجودهِ في الحياة.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وقَتُ الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو يمرُّ مَرَّ السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياتُهُ وعُمُرُه، وغيُر ذلك ليس محسوبًا من حياته وإن عاش فيه عَيشَ البهائم) ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ).

     فالزمن نعمة عظمى ومنحة كبرى، يجِبُ اغتنامُها فِي كُلِّ مراحلِ العُمرِ ، حتى لا يكونَ حُجةً على الإنسان ِ إذَا ضَيَّعَهُ وتفَلَّتَ مِنْ بيْنِ يدَيْهِ دونَ أَنْ يرتَقِيَ فيهِ إلَى أحسَنِ حالٍ، لهذا كان واجبًا على كل مسلم تجاهَ وقتِهِ أنْ يحافظَ عليهِ محافظة شديدة ، وأنْ يحرصَ علَى اغتنامه والاستفادةِ منْهُ فيمَا ينفعُهُ فِي دنياه وأخراه ، كما حثنا على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ  (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) (المستدرك على الصحيحين للحاكم ).

      ومن محافظة الإسلام على الوقت حثه على التبكير ، ورغبته في أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطًا طيب النفس، مكتمل العزم ، فإن الحرص على الانتفاع من أول اليوم يستتبع الرغبة القوية في ألا يضيع سائر اليوم سدى، ففي الحديث يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) ( مسند الإمام أحمد ) ،  ولو بدأت أمتنا يومها كما حث النبي (صلى الله عليه وسلم) لوجدت في ذلك البركة والخير الكثير وتوفير النفقات الباهظة في استهلاك الطاقة والكهرباء.

وَلقد ترَبَّى أصحابُ النبي (صلى الله عليه وسلم) علَى ذلكَ ، فاغتنَموا الوقتَ وأحسنُوا استثمارَهُ ، فكانُوا هداةً للبشريةٍ ، أضاءُوا مشاعلَ النورِ فِي بِقاعِ الأرضِ بِمَا قدَّمُوهُ مِنْ عملٍ صالِحٍ ، وعلمٍ نافعٍ ، ولَمْ يُضيِّعُوا وقتًا فِيمَا لاَ ينفعُ ، لأنَّهُ مِنَ الغبْنِ الذِي حذَّرَهُمْ منْهُ رَسُولُ اللهِ  (صلى الله عليه وسلم) بقولِهِ: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) (صحيح البخاري). أَيْ أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغَ نِعْمَتَانِ يغفل عنهما كثير من الناس ويجهلون قدرهما، ولا يقومون بحق شكرهما ، فإذَا لَمْ يستعْمِلْهُمَا الإِنسانُ فِيمَا يُفيدُ فهَوُ خَاسِرٌ.

كانوا أحرص الناس على أوقاتهم لمعرفتهم بأهميتها، ولعلمهم بأنهم مسئولون عنها أمام الله عز وجل ، قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (مَا نَدِمْتُ علَى شيْءٍ ندَمِي علَى يومٍ غربَتْ شَمْسُهُ؛ نقصَ فيهِ أجلِي، ولَمْ يَزِدْ فيهِ عمَلِي) ( مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار ).

لقد بلغت عناية أسلافنا بالوقت أن ألفوا كتبًا فى عمل اليوم والليلة ليعرف المسلم كيف يقضي وقته وساعات حياته فيما ينفعه ويرضي ربه عز وجل، ومن نماذج سير سلفنا الصالح فى استثمار الوقت والحرص عليه الإمام القاضي أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة، أخذ يبحث في مسألة فقهية، وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، فيقول تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح: مرض أبو يوسف فأتيته أعوده فوجدته مغشيًا عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت في مثل هذه الحال؟! قال : لا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو بها ناجٍ. و نجد أيضًا الإمام المحدث محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة أنه كان لا ينام الليل إلا قليلاً، وكان يزيل نومه بالماء من أجل القراءة والدراسة.

هكذا كان حرصهم الشديد على أوقاتهم، كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئًا من وقته، وليس كما يفعل الكثيرون الآن من إضاعة للوقت  والعمر في غير طاعة الله ، بل في أعمالٍ تُسخط الله ورسوله، وتُلحق الضرر بالمؤمنين، لا يبالون بإضاعة أوقاتهم سُدى، ولو سألتهم عن حالهم قالوا: نريد أن نقتل الوقت بشيء من التسلية، وما درى هؤلاء أن من قتل وقته فقد قتل في الحقيقة نفسه، ولكن الكثير في غفلة ، يؤكد ذلك الحكمة الغالية: ( الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ، فهل يدرك هذا كثير من الشباب الذين يقتلون أوقاتهم ويضيعونها أمام الشاشات مع مواقع التواصل على الشبكة الدولية؟! لقد أصبحت هذه المواقع في كثير من الأحيان مواقع تقاطع لا تواصل، فالمستخدمون لها قد يتواصلون مع الغرباء، وينقطعون عن التواصل مع الأقارب، والتواصل مع الأهل والأولاد، إذ إنهم يقضون معظم الوقت أمام الأجهزة الإلكترونية،  فهو موجود بجسده مع أهله، ولكن عقله وتفكيره مع غيرهم، أيظن من يفعلون ذلك أن محياهم فى هذا الوجود سدى؟! قال تعالى : {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة : 36]، هل غاب عن هؤلاء أنهم مسئولون عن كل ساعة بل كل دقيقة تضيع من أعمارهم؟! إن قتل الوقت على هذا النحو إهلاك للفرد، وإضاعة للجماعة، فالعاقل هو الذي يدرك أن الزمن أنفاس تتردد ، وأن الدقائق التي تمرُّ عليه تنقص من حياته ، ورَحِمَ اللهُ شوقي إذ يقول: 

دَقَّــاتُ قَلْـــبِ الْمَــرْءِ قـــــــائلــــــة ٌ لــــهُ                إنَّ الحيـاة َ دقـــائـقٌ وثـــوانِي

وقال آخر :

وَمَـــا الْمَــــرْءُ إِلاَّ رَاكِــــــبٌ ظَهْـــــــرَ عُمْـــرِه     عَــلَــــى سَفَــــــــرٍ يُفِنْيـــــــِه بِاليَــــوْمِ وَالشَّــهْــــرِ

يَبِيْــــــــتُ وَيُضْـــــحِى كَل يَــــــــومٍ وَلَيْــــــــلَةٍ          بَعِيْــــــدًا عَنْ الدُّنْيَـــــــا قَــــرَيْبًـــــــا إِلَى القَبْـــــرِ

ومن ثمَّ فإنه ينبغي على العاقل أن يغتنم وقته، وأن يحرص على الاستفادة الكاملة منه فيما ينفعه في دينه وفي دنياه ، وفيما يعود على الأمة بالخير والسعادة والنماء ، حتَّى تتحقَّقَ لهُ السعادةُ فِي الدُّنيا والفوزُ فِي الآخرةِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (رضيَ اللهُ عنهُ) أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قال (صلى الله عليه وسلم):(مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ) (سنن الترمذي).

ويعمل جاهدًا على الانتفاع بوقته واستثماره الاستثمار الأمثل؛ فإن الوقت سريع الانقضاء، وما مضى منه فإنه لا يعود أبدًا. وما أحسن ما قاله الحسن البصري: ( أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم) ( مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار ).

ولما كان الوقت هو الحياة فتنظيم الوقت يعني تنظيم الحياة، ولهذا الأمر  أهميته البالغة، لأن تنظيم الوقت من أهم الوسائل التي تمكن الإنسان من تحقيق أهدافه التي رسمها لنفسه، فيتقن عمله، ويسعى جاهدًا إلى إنجاز ه بأحسن صورة، فيندفع نحو التطوير والرقي بنفسه وبمجتمعه ، فما فاز فرد على غيره إلاّ بإدراكه لقيمة الوقت ومبادرته للاستفادة منه بكل ما يستطيع.

ومن ثمَّ فإن عدم تنظيم الوقت أو إساءة استغلاله يخلق الكثير من المشكلات، مما يتسبب في تأخر المجتمعات، فإن تقدم الأمم وازدهار حضارتها ونهضتها لا يكون إلا بحسن استثمارها للوقت و إدارتها له.

وانطلاقًا من قول الله تعالى: {...وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم: 5] فإن المناسبات السنوية – كهذا الشهر الكريم شهر شعبان – تأتي لتذكرنا بمرور الزمن، فيتذكر الإنسان أن عامًا قد مرّ من حياته ليقف مع نفسه وقفة حساب، ليُقَوِّمَ ما اعوجّ ويُصلح ما فسد ويستقيم على طريق الله عز وجل قبل فوات الأوان، فمنذ هذا الوقت من العام الماضي مر بك عام كامل من عمرك فلتحاسب نفسك هل كان هذا العام في كفة حسناتك أم كان شيئًا آخر؟! وهل تضمن بقاءك لتدرك عامًا آخر لتستدرك ما فاتك؟! عليك أن تتبصر الطريق وتتخذ من هذه الأيام الطيبة المباركة فرصة لتُقَوِّمَ مسارك نحو آخرتك، وتعتبر بمرور الأيام وتَقَلُّبِ الليل والنهار، يقول الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النور: 44].

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

في استقبال العام الجديد

     أولا  : العناصــــــر :      

قيمة الزمن في القرآن الكريم والسنة المطهرة. 1-

هدى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في استقبال الشهور والأعوام .  2-  

الأمم الراقية تدرك قيمة الوقت ، فبه يغير تاريخ الأمم والحضارات . 3-

أهم الدروس المستفادة من ذكريات العام الماضي . 4-

أهم التمنيات للأمة والوطن في العام المقبل . 5-

      ثانيًا : الأدلـة  :-

                  الأدلـة من القرآن الكريم :        

1- قال تعالى :{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 36].

2- وقال تعالى :{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }[الإسراء : 12] .

3- وقال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر: 1، 2].

4- وقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2].

5- وقال تعالى :{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }[ سورة العصر كاملة]. 

6- وقال تعالى :{ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ }[المدثر : 33 ، 34 ].

7- وقال تعالى :{ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير : 17 ، 18] .  

8- وقال تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }[القصص : 77].

9 – وقال تعالى :{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة : 105].

10-وقال تعالى :{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر  : 18] .

11- وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [إبراهيم : 5] .

12- وقال تعالى  :{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ  }[فصلت : 53] .

 

            الأدلة من الســنة:

1-      عن طلحة بن عبيد الله ( رضي الله عنه) أن النبي) صلى الله عليه و سلم) كان إذا رأى الهلال قال: (اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ) (سنن الترمذي).

2-      وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) لرجل و هو يعظه : (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) (المستدرك للحاكم).

3-      وعن صَخْرٍ الْغَامِدِي (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:(اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ) (سنن أبي داود).

4-      وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنه) قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (صحيح مسلم).

5-      وعن كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) (رواه الطبراني).

6-      وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: « أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ : صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلاَةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ»(أخرجه البخاري).

  

 

ثالثًا- المـوضـــــــــــوع :

إن من سنن الله  (عز وجل)  في الكون اختلاف الليل والنهار ، وتعاقب الشهور والأعوام ، وأن كل يوم يمر على الإنسان - هو جزء من حياته- سيكون شاهداً له أو عليه ،  فما من يوم إلا وينادى: " يا بن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإن غابت شمسي لن تدركني إلى يوم القيامة" ، فالإنسان بين أجلين : أجل قد مضى لا يدرى ما الله فاعل فيه ، وأجل باقٍ لا يدرى ما الله قاضٍ  فيه ، والعاقل من يأخذ من شبابه لشيبته ، ومن صحته لسقمه ، ومن دنياه لآخرته ، ولقد بين القرآن الكريم للمسلم عدة شهور السنة الهجرية ، قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة :36].

وقد علمنا النبي (صلى الله عليه وسلم) كيف نستقبل الشهور والأعوام ، ففي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي رحمه الله بسنده من حديث طلحة بن عبيد الله (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله) ، فيعلمنا النبي (صلى الله عليه وسلم) استقبال الشهور والأعوام بالأمل في غدٍ أفضل من خلال طلبه من ربه أن يبدأ الشهر (باليمن والسلامة والإيمان والإسلام ربي وربك الله) وهي إشارة إلى أن رب الهلال الذي يرمز إلى الزمن هو الله وهو القادر على تغيير حال المسلم إلى الأفضل في الدنيا وكذا في الآخرة .

          ولقد لفت القرآن الكريم أنظارنا تجاه قيمة هذا الزمن وأهمية استثماره ، فتبرز قيمة الزمن عند الله في كونه من جملة ما أقسم به الله تعالى ولا يقسم الله عز وجل إلا بما هو عظيم ومكين عنده سبحانه وتعالى فتطالعنا أوقات كثيرة يقسم الله عز وجل بها ليبرز أهميتها ، وحث المجتمع المسلم على اغتنامها ، ومن هذه الأوقات الشريفة : قوله تعالى :{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } (تنبيهًا للمسلمين بألا يبدأوا يومهم من طلوع الشمس ؛ بل من طلوع الفجر ، ذلكم الوقت الشريف المبارك بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم)  لمن بكّر باستقبال يومه وبدأه بطاعة ربه ، فقد روي الإمام الطبراني (رحمه الله) بسنده من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال: (بورك لأمتي في بكورها) ، وقد أقسم الله تعالى بوقت الضحى فقال تعالى:{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} تنبيهًا لشرف هذا الزمان وما ينبغي أن يفعل فيه ، فقد أوصى رسولنا (صلى الله عليه وسلم) الأمة في شخص سيدنا أبي هريرة (رضي الله عنه) حيث قال في الحديث الذي رواه الإمام البخاري (رحمه الله) بسنده من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ : صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَصَلاَةِ الضُّحَى ، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ  ولا يوصي الخليل خليله إلا بما هو غالٍ وله مكانة في قلبه.

كما أقسم الله تعالى بوقت قد يشغل بعض المسلمين عنه وهو وقت العصر ، فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} تنبيهًا لعدم تضييع الآخرة بالانشغال بالدنيا ، وتلك هي الوسطية الربانية التي أرسى الله تعالى معالمها للأمة الإسلامية بألا ينغمس الإنسان في الدنيا فتكون شغله الشاغل ، ولا يصرف نفسه بالكلية عن الدنيا ويحرمها على نفسه ؛ بل يتزود من الدنيا للآخرة يأخذ نصيبه منها ولا يجور على نصيب الآخرة فقال تعالى مرشدًا المجتمع المسلم:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77].

وقد أقسم الله تعالى بأجزاء كثيرة من النهار تنبيهًا لحسن استثمارها ، واستضافة كل يوم يمر عليك بما يمكن أن يدر بالنفع على المسلم ولذا فقد أوصى الصالحون أن :"نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك ، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك وكذلك ليلتك"، فعلى المسلم أن يحسن الاستفادة من هذا الضيف الكريم الذي إذا رحل لن يُعوَّض ولن يأتي إلى يوم القيامة.

لقد بين لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الناس في غفلة عن هذه النعمة نعمة الزمن واستثماره في النافع المفيد ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ) (صحيح البخاري)، فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء وقد وهبنا الله تعالى نعمة الحياة ومدَّ في أعمارنا عاما بعد عام حتى أدركنا هذه الأوقات المباركات ، والفراغ هذا الوقت الذى نحيا فيه ونعيش كيف يمكن أن يستثمر الإنسان عمره ويجعله عمرًا مباركًا من خلال الاستفادة من الزمن فيما يعود عليه بالربح الوفير ، ويعود على مجتمعه ووطنه الذي يعيش تحت ظلاله بالتقدم والازدهار والرقي ، فقد روي الحاكم (رحمه الله) بسنده من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لرجل وهو يعظه: ( اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك).

إنه يُعلّم المجتمع المسلم أن يغتنم هذه الأمور الخمسة التي على رأسها اغتنام أخصب فترة من فترات عمر الإنسان وهي فترة الشباب والفتوة التي بها يصنع الشاب مستقبله ، ويغير وجه الأرض بساعديه وفكره المستنير ، ويرفع قدره عند ربه يوم القيامة ، ويعود بالخير العميم على وطنه بما قدم من أعمال محافظًا على عمره وشبابه واغتنامه فيما ينفع ويفيد الإنسانية من خلال ما فتح الله له من آليات وظفها كما ينبغي أن توظف ، وفهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)  قيمة الوقت فقد قدروه حق قدره ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : (إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا- فارغًا- لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة) (المقاصد الحسنة للسخاوي).

ويقول ابن القيم رحمه الله : إن إضاعة الوقت أشد من الموت ، لأن إضاعة الوقت تقطع عن الله والدار الآخرة ، والموت يقطع عن الدنيا وأهلها ) ناهيك عما دونه بعض أهل العلم من هدي للنبي (صلى الله عليه وسلم) فيما ينبغي للمسلم فعله في اليوم والليلة من ذكر واستثمار للوقت في أعمال الطاعة وقضاء حوائج الناس بما يثمر نفعًا وخيرًا وبرًا وغيرها التي تبين منهج الإسلام في الاستفادة من الوقت ، فاليوم أو الليلة آية من آيات الله ينبغي الحفاظ عليها ، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا }[الإسراء:12]، والمسلم الفطن هو من يحسن استخدام نهاره الذي هو جزء منه فيضيف إلى رصيد حسناته ومآثره فيه بقدر ما يستطيع من أعمال وفق طاقته وقدراته التي وهبه الله تعالى إياها ، وكذا يستثمر ليله في الاستعانة به على ما يلاقيه من متاعب طوال ليله وهذا ما رسمه الحق تبارك وتعالى للمسلم من جعل الليل سكنًا  وراحة والنهار معاشًا  وجدًا  ونشاطًا فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ : 10-11]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}[الفرقان:47] .

ومع استقبال العام الهجري الجديد يحاسب المرء نفسه ويراجعها ، فيقف على ما قصرت فيه نفسه فيستدرك ما قصر فيه ، وما قام به من عمل صالح فيدوام عليه ،فإن المؤمن في رباط دائم ، وصبر ومصابرة وجهاد ومجاهدة مع النفس والشيطان قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200] .

ومع محاسبة النفس أولا بأول يستطيع المؤمن أن يسعد في حياته وآخرته ويحظى برضوان الله تعالى، ومن كان هذا حاله مع نفسه فهو الذكي العاقل، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (سنن الترمذي).

ولقد كان عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) يكتب إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ ، فَكَانَ فِي آخِرِ ما يكتب: " أَنْ حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ ، فَإِنَّهُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى الرِّضَا وَالْغِبْطَةِ وَمَنْ أَلْهَتْهُ حَيَاتُهُ وَشُغْلُهُ بِهَوَاهُ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ، فَتَذَكَّرْ مَا تُوعَظُ بِهِ لِكَيْ تَنْتَهِيَ عَمَّا يُنْتَهَى عَنْهُ "(شعب الإيمان).

إن الأمة التي تستثمر وقتها وتحاسب نفسها لهى أجدر بالقيادة والريادة والخيرية، وهكذا حال الأمة الإسلامية التي نهلت من رسولنا (صلى الله عليه وسلم) وصنعت على هديه ، فقد صنعت حضارة غيرت وجه التاريخ ، تستلهم منها كل الأمم منطلقاتها نحو التقدم والرقي في شتى فروع العلم والمعرفة : في الطب ، والهندسة ، والصيدلة ، والفلك ، وكل العلوم الإنسانية ، ناهيك عن العلوم الدينية التي كانت منطلقات لهذه العلوم والمعارف ، قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام: 88] ، وقال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }[فصلت:53].

ومن ثم فإن الأمم الراقية صاحبة الحضارة هي التي اتخذت من الوقت قيمة عظمى وأعلت دور العلم والعلماء ، وأجزلت الأجر للعاملين فنهضت وارتقت وصارت على رأس الأمم .

وعليه ونحن نستقبل عامًا هجريًا جديدًا علينا أن نحاسب أنفسنا بعد انقضاء عام هجري بكل ما كان فيه من تقصير في جنب الله وفي حق وطننا ، ومجتمعنا المسلم ، ومجتمعنا الإنساني كله ، وما حدث في هذا العام من إساءة في عرض صورة هذا الدين السمح الوسطي المعتدل ، وبكل ما أثاره هذا العرض السيء من غير المتخصصين من تفرق واختلاف دبّ في المجتمع المسلم ، ناهيك عن آثار هذا التدين الشكلي من تخلف اقتصادي واجتماعي وثقافي وفكري محاولة من أعداء المسلمين لاستنزاف طاقات علماء الأمة في الرد على مثيري هذا الفكر المتطرف المتشدد يمنة أو يسرة  ، ومحاولة شغلهم عن إيجاد حلول جذرية للقضايا المصيرية للأمة الإسلامية عملا بقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.

فإذا أردنا أن نحسن استقبال هذا العام الهجري الجديد فعلينا أن نعلي قيمة الوقت في حياتنا اليومية ، لأنه هو الحياة ، وعلى الأمة أن تفسح المجال لعلمائها الأزهريين المتخصصين في حقل الدعوة لعرض التدين الحقيقي الذي لا غلو فيه ولا تطرف بمنهج وسطي رباني معتدل يمنح المسلم الفرصة لقيادة البشرية إلى تعبيدها لله رب العالمين وتعميرها لكونه الفسيح.

فمع بداية العام الجديد نتمنى ألا يكون حبنا لديننا أو وطننا حباً أجوف ، حُبَ أخذ لا حب عطاء ، ولا حتى تبادل حقوق وواجبات ، إننا نريد أن نتجاوز هذه  المراحل من ادعاء حب الأوطان إلى حب حقيقي يقوم على التضحية في سبيل الوطن ، والعمل لأجل إنقاذه من كبواته وعثراته ، سعياً إلى تقدمه ورقيه ، وأن يبدأ كل منا بنفسه ، ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة ، فيروي الترمذي (رحمه الله) بسنده من حديث حذيفة ابن اليمان (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا) وبخاصة أن حق الدين  وحق الوطن يدفعان إلي العمل لا إلى الكسل ، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه الإمام أحمد (رحمه الله) بسنده من حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه): (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا  يقوم حتى يغرسها فليغرسها).

وقد روي الطبراني (رحمه الله) بسنده من حديث كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ).

وأقول لكل متخصص في غير العلوم الشرعية أنت على ثغرٍ من ثغور الإسلام وداعية في تخصصك ، فالطبيب سيسأل عن الناحية الطبية للأمة ، والمدرس سيسأل عن الناحية التربوية لأبناء الأمة ، وأستاذ الجامعة سيسأل عن الناحية الفكرية والعلمية للأمة ، والفلاح سيسأل عن إطعام الأمة كلٌ في مجاله داعية ، فلو انشغل كلٌ منا بمجاله وتخصصه الذي وضعه الله فيه، وأدى دوره كما ينبغي ، فسيؤدي ذلك إلى طفرة علمية هائلة نرجع بها إلى ما كان عليه سلفنا الصالح ونكون مجتمعًا متكاملا لا متصارعًا ، ونكون مجتمعًا منتجًا لا مستهلكًا ، ونكون مجتمعًا متوحدًا على إعلاء المصلحة العليا للوطن فنبنيه ونعمّره ونرتقي به ونجمّله ، نأمل في مجتمع يكفل غنيه الفقير ، ويحترم الصغير فيه الكبير ويحنو فيه الكبير على الصغير ، فيصدق فينا الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن فيما رواه الإمام مسلم  (رحمه الله) بسنده من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ، ونكون على رأس الأمم لا في ذيلها، ونكون بحق وجهة مشرفة لدين الله عز وجل وترجمة عملية للدين الإسلامي الحنيف ، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا لما يرونه من صورة مشرقة للإسلام عبادة ومعاملة وسلوكًا حضاريًا في شتى المجالات وتحت أي ظروف وملمات .

فعلينا إذا أن نستقبل هذا العام الهجري الجديد بروح مفعمة بالإيمان ، يدفعها الأمل إلى بذل الجهد والمزيد من العمل في كل المجالات ، ولنراجع ما فات فنجبر التقصير ونثمن النجاح ونستثمر الوقت ، ونحافظ على الإنجاز ، ونتآلف ونتحاب لنسعد بالفوز برضوان الله عز وجل.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

دروس من الهجرة النبوية الشريفة 

 

أولاً: العناصر:

1.       بين يدي عام هجري جديد.

2.       من الدروس المستفادة :

أ- الثبات على المبدأ.  

ب- درس الأخذ بالأسباب .

ج- معية الله عز وجل.  

د-  التضحية والبذل والفداء.

3.       دور الأمة في ذكرى الهجرة .

ثانياً : الأدلة :

       الأدلة من القرآن :  

1- قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام: 34].

2- وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر:51].

3- وقال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال: 30].

4-وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9] .

5- وقال تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[التوبة :40 ].

6- وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].

7- وقال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الحشر: 8، 9].الأدلة من السنة :

1- موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم ) عندما أتى إليه عمه أبو طالب يساومه فيما أنك لو أردت لأعطيناك، لزوجناك، لملكناك، ثم يقول (صلى الله عليه وسلم) هذه العبارة والجملة الخالدة على مدى التاريخ:  ( والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ـ وهو الدين ـ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ( السيرة النبوية لابن هشام ) .

2- وعن أبي بكرٍ الصِّديق (رضي الله عنه) قَالَ : نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا ، فقلتُ : يَا رسولَ الله ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا . فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم ): ( مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا) ( مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ) .

3-           نماذج من تضحية الصحابة رضوان الله تعالى عليهم :

·                                                                                                                          نموذج تضحية أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بالمال وبالنفس من أجل طاعة الله والهجرة مع رسول الله واحتمالات تعرضه لكل أنواع الأذى والمخاطر في نفسه وفي أهله وفي أولاده.

·                                                                                                                          التضحية بالنفس: وأبرز مثال عليه سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حيث نام في فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يفديه بنفسه. 

·                                                                                                                          نموذج تضحية الأنصار بمالهم لنصرة إخوانهم المجاهدين في سبيل الله وفيهم نزل قول الله تبارك وتعالى:{ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }[الحشر: 8].

·                                                                                                                          التضحية بالمال:  فعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُمْ مَالِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:  «رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ» وفيه نزل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).‏ (صحيح ابن حبان).

4- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" (صحيح البخاري).

 

ثالثاً : الموضوع :

          فمنذ أيام قلائل ودعت أمتنا الإسلامية عاماً هجرياً ، مضى بخيره وشره ، مضى بآلامه وجراحه ، بأفراحه وأتراحه ، واستقبلت عاماً هجريًّا جديداً ،  نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العام خيرًا من سلفه ، وأن يجعل خلفه خيرًا منه . كما ندعوه جل وعلا أن يجعله عام نصر وعزة للإسلام والمسلمين، وصلاحًا لأحوالهم في كل مكان وحين.

ولقد كان من عادة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أن يذكر أتباعه بمرور الأيام وبكرّ الأعوام  وكان (صلى الله عليه وسلم) كثيرا ما يخاطب أتباعه بقوله ( أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه وأجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت ).

والأمة العاقلة هي التي تأخذ من ماضيها لحاضرها ، وتستفيد من الدروس والعبر ، وإن المتدبر لمعاني الهجرة الشريفة يستنبط منها دروساً عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويلحظ فيها حكماً باهرة يستفيد منها الأفراد والأمة بعامة في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي: 

 ( أ ) الثبات على المبدأ :

فهو من أهم دروس الهجرة التي يجب أن يستفيد منه المسلمون ، فحين صدع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بدعوته وعمل على نشر رسالته وقف المشركون في طريق دعوته مستخدمين كل أساليب القمع والبطش والتنكيل والتعذيب ليثنوه عنها ، ويمنعوه من أدائها ، حتى وصل بهم الجنون إلى العمل على قتله والخلاص منه : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30].

ولقد واجه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) الشدائد بعزيمة الرجال وصبر الأقوياء ويقين المتوكلين وإيمان الموحدين : ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) .

إن على الأمة أن توقن بأن من كان في معية الخالق لن يضره أذى ، وإن حقيقة التوكل على الله هي الحصن الحصين.

ب - درس الأخذ بالأسباب :

ومن أهم الدروس التي يجب على الأمة الاستفادة منها: درس الأخذ بالأسباب وعدم التواكل. فإن الإسلام دين لا يعرف التواكل ، بل يحاربه وينبذه ، ولا يعرف التواني والكسل والخمول ، وإنما هو دين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]. وفي الحديث عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ) . تغدو: تذهب أول النهار، وتروح: ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي).

لهذا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يضع خطة الهجرة بمنتهى الدقة والحكمة مستخدماً الفكر والعقل  فقبل أن يهاجر إلى المدينة تعاهد مع أهلها على نصرته وحماية دعوته ، فكانت بيعتي العقبة الأولى والثانية.

إن الإسلام دين الإعداد والتخطيط الجيد ، فقد أعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)  لكل أمر عدته بالرغم من عصمة الله له ، وذلك باختياره الوقت المناسب والرفيق المناسب وأساليب التعمية والتمويه على القوم ، ويتجلى ذلك حين أمر"عليا" أن ينام في فراشه، وحين اتجه ناحية الجنوب مع أنه كان يقصد المدينة المنورة شمالا ، وحين ظل بالغار ثلاثة أيام، واختياره لمن يهديه الطريق ، وتدبير أمر الطعام والشراب ، واختياره لمن يأتي له بأخبار العدو.

ويوم أن ودعت أمة الإسلام التخطيط الجيد، ونسيت قضية الأخذ بالأسباب صارت في مؤخرة الركب وفقدت عزتها وتركت مكانتها الريادية. وقد أمرنا الله بالإعداد في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}            [ الأنفال:60]. إن الموقف يتطلب من المسلمين تفعيل هذا المبدأ الإسلامي الهام وهو الأخذ بالأسباب وتضافر الجهود في سبيل العمل على نهضة الأمة الإسلامية ورفعة شأنها.

ج - معية الله عز وجل :

إن معية الله لأنبيائه وأوليائه المؤمنين ونصرته لهم هي سلاح الأمن والأمان، ومن صور ذلك : لما أذن الله لرسوله بالهجرة ، خرج بصحبة أبي بكر الصديق فأقاما في غار ثور ثلاث ليال، وقريش تطلب النبي وصاحبه، وتجعل لمن يأتي بهما مائة من الإبل، وتبحث عنهما في ربوع الصحراء، حتى أحدق الخطر وعظم الخطب ، لما بلغ المشركون باب الغار، قال أبو بكر (رضي الله عنه) للرسول (صلى الله عليه وسلم ): ( يَا رسولَ الله ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم )  قولة المؤمن الواثق من معية الله له: "يا أبا بكر، (مَا ظَنُّكَ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا)، وصدق الله تعالى حيث قال : { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40].

وكذلك الأمر لما تبعهما سراقة بن مالك حتى لحق بهما، وهو على فرس له، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( لا تحزن إن الله معنا). فكان كذلك ، إذ صد الله سراقة، وعاد أدراجه بعد أن أعطى الأمان لرسول الله ، وعرض عليه الزاد والمتاع، بل وعاد يصد ويرد كل من يلقاه في طريقه يطلب محمدا وصاحبه.

وينبغي للإنسان أن يعلم أن معية الله هذه التي نستفيدها من حدث الهجرة النبوية  ليست خاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ، بل إنها لكل مؤمن تقي محسن، قال تعالى : {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128].

د- التضحية والبذل والفداء.

إن الهجرة النبوية تعلم الإنسان كيف تكون التضحية من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، فقد اتضحت في هذه الهجرة معالم الإيمان الصادق، حيث ضحى المهاجرون رضوان الله عليهم بأموالهم وتجارتهم ومساكنهم في مكة وتركوها في سبيل الله، وصدق فيهم قول الله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}[البقرة:207].

وهذه نماذج من تضحية صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم.

نموذج تضحية أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بالمال وبالنفس من أجل طاعة الله والهجرة مع رسول الله واحتمالات تعرضه لكل أنواع الأذى في نفسه وفي أهله وفي أولاده.

 التضحية بالنفس: وأبرز مثال عليه سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  حيث نام في فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  يفديه بنفسه. 

          نموذج تضحية الأنصار بمالهم لنصرة إخوانهم المجاهدين في سبيل الله وفيهم نزل قول الله تبارك وتعالى: { لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحشر: 8].

التضحية بالمال:  فعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُمْ مَالِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، فَقَالَ: ( َبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ)  وفيه نزل قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.‏ (صحيح ابن حبان).

* دور الأمة في ذكرى الهجرة.

إن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها؛ لا بُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة، وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله ، وأن تمتثل للمنهج الذي رسمه لها ربها ، وطبقه رسولها (صلى الله عليه وسلم) ، وأن تهجر السوء والعصيان ، ويتجلَّى ذلك في هجْر المعاصي والذنوب التي أوهَنت الأمة، وبدَّدت قواها، وهزَّت كِيانها؛ لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ( ألا أُخبركم مَن المسلم؟ مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: مَن أَمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر: مَن هجَر الخطايا والذنوب، والمجاهد: مَن جاهَد نفسه في طاعة الله - عز وجل- ) (مسند أحمد)، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : قَالَ: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ). (صحيح البخاري).

إن مفهوم الهجرة يعنى أن نهجر السوء بكل أشكاله وأن نودع الكسل بكل ألوانه ، وأن نهاجر إلى الله بأرواحنا وأجسادنا قاصدين مرضاته ، وأن لا نسئ إلى الإسلام بتصرفاتنا الخاطئة ، فالهجرة معناها أن نغزو الصحراء لنعمرها ، وأن نستثمر كنوز الأرض وأن نقتحم العقبات والمصاعب وأن نحافظ على أمن الوطن وسلامة أبنائه ، وأن نحب الوطن ونضحي من أجله بأرواحنا وأبنائنا وأموالنا ، وأن نعيد إليه أمجاده مستلهمين القدوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الولاء والحب للوطن  فقد نظر إلى  مكة   مسقط رأسه حين هاجر مخاطباً إياها: (والله إنك لخير أرض الله و أحب أرض الله إلي و لولا أني أخرجت منك ما خرجت).

 

*     *     *

 

 

فهرس الموضوعات

 

الهجرة النبوية بين التخطيط البشري والتأييد الإلهي

أولا : العناصر :                                                   

1.     الهجرة والأخذ بالأسباب.

2.     التخطيط ضرورةٌ من ضرورات الحياةِ.

3.     تأييد الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم).

4.     معية الله تعالى لعباده المؤمنين.

5.     الهجرة والعبور وبناء الدولة .

    ثانيًا: الأدلـة:

           الأدلة من القرآن الكريم :

1.  قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال: 30].

2.  وقال تعالى :{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97].  

3.     وقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [ الأنفال:60].

4.     وقال تعالى:{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }[ يس : 9 ].

5.  وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة :40 ].

6.     وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر:51].

7.     وقال تعالى: :{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].

الأدلـة من الســنة :

1.  عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ):    ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا). تغدو: تذهب أول النهار، وتروح: ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي).

2.  وعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا )، قَالَتِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَبُو بَكْرٍ فِي الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَذَى فَقَالَ لَهُ (أَقِمْ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ إِنِّي لأَرْجُو ذَلِكَ ، قَالَتْ : فَانْتَظَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا ، فَنَادَاهُ فَقَالَ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ...) (رواه البخاري).

3.  وعن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ، فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا، رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا، لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ) (رواه أحمد).

4.  وعن أبي بكر (رضي الله عنه) قال: (... فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ - قَالَ - وَنَحْنُ في جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ (صلبة) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُتِينَا ، فَقَالَ ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ). فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا ، أُرَى ، فَقَالَ : إِنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَىَّ فَادْعُوَا لي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَى فَرَجَعَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَا هُنَا فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ - قَالَ - وَوَفَى لَنَا) (صحيح مسلم).

5.  وعَنْ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم ): (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا).( مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

    

 

ثالثًا: المـــوضــــــوع:

في مثل هذه الأيام المباركة من كل عام يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم)  من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ونحن حين نحتفل بهذه الذكرى العطرة إنما يكون ذلك للعبرة والتأسي وأخذ الدروس المستفادة منها ، فالمتدبر لمعاني الهجرة الشريفة يستنبط منها دروسًا عظيمة ، ويستخلص منها فوائد جمة، ويلحظ فيها حِكمًا باهرة يستفيد منها الفرد والمجتمع في شتى مجالات الحياة ، فالهجرة مع التخطيط والأخذ بالأسباب لم تخلُ من مظاهر التأييد الإلهي، والحفظ الرباني، يتضح ذلك مما يلي : 

·      الهجرة والأخذ بالأسباب : فحين وقف المشركون في طريق دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم ) ونشر رسالته مستخدمين كل أساليب القمع والبطش والتنكيل والتعذيب ليثنوه عنها ، ويمنعوه من أدائها ، حتى وصل بهم الجنون إلى العمل على قتله والخلاص منه قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ، أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم ) بالأسباب التي مكنت لدعوته وساعدت على نشر رسالته دون تقصير أو تكاسل ، فإن الإسلام دين لا يعرف التواكل ، بل يحاربه وينبذه ، ولا يعرف التواني والكسل والخمول ، وإنما هو دين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]. وفي الحديث عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ). تغدو: تذهب أول النهار، وتروح: ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي).

          فهو (صلى الله عليه وسلم) مع علمه الكامل بربه،(وهو القائل عن نفسه ـ كما في صحيح ابن خزيمة ـ فأنا والله أعلم بالله وأتقاكم له)، وتيقنه التام على وعده بنصرته لدينه وتأييده له، إلا أنه (صلى الله عليه وسلم) أعد لحادثة الهجرة عدتها، واتخذ لها ما يقدر عليه من الأسباب ، فالأخذ بالأسباب هو طريق الحصول على ما عند الله عز وجل، مع مواصلة العمل الجاد المحكم وقوة العزم وإخلاص النية وصدقها .

لهذا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يتخذ من الأسباب ما يقدر عليه ، في إعداده لرحلة الهجرة، وترتيب كل ما يلزم لها ، حيث كان (صلى الله عليه وسلم) حريصًا على قضاء حاجته سرًّا، وقد ظهر ذلك واضحًا حينما جاء ليخبر الصديق (رضي الله عنه) بأن الله قد أذن له بالهجرة، تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها) - كما في صحيح البخاري وغيره- : (عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ فِي الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَذَى فَقَالَ لَهُ (أَقِمْ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ فَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ إِنِّي لأَرْجُو ذَلِكَ ، قَالَتْ : فَانْتَظَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا ،(وفي بعض الروايات أنه جاء متقنعًا )  فَنَادَاهُ فَقَالَ: ( أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ...).

فلنتأمل حرص النبي في أن يأتي إلى أبي بكر متقنعًا حتى لا يُعرَف ، و كان حريصًا على أن لا يدري أحد بحركته وتوجهاته.

·   التخطيط ضرورةٌ من ضرورات الحياةِ ، وسبب من أسباب النجاح:

لما أذن الله - تعالى - لرسوله (صلى الله عليه وسلم ) بالهجرة أعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)  لكل أمر عدته بالرغم من عصمة الله له ، وذلك باختياره الوقت المناسب ، والرفيق المناسب ، وأساليب التعمية والتمويه على القوم ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) أنموذجًا للقائد والمعلِّم ، فتراه يضع خطة الهجرة بمنتهى الدقة والحكمة مستخدمًا الفكر والعقل ، ويثق في نصر الله (عزّ وجلّ) أولاً وأخيرًا.

ويتجلى ذلك في توزيع الأدوار وعدم احتكار المهام ، فيستدعى ابن عمه علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) لينام على فراشه الشريف ؛ على سبيل التمويه للمتربصين بأنه (صلى الله عليه وسلم) مازال في فراشه ، ويسلك (صلى الله عليه وسلم) طريقًا وعِرًا غير مأهول ولا معتاد ؛ لتضليل المطاردين ، ثم يتجه ناحية الجنوب مع أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقصد المدينة المنورة شمالاً ، وفي اختيار ه ( صلى الله عليه وسلم ) من يهديه الطريق استعان بذوي الكفاءة من أهل المروءة، وهو عبد الله بن أريقط الخبير بمجاهل الصحراء .

          ومن تخطيطه المحكم أنه (صلى الله عليه وسلم ) مكث بغار ثور ثلاث ليال قبل التوجه نحو يثرب حتى يهدأ الطلب عليه وعلى صاحبه ، ودبر من يأتيه في الغار بالطعام والشراب ، وهي أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنه) ، وينتقي عبد الله بن أبي بكر فيسند له مهمة نقل أخبار قريش ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) راعيًا للغنم ؛ ليخفي آثار عبد الله بن أبي بكر ، حتى لا تعرف قريش أين ذهب ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يحسن انتقاء من يقوم بكل مهمة ، وهُو في هَذا كلّه متوكلٌ على الله – تعالى- مُعلنًا أنه في معية الله ، فيقول لصاحبه : { ..لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..}[التوبة:40] .

إن هذا التخطيط المُحكم بهذه الدقة من النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، ليُعلم أمته أن هذا الدين القويم هو دين التخطيط لأي أمرٍ من الأمور ، فالمؤمن إذا كان قوي الإيمان بالله يعتمد تمام الاعتماد على الله، لا بد له من إجادة التخطيط في أي أمرٍ يريد أن يبلغه في هذه الحياة كما فعل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، حيث كان معه نصر الله ومعه رعاية الله ومعه تثبيت الله ومعه كفالة الله لكن لا بد له من التخطيط الدقيق، هكذا يُعلمنا رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)الدرس. فمن أراد أن يتعلم التخطيط فليتأمل هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي أكدت أن الإسلام دين الإعداد الجيد ، والتخطيط السليم ، وقد أمرنا الله بالإعداد في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [ الأنفال:60]. ومن ثم كان التخطيط ضرورةً من ضرورات الحياةِ وسببًا من أسباب النجاح ، وفي ذلك درسٌ بليغ وحكمة عظيمة؛ إذ إن حسن التخطيط وروعة التدبير لا تعدو أن تكون أسبابًا أُمرنا أن نجتهد في إعدادها دون التعلق بها ، إذ إن الحافظ والناصر و الموفق هو الله سبحانه وتعالى.

·تأييد الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم):

إن المتأمل في الهجرة النبوية الشريفة يجد أنها مظهر من مظاهر تأييد الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وسلم ) والدفاع عنه، فأحداثها لا تخلو من مظاهر التأييد الإلهي ، والحفظ الرباني. ولعل من أعظم تلك المظاهر في تأييد الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وسلم) وحفظه له : ما وقع له عند خروجه من مكة، وقد تآمر به كفار قريش ليقتلوه بضربة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل عملاً بمشورة أبي جهل، يقول تعالى حاكيًا عن كيدهم وتآمرهم:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30].

وهنا تتجلى العناية الربانية والتأييد الإلهي لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ، حيث يخرج (صلى الله عليه وسلم) من بيته - بحفظ الله تعالى له ، وفي رعايته وعنايته - وهو يخترق صفوف المشركين ، وفي يده الشريفة حفنة من التراب ، فجعل يذره على رؤوسهم، وهو يتلو قول الله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}[يس : 9 ] ، فقد أعمى الله أبصار قريش عن مقره فلا يرونه مع سعيهم الدائب في البحث عنه ، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا.

أخرج الإمام أحمد في مسنده ، عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه ، فأطلع الله - عز وجل - نبيه على ذلك فبات عَلُّي في فراش النبي (صلى الله عليه وسلم) تلك الليلة وخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال لا أدري ، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال ).

ومظهر آخر من مظاهر ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي يتجلى واضحًا ، في خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم)  وصاحبه، فحينما اقترب منهما، وهو على فرس له، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم):  ( لا تحزن إن الله معنا).  وفي ذلك، يقول أبو بكر (رضي الله عنه) ـ كما في صحيح مسلم ـ (...  قَالَ فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ - قَالَ - وَنَحْنُ فِى جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ (صلبة) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُتِينَا ، فَقَالَ ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ). فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا ، أُرَى ، فَقَالَ : إِنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَىَّ فَادْعُوَا لي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَى فَرَجَعَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَا هُنَا فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ - قَالَ - وَوَفَى لَنَا) . فكان كذلك إذ صد الله سراقة، وعاد أدراجه بعد أن أعطى الأمان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعرض عليه الزاد والمتاع، بل وعاد يصد ويرد كل من يلقاه في طريقه يطلب محمدًا وصاحبه.

كما نرى من مظاهر ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي للرسول (صلى الله عليه وسلم)، حين خرج بصحبة أبي بكر الصديق وأقاما في غار ثور ثلاث ليال، وقريش تبحث عنهما في ربوع الصحراء ، وتجعل لمن يأتي بهما مائة من الإبل، حتى عظم الخطب ، ولما بلغ المشركون باب الغار، هناك قال أبو بكر (رضي الله عنه) للرسول (صلى الله عليه وسلم):  لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) قولة المؤمن الواثق من معية الله تعالى وتأييده له: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) (صحيح البخاري).

وصدق الله العظيم حيث قال :{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة :40].

في هذه المعالم من هجرته (صلى الله عليه وسلم) ، يقترن الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة وعظة للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، ثم التجرد من الأسباب وتفويض الأمر لـرب الأسباب.

·   معية الله تعالى لعباده المؤمنين:

كذلك ينبغي للإنسان أن يعلم أن معية الله تعالى هذه التي نستفيدها من حدث الهجرة النبوية ليست خاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ، بل إنها عامة لكل مؤمن تقي أخلص لله تعالى في طاعته وأحسن العمل ، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].وقال (صلى الله عليه وسلم): ( احفظ الله يحفظك). فمن كان في معية الخالق سبحانه وتعالى لن يضره أذى ، وحاشا لله أن يترك أنبياءه وأولياءه أو يتخلى عنهم ، فهو القائل سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].

وانطلاقًا من ربط الماضي بالحاضر وحرص الإسلام على بناء دولة قوية مستقرة متماسكة شرع النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة بعد هجرته إلى المدينة المنورة ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ، ووضع وثيقة للتعايش السلمي بين سكان المدينة جميعًا على اختلاف أديانهم وقبائلهم تعد أعظم وثيقة بشرية في تاريخ الإنسانية تؤصل لفقه العيش المشترك بين الناس جميعًا .

      كما أن عبور قواتنا المسلحة لقناة السويس وخط برليف في العاشر من رمضان 1393هـ – السادس من أكتوبر 1973م كان نقطة تحول مهمة في تاريخ الدولة المصرية .وإننا الآن أمام نقطة تحول تاريخية فاصلة في اتجاه بناء الدولة المصرية القوية الحديثة ، وهذا ما يتطلب منا جميعًا بذل جهود كبيرة صادقة مخلصة : في العمل والإنتاج ، في التمسك بالقيم والأخلاق السامية ، في نشر المبادئ الإسلامية السمحة والقيم الإنسانية والحضارية الراقية  التي تتفق وديننا الحنيف ، في التعاون والتكاتف من أجل بناء هذه الدولة .بهذا تكون الهجرة قد أعطت درسًا تطبيقيًا في حقيقة الإيمان بالله – عز وجل - وما يتطلبه من إعداد مادي وتأهيل قلبي اكتسابًا للمعية الإلهية  ، والتأييد الرباني.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الأخذ بالأسباب في ضوء الهجرة النبوية الشريفة

أولا: العناصر:

1.     الهجرة نموذج لانتصار الحق على الباطل.

2.     من مظاهر الأخذ بالأسباب التخطيط الجيد .

3.     الأنبياء وسنة الأخذ بالأسباب.

4.     الأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر.

ثانيا: الأدلة:

         من القرآن الكريم:

1.  قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40].

2.  وقال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30].

3.  وقال تعالي: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *  وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[المؤمنون:27- 29]

4.     وقال تعالى: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:  25].

5.     وقال تعالى: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:  85].

6.     وقال تعالى:{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم: 12]

7.  و قال تعالي}:مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[ الأحزاب:23].                                                                          

          من السنة النبوية:

1-  عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ). تغدو: تذهب أول النهار، وتروح: ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي).

2-  وعنْ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا فِي الْغَارِ: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم): (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) (رواه البخاري). 

3-  وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أَطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) (رواه الترمذي).

4-  وعَن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ ، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ فَقَالَ : مَا قُلْتَ ؟) قَالَ : قُلْتُ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، وَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (رواه النسائي).

5-  وعَنْ أَبِى خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ قَالَ: (هي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ) (رواه الترمذي).

6-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ فَقَالَ : (أَمَا فِى بَيْتِكَ شَىْءٌ ؟). قَالَ بَلَى ، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ ( ائْتِنِى بِهِمَا ، فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ وَقَالَ : (مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ)؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ : ( مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأنصاري وَقَالَ : ( اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ )، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : ( اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا )، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِىءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِى وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِى فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِى غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِى دَمٍ مُوجِعٍ ) (رواه أبو داوود).

 

ثالثا: الموضوع:

إن المتدبر لمعاني الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة يستنبط منها دروساً عظيمة ، ويستخلص منها فوائد جمة، ويلحظ فيها حكماً باهرة يستفيد منها الفرد والمجتمع في شتى مجالات الحياة ، فهجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم تكن  هجرة مكانية ـ مجرد انتقال من مكان إلى مكان ـ فحسب كما يعتقد الكثير من الناس، بل كانت في حقيقتها حلقة من حلقات الصراع الدائم والمستمر بين الحق والباطل ، وهذا الصراع والتدافع بين الحق والباطل سنة إلهية نافذة ، قد يظن البعض فيها قوة الباطل ، لكن الغلبة دوماً تكون لأهل الحق ، وما ذلك إلا ليتميز أصحاب الصبر والهمم ، قال سبحانه: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[ الصافات:171ــ 173]. وقال تعالى : { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة: 21] ، فجاءت الهجرة لتعلن انتصار الحق على الباطل ، وانتصار الحرية على العبودية ، وانتصار الإيمان على الكفر، فكانت الهجرة حربًا على الضعف الإنساني في شتَّى صوره وألوانه، وانتصارًا للحق مهما بطشتْ به قوة الباطل، و تأسيسًا لأول دولةٍ دعائمُها العدلُ والعلم، والحريةُ والحضارة، والإخاءُ والمساواة، والرحمة والتوادّ ، لتظل الهجرة خير دليل على أن أصحاب الهمم والعزيمة لا تتوقف مسيرتهم.

ولم تكن الهجرة النبوية معجزة ربانية فحسب، ولا عملاً بشريًّا مجردًا فحسب ، فلقد اجتمع فيها الأمران التأييد الإلهي بعنايته ورعايته ، والتخطيط البشري متمثلاً في الأخذ بالأسباب المعينة على إتمام الأمر بنجاح.

والأخذ بالأسباب دون الاعتماد عليها عبادة واجبة يتقرب بها العبد إلى الله (تعالى)، وهي سنة من سنن الله الكونية ، فالدنيا بما أَوْدعه الله فيها من المنافع والسعي فيها ما هي إلا سبب  للنجاح في الآخرة ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع كلها أسباب موصلة إلى الغاية العظمى وهي رضوانِ الله (عز وجل) ، والدواء ما هو إلا سبب للشفاء ، والمدارسة سبب للنجاح ، وهكذا جعل الله لكل شيء سببًا.  

 

ولقد طبق نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) سنة الأخذ بالأسباب في الهجرة تطبيقًا عمليًا في أبهى صوره وأكمله ، حيث خطط للمهمة تخطيطًا جيدًا ، على الرغم من يقينه أن الله كافيه ؛ ليكون ذلك درسًا للأمة أن حسن التخطيط من دعائم التوكل على الله والأخذ بالأسباب، فاتخذ كل الوسائل التي تعينه على إنجاح الهجرة ، وفي الوقت نفسه كان مع الله (عز وجل) يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح ، وكان كل أمر من أمور الهجرة مدروساً بعناية فائقة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فعنصر التوقيت المناسب للخروج للهجرة كان مختارا بعناية من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، حيث جاء (صلى الله عليه وسلم)  إلى بيت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في وقت شديد الحر حتى لا يراه أحد ، وأمر (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر (رضي الله عنه) أن يُخرِج مَنْ عنده ، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه ، فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ : لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلاَّ يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ ِ لَمْ يَرُعْنَا إِلاَّ وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فِي هَذِهِ السَّاعِةِ إِلاَّ لأَمْرٍ حَدَثَ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ ، يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ، قَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: الصُّحْبَةَ) (رواه البخاري في صحيحه).

فبلغ الاحتياط عند النبي (صلى الله عليه وسلم) مداه ، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بشخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شئون الهجرة ، وتم وضع كل فرد في عمله المناسب ، الذي يحسن القيام به على الوجه الأكمل ، فعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) ينام مكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فكان سببًا للتمويه على المشركين وخداعهم ، حتى خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) تحرسه عناية الله وهم نائمون، وأبصار المشركين  معلقة بمضجع الرسول (صلى الله عليه وسلم).

وعبد الله بن أبي بكر (رضي الله عنه) ودوره العظيم في استطلاع الأخبار ورصدها ،  وأسماء ذات النطاقين (رضي الله عنها) وحملها الغذاء للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأبيها الصديق (رضي الله عنه) ، وعامر بن فهيرة راعي الغنم ، وقائد سلاح التمويه والذي قام بدوره وبأغنامه بتبديد آثار سير النبي (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه الصديق (رضوان الله عليه)، كيلا يتفرسها القوم ، وعبد الله بن أريقط دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، يأخذ الركب المبارك  من غار ثور إلى يثرب مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

إن ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) من تدبير للأمور على نحو رائع ودقيق، وبأسلوب حكيم، ووضعه لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب ، واقتصاره على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف ، لهو أكبر دليل على أخذه (صلى الله عليه وسلم) بالأسباب ، ثم اعتماده وثقته في الله (عز وجل) ، وعَنْ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ : مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) ( رواه البخاري). ومن ثمَّ كانت عناية الله تحيط به في كل مكان.

إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب في حياة المسلم ، وهو من علامات حسن التوكل على الله عز وجل ، والرضا بقضائه وقدره ، فلا يعني الرضا بالقضاء والقدر أن نضعف أمام المحن، أو نستسلم لليأس ، ولكن عين الرضا هو التوكل على الله (عز وجل) والأخذ بالأسباب ، فطلب الشفاء صورة من صور التوكل على الله والأخذ بأسباب الدواء ، وفي نفس الوقت لا يرد من قدر الله شيئا ،  فعَنْ أَبِى خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا قَالَ : (هي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ) (رواه الترمذي).

ولم يرض النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن يقف الإنسان عاجزا لا يدفع عن نفسه ويعتقد أن هذا من تمام الرضا ، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن العجز والضعف ، لما فيهما من مظاهر ذل لا تليق بمسلم أبدا ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ ، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ ، فَقَالَ : مَا قُلْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، وَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (رواه النسائي).

ولما جاءه (صلى الله عليه وسلم) رجل يشكو حالة فقره - وكأنه كان معطلا للأسباب-  فأرشده (صلى الله عليه وسلم) عمليًّا إلى ضرورة السعي وضرورة الأخذ بالأسباب، عَنْ  أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ فَقَالَ : (أَمَا فِى بَيْتِكَ شَىْءٌ ؟ ) قَالَ : بَلَى ‘ حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ : ( ائْتِنِى بِهِمَا ، فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ ، وَقَالَ : ( مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ ؟) قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: ( مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ). مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأنصاري وَقَالَ : (اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِى بِهِ ) ‘ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : (اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) ‘ فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِىءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِى وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِى فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِى غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِى دَمٍ مُوجِعٍ) (رواه أبو داوود).

وكان (صلى الله عليه وسلم) يأمر أصحابه بالأخذ بالأسباب حتى في الأمور التي قد يراها البعض دون جدوى أو فائدة ، فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أَطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ (يقصد ناقته) قَالَ: (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) (رواه الترمذي). ولهذا عاب سيدنا عمرُ بن الخطاب (رضي الله عنه) على  جماعة من أهل اليمن، كانوا يحجون بلا زاد فذمهم؛ قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حَبَّه في الأرض ثم يتوكل على الله.( رواه ابن أبي الدنيا). ورأى (رضي الله عنه) قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر (رضي الله عنه) بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة :10].

إن الإسلام دين لا يعرف التواكل ، بل يحاربه وينبذه ، ولا يعرف التواني والكسل والخمول ، وإنما هو دين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]. وفي الحديث عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ). (تغدو): تذهب أول النهار، (وتروح): ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي).

والأخذ بالأسباب أيضًا سنة عن الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ، فهذا نبي الله موسى (عليه السلام ) أمره ربه (سبحانه) أن يضرب البحر بعصاه حيث أتبعه فرعون وجنوده يريدون إلحاق الضرر به وبمن آمن معه ، وما العصى إلا سبب من أسباب النصر والتأييد الإلهي ، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ *إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ *  فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ *  فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء: 52 ــ 68] ، ولو شاء الله أن يؤيد نبيه موسى (عليه السلام ) بالنصر دون أن يأمره بضرب العصى لفعل ، ولكنه يُعلِّم أنبياءه وعباده الصالحين سنة الأخذ بالأسباب ، لتأخذ الأسباب نصيبها من حياة الإنسان .

ومريم بنت عمران (عليها السلام) أمرها ربها تبارك وتعالى وهي في أشد حالات الضعف والوهن وكانت في حالة المخاض ، أن تهز النخلة لتسقط عليها رطبًا جنيًا، قال تعالى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم : 25]. ومن المعلوم أنه لو هز النخلة عشرة رجال من جذعها لما تساقطت ثمرة واحدة ولكنها سنة الأخذ الأسباب.

ألم تر أن الله أوحى لمريم *** وهزى إليك الجذع تسَّاقط الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزها *** جنته ولكن كل شيء له سبب

إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع سنة الأخذ بالأسباب، وهذه عقيدة يجب أن ترسخ في الأذهان لنقضي بها على مفهوم السلبية والتواكل ويتأكد معنى الإيجابية، و يعمق مفهوم التوكل عند العبد وعدم الاغترار بحوله وقوته، فالأمور مقدرة  أزلا  بأسبابها الشرعية والدنيوية بمشيئة الله تعالى وحده .

إن المسلمين اليوم وهم يحتفلون بمقدم عام هجري جديد حري بهم أن يفهموا الإسلام فهمًا صحيحًا بعيدًا عن الأفكار المغلوطة ، فالإسلام أمر أتباعه بالعمل والسعي لعمارة الأرض ، ولا يعرف الكسل أو الضعف ، فهو دين حضارة ، ولن تتأتى الحضارة إلا بالأخذ بأسبابها معتمدين على الله عز وجل.

*     *     *

 

 

فهرس الموضوعات

 

أسس التعايش السلمي

في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)

أولا:العناصر:     
1ـ مراعاة الإسلام للبعد الإنساني.

2- ضرورة التعايش السلمي بين طوائف المجتمع.

3- أسس التعايش السلمي وصوره مع غير المسلمين.

- حرية الاعتقادِ.

- حُسنُ الجوارِ مَعَ غيْرِ المسلمينَ .

- حُسْنُ الصِّلةِ والإحسانِ إلَى الآخرينَ.

- العدل والإنصاف، وعدم ظلم الآخرين .

4ـ أثر التعايش السلمي على المجتمعات.

ثانيا: الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم  :

1- يقول تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات : 13].

2-ويقول تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[يونس : 118] .

3ـ ويقول تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

4ـ ويقول تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46].

5- ويقول تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256].

6- ويقول تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }[يونس : 99].

7- ويقول تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام :108] .

8ـ ويقول تعالى:{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].

9- ويقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}[النحل:90].

10- ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [ المائدة: 8].

الأدلة من السنة :

1ـ عَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِىَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ) (صحيح مسلم).

2- وعَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ :( أَسْلِمْ ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ) (رواه البخاري).

  وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ) (متفق عليه) .

  وعن صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ، مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً (بكسر الدال وسكون النون وفتح الياء معناه لاصقو النسب متصلو النسب) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (أخرجه  أبو داود  ) .

ثالثًا: الموضـــــــوع :

إن الإسلام دين الله للبشرية جميعاً ، فلم ينزل لتنظيم حياة المسلمين فحسب ، بل شرعه الله لتنظيم حياة الناس جميعاً ، فدعا إلى التواصل والتعايش بين أتباع الديانات ، وجعل العلاقة بين الناس جميعًا تقوم على أساس التعارف والتآلف والتعايش السلمي ، ذلك لأن أصلهم واحد ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات : 13] ، فالناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وعقائدهم إخوة في الإنسانية تنشأ بينهم علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية قوامها التعارف والتآلف ، نلمح هذا من خلال تعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) مع مجتمع  المدينة ، فقد أسس نظاماً عاماً أساسه التعايش السلمي بين الناس جميعا، والمسلمون اليوم في بلادهم، ومع من يعيشون معهم من مختلف الطوائف والملل، والنحل هم في أشد الحاجة إلى هذا المفهوم ، وهو : كيف يعيش الإنسان مع الآخر في سلام وأمان .

ومن الحقائق المؤكدة أن الاختلاف بين الناس سنة كونية من سنن الله عز وجل ، يجب أن نحترمها، لأن الناس لا يفكرون بطريقة واحدة ،  قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[يونس : 118]  فهذا الاختلاف دليل على أن الله (تعالى) منح عباده حرية الاختيار ، ومن ثم يجب علينا التعامل في الحياة مع كل الناس على اختلاف أفكارهم وتباين عقائدهم  دون السعي إلى الإقصاء للمختلفين معنا .

لقد أمرَنَا الإسلامُ بالمعاملة الحسنة معَ سائِرِ النَّاسِ، وطلبَ منَّا أنْ ندعُوَ إلَى هذَا الدِّينِ علَى أساسِ الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، قالَ تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[ الحجرات : 13].

إن التعايش السلمي بين الناس جميعاً حقيقة تاريخية ، وضرورة مجتمعية ، وأمر حتمي يفرضه الواقع الذي يعيشه الإنسان ، ولن يتحقق ذلك إلا إذا شعر الجميع بأنهم أبناء وطن واحد، وعملوا على رفعته، وتطويره، وتنميته تنمية شاملة للجوانب الروحية والمادية.

من أجل هذا رغب الإسلام أتباعه في العيش بسلام مع الآخرين ، فحين هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة وجد مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والانتماء ، وجد بها يهودا توطنوا، ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل ـ عن طيب خاطر ـ وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه، فكان أول ما فعله بعد بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضع صحيفة المعاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة ، وهذه الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول (صلى الله عليه وسلم) في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض ، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها.

ولقد أمر الإسلامُ أتباعَه بالمحافظة على كرامة غير المسلمين ومراعاة مشاعرهم حتى في موطن الحوار أو الجدل ، وحثَّهم على أن تكون المجادلة بالتي هي أحسن ، فقال تعالى:{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46] .

ويتجلَّى حِفْظ الكرامة الإنسانية في التعامل النبوي مع غير المسلمين ، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعامل كل الناس مسلمين وغير مسلمين باحترام لحقوقهم وحرياتهم، فقد أرسى (صلى الله عليه وسلم) مبادئ التعايش والاحترام المتبادل وحقوق الإنسان بين كل طوائف المجتمع منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بعقد الوثيقة  التي أبرمها مع يهود المدينة وغيرهم ، حيث أعطى اليهود كل حقوق المسلمين في الأمن والسلام والحرية والدفاع المشترك ومن بين بنودها المهمة : ( وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ ، مَوَالِيهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ (أَيْ يُهْلِكُ) إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ )، وجاء فيها كفالة حرية الدين والأمن والدفاع المشترك ضد أي معتد على المسلمين أو على اليهود  (كتاب الأموال لأبي عبيد) .

وهذا يعنى أن الدولة الإسلامية تتسع للجميع مسلمين وغير مسلمين ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا بشرط الالتزام بالضوابط المجتمعية التي تحفظ للجميع الحقوق والواجبات وفى مقدمتها السلم وعدم الاعتداء ، وعدم خرق بنود العقد الاجتماعي (الدستور) الذي ينظم العلاقة بين الناس جميعا.

إن التعايش بين الناس جميعًا - مسلمين وغير مسلمين - يقوم علَى أُسسٍ قويَّةٍ متينةٍ ثابتةٍ لاَ تتغيَّرُ ولاَ تتبدَّلُ، مِنْ هذهِ الأُسسِ :

* حرية الاعتقاد وعدمُ الإكراهِ علَى الدخول في الدين ، قالَ تعالى :{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256] وقدْ طبَّقَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) وأصحابُهُ (رضوانُ اللهِ عليهِمْ أجمعينَ) هذَا الأساسَ تطبيقاً عمليًّا، فلمْ يُكرهُوا أحداً علَى الدُّخولِ فِي هذَا الدِّينِ العظيمِ، ولَمْ يهدمُوا لأحدِ كنيسةً أوْ صومعةً أوْ أيَّ مكانٍ للعبادةِ، بَلْ كانَتْ أمكنةُ العبادةِ محترمةً مُصانَةً عندَ المسلمينَ.

ذلك لأن الإسلام كفل حرية الاعتقاد لبني البشر جميعًا ، ولم ولن يملك أحد تغيير هذا التنوع والاختلاف ، ويجب أن يُقرّ الناس جميعًا بذلك ، قال تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }[يونس : 99] ، فاحترام المعتقدات والمبادئ الأساسية مسألة بالغة الأهمية ولها أثرها الطيب على العلاقات بين الأمم والمجتمعات ، فلكل أمة عقيدة ومبادئ تقدسها وتلتزم بها ، وتعتبرها أسمى من غيرها ويدخل في هذا أركان الإيمان عند المسلمين ، من إيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره ، ولغير المسلمين ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها ، أو مبادئ يعتزون بها ، لذا أوجب الإسلام الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين – عليهم السلام - قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285] ، وألزمنا بعدم السب أو التعرض لأصحاب الديانات الأخرى بما يسيئ لهم أو لمعتقدهم ، فقال تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 108] .  

* كذلك رسَّخَ الإسلامُ فِي نفوسِ أتباعه أساسَ البِرِّ وحُسنِ الجوارِ مَعَ غيْرِ المسلمينَ، فجاءتِ النُّصوصُ تؤكد هذَا الأساسَ، وتُوضِّحُ صورَهُ التَّطبيقيَّةَ فِي المجتمعِ المسلمِ، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِىَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ) (صحيح مسلم).

وقدْ حفِلَتِ السيرةُ النَّبويَّةُ بصُوَرِ حُسْنِ الجوارِ وتعايش الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) مع جيرانه من غيْرِ المسلمينَ، فعَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ :( أَسْلِمْ ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ) (رواه البخاري).

* ومن أهم الأسس التي يقوم عليها التعايش السلمي : حُسْنُ الصِّلةِ والإحسانِ إلَى الآخرينَ ، والمتتبع لنصوص الشرع الحكيم يجد أنها تحث على التعايش مع الآخر طالما كان هناك احترام متبادل ومراعاة للحقوق والواجبات ، قال تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة : 8] . قال ابن كثير : أَيْ لَا يَنْهَاكُمْ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ فِي الدِّينِ، كَالنِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ مِنْهُمْ،{أَنْ تَبَرُّوهُمْ} أَيْ: تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} أَيْ: تَعْدِلُوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

والمتأمل في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعامله مع الناس جميعًا– مسلمين وغير مسلمين - يقف على المنهج العملي والخلقي للدين الإسلامي الذي جاءَ بالرَّحمةِ والإحسانِ للإنسانيَّةِ جمعاءَ، ولاَ يمكنُ أنْ تستقيمَ الحياةُ بدونِ تعايشٍ سلمِيٍّ وتعاونٍ بَنَّاءٍ بيْنَ أبناءِ المجتمعِ الواحدِ وبيْنَ أفرادِ الإنسانيَّةِ جميعاً، فالإسلامُ يدعُو إلَى حُسْنِ الصِّلةِ والإحسانِ إلَى الآخرينَ برغْمِ اختلافِ الدِّينِ، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ( رضيَ اللهُ عنْهما ) قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:( نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ) (متفق عليه).

كذلك من أهم الأسس التي يقوم عليها التعايش السلمي بين أفراد المجتمع: العدل والإنصاف ، وعدم ظلم الآخرين ، فالإسلامَ قَدْ حفظَ حقوقَ الآخرينَ وصانَهَا، ونصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ شاهِدَةٌ علَى هذَا، فقد جاءت آيات القرآن الكريم تأمر بالعدل وتحث عليه  وتدعو إلى التمسك به ، يقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى }[النحل:90] ويقول تعالى:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58] فالمسلم مطالب بأن يعدل مع جميع الناس سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [ المائدة: 8] أي: لا تحملكم عداوتكم وخصومتكم لقوم على ظلمهم، بل يجب العدل مع الجميع سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء.

وقد ذكر القرآن الكريم براءة يهودي اتهمه مسلم بالسرقة فنزلت آيات القرآن الكريم  تنفي عنه ما اتُّهِم به زورًا ، فقال تعالى : {  إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا *هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } [ النساء : 106، 109] .

 وكذلك حثَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) على العدل وعدم الظلم وخاصة مع غير المسلمين في أحاديث كثيرة ، منها ما أخرجه أبو داود في سننه ، عن عدة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

ولقد سار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج النبوي في العدل مع غير المسلمين ، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقتص للقبطي في مظلمته من عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقال مقولته التي أضحت مثلاً: )يا عمرو  متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟  .

وهذا عليّ (رضي الله عنه) فقد دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ إِلَّا دِرْعِي وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ، فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ أَصَابَ شُرَيْحٌ، مَا لِي بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا شريح للنصراني، قال فأخذه النصراني ومشى خطا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يَقْضِي عَلَيْهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اتَّبَعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعِيرِكَ الْأَوْرَقِ . فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ ، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ) ( البداية والنهاية لابن كثير).

هذا هو منهج الإسلام الذي يدعو إلى التعايش مع الآخر والحفاظ على حقوقه وحرماته، وتأمين المجتمع وقيمه مما يهدد أمنه وسِلْمَه ويحافظ على الأصل الذي على أساسه تُبنَى المجتمعات ، وهو التعارف والتآلف والتعايش السلمي .

           إن التعايش السلمي مع الآخر والذي يدعو إليه الإسلام جدير بأن يحقق للجميع ثمرات عظيمة ، وفوائد عديدة ـ سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية ـ ومن أبرزها: تحقيق السعادة والأمن والاستقرار والتقدم ، ويخلق جوًّا من التسامح والتحاب والتعاون الذي هو أحوج ما تكون البشرية إليه الآن .

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

دروس وعبر من الإسراء والمعراج

أولاً : العناصر:

1.       رحلة الإسراء والمعراج ودورها في ترسيخ الإيمان.

2.       مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنزلته .

3.       مشاهد من رحلة الإسراء والمعراج.

4.       الصلاة وعظمتها ومنزلتها في الإسلام.

5.       مكانة المسجد الأقصى في الإسلام.

 

 ثانيًا : الأدلة:

         الأدلة من القرآن:

1-   قال تعالى :{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

2-   وقال تعالى :{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 1 - 18].

3-       و قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

4-   وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم :30].

الأدلة من السنة :

1-  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ - قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قَالَ - فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ ( عَلَيْهِ السَّلاَمُ ) بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ (صلى الله عليه وسلم) اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ..) (رواه مسلم).

2-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ( لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عَلَيْهِ السَّلَام) قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَام) قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ.) (رواه مسلم).

3-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ) (متفق عليه).

4-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم )قَالَ ( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى ) (متفق عليه).

5-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ  وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ) (رواه الإمام أحمد).

ثالثًا : الموضوع: 

تأتي ذكري الإسراء والمعراج علي الأمة الإسلامية هذا العام ، وقد مرت بها بعض الأحداث والمحن التي تذكرنا بالشدائد التي سبقت معجزة الإسراء والمعراج ، حيث كان رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمون معه يعانون أشد المعاناة من أعداء الإسلام بأساليب مختلفة وطرق متنوعة  ، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج تفريجًا للكروب وشرحًا للصدور  وقربًا من الله علام الغيوب ؛ لتثبت قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم وتطمئنه ، وتثبت كذلك قلوب المؤمنين الذين اتبعوه ، وتبعث فيهم الطمأنينة فيوقنون بأنهم علي الحق ، وأن دينهم الحق ، وأن الله ناصر الحق لا محالة .

والإسراء والمعراج من المعجزات التي أيد الله بها نبينا عليه الصلاة والسلام، والإيمان بهذه المعجزة جزء من العقيدة الإسلامية، وبهذا كان التصديق بمعجزة الإسراء والمعراج ترسيخاً لإيمان المؤمنين وامتحاناً للنفاق والمنافقين الذين ارتدوا عن الدين لضعف إيمانهم وقلة يقينهم، وفاز بالصدق والصديقية أبو بكر رضي الله عنه فسمي صديقاً، لإيمانه وتصديقه الجازم بمعجزة الإسراء والمعراج، ومثله الصحابة الكرام ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى ، ففازوا بالإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة التي تمثل جزءاً هامًّا منها ، ومن ثم كانت رحلة الإسراء اختباراً جديداً للمسلمين في إيمانهم ويقينهم ، وفرصة لمشاهدة النبي (صلى الله عليه وسلم) عجائب القدرة الإلهية ، والوقوف على حقيقة المعاني الغيبيّة، والتشريف بمناجاة الله في موطنٍ لم يصل إليه بشرٌ قطّ ، إضافةً إلى كونها سبباً في تخفيف أحزانه وهمومه ، وتجديد عزمه على مواصلة دعوته والتصدّي لأذى قومه .

ومن هنا فلا عجب أن يقف العقل البشري عاجزًا أمام هذه المعجزة ، حيث أتى القرآن الكريم معلنًا أن الأمر يتعلق بقدرة الله تعالى الذي أسرى بعبده، قال عز وجل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1].

          إننا نجد  في هذه الآية الكبرى والمعجزة العظمى - الإسراء والمعراج -  تكريمَ الله تعالى لنبيه محمدٍ (صلى الله عليه وسلم ) وعلو منزلته وتثبيته وزيادة يقينه ،  و عبرة وتمحيصاً وهدى ورحمة وثباتاً لمن آمن وصدق وكان من أمر الله على يقين ، ولا أدل على ذلك من أنه (صلى الله عليه وسلم) حينما عاد من رحلته وأصبح في المسجد الحرام جلس واجماً ساكناً فجاءه أبو جهل عليه - لعنة الله - فقال: ما بك يا ابن أخي؟ فأخبره النبي (صلى الله عليه وسلم) بالأمر فقال له: لو جمعت لك قريشاً تخبرهم؟ قال: نعم، فجمعهم فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا في الضحك والصفير والتصفيق، فازدادوا كفراً وضلالاً والعياذ بالله ،وارتد ضعفاء النفوس، أما الصديق فقال: إني أصدقه بخبر السماء!  ألا أصدقه في الإسراء.. فآمن من آمن وهو على يقين من ربه ، وكفر من كفر بعد أن قامت عليه الحجة.

لقد جاءت معجزة الإسراء والمعراج في وقت فَقَدَ فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) الناصر من الأهل  ، إلا أنه لم يفقد عزيمته في مواصلة الدعوة، فتوجه إلى ربه داعياً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي) ، فجاءت ضيافة الإسراء والمعراج بعد ذلك؛ تكريماًُ من الله تعالى له، وتجديداً لعزيمته وثباته، ثم جاءت دليلاً على أن هذا الذي يلاقيه (صلى الله عليه وسلم) من قومه ليس بسبب أن الله تعالى قد تخلى عنه، أو أنه تعالى قد غضب عليه، وإنما هي سُنَّة الله مع محبيه.

إن رحلة الإسراء والمعراج بيان لفضل نبينا (صلى الله عليه وسلم) الذي يتجلى في هذا اللقاء العظيم الذي مَثَّلَ فيه كلُ نبي أمتَه، إنه مؤتمر الأقصى الذي  جمع الله تعالى فيه الأنبياء جميعًا، والعجب العجاب حين تأتي الصلاة فينتظر الأنبياء أيُّهم يصلي إمامًا، فيأخذ جبريل (عليه السلام) بيد النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقدمه معلنًا إمامة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لا  لأمته فقط وإنما للأنبياء والمرسلين أجمعين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (...فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ  ...) (صحيح مسلم)، وكأن الله عز وجل بذلك يريد أن يرسل بلاغًا إلى عباده جميعًا أن دين الأنبياء واحد، فلقد جاء جميع الأنبياء بالتوحيد الخالص، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ) (رواه البخاري)

وفي إمامته (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء إشارة إلى أنَّ أمر النبوة قد ختم، وأنَّ هذا النبي الكريم هو خاتمهم، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ( مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ - قَالَ - فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) (متفق عليه) ولأنَّ هذا حدث في المسجد الأقصى مهبط الرسالات ومبعث الأنبياء، ففي ذلك إشارة من الله عز وجل أنه وضع حماية المقدسات في الأرض في يد هذا النبي الكريم وأمته من بعده.

وقد بين النبي ( صلى الله عليه وسلم) جانباً من هذه الرحلة وكيف كان على نحو من التفصيل فقال:  ( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ - قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قَالَ - فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ) وبهذا ، ومنذ هذه الليلة تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهو أنه دين الفطرة. 

فليعلم القاصي والداني أن سلامة الفطرة لب الإسلام، ويستحيل أن تُفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب، فإن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرًا وسوادًا، وربما أُخفى هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية، ومظاهر مزوقة، ويوم تكون العبادات  نفسها ستارًا لفطرة فاسدة فإن هذه العبادات الخبيثة- والحال كذلك- تعتبر أنزل رتبة من المعاصي الفاجرة..، ولم لا و الإسلام هو الدين الذي يلبي نوازع الفطرة في توازن بين الروح والجسد  والدنيا و الآخرة، وقد كان هذا من أهم أسرار سرعة انتشار الإسلام و إقبال الناس عليه، على الرغم مما يوضع أمامه من عوائق وعقبات؟  قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم :30].

جدير بالذكر أن معجزة الإسراء والمعراج جاءت في  منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاما، حيث كانت في نهايات العهد المكي وعلى مشارف العهد المدني للدعوة الإسلامية، وتحديداً كانت قبيل الهجرة النبوية بنحو عام، وبذلك فقد كانت علاجاً مَسَحَ متاعب الماضي ووضع بذور النجاح للمستقبل.

إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم. وقد عرف محمد ( صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة أن رسالته ستنتشر في الأرض وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم ، فكان الإسراء والمعراج فَتْحًا لأبواب السماء للترحيب بالرسول في هذه الرحلة القُدْسِيّة، وتكريمًا له، وبيانًا لعلوّ قَدْرِهِ ومنزلته في الأرض والسماء، وإمامته لجميع الأنبياء الذين التقاهم في رحاب المسجد الأقصى، إيذانًا بأنَّ نبوّته خاتمة لكل الرسالات، وأنَّ ميراث الرسل قد انتقل إليه وإلى أمّته:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143].

على أن من أهم ما أثمرته هذه الليلة المباركة  تلك الهدية التي رجع بها النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ألا وهي الصلاة ، غرة الطاعات ، ورأس القربات ، وعماد الدين، وعصام اليقين ، وقد أراد الله تعالى أن تُفرض الصلاة مباشرة دون وساطة جبريل (عليه السلام) أو غيره لتكون الصلةَ الدائمة بين المسلم وبين ربه، وإعلانًا بعظيم منزلتها وعلو قدرها، وإلفاتًا لأنظار الناس بجلال قدرها وأن من أقامها فقد أقام الدين.

          وفي فرض الصلاة في هذه الليلة دلالة على عظيم فضل الله تعالى على عباده، فقد انتهى الأمر بكونها خمسًا في العمل وخمسين في الثواب، فهل هناك فضل ويسر أعظم من ذلك!! بل إن هناك إشارة إلى ذلك في قول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) في سورة الإسراء: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 78، 79] ، وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 17، 18].

ويعتبر فرض الصلاة بهيئاتها وأعدادها وأوقاتها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، فالصلاة إذن عماد الدين؛ من تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه.

          فللصلاة منزلتها الكبيرة في الإسلام ، ومما زادها أهمية وفضلا أنها فرضت في ليلة الإسراء والمعراج ، وفي هذا اعتناء بها ، وزيادة في تشريفها ، ومن ثم كانت آخر ما وصى به رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل موته ، ففي الحديث عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ،  قَالَتْ: كَانَ مِنْ آخِرِ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ ، وَمَا يُفْصِحُ بِهَا لِسَانُهُ. (رواه الإمام أحمد).

ولقد ربطت هذه المعجزة بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس ، حيث كان ابتداؤها من المسجد الحرام بمكة المكرمة وانتهاؤها بالمسجد الأقصى من الأرض المباركة، وهذا مما يدل على قدسية هذين المسجدين وما يحيط بهما من أرض شهدت مبعث النبوات وكانت مهد الرسالات ، ولهذا كان المسجد الأقصى القبلة الأولى التي لا تنسى للمسلمين، وكان المسجد الحرام القبلة الدائمة التي يتوجهون إليها كل يوم ، ويحجون إليها كل عام .

وإذا كان المسجد الحرام هو أول بيت وُضِع للناس في الأرض ؛ فإن المسجد الأقصى هو  المسجد الثاني والقبلة الأولى. جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ  (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) قَالَ : قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : (الْمَسْجِدُ الأَقْصَى) قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ:( أَرْبَعُونَ سَنَةً ) ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ)

وإذا كان المسلمون يتوجّهون في صلاتهم إلى الكعبة المشرّفة في اليوم خمس مرات لأداء الفريضة، فمن المهم أن يدرك هؤلاء المسلمون أن هذه الفريضة العظيمة   التي هي عمود الدين قد فرضها الله تعالى من فوق سماء بيت المقدس التي هي بوّابة الأرض إلى السماء، وفي هذا ما يكفي لتذكير المسلمين بأهمية المسجد الأقصى ومكانته في عقيدة المسلمين ، إذ إنه مَسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعراجه إلى السماوات العلى ، وكان القبلة الأولى التي صلى المسلمون إليها في الفترة المكية ، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَسْجِدِ الأَقْصَى ) ( متفق عليه)، وفي ذلك توجيه للمسلمين بأن يعرفوا منزلته ، ويستشعروا مسئوليتهم نحوه ، وهذا يقتضي وجوب المحافظة من قبل المسلمين على هذه المساجد ورعايتها.

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

تحويل القبلة دروس وعبر

أولاً : العناصر:

1-      فضائل شهر شعبان.

2-     تحويل القبلة - والدروس المستفادة:

- مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم).

- الدعوة إلى وحدة الأمة.

- وسطية الأمة .

- وجوب اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم)وطاعته.

  -  اختبار المؤمنين .

  -  الرباط الوثيق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى.

ثانيًا: الأدلة:

  الأدلة من القرآن:    

1-    يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ  مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ  اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 142 - 144]       

2-    ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31].

3-    ويقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

4-    ويقول تعالى : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }[الأنبياء: 92].

         

الأدلة من السنة :

1-    عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (رضيَ اللهُ عنْهُ) قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائم ) (سنن النسائي).

2-    وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) أَنَّهَا قَالَتْ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ ) (صحيح مسلم).

3-    وعن البراء بن عازب (رضي الله عنه) أَنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) كانَ أولَ ما قَدِمَ المدينةَ نَزَلَ على أَجْدَادِهِ – أو قال أَخْوَالِهِ- من الأنصار ، وَأَنَّه صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ستَّة عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَة عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاةٍ صلاها صلاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قومٌ، فَخَرَج رجُلٌ مِمَّن صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أََهْلِ مَسْجِدِ وَهُمْ رَاكعُونَ فقالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا- كَمَا هُم - قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَت اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُم إذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدسِ، وأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلمَّا وَلَّى وجْههُ قِبَل الْبيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ ) (رواه البخاري).

4-    وعَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ :  أَىُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِى الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ) ، قُلْتُ : ثُمَّ أَىٌّ ؟ قَالَ : (الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)، قُلْتُ : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً ، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ) (صحيح مسلم).

5-    وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (صحيح مسلم).

ثالثًا : الموضوع: 

       لقد فضل الله تعالى بعض الشهور على بعض، وجعل لها من المزايا ما يحث المؤمن على الحرص على استغلالها بالأعمال الصالحة ، وإن من هذه الشهور : شهر شعبان المكرم، الذي يتشعب فيه الخير وترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين.

هذا الشهر العظيم له مكانة عظيمة ، ومنزلة رفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكان يخصه بمزيد من العبادة ، ويكثر فيه من الصيام ، فكان أكثر ما يصوم في شعبان، فعن عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ) (صحيح مسلم ).

       وعندما سُئل عن ذلك أخبر (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أنه شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله تعالى،  ففي الحديث الذي رواه الإمام النسائي ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (رضيَ اللهُ عنْهُ) قَالَ : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ، قَالَ : ) ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ(.

وفِي شهرِ شعبانَ استجابَ اللهُ تعالَى لرغبةِ نبيِّه (صلى الله عليه وسلم) فِي تَحويلِ القبلةِ مِنَ المسجدِ الأقصَى إلَى الكعبةِ المشرفة، قبلةِ الخليلِ إبراهيمَ (عليه السلام)، وفي هذا الحدث من الدروس والعبر الكثير والكثير، والأمة الإسلامية في هذا العصر في أشد الحاجة إلى أن تأخذ منه الدروس والعبر والحلول التي تعالج مشكلاتها وتدواي جراحها.

      من هذه الدروس : مكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند ربه عز وجل :

فلقد كان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يتجه وهو في مكة إلى بيت المقدس جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، أي كان يتجه ويصلي للقبلتين معًا، وبعد أن هاجر إلى المدينة وجاء التوجيه الإلهي له أن يتوجه إلى بيت المقدس تعذَّر عليه أن يجمع بين القبلتين، فمكث النبي(صلى الله عليه وسلم)  يتوجه في صلاته بأمر ربه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا وهو في المدينة المنورة، وكان(صلى الله عليه وسلم) يحب أن يتوجه في صلاته إلى المسجد الحرام، ومع هذا التوجه كان المصطفى (صلى الله عليه وسلم)  يتلهف شوقًا إلى الاتجاه إلى المسجد الحرام،  وكان يرجو الله بقلبه، ويدعو بلسان حاله، موقنًا بأن ربه سيحقق رجاءه، فاستجاب الله له، وأكرمه بتحقيق ما يأمله ويرجوه ، فأمره أن يتوجه إلى الكعبة المشرفة، ونزل قوله تعالى :{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 144]، فتحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة وتظل كذلك إلى يوم القيامة.

     وكان في هذا التعبير القرآني {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ما يشير إلى أنها توافق رضا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهي دلالة على محبة الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم)  حيث وجهه إلى القبلة التي يرضاها ، قال صاحب المنار: ( أَيْ : إِنَّنَا نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَتَرَدُّدَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فِي السَّمَاءِ مَصْدَرِ الْوَحْيِ وَقِبْلَةِ الدُّعَاءِ ; انْتِظَارًا لِمَا تَرْجُوهُ مِنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَلُّبَ الْوَجْهِ بِالدُّعَاءِ ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ هِيَ شُعُورُ الْقَلْبِ بِالْحَاجَةِ إِلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُ، وَصِدْقُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِيمَا يَرْغَبُ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْأَلْفَاظِ ، فَإِنَّ اللهَ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَمَا أَسَرَّتْ ، فَإِنْ وَافَقَتْهَا الْأَلْسِنَةُ فَهِيَ تَبَعٌ لَهَا ، وَإِلَّا كَانَ الدُّعَاءُ لَغْوًا يُبْغِضُهُ اللهُ تَعَالَى، فَالدُّعَاءُ الدِّينِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِحْسَاسِ الدَّاعِي بِالْحَاجَةِ إِلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَعَنْ هَذَا الْإِحْسَاسِ يُعَبِّرُ اللِّسَانُ بِالضَّرَاعَةِ وَالِابْتِهَالِ) (تفسير المنار)، فرضا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من رضا ربه، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من طاعة ربه ، ولذلك قال تعالى:{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، وقال في آية أخري:{ولسوف يعطيك ربك فترضي}.

      ومن الدروس المستفادة أيضًا: أن تحويل القبلة أمرُ الله سبحانه وتعالى يجب التسليم له، وسرعة الاستجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم): فكم كان هؤلاء الصحابة (رضي الله عنهم) في قمة التشريف لهذه الدعوة؟! عندما جاءهم خبر تحويل القبلة وهم في صلاتهم ، فعن البراء بن عازب (رضي الله عنه) أَنَّ النبيَّ  (صلى الله عليه وسلم) كانَ أولَ ما قَدِمَ المدينةَ نَزَلَ على أَجْدَادِهِ – أو قال أَخْوَالِهِ- من الأنصار ، وَأَنَّه صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ستَّة عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَة عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاةٍ صلاها صلاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قومٌ، فَخَرَج رجُلٌ مِمَّن صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أََهْلِ مَسْجِدِ وَهُمْ رَاكعُونَ فقالَ أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا- كَمَا هُم - قِبَلَ الْبَيْتِ) (رواه البخاري).

وفي حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) : (بينما الناس في صلاة الصبح بقُباء إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  قد أُنزل عليه الليلة، وقد أُمِرَ أن يَستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) (متفق عليه).

فما أعظم استجابة الصحابة (رضوان الله عليهم) لأمر الله ، فلم ينتظروا حتى يُتموا صلاتهم!! وإنما تحولوا في الحال وهم في هيئة الركوع من قبلة بيت المقدس إلى اتجاه البيت الحرام، حيث أراد الله لهم، وهكذا شأن المسلم الصادق يدور مع أمر الله حيث دار، وحيثما اتجه فوِجْهَتُهُ نحو الله قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

لقد علّمونا (رضي الله عنهم) كيف نستقبل أوامر وتعاليم الإسلام بهذه السرعة استجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، فلنتحول كما تحول الصحابة في حادث تحويل القبلة، نتحول بكل قوة وثقة ورشاقة إلى منهج الإسلام بكلياته وجزئياته ، كما تحول الغرُّ الميامين وهم ركوع.

      ومن أهم ما يجب أن نتعلمه من هذا الحدث أيضًا : أن الابتلاء والاختبار والامتحان من سنن الله في خلقه: فقد كان تحويل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة أمرًا شاقًا على النفوس، إلا على الذين هدى الله، وذلك بتسليم الأمر لله عز وجل، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وله الحكمة التامة والحجة البالغة ، يقول تعالى :{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }[البقرة: 143].

    وعن البراء بن عازب (رضي الله عنه) قال: (وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا، لم ندرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم ، فبين عز وجل أنه من رحمته بعباده المؤمنين لا يضيع أعمالهم، فكيف يظن الناس أن صلاتهم إلى بيت المقدس باطلة.

         قال بعض أهل العلم: كان في جعْل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة واختبار للمسلمين والمنافقين والمشركين.       

فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا قال تعالى:{ وقالوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران: 7] وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم ، وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وأما اليهود فقالوا: خالف قِبْلة الأنبياء.

      وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه؟! إن كانت القبلة الأولى حقًا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله  تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] .

وكانت امتحانًا من الله لعباده، ليرى مَن يتَّبعُ الرسول منهم ممن يَنْقَلِبُ على عَقِبَيه، وكثرت أقاويلُ السفهاء مِن الناس ، وأخبر ربنا سبحانه رسوله (صلى الله عليه وسلم) بما سيقولونه عند التحويل قبل أن يتم، وهذا من الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم ، فقال:{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}[البقرة: 142]، ثم أنزل الله جواب السفهاء في قوله تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[البقرة: 142] ، أي أنّ الحكم والتصرف والأمر كله لله فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا، ولو وَجَّهَنا كل يوم مرات إلى جهات عديدة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدّامه.

     كان هذا التحويل اختبارًا لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعرفة لمدى استجابتهم وتصديقهم لأوامر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . فالمؤمنون الصادقون في إيمانهم لا يشكون في أي شيء يأمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهم على يقين جازم بأن كل ما جاء به رسول الله حق لا مرية فيه لأنه نبي مرسل .

     كذلك من أهم الدروس المستفادة من تحويل القبلة : وسطية الأمة :

لقد أصّل ورسّخ هذا الحدث مبدأ وسطية هذه الأمة، فقد جمعت بين قبلتين عظيمتين ، قبلة إبراهيم (عليه السلام) وأتباعه ، وقبله موسى (عليه السلام) وغيره من أنبياء بني إسرائيل، فأمة الإسلام أمة وسط، ومن ثم قال الله تعالى معللاً ذلك الحدث: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً}[البقرة: 143] ، فهي وسطية شاملة جامعة: وسطية في الاعتقاد والتصور، ووسطية في الشعائر والتعبد، ووسطية في الأخلاق والسلوك، ووسطية في النظم والتشريع، ووسطية في الأفكار والمشاعر ، مجانبة  للغلو والتقصير ، فوسطية الأمة الإسلامية وسطية شاملة.

وحري بالمسلمين أن يعودوا إلى وسطيتهم التي شرفهم الله بها، وحري بمن كفّروا المسلمين وفسّقوا المصلحين أن ينهلوا من وسطية الإسلام. 

     ومن أهم ما أثمرته هذه الليلة المباركة : وحدة الأمة. 

حيث كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومعه المسلمون يستقبلون بيت المقدس بأمر من الله ليؤكد للعالمين أن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليست بدعًا من الرسل، إنما جاءت تأييدًا وتأكيدًا وتتميمًا للرسالات السابقة. 

وهكذا وحّد الله هذه الأمة، وحّدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها، وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات، ولم يجعل وحدتها تقوم على شيء من ذلك، ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها، ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها، إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان، وصدق الله العظيم حيث قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

      كان تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام درسًا كبيرًا في الوحدة، فالله تعالى أمرنا أن نكون متحدين متحابين ، فربنا واحد، وكتابنا واحد، ورسولنا واحد، وقبلتنا واحدة، فلماذا لا نكون على قلب رجل واحد؟! فجدير بأمتنا الإسلامية التي لها رب واحد، ورسول واحد ، وكتاب واحد هو القرآن الكريم، وقبلة واحدة ، أن تكون على قلب رجل واحد ، وصدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) حيث قال:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (صحيح مسلم)، فيجب أن تكون وحدتنا في الله ، ولله تحت راية واحدة وهدف واحد ووسيلة واحدة ومنطلق واحد، ونظام واحد .

فالمسلمون مهما تباعدت أقطارهم ودولهم واختلفت أجناسهم وألوانهم يتجهون إلى قبلة واحدة، فتتوحد عواطفهم ومشاعرهم، ويستشعرون الانتماء الروحي والديني والعاطفي في اتجاههم إلى أقدس بقعة وأشرف مكان اختاره رب العزة سبحانه بيتًا له، وأمر بإقامته والطواف حوله والاتجاه إليه في كل صلاة.

 إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى وحدة الصف في ظل الظروف القاسية التي يمر بها العالم اليوم، حيث لا مكان فيه للضعفاء ولا للمتفرقين.

     ومن أهم الدروس المستفادة من تحويل القبلة: الرباط الوثيق بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس، وإظهار العلاقة القوية بينهما، حيث جعلهما الله سبحانه وتعالى شقيقين، فالمسجد الحرام هو أول مسجد وضع لعبادة الله، والمسجد الأقصى هو ثاني المساجد، كما ورد في الحديث الشريف عن الصحابي الجليل أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَىُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِى الأَرْضِ أَوَّلُ ؟ قَالَ : (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)، قُلْتُ : ثُمَّ أَىٌّ ؟ قَالَ : (الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)، قُلْتُ : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً ، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ) (صحيح مسلم).

    إن من أهم ما ينبغي على المسلم معرفته: مكانة المسجد الأقصى في كيان هذه الأمة، إذ إنه مَسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومعراجه إلى السماوات العلى، وكان القبلة الأولى التي صلى إليها المسلمون، ولا تشد الرِّحال بعد المسجدين إلا إليه، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) (متفق عليه)، وفي ذلك توجيه للمسلمين بأن يعرفوا منزلته، ويستشعروا مسئوليتهم نحوه.

     لقد ربط  الله تعالى بين المسجدين - المسجد الحرام والمسجد الأقصى- ليشعر المسلم أن لكلا المسجدين قدسيته، فهذا ابتدأ الإسراء منه وهذا انتهى الإسراء إليه، قال تعالى:سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{[الإسراء : 1].

وكأن هذا يوحي أن لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين ، فمن فرَّط في المسجد الأقصى يوشك أن يفرِّط في المسجد الحرام ، ومن هنا فصيانة واحد منهما صيانة للآخر، والتفريط في واحد منهما تفريط في الآخر ، كما أنه يجب حمايتهما معًا وصيانتهما معًا ، فإذا كان الله قد ربط بين المسجدين ، فمن باب أولى أن يكون الربط بين عمار هذين المسجدين.

ولن تستطيع الأمة أن تحافظ على مقدساتها إلا بالاعتماد على الله عز وجل وتقواه أولاً ثم بوحدة صفها، ثم بالعمل والإنتاج حتى تمتلك قوتها وغذاءها وكساءها ودواءها وسلاحها فتمتلك كلمتها وحريتها وإرادتها.

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

كيف نستقبل شهر رمضان؟

أولًا : العناصر:

1-     رمضان منحة ربانية للأمة الإسلامية.

2-     رمضان مدرسة للأمة.

3-     استعداد الصحابة والسلف الصالح لرمضان.

4-     التوبة النصوح.

5-     تطهير النفس من موانع الرحمة والمغفرة.

6-     رمضان شهر عمل لا كسل.

7-     منهج الإسلام في ترشيد الاستهلاك .

 

ثانيًا : الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم:

1-    يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 183 - 186].

2-    ويقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

3-    ويقول تعالى: {...وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

4-    ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

5-    ويقول تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف : 31 ] .

6-    ويقول الحق سبحانه وتعالى :{ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا  }الإسراء [ 26- 27 ].

الأدلة من السنة والآثار:

1-    عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ) (متفق عليه).

2-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا )، قَالَ: ( وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ - يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ - كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ) قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ( إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ) - قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ -: ( إِلَّا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ ) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا الْإِشْرَاكُ بِاللهِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا نَكْثُ الصَّفْقَةِ ؟ قَالَ: ( فَأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا ثُمَّ تُخَالِفَ إِلَيْهِ تُقَاتِلَهُ بِسَيْفِكَ، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ  فَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ ) (مسند أحمد).

3-    وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى دَرَجَةً: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الأُخْرَى فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ:( وَسَمِعْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ( إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ الَسَلامَ) عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً، فَقَالَ: بَعُدَ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ ) (المعجم الكبير للطبراني ).

4-    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (متفق عليه )، وعَنْه (رضي الله عنه) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (متفق عليه).

5-    وعَنْ عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) عن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ ) (صحيح البخاري).

6-    وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أنه قَالَ: ( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ ) (متفق عليه).

7-    وقال ابنُ رجب رحمه الله : (ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم ) (لطائف المعارف).

ثالثًا: الموضوع :

      يوشك أن يدخل علينا هذا الضيف العزيز الذي يزورنا كل عام مرة ألا وهو شهر رمضان المبارك، شهر تتطلع إليه قلوب المؤمنين، وتتشوف لبلوغه أفئدة المتقين، نهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، تهبُّ فيه رياحُ الأنس بالله، وتجود الأنفسُ بما عندها نحو الله عز وجل، إنه منحة ربانية لهذه الأمة، فهو شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، وأَعْظمَ الثواب لصُوَّامه وقوَّامه، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور، فجعل أجرَ صائميه لا الحسنة بعشرٍ ولا بسبعِمائة، بل أَوْكلَ الأمر إلى نفسه، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ (رضى الله عنهما) قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ إِنَّ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِىَ اللَّهَ فَرِحَ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ) (صحيح مسلم).

     وشهر  رمضان بمثابة سوق يُتيحُه الله عز وجعل لعباده كل عام مرة ليتاجروا فيه مع ربهم التجارة الرابحة، تضاعف فيه الحسنات، وتزداد فيه أسباب المغفرة، والجنة تتزين وتتهيأ لاستقبال الصائمين القائمين، تُفتَّح أبوابها ، والنار تغلق أبوابها، وتُسلسل الشياطين، ويتسابق العباد إلى الخيرات.

إن بلوغ شهر رمضان وصيامه وقيامه نعمة عظيمة ومِنّة جليلة، فكان الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) يستعدون لرمضان، ويتهيأون لاغتنام الفرصة ،كما نقل ابنُ رجب( رحمه الله): كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم، وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا، فكانوا طوال العام في رحاب رمضان، يستقبلونه بالدعاء والعبادة،ويودعونه بالقرآن وبالعبادة.

          إن شهر رمضان مدرسة تتربى فيها الأمة الإسلامية، تتعلم الصبر وتتلقن دروسًا في تقوية الإرادة، فيجد المسلمون في نهاره ثمرة الصبر والانتصار على الشهوات، ويجدون في ليله لذة المناجاة والوقوف بين يدي ربهم، وتتجسد فيه ملامح التلاحم بين المسلمين عامتهم وخاصتهم، علمائهم وعامّتهم كبيرهم وصغيرهم، ليكون الجميع يدًا واحدةً، وبناءً متكاملاً، لدفع تيارات الفتن، وأمواج المحن.

 فكيف نستقبل هذا الضيف الكريم؟ وكيف نستعد لاغتنام هذه الفرصة العظيمة؟

إن الذي يريد أن يزرع أرضًا لابد أن يعدها ويجهزها للزراعة، أو كما يقول العلماء العاملون: التخلية قبل التحلية ،هكذا ينبغي على كل مسلم أن يعد نفسه ويجهز ها ويؤهلها لاستقبال النفحات والرحمات والخيرات، وأول شئ نستقبل به الشهر الكريم : التوبة النصوح ،ألا فلنستقبل هذا الشهر الكريم بتوبة نصوح تغسل ذنوبنا، وتطهر قلوبنا قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم: 8]، ولا يقبل الله إلا التوبة النصوح، فما هي ؟ إنها التوبة الخالصة الصادقة الجازمة التي تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات، يقول ابن كثير : ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هي أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه .

           كما أن الواجب على من يستقبل رمضان بتوبة نصوح أن يقلع عن الذنب : أما المستغفر وهو لا يزال يعصي الله تعالى فهو كالمستهزئ بالله والعياذ بالله،  إذ التائب لابد أن يعيش حالة التوبة فيشعر بالندم لأن الندم على  فعل المعصية أساس التوبة فيحترق القلب ندمًا على ما فعله وأغضب به ربه وبَعُدَ عنه بسببه ، أما أن يتوب وحلاوة المعصية في نفسه فهذه لا تقبل أبدًا فلابد من ندم القلب حتى تقبل التوبة.

أما عزيمته ألا يعود إلى المعصية فهنا أمر لابد أن نلتفت إليه : إن كثيرًا من الناس سمعوا الأحاديث التي ترغب في التوبة فاغتروا وهانت عليهم المعاصي ، كحديث : ( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ) (صحيح مسلم) ، كيف نجمع بين هذا الحديث الشريف وبين اشتراط أن يعاهد التائب ربه ألا يعود إلى المعصية؟ بل أكثر من هذا حديث الصحيحين: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أنه قَالَ: ( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ )(متفق عليه). هل يعني هذا أن الله تعالى يفتح لنا أبواب المعاصي ؟ كلا كلا، إن التوبة المقبولة هي التي يقف صاحبها ساعة التوبة نادمًا عازمًا بصدق بينه وبين الله تعالى ألا يعصي الله تعالى أبداً – لابد من هذا وإلا لا تقبل التوبة؛ ثم ماذا يصنع العبد حين تضعف نفسه مرة أخرى وتغلبه على المعصية بعد أن عاهد الله ألا يفعلها ؟ هل ييأس من مغفرة الله تعالى له ؟ بل لابد أن يستأنف التوبة النصوح الصادقة التي يعاهد الله فيها مرة أخرى ألا يعصي ، ثم إن عاد إلى المعصية يعود إلى التوبة حتى يتغلب على الشيطان في هذه الحرب الدائرة بينه وبينه ، فالمطلوب أن يكون الإنسان ساعة التوبة عازمًا على ترك المعصية وعدم الرجوع إليها.

ولقد وصل الحال بالكثيرين أن يأمنوا عذاب الله تعالى لا يخافون من المعاصي ولا ينزجرون ؟ ما هكذا كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الصالحين : قال عمرو بن العاص (رضي الله عنه) عند موته : اللهم أمرتنا فعصينا، و نهيتنا فركبنا، و لا يسعنا إلا عفوك، لا إله إلا الله، ثم رددها حتى مات، و قال عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عند موته : أجلسوني، فأجلسوه فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت و نهيتني فعصيت، و لكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر، فقالوا: إنك تنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال : أتاني حضرة ما هم بإنس و لا جن، ثم قُبض (رحمه الله)  وسمعوا تاليًا يتلو : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

          فلنتب إلى الله تعالى في هذه الأيام المباركة توبة خالصة صادقة نصوحًا تغسلنا من الذنوب، وتطهر قلوبنا وتؤهلنا لاستقبال كل خير من ربنا سبحانه وتعالى في أيام  الطاعات والنفحات ، فأهم ما ينبغي أن يُعنى به المؤمن الآن في استقبال رمضان تأهيل نفسه وقلبه لاستقبال النفحات الربانية في هذه الأيام الطيبة المباركة، وأهم ما في ذلك أن يزيل كل واحد منا موانع الرحمة والمغفرة، فهناك موانع تحجب الرحمة والمغفرة والنفحات الربانية، فلابد من تطهير النفس من هذه الموانع الآن قبل فوات الأوان، ولقد كان أحد المشايخ مع أناس يقيمون ليلة السابع والعشرين من رمضان في مسجد من المساجد فذكر لهم ما نقله ابن رجب (رحمه الله): ..... و قد جاء في ( حديث ابن عباس مرفوعا : إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) فيعفو عنهم ويرحمهم إلا أربعة: مدمنَ خمر وعاقًا ومشاحنًا وقاطعَ رحم....) (لطائف المعارف)، فقال أحدهم للشيخ: بيني وبين أحد أقاربي شيء فهل أغادر المسجد  الآن ونحن في جوف الليل وأصله وأفض ما بيني وبينه من القطيعة؟ فالتفت الجميع إلى أن الوقت قد فات وأن التهيؤ  والاستعداد وإزالة هذه الموانع يحسن أن يكون قبل دخول رمضان.

إذن فموانع الرحمة والمغفرة والحجب التي تحجب النفحات والمنح الربانية في عموم الأيام وفي الأيام والليالي الفاضلة أيضًا: إدمان الخمر والمخدرات، وعقوق الوالدين، والمشاحنة، وقطيعة الرحم ، أما الخمر فيكفي أن شاربها ومن امتدت يده فيها ملعون مطرود من رحمة الله تعالى، فعن ابْنِ عُمَرَ(رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) (رواه أبو داود)، إنها فرصة عظيمة سنحت لكل من يريد أن يتوب لعل الله تعالى يشمله برحمته ويُبَغِّضُ إليه هذه السموم، ويقيمه على طريق طاعته، فينال خيري الدنيا والآخرة.

       وأما عاقّ الوالدين فهو محروم من رحمة الله وعفوه إذ إن الله لا يقبل منه شيئًا، فعمله محبط مردود،  فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلاَ عَدْلا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ) (السنة لابن أبي عاصم)، فالعاق من أهل الحرمان حتى في الأيام التي يعم فيها الخير ويشمل الله عباده بالعفو، إنه بعقوقه محروم من دخول الجنة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ ، وَلاَ عَاقٌّ ، وَلاَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ) ( السنن الكبرى للنسائي)، فالوالدان طريقك إلى مرضاة الله تعالى أو سخطه والعياذ بالله، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ ) (شعب الإيمان للبيهقي).

       وأما المشاحن– وهو الذي بينه وبين أخيه شحناء وقطيعة وعداوة بسبب نفسه الأمارة بالسوء- فإنه محجوب عن عفو الله ومغفرته ورحمته كل وقت، حتى في الأوقات التي يعم فيها عفو الله جميع العباد، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ) (صحيح مسلم)، فهل تُضَيِّعُ ثواب صيامك وقيامك وتفوت فرصة لا تدري أتدركها مرة أخرى أم لا من أجل بُغضك لفلان أو فلان؟! عامل الناس بأخلاقك أنت لا بأخلاقهم، فالأخلاق عندنا نحن المسلمين عبادة نتعبد بها لله عز وجل، فأحسِن إلى الناس تقربًا إلى الله تعالى، ولئن فعلتَ لَيُحَولنَّ الله لك قلوب العباد، يقول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34]، إن صلاح ذات البين جليل القدر عظيم الثواب، فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ). قَالُوا بَلَى. قَالَ : ( صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ ) (سنن الترمذي).

      وأما قطيعة الرحم فإنها حجاب غليظ بين الإنسان وبين رحمة الله تعالى، وقاطع الرحم محكوم عليه بالحرمان من دخول الجنة، فعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ) (صحيح مسلم)، فقاطع رحمه لن يجد في ولده بركة، ولن يجد في ماله بركة، ولن يجد نفسه موفقًا في أي شيء، ولن يهتدي إلى أي خير، وما ذلك إلا لأن بينه وبين الله تعالى قطيعة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَذَاكَ لَكِ ) (متفق عليه)، إن قاطع الرحم مطرود من رحمة الله تعالى ملعون بنص كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد: 22، 23].

لابد أن نزيل هذه الحجب التي تحجب عنا رحمة الله تعالى ونتخلص من هذه الموانع التي تمنع عنا فضل الله عز وجل ونحن مقبلون على هذا الشهر الكريم قبل أن نكون من أهل الحرمان في وقت يتقلب فيه العباد في فضل الله سبحانه، فالمحروم حقًا من يحرم فضل الله تعالى في هذا الشهر الكريم، فعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى دَرَجَةً: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الأُخْرَى فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ:(وَسَمِعْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:(إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ الَسَلامَ)عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً، فَقَالَ: بَعُدَ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ ) (المعجم الكبير للطبراني )، ونُذّكر -ونحن نستقبل هذا الشهر المبار ك- بأن أعظم ما يتقرب به الصائم أن يؤدي كلٌ منا عمله المنوط به على أكمل وجه متقنًا له كأحسن ما يكون الإتقان مراقبًا لله تعالى، ويتعامل مع من يتعامل معه بكل حب واحترام وتقدير ولا يتأفف ولا يتكاسل ولا يضجر بحجة أنه صائم.

ومن أهم ما يجب أن يُعنى به المؤمن وهو يستعد لاستقبال هذا الشهر الكريم تحسين النية وتوجيه القصد إلى الله تعالى وحده فإن الصيام المقبول الذي تُغفر به الذنوب وترفع به الدرجات هو ما كان إيمانًا واحتسابًا، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )، يقول ابن حجر رحمه الله: ( أي مؤمنًا محتسبًا، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى، وقال الخطابي: احتسابًا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ) (فتح الباري)، فالصيام إيمانًا يعني أن يكون الباعث على الصيام وتحمل الجوع والعطش لا مجرد التعود ولا حياءً من الناس ولا تقليدًا لمن حوله بل أن يكون الباعث له على الصيام اعتقاده فرضية الصيام والتقرب به إلى الله تعالى.

          والصائم المحتسب هو الذي يهون عنده الجوع والعطش في سبيل إرضاء الله تعالى ورجائه في عظيم ثوابه، فحاله وحال غير المحتسب كرجلين يعملان في عمل ما، رجع أحدهما آخر النهار متعبًا مُجهدًا لا يكاد يقيم صلبه من شدة التعب لكنه رجع بأجر  وفير ومال كثير ، والثاني رجع مرتاحًا غير مجهود ولا متعب لكنه لم يرجع إلا بالقليل من المال الذي لا يكفي شيئًا ولا يسد حاجة، فالأول يكون مسرورًا بأجره طيب النفس على الرغم مما يشعر به من التعب والإرهاق والعناء، والثاني يكون حزينًا مكتئبًا لا تنفعه راحته بعد فوات الأجر.

وكذلك القائم المحتسب هو الذي يهون عليه السهر وطول القيام وقراءة القرآن ما دام هذا سبيلًا لمرضاة الله تعالى ومغفرة ما تقدم من ذنبه.

إن شهر رمضان شهر اجتهاد وجد وعمل، لا كسل وخمول، فما أكثر  ما حققه المسلمون على مر تاريخهم الطويل وهم صُوَّم في هذا الشهر الكريم، ليتعلم المؤمنون في كل زمان أنه شهر بذل وعطاء  ودفع لمسيرة الأمة نحو التقدم والإنتاج.

اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا، واشملنا فيه يا مولانا بنفحة من فيض جودك لا نشقى بعدها أبدًا.

     تستقبل الأمة العربية والإسلامية شهر رمضان المعظم وهي مفعمة بالأمل، سائلة الله تعالى أن يكون عام يمن وخير وبركة علينا جميعا، وأن يكون عام أمن وسلام للبشرية جمعاء.

      وبما أن شهر رمضان شهر صيام وعبادة وتربية وقوة إرادة ، وهذه الإرادة المكتسبة ينبغي أن تتعدى إلى ضبط السلوك الاستهلاكي للفرد والأسرة بالتعقل والاتزان والحكمة والترشيد ، ومن ثم فلنتخذ من الصيام مجالا لإرادة حقيقية لمزيد من العمل والإنتاج من جهة وترشيد الاستهلاك من جهة أخرى ، حتى نرضي الله (عزّ وجلّ) بسلوكنا المنضبط بضوابط الشرع في شهر رمضان  شهر الخير والبر والإحسان ، وليكن شعارنا التكافل والترشيد ، يقول سبحانه وتعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف : 31 ] . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26-27] .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

عطاء الله لعباده في رمضان

أولاً: العناصر:

1-     رمضان منحة ربانية.

2-     رمضان تجارة رابحة مع الله تعالى.

3-     تعدد أسباب المغفرة في رمضان.

4-     شفاعة الصيام والقرآن.

5-     دعاء الصائم مستجاب.    

ثانيًا: الأدلة:

    الأدلة من القرآن الكريم:

1-     يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

2-    ويقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].

3-     ويقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].

4-     ويقول تعالى: {..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

5-     ويقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

  الأدلة من السنة النبوية:

1-    عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ) (متفق عليه).

2-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )، وعَنْه(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، وعَنْه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (كل ذلك متفق عليه).

3-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ) (صحيح مسلم ).

4-    وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ )(متفق  عليه).

5-    وعنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (..والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لقي رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) (متفق عليه).

6-    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (..عُمْرَةٌ فِى رَمَضَانَ تَقْضِى حَجَّةً. أَوْ حَجَّةً معي ) (متفق عليه).

7-    وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي  فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ ) (المستدرك للحاكم). 

8-    وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا ) (سنن الترمذي).

9-    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ ) (أخرجه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ).  

ثالثًا: الموضوع:

      شهر رمضان منحة ربانية، وعطية إلهية، تُضاعف فيه الحسنات ويعظم الثواب، ويغدق الله على عباده النفحات، ويفتح لهم أبوابًا من الخير ومن المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر تفتح فيه أبواب الجنة فلا يغلق منها باب، وتغلق فيه أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتقيد الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل – فهذا أوانك – ويا باغي الشر أقصر – فلا مكان لك في هذه الأيام الطيبة –، فيقبل المؤمنون على ربهم محققين الغاية الكبرى من الصيام وهي التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].

فرمضان هو الشهر الذي اختصه الله تعالى بفريضة الصيام التي هي ركن من أركان الإسلام، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..}[البقرة: 185]، وهكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء، وهو الشهر الذي يضم بين لياليه ليلة القدر، التعبد فيها والقيام خيرًا من التعبد في ألف شهر،يقول تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]، فهي ليلة بركةٌ كلُّها، يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة.

ما أكثر العطايا والمنن الإلهية، والهبات التي اختص الله بها عباده في شهر رمضان، ومن هذه المنن والعطايا:

مضاعفة الثواب، ففي شهر رمضان فرصة عظيمة للتجارة الرابحة مع الله تعالى، يقول ابن رجب (رحمه الله):  (واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحَرم ...و منها شرف الزمان كشهر رمضان.. و في الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه و سلم) قال : ( عمرة في رمضان تعدل بحجة، أو قال :  حجة معي) ،وورد في حديث آخر : ( أن عمل الصائم مضاعف ) و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون : ( إذا حضر شهر رمضان فانبسِطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره، قال النخعي : صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفًا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفًا على سائر الصيام لشرف زمانه، و كونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها..) (لطائف المعارف )، ولشرف العمل في رمضان كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يجتهد فيه في العبادة مالا يجتهد في غيره، من ذلك مثلاً ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ، إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ سَنَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ(صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ) (صحيح مسلم)، ومن ذلك أن العمرة في رمضان أعظم ثوابًا من العمرة في غيره ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (..عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً. أَوْ حَجَّةً معي ).

     ومن المنح الربانية في هذا الشهر الكريم أن الله تعالى اختص الصائمين بباب خاص في الجنة لا يدخل منه غيرهم، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ).

ومن العطايا الإلهية في هذا الشهر الكريم أنه فرصة لزيادة الأجر عن طريق إفطار الصائمين، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا )، فالذي يفطر صائمًا كأنما يستأجر من يجلب له الحسنات، وإذا كان ثواب الصيام عظيمًا فإن من يفطره له نفس الثواب من غير أن ينقص من ثواب الصائم شيئًا، إنه فضل الله على هذه الأمة.

ومما يختص الله به عباده في حال الصيام أن طيَّبَ رائحتهم حتى جعلهم عنده أطيب ريحًا من المسك، فعنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (..والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لقي رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).

ومن الهبات التي يهبها الله تعالى لعباده في هذا الشهر الكريم تعدد أسباب المغفرة، فالصيام يُكَفِّرُ عن العبد خطاياه كلها حتى يرجع طاهرًا من ذنوبه أبيض القلب كأن لم يعلق به شيء ، لكن مغفرة ما تقدم من الذنوب مرهون بأن يكون الصيام إيمانًا واحتسابًا، يَقول رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )، يقول ابن حجر (رحمه الله): ( والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه )، وكذا من أسباب المغفرة في هذا الشهر الكريم القيام إيمانًا واحتسابًا، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )، فليدركْ كل مسلم أن الركعات التي يصليها في ليل رمضان تصل به إلى نفس نتيجة الصيام وهي تكفير ما تقدم من الذنوب، فليقمْ كل منا مؤمنًا بأن القيام عبادة تقربه من الله تعالى، محتسبًا أجره على الله تعالى فلا يستثقل القيام ولا يستطيل طول التهجد فإن الجزاء عظيم، فمن تلمَّس فجر َالأجر هان عليه ظلام التكليف .

ومن أسباب المغفرة أيضًا قيام ليلة القدر، يقول النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )، فيا لها من ليلة عظيمة يخرج منها المؤمن القائم المحتسب طاهرًا من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين أن جعل في ليلة القدر عوضًا عن قصر أعمار هذه الأمة فجعل التعبد فيها خير من التعبد في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فكل ساعة من ساعاتها، بل كل دقيقة، بل كل ثانية من ثوانيها لها ثمن، إن ليلة القدر هي العمر الحقيقي للإنسان، فلا تقل عشت كذا سنة، ولكن قل مرت بي كذا ليلة قدر – بعدد سنوات عمرك-، فإنها الامتداد الحقيقي للعمر، فسَائِلْ نفسك يا عبد الله كم ليلة قدر مما مر بك قد استغللتها وتقربت فيها وأخلصت لله عز وجل؟ وكم ليلة قدر قصرت فيها؟ ثم هذه الفرصة التي واتتك هذه المرة هل تضمن إدراكها مرة أخرى؟! كم كان بيننا في العام الماضي من أناس صاروا الآن تحت الأرض في قبورهم يحاسبون! فلا تكن من المحرومين، فإن الحرمان في هذه الليلة هو الحرمان الحقيقي والعياذ بالله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (... لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ..) (السنن الكبرى للنسائي).

ومن العطايا الربانية في هذا الشهر المبارك أن الصيام يشفع للعبد كما يشفع القرآن، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي  فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ)، فطوبى لأهل القرآن وأهل الصيام حين يجدون من يدافع عنهم يوم لا نصير ولا مغيث.

ومما خص الله تعالى به المؤمنين الصائمين في هذا الشهر الكريم أن جعل دعاءهم فيه مستجابًا، والدعاء من المؤمن يستجاب في كل وقت ما دام قد استوفى ما به تكون الاستجابة، لكن شهر رمضان وحال الصيام عمومًا يكون أرجى وأقرب إلى الاستجابة، ولشيء كهذا ذكر الله قربه من عباده وإجابته لدعائهم وسط آيات الصيام فقال تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، يقول ابن كثير (رحمه الله): ( وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدّة، بل وعندَ كلّ فطر ) (تفسير ابن كثير)، وقد ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن دعوة الصائم مقبولة مستجابة لا ترد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):  ( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ).

إن للصيام ثوابًا عظيمًا  لا يعلم قدره إلا الله تعالى، فهو رصيد  للعبد عند الله لا ينفد، فعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، هُوَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ..) (متفق عليه)، فثواب الصيام لا الحسنة بعشر ولا بسبعمائة، وإنما هو ثواب لا يعلم مداه إلا الله عز وجل الذي نسب الصيام إلى نفسه وتكفل بتقدير ثوابه، وفي رواية لهذا الحديث الشريف في مسند الإمام أحمد (رحمه الله) عن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَقُولُ: ( قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلاَّ الصَّوْمَ، وَالصَّوْمُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )، أما نسبته تعالى الصيام إلى نفسه فقد نقل ابن حجر (رحمه الله) عن البيضاوي أنه قال: (والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران: أحدهما أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه، والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصًا ويعامله به طالبًا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: (فإنه لي). والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال البدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات، وإلى ذلك أشار بقوله: (يدع شهوته من أجلي ) (فتح الباري)، وفي توضيح المقصود برواية ( كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلاَّ الصَّوْمَ) يقول ابن رجب (رحمه الله): ( ...فالإستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة (رحمه الله) قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة ) (لطائف المعارف).

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

أخلاق الصائمين وسلوكهم

أولا : العناصر

1-     الصيام تقويم للأخلاق والسلوك.  

2-     رمضان واجتناب المعاصي.

3-      من أخلاق الصائمين .

أ‌- التقوى.

ب‌-  الصير.

 ج - الحلم.

  د - إتقان العمل .

  ثانيا: الأدلة:

         الأدلة من القرآن

1-   قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

2-   وقال تعالى:{...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} [البقرة: 187]

3-   وقال تعالى :{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة: 83].

4-   وقال تعالى:{...وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197].

5-   وقال تعالى :{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

الأدلة من السنة: 

1-  عن أبى  هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قال : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (تَدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ ) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ( الْأَجْوَفَانِ: الْفَرْجُ وَالْفَمُ، وَأَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ قال : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ) (الأدب المفرد بإسناد حسن).

2-   وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ومعاذ بن جبل (رضي الله عنهما ) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) (رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن).

3-   وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :( إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ ) (رواه الحاكم في المستدرك وقال على شرطهما ، وأحمد ، والبخاري في الأدب المفرد).

4-   وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رضى الله عنه ) قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :  كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) (متفق عليه).

5-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( َكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ ) (رواه الترمذي).

6-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) (رواه البخاري) .

7-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنٍ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ ) (سنن ابن ماجه) . 

ثالثا: الموضوع :

          شرعَ الله العبادات من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ وغيرها ، لمقاصِد عُظمى وغايات كُبرى ، ترجِع في أصلِها إلى تهذيب النفوس، وتزكية القلوب، وتطهير الجوارِح، والسير بها إلى أرفع القِيَم وأزكَى الشِّيَم.       ومن تلك العبادات: صيام شهر رمضان بما تضمَّنَه من عباداتٍ وقُرُباتٍ  وأعمال صالحة ؛ فالصيام مدرسةٌ يجبُ أن تجعلَ المسلم في أعلى ما يكون من الأخلاق الفُضلَى والمُثُل العُليا، يقول ربُّنا - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وإن من حقيقة التقوى: التمثُّل بالأخلاق الكريمة والصفات النبيلة فعلاً وقولاً وسُلوكًا ومنهَجًا، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( اتَّقِ الله حيثُما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن). وعن أبى  هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قال : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (تَدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ ) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ( الْأَجْوَفَانِ: الْفَرْجُ وَالْفَمُ، وَأَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ قال : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ )، ومعنى الأكثرية المذكورة في الحديث أي: أكثر أسباب السعادة الأبدية وأكثر أسباب الشقاوة السرمدية ، وقد جمع النبي (صلى الله عليه وسلم) بين تقوى الله وحسن الخلق ، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين وربه ، وحسن الخلق يصلح ما بين العبد وبين الخلق ، كما أن تقوى الله توجب محبة الله ، وحسن الخلق يوجب محبة الخلق ، وهذا يشمل سائر أبواب الدين في الأموال والفروج ومعاملة الخلق والولايات والابتداع والاتباع وغير ذلك .

ولما كان الاسلام دينًا يعتني بالأخلاق اعتناءً بالغًا كما يتجلى ذلك في قوله (صلى الله عليه وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، جعل شهر رمضان فرصة لتربية النفس على الأخلاق الفاضلة وتجنيبها الأخلاق الفاسدة ، ويتجلى ذلك في حقيقة الصوم نفسه وهو أن يصوم المرء عن كل مالا يليق وأن تحكمه أخلاق التقوى وهو ما بينه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في قوله : ( وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ) (البخاري) فالإسلام يُريد من المسلم أن يتحلَّى بالأخلاق الحسنة، وأن يتَّصِفَ بالمُعاملات الكريمة، قال (صلى الله عليه وسلم): (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم) (رواه الترمذي)، ويقول(صلى الله عليه وسلم) : (إن المؤمنَ ليُدرِك بحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم) (رواه أبو داود ).

فعلى المسلمين أن يستلهِموا من العبادات والقربات والأعمال الصالحة وعلى رأسها الصيام كل جميلٍ رفيعٍ من الأخلاق والمُثُل والصفات، وأن يستمِدُّوا منها كل ذوقٍ سليمٍ، وكل فعلٍ جميلٍ، وقولٍ نبيلٍ، ليملأ حياتَهم حينئذٍ الحبُّ بشتَّى أشكالِه، وتسُودَها المودَّةُ بمُختلف صُورها، وتغمُرها التعامُلات الراقِية، والمبادِئُ الحياتية السامية. فذلك مما أوجبَه الإسلام، وافترضَه القرآن، يقول - جل وعلا -: { ...وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ...} [البقرة: 83] ، وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! إن فلانةَ يُذكَرُ من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غيرَ أنها تُؤذِي جيرانَها بلِسانها. فقال (صلى الله عليه وسلم ) : (هي في النار). فقال: يا رسول الله  إن فلانةَ يُذكَر من قلَّة صيامها وصدقتها وصلاتها وأنها تصدَّقُ بالأثوار من الأقِط ولا تُؤذِي جيرانَها بلِسانها. قال: (هي في الجنة) (أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد).

ومن هذا المُنطلق حذَّر النبي (صلى الله عليه وسلم) الصائمين من العُدول عن هذه المقاصِد الكريمة للعبادات الجليلة، فقال: ( إذا كان يومُ صوم أحدِكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني امرؤ صائِمٌ) وفي رواية ( إني صائم إني صائم ).

نعم إن الفُحش واللعان والسباب ليس من أخلاق أهل الفضل والعبادة والإحسان، وليس من سجِيَّة عباد الرحمن، قال (صلى الله عليه وسلم): (من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه).

ومن الغاية التي من أجلها شرع الصيام تقوى الله عز وجل فجعل الله سبحانه وتعالى الحكمة من الصوم تحقيق التقوى قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[ البقرة : 183].

والمتأمل في آيات الصيام في سورة البقرة يجدها ابتدأت بالأمر بالتقوى : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وانتهت بالأمر بالتقوى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

فالصائم حين يقضي نهار رمضان ممتنعاً عما أحله الله له من الطعام والشراب والجماع هان عليه وسهل أن يمتنع عما حرم الله تعالى ، فهو يشعر دائماً برقابة الله تعالى له، يحرص على أن يكون صومه كما أراده الله تعالى ( إيماناً واحتساباً ) فلا يريد أن ينقص إيمانه بمعصية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : ( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ ) (متفق عليه).

والصوم لا يؤتي ثماره إلا حين يكون جنة لصاحبه – أي وقاية ودرع - من الوقوع في المعاصي ،كما جاء في الحديث القدسي عن رب العالمين : ( وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ) ، فإذا حقق الصائم هذه الحكمة ، واستوفى هذه العلة ، وتحلى بهذه الحلية ( التقوى) استحق ما أعده الله تعالى لأهلها من الفرح في الدنيا والآخرة ، فرح في الدنيا على تحقيقها ، وفرح في الآخرة على ثوابها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) ، وأما إذا لم يحقق الصائم هذه الحكمة فقد أتعب نفسه في الدنيا بالحرمان دون جزاء ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) .

وليست التقوى مع الصيام في شهر رمضان فحسب ، بل تقوى الله تعالى في الصيام وفي غير الصيام ، ولأن التقوى خير زاد ، كما قال تعالى : {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فلا يقبل الله عملاً إلا من المتقين ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) ، والله تعالى : ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أهل أن يتقى ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ، والتقوى جماع كل خلق حسن وداعية إليه ، والصيام كما أمر الله على منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) تتحقق به التقوى .

          ومن هنا نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصائم عن أخلاق مذمومة أثناء الصيام لأنها تتنافى مع حقيقة الصيام وهي : الرفث (أي الكلام الفاحش) والجهل والصخب (أي الصياح والشتم) بمعنى أن الصائم يجب أن يكون ذا أخلاق عالية وهي أخلاق التقوى من كظم الغيظ وضبط اللسان والعفو عن الناس والإحسان إليهم كما ذكر سبحانه من صفات المتقين الذين أعد لهم الجنة : {... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]، فذكر من صفات المتقين صفات أخلاقية ( كظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إليهم) .

فإذا كان الصيام ينهى صاحبه عن مجرد الصياح فإنه يريد من الصائم أن يرى صافيا ساكنا تعلوه مهابة الطاعة وتحكمه أخلاق التقوى.

 كذلك من الأخلاق التي يكتسبها المسلم من الصيام خلق الصبر لأنه شهر الصبر ومدرسته وتجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة : الصبر على أداء الطاعات من نوافل وقيام ليل وغيرها ، والصبر عن المحرمات من كف للجوارح عن اقتراف الذنوب ، والصبر على الحرمان من جوع وعطش وشهوة ، فمن صبر شهراً كاملاً على ما سبق فلابد من أن يكون قد تدرب تدريبًا مكثفًا على هذا الخلق العظيم ، ومن هنا وصف شهر رمضان بكونه شهر الصبر كما في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ) .

ولقد عظم الله خلق الصبر عندما عظم أجره ، وجعله بغير حساب قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].

وليعلم كل من أصابه ابتلاء ، أو عنت ، أو مشقة أن ذلك من قدر الله تعالى قبل أن يخلق الخلق ، لا راد ولا صارف له إلا هو ، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }[الحديد: 22، 23].

واعلم أيها الصابر أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، واعلم أن لك في كل بلاء أجر ًا حتى في الشوكة تشاكها ، فعَنْ السيدة عَائِشَةَ (رَضِي اللهُ عنها) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (مَا مِنْ شَىْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ) (مشكل الآثار للطحاوي).

ففي هذا الخلق شد للعزائم، وشحذ للهمم، ورفع للمعنويات ، وطرد لليأس والإحباط  ودافع للعمل والإنتاج ، فهو من الأخلاقيات الإيجابية على عكس ما يظن الناس به .

والصبر ضرورة حياتية ، فحين نتأمل في حياتنا لا نجد مجالاً من مجالاتها إلا وهو محتاج إلى الصبر ، فالعلم لا يتأتى إلا بالصبر ، وكسب الرزق لا يتأتى إلا بالصبر ، وتربية الأولاد لا تتأتى إلا بالصبر ، حتى معاملة الناس اليومية لا تتأتى إلا بالصبر قال تعالى: {...وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا }[الفرقان : 20].

          كذلك لا يتحقق النصر إلا بالصبر كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) موصيًا ومعلمًا ابن عباس (رضي الله عنهما) والأمة من بعده : ( وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ) (رواه أحمد) ، فلا تستقيم الحياة إلا بالصبر الجميل .

إن الصائم الحق يتأثر سلوكه بالصيام في تعامله مع من حوله فالصيام يمَرِّن على ضبط النفس ، والسيطرة عليها ، والقوة على الإمساك بزمامها حتى يتمكن من التحكم فيها ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فإذا أطلق المرء لنفسه عنانها أوقعته في المهالك، وإذا ملك أمرها وسيطر عليها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب وأسنى المطالب.

وهذا لا يتحقق إلا لمن صام صوماً شرعيا مستشعرًا عبادة ربه بذلك، منتظرًا الثواب منه سبحانه ، وقد صامت بطنه وفرجه ولسانه وجميع جوارحه، وإلا فهو معرض لوساوس الشيطان ونزغاته، فيرتكب أخطاء قد تفسد أو تضيع صومه فضلاً عن أنه لا يستفيد منه ولا تزكو أخلاقه بصومه، وهذا لمن اتخذ الصيام مجرد عادة يصوم إذا صام الناس ويفطر إذا أفطروا، ولم يدخل مدرسة الصيام دخولاً إيمانيًا ، أو هو يفسر الصوم بأنه مجرد إمساك عن المفطرات، فيطلق لسانه وبصره فيما حرم الله ومنع نفسه ما كان أصله مباحًا له من المطعم والمشرب والمنكح مدعياً أنه صائم، فهذا لا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه وقد عاش بعيداً عن الصيام الذي يتعلم منه أموراً كثيرة وعظيمة تنفعه في دينه ودنياه.

          قال (عليه الصلاة والسلام): (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) ، فإذا كان من خلق المسلم أنه ليس بالسّبّاب ، ولا بالطعان ، ولا باللّعّان ، ولا بالفاحِشِ البذيء في عموم أحواله مع الآخرين كما في الحديث،  قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( إن المؤمن ليس باللعان ولا الطعان ولا الفاحش ولا البذيء ) فما بالنا بالمسلم الصائم القائم ، لابد وأن يكون أملك لزمام نفسه ، ولسانه ، وأعصابه حتى  لو استثير لا يثار . فلا ينطق إلا بخير ، ولا يتصرف إلا بحكمة ، ولا يرد إلا بتؤدة وروية ، يقطع أسباب الخلاف ، لا يدع للغل ولا للحقد مجالاً ، يترك أهل الغل والحقد والغيظ بِغِلِّهِم وحقدهم وغيظهم ، لا يرد إساءتهم بالإساءة ، ولا انفعالهم بانفعال ، يعرض دائمًا عن الجاهلين .

فإن بدأه أحدهم بسباب أو شتم لم يكن رده إلا بالحلم والعفو والصفح ( إني امرؤ صائم ) يدفع دائمًا بالتي هي أحسن قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] ، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 96]، يتحلى بأخلاق عباد الرحمن {... الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [الفرقان: 63] .

ولكن بعض الناس ممن لا يدركون حقيقة الصيام وأبعاده والذي حصروه في الجوع والعطش نرى أخلاقهم تفسد في رمضان أكثر من غيره بحجة أنهم صائمون فتراهم يصيحون بأعلى الأصوات ويسبون ويشتمون ويتكلمون بالكلام الفاحش ويغضبون لأقل الأسباب بل ويثورون فتجدهم يستثقلون رمضان أو يشتكون من جوه وطبيعته وكأنهم يلقون باللوم عليه ، إن هؤلاء لم يفقهوا حقيقة رمضان ولم ولن ينتفعوا به أبدا ما داموا على هذه الحال .

إن الصوم يربي في الصائم قوة الإرادة النابعة من إيمانه بالله تعالى، وإرادة امتثال أمره بالصوم؛ ابتغاء مرضاة الله؛ وطمعًا في نيل ثوابه الأخروي.

والصائم الذي أرغم نفسه وحملها على أن تجتنب ما هو مباحٌ لها في الأصل، وسيطر على شهوات جسده، لقادرٌ بإذن الله على أن يجتنب ما حُرِّمَ عليه من باب أولى في جميع أوقات العمر وهذه هي ثمرة الصيام.

فرمضان فرصة لنتزود فيه من اكتساب الإرادة القوية ونتربى فيه على الإخلاص وعلى الصبر وعلى الطاعات وعلى الأخلاق الفاضلة وعلى التوبة النصوح وعلى اتقاء المعاصي ، وهذه مقاصد أساسية من مقاصد الصيام.

كما أنه شهر عبادة وعمل لا بطالة وكسل ، لأن الإسلام لا يقر أن نكون عالة على غيرنا ، ولا أن نركن إلى البطالة والكسل لا في رمضان ولا في غيره ، بل علينا أن نجتهد في العبادة وفي العمل والإنتاج ، فكلاهما تقرب إلى الله ( عز وجل ) فالعمل للدين عبادة والعمل للوطن عبادة ، والأعمال بالنيات فالصائم الذي يراقب ربه في صلاته وصيامه وقيامه وركوعه وسجوده يجب أن يراقبه تمام المراقبة في عمله وإنتاجه وسائر تصرفاته .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

أخلاق الصائمين وأهل القرآن

أولاً :العناصر   

     1- الصيام مدرسة للأخلاق

    2- تحذير الصائمين من سوء الأخلاق .

   3 - الصبر والصيام قرناء.

   4 - من سلوكيات الصائمين في رمضان .

   5- فضل قراءة القرآن وأهله في رمضان 

ثانيًا  :  الأدلة:

       الأدلة من القرآن:                      

1-    قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183].     

2-   وقال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...} [البقرة: 185].       

3-    وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].     

4-    وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].      

5-  وقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] .   

6-   وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ  لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ  * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر :  29،31].         

الأدلة من السنة:               

1-  عن أَبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) (صحيح البخاري).

2-  وعن أَبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إني امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لقي رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) (متفق عليه).

3-  وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) (متفق عليه).

4-  وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي  فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ:  فَيُشَفَّعَانِ ) (المستدرك للحاكم).  

5-  وعَنْ عُثْمَانَ بنِ عفانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ  وَعَلَّمَه ) (صحيح البخاري).  

6-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ): ( إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُه ) (سنن ابن ماجه).

7-  وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ ) (متفق عليه).

8-  وعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) (أخرجه مسلم).

 

ثالثًا: الموضـــــوع:              

          لقد عُني الإسلام عناية كبيرة بمكارم الأخلاق، فلقد جعلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) الهدف الأسمى من بعثته الشريفة، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (مسند أحمد) ، فقد شٌرعَت العبادات في الإسلام لما فيها من  المقاصِد العظيمة والغايات النبيلة، التي  تهذب النفوس، وتزكي القلوب، وتطهر الجوارِح، فتصل بأصحابها إلى أعلى الدرجات.  

ومن هذه العبادات: صيام شهر رمضان وما تضمَّنَه من قربات جليلة، فرمضانُ مدرسة يتربى فيها المسلم على مكارم الأخلاق، فالصيام يربي فينا التقوى، والتي جعلها الله تعالى هدفًا أسمى من الصيام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة : 183]، وسر ختام الآية الكريمة بالتقوى أن إعداد قلوب الصائمين يظهر من كون مرجع الصيام إلى ضمير الصائم ، حيث لا رقيب عليه إلا الله ، ومن دلائل  التقوى في الآية الكريمة: التحلي  بالأخلاق الكريمة والصفات النبيلة فعلاً وقولاً وسُلوكًا ، يقول (صلى الله عليه وسلم): ( اتَّقِ الله حيثُما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن) (سنن  الترمذي).     

ومن أخلاق الصائمين : التحلي بالصبر  وهو  ترويض للنفس وتهذيب للغرائز، وطرد للجشع والطمع ،  فالصيام الحقُّ يجعل المسلمَ أوسع صدرًا وأطهر  لسانًا وأبعدَ عن الشرّ، وإذا رأى زلّةً احتملها، وإن وجد إساءةً صبر عليها ، قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ  }  [الزمر: 10]، فالامتناع عن الشهوات يحتاج إلى قوة دافعة، فيصبر الإنسان على الجوع والعطش والشهوة، طاعةً لله عز وجل ، واتباعًا لنبيه (صلى الله عليه وسلم).

يقول ابن رجب (رحمه الله): " ومن أفضل أنواع الصبر : الصيامُ، فإنَّه يجمعُ الصبرَ على الأنواعِ الثَّلاثةِ، لأنَّه صبرٌ على طاعةِ الله عز وجل، وصبرٌ عن معاصي الله، لأنَّ العبدَ يتركُ شهواتِه لله عز وجل ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا في الحديث الصحيح : ( إنَّ الله عز وجل يقولُ : كُلُّ عمل ابنِ آدمَ له إلاَّ الصِّيامُ، فإنَّه لي، وأنا أجزي به، إنَّه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي )، وفيه أيضًا صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصُلُ للصَّائم من الجوع والعطشِ..."(جامع العلوم والحكم).      

ومن الصبر الذي ينبغي أن يصحب المؤمن في رمضان الصبر على أذي الناس ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَسْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إني امْرُؤٌ صَائِمٌ)، فمع هذا التوجيه النبوي ومع ما ينبغي أن يلقيه الصيام في نفوس الصائمين من الصبر وحسن الخلق نجد بعض الناس يغضبون لأتفه الأسباب ويثورون متعللين بالصيام وكأنه هو الذي يدعوهم إلى ذلك، وهذا يدل على أن الصيام لم يتمكن فيهم، وأنهم ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش.

ومن الأخلاق التي يزكيها الصيام في نفوس الصائمين خلق العفو وكظم الغيظ والحلم، فهذه الصفات التي أثنى الله على من يتصف بها فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134] والنبي (صلى الله عليه وسلم) يحث الصائم على التحلي بها في قوله: (... فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ).

وكذا من الأخلاق التي ينبغي أن يكتسبها المؤمن من الصيام : العفة، فالصيام يربي أصحابه على الطهر والعفاف والتحكم في غرائز النفس، ولهذا وجّه النبي (صلى الله عليه وسلم) الشباب الذي لا يجد ما يتزوج به أن يعتصم بالصيام، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه)، فأوضح النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الصيام وقاية ووسيلة للعفة، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر الصيام بالله عز وجل، فيضعف داعي الشيطان، ويقوى داعي الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات وتقل المعاصي.  

 والصيام يربي فينا الالتزام والانضباط ويعالج الفوضى واتباع الهوى، ففي شهر رمضان يمسك المسلمون عن الطعام والشراب في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، وهذا يُعلم الجميع النظام والالتزام.

ومن أخلاق الصائمين : مراعاة الفقراء واليتامى وقضاء حوائج الناس والمواساة، يتذكر فيه الغني أخاه الفقير، ويحنو  عليه، ويطعمه مما يأكل  ويسقيه مما يشرب ويواسيه،  وقد رغّب النبي (صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، لا يَنْقُصُ مِنْ أجْرِهِ شيْءٌ ) (سنن الترمذي). فيجب على الصائم أن يشعر بمن ضاق بهم الحال،  فيغيث ملهوفهم، ويسعى في جلب المصالح لهم ودفع الأذى  عنهم، من باب قوله  تعالى: {وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَكُم تُفلِحُونَ} [الحج: 77 ] ،والأجر في رمضان مضاعف ، فهنيئًا لكم أيها الصائمون فاستبقوا الخيرات.    

ويتجلى التعاون  على البر والخير  بين المسلمين في صورة ما أجملها  وما أرقّها  في قول  النبي (صلى الله عليه وسلم): ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (متفق عليه).

عباد الله  :  فمن منا  بحث عن فقير فأطعمه ؟ ومن منا  وجد يتيمًا فآواه ؟  ، ومن منا رأي عريانًا فكساه؟

إن الصيام في حقيقته هو التقرب إلى الله تعالى بترك الحلال من طعام وشراب وشهوات، ومعلوم أنه لن يتأتّى التقرب بترك المباحات إلا بعد التقرب بترك المحرمات، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)، فالله عز وجل ليس بحاجة إلى العباد وإلى طاعاتهم، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فإن لم تَتَقَوَّمْ أخلاقُ الصائم بصيامه فلا قيمة له لأنه فَقَدَ الغرضَ الأهم منه، لأن الله لم يرد أن يعذب العباد بترك ما يشتهون ويألفون، ولكنه أراد منهم أن يَدَعُوا مساوئ الأخلاق والتي منها قول الزور والعمل به، فأهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقد ورد عن سيدنا جابر (رضي الله عنه) قوله: ( إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ، وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً ) (مصنف ابن أبي شيبة )، وما أبلغ قول الشاعر:

إذا لــم يكـــن في السمـــــع مني تصـــــــاون           وفي بصــــري غـــــض وفي منطـــــقي صمــــــتُ

فحـــظي إذاً من صــــومي الجـــوع والظمـا         فإن قلـــت إني صمـــت يومــــي فمـــــا صمـــــــتُ

 فإن كان يوم صيامك كيوم فطرك فماذا فعل بك الصيام؟! فينبغي على الصائم أن يتخلق بجميل الأخلاق وأن يتحصن بالصيام من كل شر، فعن أَبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ ) (متفقٌ عَلَيْهِ) ، فقول الصائم لمن يعتدي عليه ( إني صائم ) كأن الصيام حصن يحتمي به ويتقوى على نوازع الشر والجهل والطيش، فعلى كل صائم أن يستمد من صيامه ما يتحصن به ويتقوى على ترك المحرمات، فكيف بمن تَرْقَى به عزيمته إلى ترك المحرمات كأنواع التدخين، والمخدرات وغير ذلك أن يرتد بعد إفطاره مرتميًا في أحضان تلك المنكرات ليهدم ما بناه في نهاره من قوة الإرادة، فيا سعادة من اغتنم فرصة هذا الشهر الكريم فغير مسار حياته وأقبل على طريق الله عز وجل، ويا شقاوة من ضيعها وهتك حرمة هذا الشهر ودنسه بالمعاصي.  فمما يجب على  الصائم أن يحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والشتائم وقول الزور مما يذهب بثواب صيامه  وأجره، ولا ينال منه إلا الجوع والعطش، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ) ( مسند أحمد). 

ومن أخلاق الصائمين : صيانة اللسان وحفظه ، عن الخوض فيما يفسد عليه صيامه  وقيامه  ، فعلى المسلم ألا يتكلم إلا بالخير ويحذر من سبّ الناس وشتمهم، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم):  (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) ( صحيح البخاري ).

          وانظر كيف كان السلف الصالح (رضي الله عنهم) يعيشون  رمضان ؟ عاشوه  بقلوبهم ومشاعرهم، كان الواحد منهم  صابرًا على الشدائد، يحافظ على  يومه ولا يشوه صومه ، أمّا ليلُه فكان يقضيه في القيام والوقوف بين يدي مولاه  وتلاوة القرآن.    

ومن أخلاق الصائمين :  مراقبة الله في السر والعلن، فترى الصائم  يراقب نفسه، يقدر  هيبة مولاه ، واطلاعه على كل حركاته، فلا يفكر  أن يفسد  صيامه ولو توارى عن الأعين ، وتلك منزلة الإحسان العظمى، وثمرة المراقبة في شهر الصيام ، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وهناك فرق بين مراقبة الخالق ومراقبة المخلوق فمراقبة الخالق فيها عز ، ومراقبة المخلوق فيها ذل ،  وكم يحتاج المسلم إلى أن يربي نفسه على مراقبة الله دائما والعارفون يقولون: ( لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس ).   

ويحذرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الأخلاق السيئة التي تمحو ثواب الأعمال الصالحة، وتحبط العمل، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ : قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم): يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) قَالُوا : وَفُلاَنَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ  " الأثوار : جمع ثور وهو القطعة من اللبن المجفف، يعني تتصدق بالقليل "، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )  (الأدب المفرد للبخاري).   

فالإسلام يُريد من الصائم العابد  أن يتحلَّى بكل خُلُقٍ كريمٍ، وفعلٍ قويمٍ، وقولٍ جميلٍ، قال (صلى الله عليه وسلم): ( أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم) (سنن  الترمذي)، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة، قال: ( تقوى الله وحُسن الخُلُق). وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ النار، فقال: ( الفمُ والفرْجُ ) ( رواه الترمذي).         

ومن أخلاق الصائمين في رمضان:  أنهم يشغلون جل ّ أوقاتهم في رمضان في تلاوة القرآن الكريم ومدارسته، حيث  ربط الله تعالى في كتابه الكريم بين صوم رمضان والقرآن الكريم،  فهذا الفضل كله لرمضان ما كان إلا لكونه ظرفًا لنزول القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فتأمل كيف رتّبَ فرض الصيام على نزول القرآن في هذا الشهر؟! بل إن ليلة القدر التي فضلها الله على ألف شهر قد أشار القرآن الكريم إلى أن سبب تفضيلها نزول القرآن الكريم فيها فقال تعالى:  {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1– 5] .

إنّ المنزلة التي جعلها الله ( عزّ وجلّ) لأهل القرآن  الذين يشتغلون به تلاوة وتدبرًا وعملاً  من أرقى وأعلى المنازل، فمن منا لا يتمنى أن يكون من أهل الله المقربين منه تعالى؟ عَنْ  أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : ( إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ ) (سنن ابن ماجه)،  فقارئ القرآن  منتسب إلى الله ، فما أعظمه من شرف ، فبقدر ما تحفظ من  القرآن يكون الشرف والمنزلة.  

فأهل القرآن يرفع الله قدرهم بين العباد، فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لقي عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِى؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ) (صحيح مسلم).

إن العبادة التي تضمن لك آلاف بل ملايين الحسنات في ساعات معدودة هي قراءة القرآن، فعن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ ألْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ ) (سنن الترمذي)، فما أكثر الحروف وما أعظم الحسنات!!    

إنّ القرآن خير من يدافع عنك يوم لا تجد نصيرًا ولا مدافعًا، فعن أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله  (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ )  وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا ) (صحيح مسلم).

وقد بيّن  النّبي (صلى الله عليه وسلم) الفرق بين المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتعاهده وبين الذي لا يقرأ  القرآن  فقال: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ ) (متفق عليه)، والأترجة هي الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والرائحة  فنفهم من ذلك : أن قارئ القرآن رائحته زكية، ومنافعه جليلة وقربه رحمة.    إن أعلى أهل القرآن أجرًا هم الذين يقرؤون بألسنتهم ويتدبرون بعقولهم وقلوبهم، قال تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، ولقد أثنى الله على من تلا آياته في كتابه العزيز  ، قال  تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2]،  قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : ( تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ودليل ذلك قوله تعالى:  { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123، 126]، وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : ( الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ وَيَتَّسِعُ بِأَهْلِهِ وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لاَ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ ، وَيَضِيقُ بِأَهْلِهِ وَيَقِلُّ خَيْرُهُ ) (مصنف ابن أبي شيبة ).

فهنيئًا لأهل القرآن والصيام في الدنيا والآخرة، وما أهون الجوع والعطش بالنهار، والسهر مع القرآن بالليل حين يجدهما العبد يدافعان عنه يوم القيامة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ فيَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ فَيُشَفَّعَانِ ) (المستدرك للحاكم).

فيا أيها المسلم الصائم  : ليكن شهر رمضان محطة تغيير في حياتك أمانة في العمل ، وحرصًا على إنجازك الأعمال المطلوبة ،ونشاطًا لا يعرف الكلل والملل ، وبشاشة عند المقابلة ، ولينًا في الحديث وتلطفًا في الأخذ والرد.  

ويا أيها الأب الفاضل : ليكن شهر رمضان مدرسة لتربية أبنائك ، فعلم أولادك فضائله وأخلاقه وآدابه حتى تكون قدوة حسنة ، ولبنة في بناء مجتمع متميز.  

ويا أيها التاجر المسلم : ليكن شهر رمضان انطلاقًا في طلبك الرزق الحلال في تجارتك ، بلا غش ، ولا خداع ، ولا استغلال حاجات وضرورات الناس ،وكن سمحًا صدوقًا في البيع والشراء كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى ) (صحيح البخاري)، مؤديًا حق الفقراء من الصدقات والزكوات.  

ويا أيها الطبيب المسلم : ليكن شهر رمضان شاهدًا لك في عملك ، ولا يكن همك جمع المال ، فكن رحيمًا بالمرضى ، وعليك بطيب الكلام الذي يبث الأمل والرجاء في قلوب مرضاك.  

ويا أيها المعلم المسلم : ليكن شهر رمضان محطة تغيير وانطلاق في مهمتك الجليلة ، فكن قدوة صالحة لطلابك ، فاحرص على تعليمهم الأخلاق الحميدة ، فكن على حذر من أي عمل قبيح أو تصرف سيئ أمام طلابك، فهم يتأثرون بك ، فعند ذلك لن يكون لكلامك قيمة. 

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

رمضان شهر الإنفاق والبر والصلة

أولاً : العناصر :-                                              

1-       فضل الإنفاق والكرم في رمضان .

2-       جود النبي (صلى الله عليه وسلم) وعطاؤه  .

3-       رمضـان شهر البر للأقارب والصـلة للأرحام .

ثانياً: الأدلـــة:-

         الأدلــة مـن القـرآن:-

1-       قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185].

2-       وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92] .

3-       وقال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [الإنسان:8 - 11].

4-       وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261] .

5-       وقَال تعالى:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ }[الإسراء: 26] .

6-       وَقَالَ تعالى: { ... وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء:36] .

الأدلــة مـن السنة:-

1-       عَن عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ  (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( كُلُّ امْرِئٍ فِى ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ) أَوْ قَالَ: ( حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ ) (مسند أحمد بإسناد صحيح) .

2-       وعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ  بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قال أنس: فَلَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية :    [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أنزل عليك: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أراك الله فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وإني أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فقَالَ أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ) ( متفق عليه) .

3-       وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (رضي الله عنه) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرُهُ ، من غير أن يُنقَصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ ) (رواه الترمذي وابن ماجه).

4-       وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) (متفق عليه) .

5-       وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : كَانَ النبي (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فيدارسه القرآن ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ) (متفق عليه) .

6-       وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقِه ، ويُنسأ له في أثرِه ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَه ) (متفق عليه).

7-       وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا )  (أخرجه البخاري) .

ثالثاً: المـوضـــوع:-

إن شهر رمضان الكريم فرصة عظيمة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث جعله الله تعالى لمضاعفة الحسنات ، ومغفرة الذنوب والذلات ، ولذا تكثر فيه الأعمال الصالحات من تلاوة القرآن ، وعبادة الله وقيام الليل ، والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]. فهذه الآية الكريمة تبين لنا فضل هذا الشهر العظيم ، وفضل العمل فيه .

وإن من الأعمال الفاضلة في هذا الشهر الإنفاق والجود والكرم ، بها نرعى الفقراء المحتاجين ، ونسعى في الإنفاق والبذل ولقد حث الإسلام الحنيف على الجود والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وتضافرت الآيات والأحاديث الحاثة على ذلك : قال الله تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92].

وانظر إلى عصر الصحابة كيف تعاملوا مع الآيات التي تحث وترشد إلى الإنفاق ، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ  بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قال أنس: فَلَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية :    [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أنزل عليك: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أراك الله فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وإني أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فقَالَ أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ) (متفق عليه).

وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما جاءته سهامه من خيبر جعلها في سبيل الله تعالى ؛ فعن ابن عمر (رضى الله عنهما) أن عمر أصاب أرضا بخيبر ، فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) يستأمره فيها ، فقال يا رسول الله ، إنى أصبت أرضا بخيبر ، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه ، فما تأمر به قال: ( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها » ؛ قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، وتصدق بها في الفقراء وفى القربى ، وفى الرقاب ، وفى سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم غير متمول ) (رواه البخاري ومسلم) .

وعن عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ  (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ ) (مسند أحمد) . ومعنى ذلك أن الصدقة تحمى صاحبها من حر الشمس في أرض المحشر حتى انقضاء الفصل بين الناس .

ولهذا فإن من أعظم الطاعات وأجل القربات  في شهر رمضان الإنفاق وإطعام الجائعين ، وتقديم الصدقات ، وتفطير الصائمين ، فما أعظم من أن يغتنم العبد هذه الفترة في فعل الخير وأعمال البر ، يقول (عليه الصلاة والسلام) فيما صح عنه ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرُهُ ، من غير أن يَنْقص مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ ) . أي: أنك إذا فطَّرت صائماً كتب الله لك أجراً كأجر الصائم دون أن ينقص من أجره شيء ؛ فالحرص على إفطار الصائم الفقير ، والمسكين، والمحتاج ، مما تجود به النفس ، ولو بقليل من تمر ، أو مذقة لبن ، أو قطعة خبز، فهذا موسم الصدقات والأعطيات ؛ إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد الفقير فيربيها الله تعالى لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه.

وروي أن ابن المبارك كان كثير الإطعام للناس لأنه أدرك ما أعده الله تعالى لعباده من وقاية وحماية من هول الموقف في عرصات القيامة ، بسبب إطعامهم الطعام ، وجودهم على الأنام ، قال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [الإنسان:8 - 11].

أما حين ننظر في جزاء الصدقات والإنفاق في سبيل الله ، والجود والكرم على الفقراء والمساكين ، نجد أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وهذا شطر من حديث معَاذ قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا قَرِيبا مِنْهُ إِلَى أَن قَالَ: ( أَلا أدلك عَلَى أَبْوَاب الْخَيْر ؟ الصَّوْم جنَّة وَالصَّدَقَة تُطْفِئ الْخَطِيئَة كَمَا يُطْفِئ المَاء النَّار ، وَصَلَاة الرجل فِي جَوف اللَّيْل ثمَّ قَرَأَ تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع ) (رواه الترمذي). فالحرص كل الحرص على الصدقة ، ومراعاة الفقراء والمحتاجين ، والاغتنام بالإنفاق في سبيل الله .

وفي الحديث الصحيح عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي ، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ) رواه مسلم . أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل ، أو ثياب تبلى ، أو صدقة تبقى .

ومما يدل على فضيلة الإنفاق وأنها تبقى له عند الله سبحانه وتعالى ، ما روته عائشة أنها ذبحت شاة ، فسألها النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع  ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع ) ، أي: أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك ، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى ، كما قال الله (عز وجل): { مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل:96] .

وما أعظم الإنفاق في سبيل الله في هذا الشهر  وغيره ، حيث يبشر العبد بالزيادة ، وأن الله تعالى يخلف على العبد المتصدق بل ويزيد له في الحال ، فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: { وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ:39] ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

إن الله تعالى يحذرنا مما قد يتصوره البعض من نقص للمال بالصدقة والإنفاق ، ويبين لنا أن ذلك محض وسوسة وتزيين من الشيطان يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] .

إن فضل وأجر الإنفاق في سبيل الله عظيم ، والثواب على الصدقة كبير ، إنه يضاعف أضعافا كثيرة  ، قال عز وجل: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261] ، إن ذلك ليس مختصاً برمضان فحسب ، لكن رمضان فيه مزيد من فضل الله عز وجل ومضاعفة الأجور ، فهل من مشمِّر ؟ وهل من منفق ومتصدق ؟ هل نحرص على أن نقوم بأعمال الخير ، ونفزع إليها ، ونرتبط بها ؟ إن ذلك ما ينبغي أن نتواصى به في هذا الشهر الكريم ، فإن للصدقة في رمضان خصوصية ليست في غيره ، فهو شهر الإنفاق ، وهو شهر الصدقة .

وإذا كنا بحاجة إلى كرم الله وجوده لا سيما في هذه الأيام المباركة ، فعلينا المسارعة إلى البذل والإنفاق والجود ، فإن الله عز وجل يكرم من يكرم عباده ، ويعطي السخي من عباده، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ) (رواه البخاري ومسلم) ؛ فشهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و العتق من النار لا سيما في ليلة القدر ، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل، و الجزاء من جنس العمل ، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يزداد جوده وبذله في رمضان .

فأما عن جوده (صلى الله عليه وسلم) في رمضان:

فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أجود بالخير من الريح المرسلة ؛ كما بيّن ذلك ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) حيث قَالَ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ) (متفق عليه) ، فينبغي الإكثار من الجود اقتداءً بالرسول (صلى الله عليه وسلم) في سائر الأحوال عامة ، وفي رمضان خاصة .

وفي هذا الحديث دلالة على زيادة جود النبي (صلى الله عليه وسلم) في رمضان عن غيره من الأزمان، وفي تشبيه جوده (صلى الله عليه وسلم) بالريح المرسلة وتفضيل جوده على ذلك يقول ابن حجر :" قال الزين بن المنير وجه التشبيه بين أجوديته (صلى الله عليه وسلم) بالخير وبين أجودية الريح المرسلة: أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة ، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة "

وأنواع جوده (صلى الله عليه وسلم) لا تنحصر ، والكلام في جوده يبدأ ولا ينتهي ، فهو أجود الناس على الإطلاق ، يتفنن (صلى الله عليه وسلم) في أنواع الجود ، ويعطي كل من سأله، لا يرد سائلاً ، حتى إنه (صلى الله عليه وسلم) قد يسأله رجل ثوباً عليه فيدخل بيته ويخرج وقد خلع ثوبه وأعطاه إياه ، وربما اشترى الشيء فأعطى ثمنه ورده على بائعه ، وربما اشترى وأعطى الثمن وزاده ، وربما استعار شيئاً فرده بأكثر وأطيب وأكبر منه ، وربما أهدى وتصدق ، وأعطى ، وربما قبل الهدية وأثاب عليها أكثر منها وأعظم وأوفر ، وكان (صلى الله عليه وسلم) يفرح بأن يعطي أكثر مما يفرح الآخذ بما يأخذ ، ففرحه صلى الله عليه وسلم بالعطاء أعظم من فرح الآخذ بالأخذ ، حتى إنه ليصدق عليه وحده عليه الصلاة والسلام قول القائل: (تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله) فكان يجود صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ، ويصفح عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويعفو عمن أساء إليه .

لقد كان الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان ، وما منع النبي (صلى الله عليه وسلم) سائلاً سَألهُ أبداً ، بل لقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى المصطفى فسأله ، فنظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى غنم بين جبلين ، فقال: ( انظر إلى هذه الغنم ، سقها فهي لك ! فساق الرجل الغنم كلها بين يديه ، وذهب إلى قومه قائلاً: يا قوم ! أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ) .

إن جود الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذا الشهر الكريم ، واقتداءنا به عليه الصلاة والسلام في ذلك ، إنّما جاء ضمن دلالات خاصة يختص به هذا الشهر المبارك ، أهمها :

جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان ، ومدارسة القرآن وأثرها على النفس وغناها، ومجالسة الصالحين وأثرها في استقامة السلوك وعلو الهمّة ، ومن ذلك : أن يبذل الإنسان ما له فيما ينفعه ، وفضل الصدقة عموماً ، فكيف إذا كانت في رمضان .

ولما كان رمضانُ شهرَ الرحمةِ والجودِ ، فهو شهر بر وصلة ، فما ألطفَ أن يتعهد العبدُ أهلَه وأولي الأرحام منه في هذا الشهرِ المبارَك ، فيُدخِل عليهم الفرحةَ والسُّرور ، ويتقرَّب إليهم ، احتراما للكبير ورحمةً للصغير وصلةً للرحم . فالصائم يَتشبَّه بأخلاقِ النبي (صلى الله عليه وسلم) ، حيث كان (صلى الله عليه وسلم) يعتني في كلِّ أحوالِهِ بنفعِ الناسِ وإسداءِ الخيرِ لهم ، كما قالت له زوجه خديجة (رضي الله عنها): ( كلا والله لا يُخزيك اللهُ أبداً ؛ إنّك لَتَصِلُ الرَّحِم ، وتحمِل الكَلَّ ، وتَكْسِب المعدوم ، وتَقْرِي الضيف ، وتُعين على نوائبِ الحق ) رواه البخاري .

ولا ريبَ أنَّ الصائمَ يجد في شهرِ رمضان فرصة إلى صِلَةِ أرحامِه وزيارةِ أهله وإكرام ذوي القربى منه ، وتعهدهم بالزيارة والسؤال ، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقِه ، ويُنسأ له في أثرِه ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَه ) . وما أعظم من أن يَتفقَّدَ العبدُ المؤمن أهله وأقاربه في رمضان ؛ فيُعين فقيرَهم ويرحم ضعيفَهم ويُنفِّس كربَ المبتلى منهم ؛ فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ نَفَّسَ عن مؤمنٍ كُربَةً مِن كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة ).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ) (أخرجه البخاري ).

كما أخرج الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِني ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ ، فَقَالَ: ( لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ) ، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم ، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن ، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته ، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ .  وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِنْ الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يَسُفُّ الْمَلّ .  وَقِيلَ : ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالْمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ، وَاَللَّه أَعْلَم"(شرح صحيح مسلم للإمام النووي) ، إذًا فالأذى واقع على المسيء المقاطع ، أما المحسن الواصل فثوابه على الله تعالى الذي يعينه ويتولى أمره وفي دعوة صريحة لتفقد الأهل ، وتعاهد الأقارب وأولي الأرحام ، أمر الله بإعطائهم من الحقوق الواجبة لهم على أقاربهم الأغنياء ، من بر وصدقة ، قَال اللَّهِ تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}[الإسراء: 26] . وَقَالَ تعالى:{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] ، فَأَوْجَبَ الله تَعَالَى حَقَا  لذَوي الْقُرْبَى والأرحام ، وَافْتَرَضَ الإِحْسَانَ إليهم، وَالإِحْسَانُ يَقْتَضِي التعاهد بزيارتهم ، والإنفاق عليهم ، والقيام على مصالحهم .

فما أعظم أن نسعى في هذا الشهر الكريم من إقبالٍ على الخير وحرص على إفطار الصائمين وإكرامٍ للأقارب والأرحام ؛ إن رمضان جاء ليحرك الخير فينا ، فالخير في نفوسنا أصلاً لكن رمضان حرك ما كان راكدًا ، وساعد بنفحاته وجوده الإيماني على ظهوره ، ألا فليكن رمضان بداية لنا لا نهاية للجود والكرم والبر وصلة الأرحام ، والإقبال على الخير  .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

رمضان شهر الدعاء والإجابة والنصر

أولًا:العناصر:

1-    منزلة الدعاء من العبادة.

2-    فضل الدعاء .

3-    آداب الدعاء .

4-    الدعاء في رمضان  .

5-    رمضان شهر النصر .

ثانيا: الأدلـــــة :

       الأدلة من القرآن:

1-      قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

2-      وقال تعالى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم: 48 – 49].

3-      وقال تعالى :{ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر: 65].

4-      وقال تعالى :{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55 – 56].

5-      وقال تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[غافر: 65].

6-      وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186].

7-      وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }[الأعراف: 94] .

8-      وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 42، 43].

  

الأدلة من السنة:

1-      عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ر(ضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، يَقُولُ: (إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ) ثُمَّ قَرَأَ : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (رواه الحاكم).

2-      وعَنْ سَلْمَان (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا) (رواه الترمذي ) .

3-      وعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثَمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ بها إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَعجل لَهُ دَعْوَتَهُ ، وإمّا أن يَدَّخِرَها لَهُ في الآخرة ، وإمّا أن يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ). قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ . قَالَ:( اللَّهُ أَكْثَرُ ) (رواه الترمذي وأحمد) .

4-      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( يُستجابُ للعبد مَا لَم يَدْعُ بِإثمٍ أَو قَطيعةُ رَحمٍ ، ما لم يَستعجِلْ قيل يا رسول الله: وما الاستعجال؟ قال: يقول: دَعوتُ فَلم أُرَ يُستَجبْ لِي ، فيستحسر عند ذلك وَيدعُ الدُّعَاء ) (رواه مسلم).

5-      وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: ( لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ). قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ قَالَ ( يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِى فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) (رواه مسلم).

6-      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: ( أَبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ ، وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ) (البخاري في الأدب المفرد) . 

ثالثا : المــوضــــوع :

الدعاء من أفضل العبادات التي يقوم بها الإنسان المؤمن ، فشأنه عظيم ، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين ، فهو قمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، وهو من أجل العبادات وأعظم الطاعات ، وأنفع القربات ، والدعاء سهم من سهام الله ، ما استجلبت النعم بمثله ولا استدفعت النقم بمثله ، ذلك أنه يتضمن توحيد الله ، وإفراده بالعبادة دون من سواه ، وهذا رأس الأمر ، وأصل الدين ، وهو السلاح الذي يملكه المؤمن في كل وقت ؛ به يستطيع أن يستخدمه في كل لحظة ، وهو من أحب الأعمال إلى الله عز وجل .

ولما كان للدعاء هذه المكانة العظيمة جاءت النصوصُ الكثيرةُ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) المبيِّنةُ لفضله والمُنَوِّهةُ بمكانته وعظم شأنه ، والمرغِّبةُ فيه والحاثَّةُ عليه ، وقد تنوَّعت دلالاتُ هذه النصوص المبيِّنة لفضل الدعاء ، فجاء في بعضها الأمرُ به والحثُّ عليه ، وفي بعضها التحذير من تركه والاستكبار عنه ، وفي بعضها ذكرُ عِظم ثوابه وكبر أجره عند الله ، وفي بعضها مدحُ المؤمنين لقيامهم به ، والثناءُ عليهم بتكميله ، وغيرُ ذلك من أنواع الدلالات في القرآن الكريم على عظم فضل الدعاء .

من أجل ذلك جاء في سياق آيات الصيام لفتة عجيبة تخاطب أعماق النفس ، وتلامس شغاف القلب ، وتسرِّي عن الصائم ما يجده من مشقة ، وتجعله يتطلع إلى العوض الكامل والجزاء المعجل ، هذا العوض وذلك الجزاء الذي يجده في القرب من المولى جل وعلا، والتلذذ بمناجاته ، والوعد بإجابة دعائه وتضرعه ، حين ختم الله آيات فرضية الصيام بقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] ، فهذه الآية تسكب في نفس الصائم أعظم معاني الرضا والقرب ، والثقة واليقين ، ليعيش معها في جنبات هذا الملاذ الأمين والركن الركين .

كما أنها تدل دلالة واضحة على ارتباط عبادة الصوم بعبادة الدعاء، وتبين أن من أعظم الأوقات التي يُرجى فيها الإجابة والقبول شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الدعاء خصوصًا عند ساعة الفطر ، فهذه النصوص الشرعية تبين عظم شأن الدعاء وفضله ، فالدعاء هو العبادة ، وهو أكرم شيء على الله ، ومن أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله ، ورفعه بعد نزوله ، كما أنه سبب لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم ، وهو مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين ، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.

وإني لأدعو اللهَ والأمـــرُ ضيـقٌ        علــيَّ فــمـا ينفـــك أن يتفرّجــــا

وربَّ فتى ضاقت عليه وجوهُهُ       أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا

وقال آخر:

ولرب ضائقة يضيق بها الفتى ذرعاً .:. وعند الله منها المخرج

ونجد أنَّ الله تعالى سمَّى الدعاءَ في القرآن عبادةً في أكثر من آية ، مِمَّا يدلُّ على عِظم مكانته، كقوله سبحانه: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وكقوله فيما حكاه عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا }[مريم: 48] ،  كما سَمَّاه سبحانه دِيناً كمـا في قوله:  {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].

وهذا كلُّه يُبيِّن لنا عِظمَ شأن الدعاء ، وأنَّه أساسُ العبودية وروحُها ، وعنوانُ التذلُّل والخضوع والانكسار بين يدي الربِّ ، وإظهارِ الافتقار إليه ، ولهذا حثَّ الله عبادَه عليه ، ورغَّبهم فيه في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، يقول الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 55 – 56]، وقال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر: 65].

وذم الله تعالى الذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب ، وحدوث البأساء ، أو الضراء ، فقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43].

وقد أمر الله تعالى عباده بالتوجه إليه ، ودعائه والتضرع إليه ، وجعل من لم تستقم نفسه إلى التوجه إلى الله والتضرع إليه من المستكبرين عن هذه العبادة العظيمة ، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60] . وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( الدعاء هو العبادة قال ربكم : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، وقال (صلى الله عليه وسلم): ( إن ربكم - تبارك وتعالى - حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ) ،

وبالنظر نجد أن للدعاء فضائل عظيمة :

أوّل هذه الفضائل أن ثمرته مضمونة وأن العبد يستجاب له ، فعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثَمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ بها إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَعجل لَهُ دَعْوَتَهُ، وإمّا أن يَدَّخِرَها لَهُ في الآخرة ، وإمّا أن يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ) . قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ . قَالَ: ( اللَّهُ أَكْثَرُ ) (رواه الترمذي وأحمد) ، وعن أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ:( لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ). قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ قَالَ( يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِى فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) (رواه مسلم).

والدعاء سلامة من العجز ، ودليل على الكَياسة ،ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: ( أَبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ، وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ ).

وهو طريق الوصول وسبيل الحصول ، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( ما من مؤمنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لله يسأله مسألةً إلا أعطاه الله إياها، إما عجّلها له في الدنيا، وإما ذخرها له في الآخرة، ما لم يعجل). قالوا: يا رسول الله وما عَجَلَتُه؟ قال: (يقول: دعوت ودعوت ولا أراه يُستجاب لي) (أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد )، ففي الحديثين السابقين وما في معناهما؛ دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل ، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً ، وإما مُؤجلاً . قال ابن حجر رحمه الله: (كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه).

كذلك من فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (لا يغنى حذرٌ من قدرٍ، وإن الدعاءَ ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاءَ فيعتلجان إلى يوم القيامة)( أخرجه الطبراني). ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان ، ويتدافعان .

والدعاء يفتح للعبد بابَ المناجاةِ ولذائذَها ، قال بعضُ العُبَّادِ: ( إنه ليكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فَيَفْتَحُ عَلَيَّ من مناجاتهِ ، ومعرفتهِ، والتذللِ لَهُ، والتملقِ بين يديه ما أحب معه أن يؤخَّر عني قضاؤها، وتدومَ لي تلك الحال).

ومما ينبغي أن نعلمه في هذا المقام ما لشهر رمضان من خصوصيةٍ بالدعاء ؛ فهو شهرٌ عظيمٌ حريٌّ فيه بإجابة دعاء الداعين وسؤال السائلين ، فإن الله - جل وعلا - قال في سورة البقرة في أثناء آيات الصيام :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186] ؛ فهذه الآية - عباد الله - جاءت مسبوقةً بأحكام الصيام ومتبوعةً بأحكام الصيام وفي ذلكم إيماءٌ (كما بيَّن أهل العلم في كتب التفسير) إلى ما لرمضان - شهر الصيام - من خصوصية بالدعاء وأنه شهر مرجوَّةٌ فيه الإجابة ، شهرٌ حريٌّ بعباد الله المؤمنين أن يكثروا فيه من الدعاء ، فالآية الكريمة فيها حث على الإكثار من الدعاء والعناية به مطلقًا في كل وقت وحين ، وفي سياقها إشارةٌ إلى أهمية العناية بالدعاء والإكثار منه في شهر رمضان المبارك لما له من خصوصية بالدعاء

فشهر رمضان شهر تفتح فيه أبواب الجنان وتغلَّق فيه أبواب النيران وتصفَّد فيه مردة الشياطين ، ولله -تبارك وتعالى- عتقاء وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان ، وهو شهر التوبة والغفران ، ويا  خسارة من أدرك رمضان ثم انسلخ ولم يُغفر له .

وكما قلنا إن الدعاء من أفضل العبادات وخصوصا في شهر رمضان، فإن الدعاء فيه أفضل وأحسن لأن الدعاء فيه مستجاب. هذا لا يعني أن باقي الشهور لا يستجاب فيها الدعاء. وإنما في شهر رمضان أقرب إلى الإجابة من غيره ، لأن الأجواء في شهر رمضان تجعل الإنسان أقرب إلى الله من أي وقت آخر ، لأن الجوع و المستحبات التي يقوم بها الصائم في هذا الشهر المبارك كل ذلك يجعل الإنسان يتقرب إلى الله أكثر ولذلك يكون دعاؤه أقرب للإجابة.

وأمرٌ آخر ، الصائم حينما امتنع عن المفطرات ، والتزم بما أمره الله به حارب نفسه وهواه عن تلك الملذات التي كانت تتوق إليها النفس . ترفّع عن كل ذلك من أجل رضا الله وثوابه ، ومقابل ذلك وعد الله إجابة دعاء أوليائه فيه .

ولتكن أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب .

وليعلم الصائم أن نومه عبادة ، وصمته تسبيح ، وعمله متقبل ودعاءه مستجاب ، فعن النبي (صلى الله عليه و آله  وسلم) قال: ( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم ) ، وعن أبي الحسن ( رضي الله عنه )  قال : ( إن للصائم عند إفطاره دعوة لا ترد). وعنه أيضًا أنه قال:( دعوة الصائم تستجاب عند إفطاره) .

وأن أفضل وقت للصائم يدعو الله ( عزَّ و جلَّ ) فيه وقت الإفطار بعد أن أنهى ذلك الصوم لله وما أصابه في ذلك اليوم من ظمأ وتعب لله ( عزَّ و جلَّ ) ، يقول الله تعالى لذلك العبد الصائم بعد كل ما قُمْتَ بِهِ في ذلك اليوم ماذا تريدُ مقابل ذلك العمل . ادعُ  و اطلب كل ما تريده . 

فعلى العبد أن يغتنم الفرصة ويطلب من الله ما يريد فإن الله يجيب له دعاءه ، فلا يبخل العبد على نفسه في أن يسأل ربّه كل ما يحتاجه ، فالبخيل من بخل بالدعاء ، وكذلك على المؤمن ألاّ يقتصر في الدعاء على نفسه وإنما يعم بالدعاء المؤمنين من إخوانه ، بل ربما قدّم الدعاء لإخوانه قبل أن يدعو  لنفسه ، فإن الدعاء يستجاب لهم وله.

وكما أن رمضان شهر الدعاء فهو أيضًا شهر النصر ، فيه نصر الله المؤمنين ببدر وهم قلة في العدد والعتاد حيث يقول سبحانه وتعالى:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[ آل عمران 123 : 126]وفيه كان فتح مكة الذي ضرب فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) أروع المثل حين قال لأهل مكة يا أهل مكة ما تظنون إني فاعل بكم قالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): اذهبوا فأنتم الطلقاء .

وفيه كان توفيق الله (عز وجل) لقواتنا المسلحة الباسلة في حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973م ، وهنا نذكر بما قدمته قواتنا المسلحة ومصرنا الغالية من شهداء عظام رووا أرض الوطن بدمائهم دفاعا عن الدين والوطن والأرض والعرض ، ومازال عطاؤهم مستمر ًا في مواجهة الإرهاب الغاشم حتى تقتلعه من جذوره بإذن الله تعالى ، دفاعا عن ديننا ووطننا وأمتنا العربية ، بل إننا نعمل مع كل المخلصين والشرفاء والدول العربية الشقيقة والدول الصديقة على تخليص الإنسانية من هذا الإرهاب الأسود .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

ليلة القدر وفضائل العشر الأواخر من رمضان

أولاً: العناصر :-

1-     شهر رمضان وفضل العشر الأواخر منه .

2-     اغتنام الأوقات بحسن الطاعات .

3-     ليلة القدر ومكانتها العظيمة وفضلها الكبير .

4-     الختام لشهر الصيام إنما الأعمال بالخواتيم .

ثانياً: الأدلـــــــــة :-

         الأدلة من القرآن :

1-    قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185] .

2-    وقال تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة:15، 16] .

3-    وقال تعالى:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:15-18] .

4-    وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]  .

5-    وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]  .

6-    وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] .

7-    وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[ القدر: 1-5] .

8-    وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}  [الدخان:3، 4] .

9-    وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *  وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل:5-10] .

الأدلة من السنة :

1-   عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجدَّ وشدَّ المئزر ). (متفق عليه.)

2-  وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه ) (صحيح مسلم).

3-  وعن الْمُغِيرَةَ بْن شُعْبَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ يا رسول الله: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: ( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ). (متفق عليه.) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ). (متفق عليه.)

4-  وفي الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ).

5-  وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). (متفق عليه).

6-  وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قلت للنبي (صلى الله عليه وسلم): أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )(رواه الترمذي)

7-  وعن أنس(رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله ).فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال (يوفقه لعمل صالح قبل موته) (رواه الترمذي.)

ثالثاً: المــوضـــــوع :-

إن الله - سبحانه وتعالى- يمتن على عباده بالنفحات ، بل ويزيد لهم فيها من البركات ، فهذا شهر رمضان ، قال عنه ربنا سبحانه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185] ، وجعل الله في هذا الشهر الكريم العشر الأواخر ، فرصة لمن أحسن في أول الشهر أن يزداد ، ولمن أساء أن يستدرك ما فات ؛ ويغتنم هذه الأيام العشر في الطاعات ، وما يقربه من الله تعالى ، فحينما نتأمل ما كان عليه سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) في العشر الأواخر ، فإننا نجد أن العبارات والأحاديث التي رويت في هذا الشأن ليس فيها كثير كلام ، وليست من الأحاديث الطويلة مطلقاً ، ولكنها أوصاف أَجملت وأَوجزت صفة القلب ، وحياة الروح ، وشغل العقل ، وفعل البدن ، جاءت في كلمات عجيبة ذكرها أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهذه أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شدَّ مئزرَه ، وأحيَا ليله ، وأيقظَ أهلَه ) (متفق عليه) .

وفي رواية عنها (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه ) (صحيح مسلم) ، ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات ، وقيل: كناية عن اعتزال النساء .

فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يخصُّ العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يخصُّ غيرها ، بأعمالٍ يعملُها ويحرص عليها فمنها: إحياء الليل ؛ وفي المسند من وجهٍ آخرَ عنها قالت: (كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخلطُ العشرين بصلاةٍ ونومٍ ، فإذا كان العشرُ - تعني الأخيرَ - شمَّرَ وشَدَّ المئزر ) . ويحتمل أن يراد بإحياء الليل إحياء غالبه ؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ) ما علمتُهُ (صلى الله عليه وسلم) قام ليلة حتى الصباح ) .

ولم لا ؟! ودأب المؤمنين الصالحين قيام الليل ، والتهجد والوقوف بين يدي الله سبحانه، هذا ما بينه لنا ربنا جل في علاه ، فقال تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجدة:15، 16] .

وأشار الله تعالى إلى عباده المتقين ، وكيف كان حالهم ، من قيام الليل وهجر للفرش ، قال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15-18] ، وبهذا استحق هؤلاء المؤمنون جنات وعيون ، كما وعد الحق سبحانه.

وأما عن الهدي النبوي والتطبيق المحمدي لهذا الشأن ؛ فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم من الليل حتى تتورم قدماه ، ففي الحديث عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: ( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ) (متفق عليه) .

ومن الأعمال التي أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها ، وأرشد إلى القيام بها ، وكان يحرص ويواظب على أدائها ، إيقاظ أهله ؛ للعبادة والطاعة ، والتضرع لله سبحانه ، والوقوف بين يدي الحق جل في علاه ، لأن الإنسان مسئول عن أهله ، والراعي مسئول عما استرعاه الله عز وجل ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] . فقولها: (أيقظ أهله) فيه إشارة إلى أن الواجب المنوط بكل واحد منا لا يتعلق به وحده ، ولا يقتصر عليه وحده ، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأقربها وأولاها الأهل ، فإنّ العبدَ مطالبٌ أن يقي نفسه وأهله من عذاب الله ، وأن يجعل له ولمن هم في رعايته حجاباً وستراً من النار ، إنها الرعاية الواجب فعلها ، والعناية التي ينبغي له القيام بها ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ) كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ : وَأَحْسِبُهُ قَالَ : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) (متفق عليه) .

وروي أن عمر (رضي الله عنه) كان يصلي من الليل ما شاء الله ، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ، يقول لهم: الصلاة الصلاة ، ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ... الآية } [طه: 132] (الموطأ ).

ولم يقف الأمر عند مجرد إحياء الليل ، وإيقاظ الأهل ، بل تعدى إلى بيان الحالة والهيئة التي ينبغي أن يكون العبد عليها ، من جد واجتهاد ، وهذا ما كان يحرص عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فكان يجد ويجتهد ، ويشد المئزر – كناية عن اعتزال النساء – إنها المجاهدة للنفس ، والتوجه لله تعالى ، قال سبحانه:  { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ، ومن جهة أخرى يقال في كلام العرب: شمّر عن ساعد الجدّ أو شمّر عن المئزر ، إذا جَدّ واجتهد وبلغ الغاية القصوى في البذل والعمل .

بل هذا ما أمر الله تعالى به ، من مجاهدة في سبيله ، وأن يبتغى العبد وسيلة تقربه لله سبحانه ، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] ؛ إنه الفلاح والنجاح ، والفوز العظيم ، يناله العبد بالمجاهدة والتوجه إلى الله تعالى .

وإذا كانت العشر الأواخر من رمضان أياماً عظيمة امتن الله بها على الأمة المسلمة ، بأن أعطاها نفحات ربانية عطرة ، فيها الأجر الكبير ، والثواب العظيم ، فيها تتضاعف الحسنات ، ويغفر الله تعالى الذنوب والسيئات ، ويمحو الزلات ؛ فقد جعل الله تبارك وتعالى في العشر الأواخر ليلة القدر ، إكراما من الله لأمة محمد (عليه الصلاة والسلام) حتى تكثر حسناتها ، وترتفع بها درجاتها ، ولا تسبقها الأمم الأخرى ، فليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .. هي خلاصة رمضان ، وتاج رمضان ، وكان رسول الله يجاور في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : ) تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) ( صحيح البخاري ) .

ولهذا كان من سُنةّ النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) التأهب والاستعداد في تلك العشر ، وهذا فيه من الاجتهاد في العبادة ، وبذل الوسع في تحري تلك الليلة الفاضلة – ليلة القدر – التي هي خيرٌ من ألف شهر ، فينقطع تلك المدة عن كل الخلائق ، مشتغلاً بطاعة الخالق، قد حبس نفسه على طاعته ، وشغل لسانه بدعائه وذكره ، وتخلى عن جميع ما يشغله ، وعكف بقلبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقي له سوى الله ، وما شغل نفسه إلا بما فيه رضاه ، طلباً لفضله وثوابه وإدراكاً لليلة القدر .

والمقصود الأسمى من الاجتهاد في العشر الأواخر أن يكون العبد مهيئاً لتنزلات الله سبحانه في ليلة القدر ، فإن ليلة القدر ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة ؛ قال الله تعالى فيها: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}  ، والمعنى: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر .

وليلة القدر في الروايات الشريفة لها قدسية خاصة ، وأهمية كبرى ، فيستحب للمكلف أن يهتم بالغ الأهمية بإحياء هذه الليلة العظيمة ؛ ففي هذه الليلة تقدر مقادير الخلائق على مدار العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات ، والسعداء والأشقياء ، والآجال والأرزاق ، قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان:4].

وسميت ليلة القدر بهذا الاسم كما قيل: لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة ، ورزق وبركة ، يروَى ذلك عن ابن عباس (رضي الله عنهما) ؛ وقد قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]. وقيل: سميت ليلة القدر لعظم قدرها عند الله ، وقيل: القدر بمعنى الضيق ، لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها ، فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً: ( إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى ) .

وسمَّاها الله تعالى مباركة ، فقال سبحانه: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }. وهي ليلة القدر بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (185). وعَنْ اِبْن عَبَّاس (رضي الله عنهما) قَالَ: ) أُنْزِلَ الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فِي لَيْلَة الْقَدْر ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْد ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَة ) وَقَرَأَ: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ }.

ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قد أبهم هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ، ويجدِّوا في العبادة في الشهر كله طمعاً في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله ، وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ، ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جميعها ، وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذراً منها .

وأما عن العمل في ليلة القدر فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فإنه هو الأسوة والقدوة ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى ، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) (متفق عليه) .

إن ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه ، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر لها ، بقيامها و إحيائها بالتهجد فيها والصلاة ، وقد أمر عائشة بالدعاء فيها ؛ قالت عائشة (رضي الله عنها) للنبي (صلى الله عليه وسلم): أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ).

والحاصل أن السعيد حقًا من يوفق إلى إدراك هذه الليلة المباركة ، ومما لا خلاف فيه ولاشك ولا مرية أن من قام رمضان كله فقد أدرك ليلة القدر لا محالة ، ولهذا كان السلف الصالح منهم من يدخل المسجد من أول ليلة من رمضان ولا يخرج إلا بعد صلاة العيد .

إنما الأعمال بالخواتيم: إن الله تعالى بحكمته وعدله إذا علم من عبده صدق القلب وحسن النية فإنه يوفقه لعمل صالح يختم عليه ، ولو عمل ما عمل من شر ، وإذا علم منه فساداً في قلبه فإنه يختم له بسوء خاتمة ، ولو عمل فيما يبدو للناس بعمل أهل الجنة ، بل قد يظهر حقيقة أمره للناس عبرة وموعظة للمؤمنين ، كما في حديث سهل بن سعد في الرجل الذي أبلى بلاء ً حسناً وقاتل المشركين ، ولكن لما في قلبه من فساد لا يعلمه إلا الله فإنه ختم له بخاتمة سوء ، وإنما أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلم بحال خاتمته بوحي من الله تعالى تصديقاً لنبيه ، وبرهاناً على أنه رسول رب العالمين،  ولهذا قال الصحابي الذي رآه قتل نفسه : (يا رسول الله صدق الله حديثك ، قد انتحر فلان فقتل نفسه) رواه البخاري .

وإن مما يدل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل:5-10] ، وروى البخاري في كتاب التفسير عن علي (رضي الله عنه) قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة ، فنكس فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال: ( ما منكم من أحدٍ ، وما من نفسٍ منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة أو النار ، وكتبت شقية أو سعيدة ) ، قال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء .! قال: ( أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء ) ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى...} الآية .

وعن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله ) ، فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال ( يوفقه لعمل صالح قبل الموت ) (رواه الترمذي) .

إنَّ الأعمال بالخواتيم ، هكذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالخواتيم). ولأجل هذا فإن الحكم على الآخرين إنما يكون بظواهر الأمور وعلى ما يختم عليه العبد ، والخفايا والسرائر إنما يترك علمها للخبير العليم الذي يعلم السر وأخفى .

فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح ، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر ، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة ، وأن يسأل الله - عز وجل - الثبات على الدين حتى الممات ، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات ؛ عسى الله أن يوفقه لذلك .

فاحرصوا على أن تختموا شهركم بطاعة الله تعالى والتقرب إليه بأنواع القربات ، وإحسان الصلة به، وصدق العبد في الرغبة فيما عنده جلَّ في علاه ، فمن كان مقصراً فيما مضى فليحفظ ما بقي من هذا الشهر بالطاعة والإحسان ، ومن كان محسناً فيما مضى فليحرص على سلامة القصد وصحة النية .

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

العيــــد - آدابه وضوابط الفرحة فيه

        أولاً : العناصر:

1- العبادات والأعياد في الإسلام.

2- حكمة مشروعية الأعياد .

3- من الآداب الإسلامية في العيد.

4- الأعياد تدعو إلى التسامح ونبذ الخلافات.

5- مظاهر الفرح وضوابطه في العيد.

ثانيًا: الأدلة:

     الأدلة من القرآن:

1-    يقول الله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }[الأعلى: 14، 15].

2-    ويقول تعالى:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].

3-    ويقول تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

4-    ويقول تعالى :{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .

5-    ويقول تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

6-    ويقول تعالى : {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [غافر: 75، 76].

الأدلة من السنة :

1-     عَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ ). قَالُوا كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ) (سنن أبي داود).

2- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ ) (سنن أبي داود).

3- وعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (... لِلصَّائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ...) (صحيح البخاري).

4- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟  قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ) (متفق عليه).

5-     وعن عَبْدِ اللهِ بْنَ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ ) (صحيح البخاري).

6-   وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)  قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ .. وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا ) (البخاري).

7- وعَنْ جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قال: ( كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) ( أخرجه البخاري ) .

8-     وعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْر فَانْتَهَرَني، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)؟! -يستنكر- ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: ( دَعْهُمَا ) ( صحيح البخاري ).

 

ثالثًا : الموضــوع: 

لقد انقضى رمضان وودعه المسلمون وقلوبهم مازالت به متعلقة ، لأنه عمَّر قلوبهم بالإيمان، وصفت فيه نفوسهم، وأخلصوا لله فيه العمل، عرفوا حق رمضان فصامت بطونهم عن المفطرات ، وصامت جوارحهم عن المنكرات ، فكان رمضان فرصة لفعل الخيرات ، وموسمًا لعمل البر والطاعات.

انقضى رمضان وقد فرغ المسلمون من صيامه ، ونرجو الله تبارك وتعالى أن يكون قد ترك أثارًا طيبةً في نفوس المسلمين، فلعل ما يقصده الإسلام من وراء الصيام قد تحقق في قلوب المؤمنين، كما نرجو الله تعالى أن يكون المسلمون قد خرجوا منه بتزكية النفوس، وتصفية الأرواح، وسلامة الصدور من الأحقاد والأضغان.

ودّع المسلمون شهر رمضان بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، وقد فاز فيه من فاز بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، وخسر فيه من خسر بسبب الذنوب والعصيان، نسأل الله تعالى أن يكون قد كتبنا فيه من الفائزين المنتصرين الغانمين.

واليوم يشرق علينا عيدُ الفطر المبارك ببهجته وفرحته، أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية بالخير واليمن والبركات .

وإذ جعله الله - عز وجل- في نهاية الشهر الكريم ليفرح الصائمون والطائعون بطاعتهم لله - عز وجل-، فقد عُرفَ بيوم الجائزة،  فمن أتم صيامه وقيامه، وبذل فيه من العطاء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وأعطى من حرمه، ووصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، صدق فيه قول الحق سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى: 14]، وذلك هو الفوز العظيم،  لأن العيد في حياة الإنسان أن تكون علاقته بالله في خير حال، ويسعى لأن يكون من أهل الجنة، فكل يوم يمر عليه دون أن يعصي الله فهو عيد، يقول ابن رجب (رحمه الله): "ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلق العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلا فهو مطرود بعيد"[ لطائف المعارف].

والعيد في الإسلام له معنيان كبيران، معنى رباني، ومعنى إنساني، فالمعنى الرباني هو  أن لا ينسى الإنسان ربه بالعبادة في يوم العيد، فيبدأ المسلم يومه بالتكبير وبالصلاة ـ صلاة العيد ـ والتقرب إلى الله عز وجل. 

وأما المعنى الإنساني: فهو أن يفرح الإنسان بفضل الله عليه ، ويتواصل مع غيره ، ويشع عليه من فرحته ، من أجل هذا شرع الإسلام في كل عيد فريضة وشعيرة معينة ، فشرع في عيد الفطر زكاة الفطر، فرضها النبي (صلى الله عليه وسلم) على الكبير والصغير والحر والعبد والرجل والمرأة، وجعلها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ ) (سنن ابن ماجه).

وفي عيد الأضحى شرع الأضحية ، حتى يوسع الإنسان على نفسه وأقاربه ، وعلى جيرانه وفقراء المسلمين، فالإسلام لم يسن الأضحية ليشبع أصحاب الأضحية من اللحم ، ولكن ليشبع الفقراء من اللحم الذي قد لا يتوفر لهم في عموم الأوقات، يقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }[البقرة: 177].

ولما كانت أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، جاءت أعيادُها أكرمَ الأعياد، إذ جعلها الحق تبارك وتعالى مرتبطة بعقيدتها، فربط عيد الفطر بفريضة الصيام، فهو عيد الفطر من الصيام، وفي الحديث الشريف (... لِلصَّائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ...) (متفق عليه). يفرح بفطره كل يوم عند الغروب، لأنه أُحِل له ما كان محرمًا عليه من أكل وشرب وجماع، وغير ذلك، وفرحة دينية بالتوفيق للطاعة ، وتأتي الفرحة العامة في آخر رمضان لأنه وفِّق إلى طاعة الله وأداء الفريضة في هذا الشهر، فهو يفرح بهذين الأمرين، ففرحة المؤمن الحقيقية بطاعة الله وهدايته، يقول الله تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. ويحق للصائمين الفرح، لأنهم حققوا نصرًا كبيرًا في معركة ضارية تحالفت فيها النفس مع الشيطان ضد العقل الذي خلقه الله – عز وجل - ، فهذا العيد الأول عيد الفطر يأتي مرتبطًا بفريضة الصوم،  وكذا عيد الأضحى يأتي مرتبطًا بفريضة أخرى وهي فريضة الحج، لذا سمي عيد الأضحى بيوم الحج الأكبر.

هـذا، وقد شرعت الأعياد في الإسلام لحكم سامية ومقاصد عالية، وأغراض نبيلة ، لا تخرج عن دائرة التعبُّد لله ربِّ العالمين، في كلِّ وقتٍ وحين ، ومنها: 

*  ذكر الله تعالى وإظهار نعمته على عباده، وشكره سبحانه على تمام نعمته وفضله وتوفيقه لعباده على إتمام العبادات، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده عند إكمال العدة بتكبيره وشكره فقال سبحانه تعالى : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185]. وشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم به وعتقهم من النار، أن يذكروه ويشكروه، لأن قضاء العبادة والطاعة يقتضي من المسلم أن يشكرَ الله - تعالى - الذي أعانه على ذلك، فإنه ما صلَّى ولا صامَ إلا بِمَنِّه وتوفيقه- سبحانه - ، ومتى شكر العبد ربَّه على نعمه وعده الله تعالى بالمزيد من النعم، قال تعالى : {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .

* ومن المقاصد العالية التي من أجلها شرعت الأعياد : أن تكون فرصة لتوطيد العلاقات الاجتماعية بالتزاور والتلاقي، والتآلف والتعارف ونشر المودة والرحمة بين المسلمين، وترسيخ الأخوَّة الدينيَّة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟  قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ).

فتعميق التلاحُم بين أفراد الأُمَّة الواحدة، وتوثيق الرابطة الإيمانيَّة، مقصد من المقاصد العظيمة التي شُرعتْ لأجْلها الأعياد في الإسلام، مصداقًا لقول المصطفى ( صلَّى الله عليه وسلَّم):  ( المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا ) ( رواه البخاري).

* ومن مقاصد العيد أيضًا: التذكيرُ بحقِّ الضعفاء والعاجزين، ومواساة أهل الفاقة والمحتاجين، وإغناؤهم عن ذلِّ السؤال في هذا اليوم؛ حتى تشملَ الفرحةُ كلَّ بيتٍ، وتعمَّ كل أسرة، ومن أجل ذلك شُرِعت الأُضْحية وصدقة الفِطْر.

          فشعيرة العيد فرصة لتتصافَى النفوس وتلتقي وتتآلف القلوبُ، وتتوطد الصلاتُ والعلاقات، وتزول الضغائنُ والأحقاد، فتُوصَلُ الأرحام بعد القطيعة، ويجتمعُ الأحباب بعد طول غياب، وتتصافح الأفئدة والقلوب قبل الأيدي، ويعم الودُّ والصفاء جميع أفراد المجتمع.

ولما كان العيد فرصة للسرور وتقوية الروابط الاجتماعية كانت له آداب ينبغي للمسلم أن يراعيها ويحرصَ عليها، ومن هذه الآداب:

*  الاغتسالُ والتجمُّل، والتطيُّب، ولبس أحسن الثياب يوم العيد، لأنه يومٌ يجتمع الناس فيه، وقد ثبَتَ أنَّ ابن عمر (رضي الله عنهما) كان يغتسل يوم الفِطْر قبل أن يغدوَ إلى المصلى(موطأ مالك)، وأقرَّ النبي ( صلَّى الله عليه وسلَّم) عمر بن الخطاب، ولم ينكرْ عليه التجمُّل للعيد، حين رأى عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) ( رواه البخاري).

فينبغي للمسلم أن يكونَ في هذا اليوم على أحسن مَظهر، وأَتَمِّ هيئة، وذلك إظهارًا لنعمة الله عليه، وشكرًا له على ما تفضَّل به، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يحب أن يَرَى أثرَ نعمته على عبده.

* ومن آداب العيد : ألا يخرج في عيد الفطر إلى الصلاة حتى يأكل تمرات، لما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)  قَالَ :( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ .. وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا ) ( البخاري).

والسبب في ذلك : النهي عن الصوم في ذلك اليوم، وإيذانا بالإفطار وانتهاء الصيام، ومن لم يجد تمرا فليفطر على أي شيء مباح.

 * التكبير والجهر به: ويبتدئ من ثبوت العيد وينتهي بصلاة العيد، وقد قال الله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة :185] ، فينبغي على المسلم أن يجهر بالتكبير من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلي ، لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- : ( أن رسول الله كان يكبر يوم الفطر من حيث يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ) (السنن الكبرى للبيهقي). وعن نافع: أن ابن عمر  ( كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، فيكبر بتكبيره) (سنن الدارقطني).

* الخروج إلى الصلاة ماشيًا، لحديث علي (رضي الله عنه) قال: (مِنَ اَلسُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى اَلْعِيدِ مَاشِيًا)، (رواه الترمذي وحسنه )، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيًا، وألا يركب إلا من عذر .

* أن يذهب المسلم إلى الصلاة من طريق وأن يرجع من طريق آخر ؛ لحديث جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قال: (كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) ( أخرجه البخاري ) . وذلك ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة، والأرض تحدّث يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ ، أو لإظهار شعائر الإسلام في الطريقين، أو لقضاء حوائج الناس ، أو الصدقة على المحتاجين ، أو لزيارة الأقارب وصلة الرحم وملاقاة الأحباب.

 * ومن آداب العيد التهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، أيًا كان لفظها ، مثل قول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم، أو عيد مبارك، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة، فهي أدب من آداب العيد، لفعل بعض الصحابة لها، فعن جبير بن نفير قال : كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض ، (تُقُبِّل منا ومنك) (فتح الباري)، فالتهنئة كانت معروفة عند الصحابة ورخص فيها أهل العلم.

ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق، ومحاسن المظاهر الاجتماعية بين المسلمين.

ولما كان العيد في الإسلام مظهرًا من مظاهر الفرح بفضْل الله تعالى ورحمته، وإظْهار السرور والفرح في الأعياد من شعائر الدين، فإن الله تعالى لم يحرم على عباده الفرح فيما يستحق أن يفرح الإنسان من أجله، وإن أولى ما يفرح به المسلم توفيق الله – تعالى - له بالطاعة، لذا حثَّ الإسلام أتباعه في كل حين على أن يفرحوا بما يحمد ويذكر، ثمَّ  نهاهم - سبحانه - عن أن يفرحوا بزخرف الدنيا ومتاعها الزائل، أو يفرحوا بالسطوة في الأرض بغير الحق، فإن ذلك يؤدي إلى العذاب المهين قال تعالى: { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}[سورة الرعد:26]، ويقول تعالى : {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 75، 76].

فالفرح المحمود ما يكون في مقابل نعمة التوفيق بطاعة من الطاعات ، أو قربة من القربات، أو كفرحة المؤمن الذي  قهر شهواته، وقاوم رغباته، أو كانتصار ما يحبه الله على ما لا يحبه، قال تعالى : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم 5،4 ].

ومن ثمَّ فلا بأْسَ باللعب واللهو المباح، وفِعْل كلِّ ما يُدخِل البهجة في النفوس، ولا يَعني هذا التحلُّل من الأخلاق والآداب ، بل لا بُدَّ فيه من الانضباط بالضوابط الشرعيَّة والآداب المرعية، من غير إفراطٍ ولا تفريط، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ( مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ ) (سنن أبي داود).

فالعيد في الإسلام بهجة وفرحة وسرور وشكر لله على التوفيق لأداء فريضة الصيام أو الحج ، فقد روى البخاري (رحمه الله تعالى) عن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْر فَانْتَهَرَني ، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)؟! - يستنكر- ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: (دَعْهُمَا ). وهذا يدل على جواز الفرحة والغناء بالمباحات من الكلام والشعر في العيد.

وواجب المسلم في هذا اليوم مراعاة الآداب والضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية للاحتفال بالعيد ، ومراعاة حرمات الله تعالى، فلا يجوز أن يكون يوم العيد يوم حزن أو هم بالبكاء والندب على الراحلين، وإنما يكون يوم بهجة وسرور ، يوم التزاور والتراحم ، وإظهار الفرح والسرور والبشاشة في وجه إخوانه وكل من يلقاه من المسلمين.

ومن ضوابط الفرحة في الأعياد: البعد عن المعاصي والمنكرات ، والعمل على غرس المحبة، وإكرام الأيتام، وإطعام الفقراء، وسد حاجة المحتاجين، والدعوة إلى التسامح ونبذ الخلافات التي تبعدنا عن طريق الله، والكف عن المشاجرات، والتخلي عن الضغائن والعداوات التي تفسد علينا طاعتنا لله عز وجل.

والحذر مما يفعله كثير من بعض الناس في أيام العيد من الإسراف والتبذير ، وتبديد الأموال والأوقات، وارتكاب المحرمات، فيما لا يفيد نفعًا لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل يعود عليهم بالضرر والخسران ، وصدق الله حيث قال:{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

ومن هذا المنطلق فإن الإسراف في الفرح مدعاة للخروج عن المقصود ؛ بل ربما أدى إلى الوقوع فيما لا يرضي الله – عز وجل - من معاصي.

فالعيد ليس قطعًا للصلة بالله تعالى، أو نسيانًا للقرآن، أو نهاية عهد بالمساجد والجماعات ، وليس انفلاتًا من المثل والأخلاق، ولا انطلاقًا للشهوات، أو تنصلًا من الطاعات ؛ بل هو فرح رباني، وسرور روحاني، يفتتح بالتكبير والتحميد والصدقة والصلاة.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

علامات قبول الطاعة

أولاً : العناصر:

1-      أحوال الناس في العبادة والطاعة.

2-    من علامات قبول الطاعة:  

-         المداومة على الأعمال الصالحة بعدها.

-         توفيق الله تعالى للعبد بالطاعة.

-         إخلاص العمل لله تعالى .

-         الخوف من عدم القبول.

-         عدم الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة .

3-     ظهور أثر الطاعة في السلوك والأخلاق.

ثانيًا: الأدلة:

الأدلة من القرآن:   

1-  يقول تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

2-  ويقول تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99].

3-  ويقول تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: 30].

4-  ويقول تعالى : يقول الله تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].

5-  ويقول تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ }[البينة : 5].

6-  ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون 57-61].

الأدلة من السنة :

1-    عَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا )أَنَّهَا قَالَتْ : سُئِلَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ :( أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ) (صحيح البخاري ).

2-    وعن علقمة قال:سألت أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) : ( يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ ؟ قَالَتْ : لاَ ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) (رواه البخاري ).

3-    وعن سفيان بن عبد الله الثقفي ( رضي الله عنه) قال: قلت يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك ؟ قال : ( قل: آمنت بالله، ثم استقم) (رواه مسلم).

4-    وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ ) ثُمَّ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ ) ( رواه النسائي في سننه).

5-    وعن ابْنِ مَسْعودٍ (رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يا رَسُولَ اللهِ أَنُؤَاخَذُ بِما عَمِلْنا في الْجاهِلِيَّةِ قَالَ: ( مَنْ أَحْسَنَ في الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِما عَمِلَ في الْجاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَساءَ في الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ) (متفق عليه).

6-    وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال: ( لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون ، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات) ( رواه الترمذي).

7-    وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) (رواه الترمذي).

ثالثًا :الموضوع: 

ما أسرع ما تنقضي الأيام ، وما أعجل ما تنصرم الشهور والأعوام ، وهذه سنة الحياة ، أيام تمرُّ وأعوام تكرُّ ، وما الحياة الدنيا إلا أنفاس معدودة ، وآجال محدودة ، وفي تقلب الدهر عبر ، وفي تغير الأحوال مدَّكر ، يقول سبحانه : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [الفرقان:62].

لقد انتهى شهر رمضان وانقضت أيامه ولياليه ، وودعه المسلمون وقلوبهم ما زالت آسفة لفراقه ورحيله، لأنه عمَّر قلوبهم بالإيمان ، وصفت فيه نفوسهم ، وأخلصوا لله العمل، انقضى رمضان، وربح فيه من ربح ، وخسر فيه من خسر ، فهنيئاً لمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، ويا حسرة من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وليس له من قيامه إلا السهر والتعب.

إن المتأمل في حال كثيرٍ من المسلمين اليوم بعد مضي شهر رمضان، يجد فرقاً شاسعاً، وبونا كبيراً بين حالهم في رمضان وحالهم بعده ، فكثير منهم لا يعرف الله إلا في رمضان ، ولا يعبدون الله إلا في رمضان، ولا تستقيم أخلاقهم إلا في رمضان  ، حتى إذا ما انقضى رمضان عادوا إلى أحضان الذنوب والآثام ، وقطعوا العبادة وانغمسوا في الشهوات والأهواء ، وعادوا إلى سيرتهم الأولى وكأن قلوبهم لم تتذوق حلاوة الإيمان ، وكأن جوارحهم لم تخشع لهيبة الملك الديان ، فبعد أن كانوا في رمضان أبراراَ أتقياء صاروا بعد رمضان جبابرة أشقياء ، تعدوا حدود الله ، وهتكوا حرمات الله ، وصدق فيهم قول الله عز وجل : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ } [النمل: 24].

وكأنهم بعملهم هذا يعتقدون أن الله تعالى رقيب عليهم في رمضان وغائب عنهم في غير رمضان ، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 9، 10]. وما أكثر هؤلاء اليوم الذين أشربوا في قلوبهم حب المعاصي والمنكرات، وبغض الطاعات والقربات ، فلم يكن لشهر رمضان أثرٌ في نفوسهم وقلوبهم.

أما المسلم الحق فيعلم تمام العلم أن ربَّ رمضان هو رب جميع الشهور والأعوام ، فتجده دائم الصلة بربه عز وجل ، فيستمر بعد رمضان على طاعة الله، والمحافظة على الصلوات وسائر العبادات، والبعد عن المحرمات، فهنيئاً له بقبول طاعته، وهنيئاً له التأسي بـالسلف الصالح الذين كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهرٍ أخرى أن يتقبله منهم، فكل أوقاتهم عبادة.

إنّ المسلم الحق يعملُ العمل راجياً من الله القبول ، وإذا قبل الله عمله فهذا دليل أن العمل وقع صحيحاً على الوجه الذي يحبه الله تبارك وتعالى،  لكن كيف يعرفُ الإنسان أن عمله قد قبل، وأن الجُهد الذي قام به آتى ثمرته؟

إن لقبول الطاعة علامات يعرف بها العبد أن الله تعالى تقبل منه عمله وطاعته ، ومن هذه العلامات :

* المداومة على الأعمال الصالحة بعدها : فلا شك أن المسلم مطالب بالمداومة على الطاعات والعبادات ، فليس للطاعات موسمٌ معينٌ ، حتى إذا ما انقضى هذا الموسم عاد الإنسان إلى المعاصي مرة أخرى ، بل إن موسم الطاعات يستمر مع العبد في حياته كلها ، لا ينقضي حتى ينقضي أجله ، فعبادة الله أمر مطلوب في جميع الأوقات والأحوال،لا تختص بوقت دون وقت ، وهذا ما كان يفعله النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فلقد سئلت السيدة عائشة ( رضي الله عنها ): ( يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كيف كان عَمَلُ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ ؟ قَالَتْ : لاَ ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ) ( رواه البخاري ). وقيل لبشر الحافي - رحمه الله - : إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان ، فقال : (بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في شهر رمضان ، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها).

فعلى المسلم أن يلزم نفسه بقدر من العبادات يستطيع أن يداوم عليه حتى ولو كان قليلاَ ، فالقليل الدائم ينمو ويزكو ، وفي الوقت نفسه سيكون من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى.

ومن ثم يتضح أن من علامات قبول الطاعة المداومة والاستمرار عليها ، وأن يكون حال العبد بعدها خيراَ منه قبلها، وإن انقضى شهر رمضان المبارك ، فإن عمل المسلم واستقامته على شريعة الإسلام ليس له نهايةٌ ، قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99].

فالواجب على المسلم أن يستقيم على طاعة الله في كل وقت وحين ، وأن يستمر على ما تعوده من الأعمال الصالحة ، يؤدي ما أوجب الله عليه ، وينتهي عما حرم الله عليه ، حيث أمر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين بالاستقامة وحثهم على ملازمتها ، فقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[هود: 112]. وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك ؟ قال :( قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، فإن الاستقامة على الطاعة والاستمرار عليها من صفات عباد الله المؤمنين ،يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13]، ويقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30].

فالواجب على المسلم أن يداوم على طاعة الله، ويحذر من المخالفات والمعاصي. قال الحسن البصري: ( إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية).

فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده ، كما قال بعض السلف : ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها ؛ كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى ، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة ، كان ذلك علامة على ردِّ الحسنة وعدم قبولها ، فمن أراد أن يعلم مدى قبول عمله من ذلك ، فليعود نفسه على الطاعة والعمل الصالح ، حتى يكون العمل الثاني علامة على قبول العمل الأول.

فالطاعة المتقبلة تتبعها مثلها ، وهذا من حسنها وبركتها، والسيئة تجر إلى مثلها.

* ومن علامات قبول الطاعة: أن يوفق العبد لطاعة بعدها، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وفضله أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له باباً إلى حسنة أخرى ليزيده منه قرباً، وهذا دليل على رضى الله عن العبد ، وإذا رضي الله عن العبد وفقه إلى عمل الطاعة وترك المعصية ، فإن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول.

*ومن علامات قبول الطاعة : أن يخلص العبدُ أعماله لله ،  فلا يجعل للخلق فيها نصيباً، لأن الله تعالى لا يرضى عن العمل ولا يتقبله إلا إذا كان خالصاً لوجهه ، وابتغي به رضاه، يقول الله تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

فالإخلاص شرط أساسي لقبول الأعمال الصالحة ، فهو ركيزةٌ تقومُ عليهَا الأعمالُ، ولاَ يستقيمُ بدونِهِ للمسلِمِ حَالٌ، وهوَ روحُ الطاعاتِ، وجوهرُ العباداتِ، فلاَ تُقْبَلُ طاعةٌ بدونِهِ، ولاَ يرتقِي مسلمٌ بغيرِهِ، وهُوَ صدقُ النيةِ بالتوجُّهِ إلَى اللهِ تعالَى وحدَهُ، وتنقيةُ النفْسِ مِنَ الشوائبِ التِي تضُرُّ بالأعمالِ، ومن ثم يجب أن يقصد الإنسان بعمله مرضاة الله تعالى لا مدح الناس وحبِّ الشُّهرةِ ، قالَ تعالَى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ }[البينة : 5].

والمخلص هو الذي يقوم بأعمال الطاعة من صلاة وصيام وحج وزكاة وصدقة وقراءة للقرآن وغيرها ابتغاء الثواب من الله وليس طلباً للمدح والثناء من الناس.

فالإنسان الذي يريد الصلاة لا بد أن يخلص النية لله تعالى حتى ينال الثواب من الله تعالى، كذلك الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى لا بد أن يخلص الإنسان النية فيها لله تعالى.

ومن ثم فعلَى المسلمِ أَنْ يُوطِّنَ نفْسَهُ علَى الإخلاصِ فِي حالِهِ ومقالِهِ، وأَنْ يستوِيَ عندَهُ العملُ فِي السرِّ والعلنِ، فلاَ يُغرِيهِ ثناءُ المادحينَ، ولاَ يُثنِيهِ ذَمُّ القادحينَ، فغايَتُهُ أَنْ يكونَ العملُ صالحاً خالصاً لوجْهِ اللهِ تعالَى مقبولاً، وعليهِ أَنْ يُبَرِّئَ نفْسَهُ مِنَ العُجْبِ بالعملِ، فآفَةُ الإخلاصِ إِعجابُ الْمَرْءِ بنفسِهِ. قال الفضيل بن عياض: ( إن الله لا يقبل من العمل إلا أخلصه وأصوبه، فأخلصُه ما كان لله خالصاً، وأصوبُه ما كان على السنة ) وذكر الله تبارك وتعالى أنه لا يقبل العمل إلا من المتقين ، فقال تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}(المائدة: 27).

وروى النسائي في سننه ، عن أبي أمامة : أن رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله : فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ)  أي إذا عمل الرجل  العمل يبتغي الأجر من الله تعالى ومدح الناس له فليس له من الثواب شيء ؛ لأنه يريد مدح الناس له ،  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ ) .

* كذلك من علامات قبول الطاعة : الخوف من عدم القبول ، فالله سبحانه وتعالى غني عن طاعاتنا وعباداتنا،  قال عز وجل: { وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنّ َ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] ، وقال تعالى: {إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }[الزمر:7] والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات ، والتقرب إلى الله بأنواع القربات إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق ، يخشى أن يُحرم من القبول ، فعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال: ( لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون ، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات) (رواه الترمذي).

فعلى الرغم من حرصه على أداء هذه العبادات الجليلات فإنه لا يركن إلى جهده ، بل يستقل أعماله، ويظهر الافتقار التام لعفو الله ورحمته، ويمتلئ قلبه مهابة ووجلاً ، يخشى أن ترد عليه أعماله والعياذ بالله. 

لقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى ألا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ، ويقوم ويخشى ألا يكتب له الأجر. قال بعض السلف: (كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتماماً بالعمل ذاته ، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27] فغير المتقين ما هو حالهم؟).

* كذلك من علامات قبول الطاعة: عدم الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة ، فإن الرجوع إلى الذنب علامة مقت وخسران ، قال يحي بن معاذ) : من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود ، وباب القبول في وجهه مسدود) فإذا كرِه العبد الذنوب وكرِه أن يعود إليها فليعلم أنه مقبول، وإذا تذكر الذنب حزن وندم وانعصر قلبه من الحسرة فقد قُبلت توبته، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: ( أما إذا تذكر الذنبَ ففرح وتلذذ فلم يقبل ولو مكث على ذلك أربعين سنة ).

وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يا رَسُولَ اللهِ أَنُؤَاخَذُ بِما عَمِلْنا في الْجاهِلِيَّةِ قَالَ: (مَنْ أَحْسَنَ في الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِما عَمِلَ في الْجاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَساءَ في الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ) (متفق عليه) ، أي عوقب بذنوبه السابقة أيضا؛ لأن في الإساءة بعد التوبة حبوط للتوبة ، ولعل من أسرار هذا الأمر بالعمل الصالح بعد التوبة ، قال تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}[الفرقان:70] ، وقوله تعالى :{وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى} [طه : 82 ] ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ( أحمد وحسنه الألباني) ، فاشتراط العمل الصالح بعد التوبة حزم في منع الرجوع إلى الذنب.

* ومن ثم فإن علامة قبول الطاعة: أن يظهر أثرها في سلوك المسلم وأخلاقه ومعاملاته مع الخلق، وفي مراقبةَ الله له، فإن الطاعات تعتبر وسيلة من وسائل تزكية النفوس ، وتطهير القلوب، وسلامة الصدور ، وكلّما ازدادَ المسلم طاعةً ازداد عِلمًا وعملاً وهدًى، قال تعالى: { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].  فالمجتَمَع الذي يداوم أفرادُه على الطاعات تضعف فيه نوازِع الشرّ ويحَصَّن من الفساد؛ ذلك أنَّ العبادات والطاعات تهذّب الأخلاق وتقوِّم السلوكَ وتروِّض الجوارِحَ ، ومن ثم ينصلح حال الأفراد وتسمُو المجتمعاتُ وتسودُ الأمّة ، قال تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

وعليه فلنستعن جميعاً بالله ، ولنداوم على الطاعة ، ونخلص لله العمل ، ونعزم على عدم العودة إلى الذنب مرة ثانية، فإن الاستمرار على طاعة الله علامة من علامات القبول . 

         

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

أثر العبادات في السلوك

أولاً : العناصر :

1.     ثمرة العبادة في  الإسلام .

2.     فضل السلوك الحسن في الإسلام.

3.     منهج الإسلام في تربية المسلم على السلوك الحسن.

4.     أثر السلوك الحسن على الفرد والمجتمع.

ثانيًا : الأدلة:

   الأدلة من القرآن:

1.     قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت: 45].

2.     وقال تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183] .

3.     وقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[التوبة: 103] .

4.     وقال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197] .

5.     وقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] .

6.     وقال تعالى :{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا }[الإسراء: 53] .

7.     وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .

8.     وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .

 

الأدلة من السنة :    

1.     عَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ: ( مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ) (رواه البخاري).

2.     وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ)؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ : (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ). (رواه مسلم ).

3.     وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ ، وَلاَ بِلَعَّانٍ ، وَلاَ الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ) (راوه أحمد ).

4.     وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَلَّمَا خَطَبَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) أَوْ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلاَّ قَالَ فِى خُطْبَتِهِ : ( لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ ). (رواه ابن حبان وأحمد).

5.     وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ :(حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ ) (رواه أحمد).

6.     وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ). (رواه البزار وأبو يعلي).

7.     وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى). (رواه البخاري). 

8.     وعن عُمَرَ بْن أَبِي سَلَمَةَ (رضي الله عنه) يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَال لِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ). (رواه البخاري). 

ثالثًا: المــوضــــوع :

لقد انتهى شهر رمضان وانقضت أيامه ولياليه وودعه المسلمون وقلوبهم ما زالت آسفة لفراقه ورحيله ؛ لأنه عمّر قلوبهم بالإيمان وصفَت فيه نفوسهم ، وأخلصوا لله فيه العمل ، نعم لقد انقضى رمضان وربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، فهنيئًا لمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا  ويا حسرة من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، وليس له من قيامه إلا التعب والسهر .

وليعلم العبد أن للطاعة علامات يعرف منها قبولها ، من هذه العلامات : أن يوفق العبد لطاعةٍ بعدها ، وأن تكون أعمال العبد خالصةً لله ، والخوف من عدم القبول ، وعدم الرجوع إلي الذنب بعد الطاعة ، ومن بين هذه العلامات : أن يظهر أثرها على المسلم في سلوكه وأخلاقه ومعاملاته مع الخَلق ، وفي مراقبة الله ، لأن الطاعة من وسائل تزكية النفس وتطهير القلب وسلامة الصدر ، وكلما ازداد المسلم طاعةً ازداد علمًا وعملاً وهدى ، قال تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النور:54] ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17] ، فالمجتمع الذي يداوم أفراده على الطاعة تضعف فيه نوازع الشر ويحصَّن من الفساد، وذلك لأن العبادات تهذِّب الأخلاق وتقوِّم السلوك وتروِّض الجوارح ، ومن ثمَّ ينصلح حال الفرد وتسمو المجتمعات.

      إن الغاية المنشودة من العبادات هي تحسين السلوك وتزكية النفوس بالأخلاق وتقوية صلة الإنسان بربه وخالقه وبمن يعيشون معه ، فالصلاة مثلاً تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]  ، والزكاة تطهر النفس  وتزكيها من أدران السلوك وضغائن الأحقاد ، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة: 103] .

-  والصوم يدعو إلى تقوى الله في السر والعلانية وفي الظاهر والباطن من السلوك والأعمال والاعتقاد ، قال تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] كما أنه يدرب المسلم على الصبر ومحاسن الأخلاق .

-  والحج كذلك يغرس في نفوس المسلمين الفضائل والسلوك القويم ، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197] فالعبادات لها الأثر الجميل في تحسين سلوك العباد .

    وإن المتتبع لنصوص الشريعة الإسلامية يجد أنها اعتنت بتقويم سلوك الإنسان من حيث كونه إنسانًا كرمه الله - عز وجل- عن باقي المخلوقات ، قال تعالى:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }[الإسراء: 70] ، ولننظر إلى قوله تعالى وهو يأمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بتقويم السلوك العملي حيث قال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199] أي: عليك بالرفق بالمؤمنين والمعروف الجميل من الأفعال وعدم مقابلة السفهاء الجاهلين بمثل صنيعهم وفعلهم والصبر على سوء أخلاقهم ؛ لذلك حين نزل قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف: 199] قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):  (إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، ثم تلا النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم)( الآية ) ( الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي) . 

     ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامها وعباداتها ؛ لتهذب السلوك وتقوِّمه وتسمو بالنفس إلى أعلى درجات الرقي والتحضر وحسن التعامل مع الآخرين ، وهذا كله ثمرة العبادات . ولما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أعبد الناس وأتقاهم لله وأخشاهم له كان أحلم الناس، وألينهم قولاً، وأطهرهم فعلاً وخلقًا ، فكان الإسلام -بعباداته وأخلاقه - يتمثل في سلوكه وأفعاله ، لذلك لما سئلت عائشة (رضي الله عنها) عن خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالت:(كان خلقه القرآن). فكان نعم الأسوة ونعم القدوة فالسلوك الحسن القويم يفتح مغاليق القلوب ، ويورث المحبة والمودة ويدل على سمو الدين ورفعته ، ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا الفاحش ولا البذيء ).

إن السلوك الحسن يكشف عن مدى تديُّن الإنسان وتعبده لربه ، ولهذا نجد الناس لا يحبون العابد المتكبر ، ولكن يحبون العابد المتواضع البسَّام الهين اللين ، وهذا ما كان عليه نبينا (صلى الله عليه وسلم) حيث قال سبحانه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159].

ولو تتبعنا أخبار الأمم والأمصار التي دخلت في الإسلام معظمها لم تكن بالفتح ولا بالغزو، ولكن بسلوك المسلمين ومعاملاتهم ، إن المسلمين الذين فتحوا بأخلاقهم ومعاملاتهم دولاً كاملة كدول جنوب شرق آسيا وكثير من دول إفريقيا يستطيعون اليوم بأخلاقهم أيضًا أن يفتحوا العالم.

ومن ثمَّ فيجب على المسلم ألا  ينشر الكراهية والعنف والإرهاب والسب واللعن في أوساط الناس، فهذا ما لا يقبله الإسلام ولا يقره ، ولا تقبله النفوس المؤمنة  ، وإن ما نراه اليوم من نشر العنف والإرهاب والتفجيرات وترويع الآمنين وما يصاحبه من تشويه الحوائط بالكتابة عليها بألفاظ نابية لا تتفق وأخلاق الإسلام .

إن ضبط السلوك مع الناس من الدين ، بل  هو الدين ، قال أَنَس بْن مَالِكٍ  (رضي الله عنه) قَلَّمَا خَطَبَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) إِلاَّ قَالَ فِى خُطْبَتِهِ : ( لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ ) فكان يكررها (صلى الله عليه وسلم) في خطبه ليؤكد هذا المعنى في نفوس المسلمين .

وإذا نظرنا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) نجده ضرب أروع الأمثلة في السلوك القويم بالتزام العهود والمواثيق ، وعوَََّد أصحابه على ذلك ، وربَّاهم عليه ، ففي صحيح مسلم أن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) أخبر: أن قريشًا أخذوه هو وأبا حُسَيْلٍ قبل غزوة بدر قبل أن يدخل المدينة ، فقالوا لهما : إنكم تريدون محمدًا ! قالوا : ما نريد إلا المدينة . يقول حذيفة (رضي الله عنه) : فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معك يا رسول الله . فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم ) (رواه مسلم)، مع أنه (صلى الله عليه وسلم) كان في أشد الحاجة للرجال ليقاتلوا معه ضد المشركين . هذا هو وفاء المسلمين مع غير المسلمين ، فما بالكم بوفاء المسلمين مع المسلمين .    

ومن جمال سلوكه (صلى الله عليه وسلم) ما روته عائشة (رضي الله عنها) قالت: (مَاخُيِّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ). [رواه البخاري]. لذا كان للإيمان الأثر الأكبرُ في سلوك المسلم وأخلاقه ، وفي تذكره مراقبةَ الله له، وتذكره الآخرة .                                                                                                                                                                       

فالإيمان يعتبر الوسيلة الأولى في تزكية النفس، وتأتي بعد الإيمان بالله أنواع العبادات في تزكية النفس ، وفي تذكرها مراقبة الله لها ، فهي وسائل مساعدة ، فقد فرضها الله لتذكر المسلم في كل حين بارتباطه بالله ، طاعة ورغبة ورهبة ، وأنه بحاجة إلى هذه الصلة في سرَّائه وضرَّائه. فالصلاة بسجودها وركوعها وأذكارها تُطهِّر النفس من التكبر على الله ، وتذكِّر النفس بالاستقامة على الطريق المستقيم ، وتنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، يرجع منها إلى أفضل حالة من الإيمان واليقين بالله ، فهذا معنى قوله:﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر﴾ [العنكبوت: 45]، وإلا فلا قيمة للصلاة ، وروى أنس بن مالك (رضي الله عنه )قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي (صلّى الله عليه وسلم) ، ولا يدع شيئًا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فذُكر للنبي (صلّى الله عليه وسلم) فقال: ( إن الصلاة ستنهاه ) فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلم): ( ألم أقل لكم؟ ).

          وفي جانب الكلمة أمر الله عباده أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ، ومن الكلمات أجملها حتى تشيع الألفة والمودة قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53] ، ولم يبح الله - عز وجل- الجهر بالسوء من القول إلا في أحوال محددة كحالة التظلم ، قال تعالى : {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148].

       وفي جانب التعامل في المجتمع المسلم بين الجيران والأقارب والضيوف والأرحام جعل الإسلام المعاملة الحسنة علامةً على قوة الإيمان وقرب العبد من ربه، قال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).(رواه البخاري).

          وفي جانب المعاملات المالية كانت دعوة الإسلام إلى التعامل الحسن من التسهيل والتيسير والأمانة والوضوح والصدق، فعنْ أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ)، وفي رواية لمسلم: ( قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ). ( متفق عليه ).

          وهذا الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمه الله- يوصي عماله وغلمانه في متجره بأن يبينوا للناس عيوب بضاعته إذا وُجدت ؛ لأن ذلك من الدين ومن المعاملة الحسنة التي أمر بها الإسلام، فالمسلم الذي يضع جبهته في المسجد ساجدًا لله يستحي من الله أن يغش خلقه، والأمة التي يعيش أبناؤها على الخيانة والغش أمة معرضة للانهيار والسقوط.

وفي جانب إدارة الأعمال والوظائف وتولي أمور الناس غرس الإسلام في نفوس أتباعه الرقابة الذاتية، ودعاهم إلى معاملة الخلق بسهولة ويسر وإرادة الخير لهم ، فقال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة:105]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به) (رواه مسلم). 

          وفي جانب الحروب والعلاقات الدولية دعا الإسلام أتباعه إلى المعاملة الحسنة، فأسّس الإسلام مبادئ ووضع آدابًا وضوابط للعلاقات وللحروب والغزوات لم تعرفها الأمم سابقًا من الرحمة بالأسير، وعدم التمثيل بالمقتول ، وعدم قطع الأشجار وعدم قتل الشيوخ وهدم الصوامع، فلم نسمع أو نقرأ أن جنود الإسلام قد أقاموا المعتقلات ، وصنعوا الأغلال والأصفاد للأسرى ؛ لاستجوابهم والتحقيق معهم والتنكيل بهم ، بل كان الأسير عند المسلمين يظل له كيانه الإنساني وحقوقه الفطرية من المطعم والأمان والكساء والدواء.

          فهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- يسير ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس وقد نصره الله، فقابله شيخ مسيحي كبير السن، وقال له: (أيها القائد العظيم: لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟! فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس)، فقال له صلاح الدين: (أيها الشيخ: يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء ، ويحرّم عليَّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء ).فقال له الشيخ: (وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟!)، فأجابه صلاح الدين: (نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان ، وأن نقابل السيئة بالحسنة ، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب). فقال الشيخ: ( نِعْمَ الدين دينكم ، وإن دينًا فيه مثل هذه الأخلاق يعلو ولا يُعلَى عليه). وأسلم الرجل وحسن إسلامه ، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.

          يقول روجيه جارودي - وكان فيلسوفًا شيوعيًّا قبل إسلامه-: (كنت مع مجموعة الجنود الفرنسيين الذين كانوا يحاربون المسلمين الجزائريين في ثورة الجزائر عام 1960م، وتم القبض عليَّ بواسطة مجموعة من المجاهدين المسلمين، وسلموني إلى أحدهم ليتولى إعدامي في الجبل ، وحين انفرد بي سألني: (هل معك سلاح؟! فقلت له: لا، ليس معي سلاح ، فقال: وكيف أقتل رجلاً ليس معه سلاح؟! وأطلق سراحي. قال جارودي: وبقيَتْ هذه القصة تتفاعل في ضميري سنين كثيرة ، حتى قمت بدراسة الإسلام فأيقنت أن هذا المجاهد كان ينطلق في تصرفه معي من واقع العقيدة والأخلاق الإسلامية، فكان لهذا الحادث أثره البالغ في إسلامي الذي هز العالم بأسره). وفي جانب الدعوة والبلاغ تخيّر الإسلام للتعامل مع المدعوين أفضل الطرق وأرأفها وأرحمها، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[النحل:125]، هذا هو الدين الذي ينبغي أن نلتزمه، وهذه هي المعاملة التي ينبغي أن نطبّقها سلوكًا في واقع حياتنا. وإن الإسلام الذي ينتشر في قارات ودول العالم، ما كان له أن ينتشر بعد فضل الله وتوفيقه لو لم يكن أصحابه وحملة رسالته من الدعاة والعلماء والمجاهدين والتجار والمسافرين على قدر من الخلق الحسن والمعاملة الراقية والسلوك القويم. وإن الانحسار في فهم الدين ، ووصفه بما ليس فيه، وصدود الناس عنه في كثير من مناطق العالم اليوم إنما يعود جزء من أسباب ذلك إلى تشويه أبنائه له بضعف الالتزام به تارة ، وبسوء الخُلق والمعاملة غير الحسنة مع بعضهم ومع غيرهم تارة أخرى.

فالإسلام ينبغي أن نفهمه على أنه عقيدة راسخة، وعبادة صحيحة، ومعاملة حسنة ، سواء بسواء، ومتى ما طغى جانب على حساب جانب آخر ظهر الانفصام في حياة المسلمين، فيكون المسلم في وادٍ والإسلام في واد آخر ، فيحدث الخلل وتظهر التناقضات وتسود الفوضى، ويحل الشقاء، ويظهر الإفلاس الحقيقي؛ إفلاس القيم والأخلاق والمعاملة الحسنة، عندها لا تنفع صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج ولا غير ذلك من العبادات إذا فسد سلوك الفرد وساءت معاملته للآخرين ، فعَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ‏ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ )؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ: ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ  فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ). (رواه الترمذي ).  فلنحسن علاقتنا بربنا ، ولنتعامل بأخلاق ديننا، ففي ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنحذر من سوء المعاملة، فإنها تُفسد العمل مهما عظم. 

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

مــاذا قبـــل الحـــج ؟

أولا : العناصر :

1ـ الإخلاص وتطهير القلوب .                               2ـ المبادرة إلى التوبة النصوح .

3ـ تحـــري المــال الحـــلال .                               4  ـ أداء الديون .

5ـ نبذ الخــــلاف والفـــرقـــة .                                6 ـ التعجيل بحج الفريضة .

7- قضاء الحوائج وتقديمه على حج النافلة وعمرة النافلة .

ثانيًا: الأدلة : 

الأدلــة من القـــرآن:

1- يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97].

2 -  ويقول تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج : 28].

3-  ويقول تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:  110].

 4- ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [التحريمٌ: 8].

5-  ويقول تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

 الأدلة من السنة والآثار :

1-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ( حَجٌّ مَبْرُورٌ ) (أخرجه البخاري).

2 - وعن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال : قَالَ لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ ) ( أخرجه مسلم).

3- وعن أَبَي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) (أخرجه البخاري).

 4- وعن عمَرَ بْنِ الخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) (متفق عليه). 

5 - وعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ ) ( متفق عليه) .

6 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟ ) (أخرجه مسلم ).

7 - وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) (أخرجه البخاري).

8 - وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ (رضى الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ ) (متفق عليه).

9 ـ وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) (صحيح مسلم) .

الموضـــــــوع :

إننا في هذه الأيام المباركة مقبلون على عبادة من أعظم وأجل العبادات، فأفئدة المؤمنين الصادقين تهوي إلى حج بيت الله الحرام ، حيث مغفرة الذنوب  وتكفير السيئات ، وإجابة الدعوات ، وسكب العبرات ، ومشاهدة المنافع والخيرات ، فيا لها من طاعة ، ويالها من عبادة تستهوي القلوب والعقول، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم : 37 ] ، فالحج فيه مشاهدة منافع دنيوية من تجارة ليس فيها خسران، ومنافع أخروية من مغفرة ورضوان، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28 ] ،  كما أنّ الحج من أفضل الأعمال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: ( إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ( جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ )، والحج يهدم ما قبله من الذنوب والسيئات، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قَالَ لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ )، وعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )، والحج المبرور سبب في دخول الجنة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ (اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ )

ومن عظمة الإسلام ومراعاة التيسير في التكاليف الشرعية، ومن فضل الله تعالى على عباده أن جعل هذه الفريضة مرة واحدة في العمر، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ (اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، فَقَالَ: ( أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا ) ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ )، ثُمَّ قَالَ: ( ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ) فالحج يجب على كل مسلم مستطيع يملك الزاد والراحلة  قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [ آل عمران : 97 ] .

فعلى من صدقت نيته ووفقه الله عزّ وجلّ لأداء هذه الفريضة أن يخلص لله عزّ وجلّ لأن العبادات بما فيها الحج لا تكون صحيحة إلا إذا كانت موافقة لشرع الله ، ولا تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لوجهه عزّ وجلّ، قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف:110] قال ابن كثير ( رحمه الله) : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} ، أي:مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صوابُا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

          قال الفضيل بن عياض (رحمه الله) : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابـًا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً؛ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ، ولأهمية الإخلاص في العبادة أمر الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وسلم) به فقال: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }[ الزمر: 2 ] أَيْ: فَاعْبُدِ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، فعلى الحاجّ أن يخلص في حجّه لله تعالى ويطهر قلبه من كل ما يخالف الإخلاص وينافيه من رياء وسمعة وعجب وتكبر وغرور، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري (رضى الله عنه)  قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (متفق عليه) ، فعمل المرائي باطل لا ثواب فِيهِ وَيَأْثَمُ بِهِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )، فالإخلاص عليه مدار قبول جميع الأعمال .

فمن نوى أداء هذه الشعيرة عليه أن يبادر بالتوبة من جميع الذنوب  والمعاصي ، فالتوبةُ من أعظم الأعمال قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [التحريمٌ : 8 ]، وقد  قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هي أَنْ يُقلعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِر، ويندمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، ويعزِم عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ رَدَّهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِهِ) ( تفسير ابن كثير).

فالتوبة سبب للفلاح والسّعادة والمَحبة، قال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ النور :31 ] ، وهي من أحبِّ الأعمال إلى الله قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة: 222]  ؛ بل إنَّه سبحانه يفرح بتوبة التائبين مع أنَّه سبحانه غنيٌّ عن الجميع، فعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : ( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ ). 

وليعلم الحاج بصفة خاصة والمسلم بصفة عامة أنَّ بابَ التوبة مفتوح مهما بلغ الجُرْمُ وعَظُم الإثمُ، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [ الشورى : 25 ] ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [ النساء : 110 ] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ الزمر :53 ] ، فعلى المسلم أن يحرص على التوبة قبل الحج، لأنه يرجو أن يعود مغفوراً له، وينبغي عليه أن يجاهد نفسه وهواه والشيطان، ويقلع عن الذنوب، ويندم على ما فات، ويعزم عزما صادقا على عدم العودة إلى الذنوب مرة أخرى، ويرد المظالم إلى أهلها، حتى يَفِدَ على الله تعالى وليس عليه شيء.

كما  يجب على من أراد الحج أن يتحرى المال الحلال لنفقات الحج والعمرة وسائر العبادات ، وذلك لما له من أثر طيب في قبول العبادة، فالله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبًا  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه)  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ )، فالمال الحلال والكسب الطيب يشرح الصدر ، ويكسب الطمأنينة، ويعين على الطاعة ،  فالحج عبادة تؤدَّى بالنفس والمال معًا، فيجب أن يكون المال حلالاً، خالصا من كل شائبة .

كما يجب على من أراد الحج وعزم على أداء هذه الشعيرة أن يسارع لسداد ما عليه من ديون وحقوق للآخرين لأنه ليس من حقه، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ )  ( أخرجه البخاري) ، فلقد حذر الإسلام كل الحذر من التهاون في أداء الدَّين ، أو المطل والتأخير في قضائه ، أو التساهل وعدم الاكتراث  بأدائه ، فمن عزم على قضاء الدين ورد الحقوق إلى أصحابها أعانه الله ويسّر له ، فَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها  يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ) (أخرجه البخاري) .

وهذا لما للدَّين من خطورة على الأموال وما يخلّفه في النفوس من ضغائن و أحقاد ، فعلى من يريد الحج أن يُعجل بقضاء الديون ورد المظالم إلى أهلها فهذا أبرأ للذمة وأرجى للقبول، وينبغي على من يريد الحج أن يتنبَّه إلى ما يُحبط العمل أو يمنع قبوله : كالمشاحنة والقطيعة،  فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ (رضى الله عنه) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ )، فالهجر قد يكون سببًا لتأخير – أو حجب – المغفرة والثواب من الله تعالى وقبول الأعمال، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه)  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَيُغْفَرُ فِيهِمَا لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا المُهْتَجِرَيْنِ، يُقَالَ: رُدُّوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ) ، فالقطيعة لا تتناسب مع أخلاق الإسلام بصفة عامة وأخلاق الحج بصفة خاصة ، وحذر المسلمين أشد ما يكون التحذير من تعاطي أسباب القطيعة والفرقة وحثهم على الصبر فقال تعالى : { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال : 46 ] ولأنّ النفوس في حال الخصام والتنافر محكومة بنوازع الانفعال والعناد والكبر ، والإصلاح يقضي على كل هذا ويُليِّن النفوس المتصلبة ويحررها من دوافع التأبّي والعناد .

          ولقد جعل الإسلام الصلح خيرًا في كل أحيانه فقال تعالى :{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [ النساء :  128] وجعل الكلام فيه من خير الكلام وجعل له أعظم الأجر فقال عز وجل: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 114] ، فمن أراد الثواب الجزيل وراحة الضمير ، وقبول العبادة فليحلم على الجاهل، وليعفُ عن المعتدي وليقبل الصلح قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ}[الشورى:4] .

 هذا بالنسبة لمن لم يؤد فريضة الحج من قبل وعزم على أدائها هذا العام ،وأمّا من أدى فريضة الحج ويريد أن يحج نافلة فنقول له إنّ هناك ما هو أولى من حج النافلة  وعمرة النافلة مثل: قضاء حوائج المسلمين ، فإن الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد منهم الفقير الذي لا يجد ما يسد جوعه ، ناهيك عن ملبسه ومسكنه ، والمريض الذي لا يجد دواءه ، والأرامل ، واليتامى  والعوانس ، والضعفاء ، والعجزة ، ومن لا عائل لهم ، هؤلاء وغيرهم هم أحق بقضاء حوائجهم والقيام على شئونهم.

قال ابن القيم رحمه الله : وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استُجْلبِت نعمُ الله، واستُدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه فقضاء حوائج الناس والقيام على شئونهم من خلق الأنبياء والرسل، فأشرف الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) تصف لنا السيدة خديجة (رضى الله عنها) خُلقه فتقول: (كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ) (متفق عليه) .

وحث النبي (صلى الله عليه وسلم) على قضاء حوائج الناس وتنفيس كربهم، والتيسير على معسرهم والستر عليهم فمن فعل هذا فهو  موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق  ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) (رواه مسلم)  ، وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون، فقد كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)  يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلاً،  فيجب علينا أن نسير على هذا المنهج الإسلامي المستنير الذي رسمه لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأعلام من بعده.  إن قضاء حوائج الناس لا يخرج عن كونه فرض عين أو فرض كفاية، ولا شك أن الفرض والواجب عينيًا كان أم كفائيًا مقدم على سائر النوافل لا على حج النافلة وتكرار العمرة فحسب .

كما أن قضاء حوائج الناس والقيام بمتطلبات حياتهم ليس مجرد نافلة، إنما هو واجب شرعي ووطني، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ) (أخرجه البزار) ، ويقول الحق سبحانه: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  *  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *  وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [ الماعون : 1- 3 ] ، وهو مقدم على ألف حجة وحجة بعد حجة الإسلام التي هي حجة الفريضة ، ومن ألف عمرة نافلة  .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

العشر الأول من ذي الحجة ..مناسك وفضائل

      أولاً : العناصر:    

1-      سنة الله تعالى في تفضيل بعض الأزمنة على بعض.

2-     فضل العمل الصالح في هذه العشر وفضل صيام يوم عرفة.

3-     وقوع غالب مناسك الحج فيها.

4-      مشاركة الناس للحجيج في أعمال البر والطاعة.

5-      الأضحية وفقهها ومشاركة المضحي للمحرم.

6-     العمل الصالح لا يقف عند حدود العبادات.

ثانيًا: الأدلة:

      الأدلة من القرآن:

1-يقول الله تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة: 36] .

2-ويقول تعالى : {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3].

3-ويقول تعالى : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] .

4-ويقول تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }[الكوثر: 1، 2].

5-ويقول تعالى : {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[ الأنعام :160].

6-ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] .

الأدلة من السـنة :

1-  عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) يَعْنِي الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: ( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (أخرجه البخاري ).

2-   وعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) (رواه أحمد).

3-  عن جَابِرٍ بن عبد الله (رضي الله عنهما ) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال:  ( أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ ) - يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ - قِيلَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: ( وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ) ( رواه البزار وأبو يعلى).

4-  وعن أَبِي قَتَادَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ: ( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ) (رواه مسلم ).

5-  وعن أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَنَّهُ قَالَ: ( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْحَرَ فِي هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ ) (رواه أحمد).

6-   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :( إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ وَهُوَ الَّذِى يَلِيهِ ) (رواه أبو داود والبيهقي ).

7-   وعَنْ عَائِشَةَ ( رضي الله عنها)  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا )(سنن الترمذي).

ثالثًا : الموضـــــوع  : 

فمن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم مواسم للخيرات ، تضاعف فيها الحسنات ، ويستكثرون فيها من الأعمال الصالحات ، هذه المواسم لها مزية ليست لغيرها من الأوقات ، حيث يتجدد فيها نشاط العبد فيسارع إلى الخيرات ليتقرب من رب الأرض والسموات .

وقد فضل الله تعالى بعض الأزمنة على بعض ، ففضّل بعض الشهور - وهي الأشهر الحرم – على غيرها من الشهور ، فقال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }[سورة التوبة: 36]. وفضَّل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضَّل ليلة القدر على سائر الليالي ، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1- 3].

كما فضَّل- تبارك وتعالى - بعض الأيام على بعض ، ففضل العشر الأوَل من شهر ذي الحجة على سائر الأيام ، وجعل العمل الصالح فيها أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا  من العمل فيما سواها من الأيام؛ فهي أيامٌ شريفةٌ فاضلةٌ عالية القدر ، وهي أعظم الزمن بركةً؛ إذ لها مكانةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى ، فهي عَشْرٌ مباركاتٌ كثيرةُ الحسنات ، عالية الدَّرجات ، متنوِّعة الطَّاعات ، فهي أفضل أيام العام كله، حيث يجتمع فيها حجاج بيت الله الحرام في أطهر بقعة من الأرض ، حول الكعبة المشرفة يطوفون ، ويتسابقون إلى الطاعات ، ويتنافسون في الخيرات ، وليتزودوا بخير زاد عملاً بقول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

تلك الأيام المباركة عرف الإسلام قدرها ، وأمر المسلمين أن يسارعوا إلى الانتفاع بأوقاتها رغبة في التقرب إلى الله عز وجل الذي يجزى الحسنة بعشر أمثالها ، قال سبحانه:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[ الأنعام :160].

ومن فضائلها:

* أن الله تعالى أقسم بها في كتابه الكريم ، ولا يقسم الله تعالى إلا بعظيم، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقَسَم بها يدلُّ على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله تعالى لها ، وتنويهًا بشأنها وفضلها ، وإرشادًا لأهميتها ومكانتها ومنزلتها ، قال سبحانه :{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر} [الفجر:1 - 3]، والصحيح الذي عليه جمهور المفسرين أن الليالي العشر  هي عشر ذي الحجة ، وقد ورد عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  أنه قال في تفسير هذه الآيات ( العشر: عَشْرُ النَّحْرِ ، وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ )  (رواه النسائي في السنن الكبرى، عَنْ جَابِرٍ).

* أنَّ الله - تعالى - نصَّ في كتابه العزيز على ذكره فيها ؛ تعظيمًا لله - تعالى - وإعلامًا بفضيلة هذه العشر، وإظهارًا لشعائرها ، حيث سماها الأيام المعلومات ، فقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 27]. وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – ( هي أيام العشر ) ، فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر السلف والعلماء.

* أنها أفضل أيام الدنيا كما نص بذلك حديث النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حيث قال: ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ) يَعْنِي الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: ( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) (أخرجه البخاري).

* أنها مكان لاجتماع العبادات فيها ، فالصلاة، والصيام ، والدعاء، والصدقة، والجهاد، وقراءة القرآن، وذِكْر الله - تعالى - وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنَّهي عنِ المنكر، وغيرها منَ القُرُبات - هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها؛ لحديث ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عنِ النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  قال: (ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله - عز وجل - ولا أَعْظَم أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الأَضْحَى)، قِيلَ: ولا الجِهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجِهَاد في سبيل الله - عز وجل- إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ) (رواه الدارمي).

ونحن نعيش في  ظلال هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة ينبغي علينا أن نغتنمها ولا نضيعها ، وأن نتسابِق إلى الخيرات فيها ، وأن نشغلها بالعمل الصَّالح ، فالعمل الصالح فيها أحبّ إلى الله - سبحانه وتعالى - مما سواها من الأيام، لقول رسولنا (صلى الله عليه وسلم ) في الحديث : ( أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ ) - يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ - قِيلَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: ( وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ) ( رواه البزار وأبو يعلى).

ومن هذا الحديث يتضح أن هذه الأيام أفضل أيام السنة كلها ، وأن العمل الصالح فيها - أيًّا كان نوعه - أفضل منه في غيرها، وأن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله الذي رجع بنفسه وماله .

          ويستحب الإكثار من العبادات من صلاة وصيام وذكر في هذه الأيام ، وآكدها صوم يوم عرفة لغير الحاج، وقد خص النبي (صلى الله عليه وسلم ) صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية ، وبيّن فضل صيامه ، فقد ثبت عن أبي قتادة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ( يكفّر السنة الماضية والباقية ) ( رواه مسلم). وقال(صلى الله عليه وسلم): (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ) (رواه مسلم).   

فالصيام من أفضل الأعمال الصالحة ، وقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) (متفق عليه). فللصوم فضل عظيم وثواب عميم ، وقد صح في الحديث ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام ).وعليه فيسن للمسلم أن يصوم التسع ؛ لأنها من العمل الصالح .

* التكبير والتحميد والتهليل والذكر:

ومن الأعمال التي ورد فيها النص على وجه الخصوص الإكثار من ذكر الله عموما ومن التكبير خصوصاً لقول الله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}[الحج: 28 ] ، وجمهور العلماء على أن المقصود بالآية : أيام العشر.

وعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ) ( رواه أحمد). وقال البخاري: ( كان ابن عمر وأبو هريرة (رضي الله عنهما)  يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ، وقال: وكان عمر  يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً ، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي مجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.  

ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق وغيرها، يجهر به الرجال، وتسر به النساء ، إعلاناً بتعظيم الله تعالى ، وذلك من أول يوم من أيام ذي الحجة ويستمر إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، وهو من السنن المهجورة التي ينبغي إحياؤها في هذه الأيام.

وأما التكبير الخاص المقيد بأدبار الصلوات المفروضة، فيبدأ من فجر يوم عرفة ويستمر حتى عصر آخر يوم من أيام التشريق ؛ لقوله تعالى:{واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203 ]. ولقوله (صلى الله عليه وسلم): ( أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ ) ( رواه مسلم وغيره).

* الصدقة: وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام، وقد حث الله - تعالى- عليها ، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254]، وقال (صلى الله عليه وسلم):(ما نقصت صدقة من مال ) ( رواه مسلم).

وبالنظر إلى هذه الأيام - عشر ذي الحجة - نجد أنها حظيت بهذه المكانة وتلك المنزلة ؛ لاجتماع أمهات العبادات فيها ، وهي الصلاة ، والصيام ، والصدقة ، ووقوع غالب مناسك الحج فيها، ولا يتأتي ذلك في غيرها ، ففيها يوم التروية ، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ، وفيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجَّة ، وهو يومٌ معروفٌ بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب ، فعن جَابِرٍ( رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِّينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ) ( رواه البيهقي في شعب الإيمان ، وابن خزيمة في صحيحه ).

وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: )  مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةُ ).

وفيها كذلك يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة ، وهو أفضل الأيام، وفيه معظم أعمال النُّسُك: من رمي الجمرة ، وحَلْق الرَّأس، وذبح الهَدْي، والطَّواف ، والسَّعي، وصلاة العيد، وذبح الأُضحية، واجتماع المسلمين في صلاة العيد، وتهنئة بعضهم بعضًا ، ففي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :( إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهِ ) (رواه أبو داود والبيهقي ).

فالسعيد من اغتنم هذه الأيام ، وتقرب فيها إلى مولاه بالطاعات ، حتى يكون مشاركاً للحجيج في أعمال البر والطاعة ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: (  مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْحَرَ فِي هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ ) ( مسند أحمد).

إنها قمة المشاركة للحجيج في العبادة والطاعة ، حيث بين النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الحديث أن المسلم الذي لم يُقَدَّر له الحج فلا يحرم الثواب من المشاركة للحجيج في أعمالهم ، من عدم قص الشعر ، وتقليم الظفر ، تشبها بالمحرمين حتى ينتهوا من صلاة العيد وذبح الأضاحي.

والأضحية سنة مؤكدة فعلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحثَّ على فعلها لما فيها من التقرب إلى الله - عز وجل- بإراقة الدماء ، ولما فيها من سدٍّ لحاجة الفقراء والمساكين ، وفيها إحياء لسنة أبينا إبراهيم - عليه السلام -، فهي سنة مؤكدة على كل مسلم حاجاً أو غير حاج ذكراً أو أنثى ، ينبغي لكل قادر موسر ألا يدعها ، لأنها شعيرة عظيمة من شعائر الدين الإسلامي الحنيف قال الله تعالى : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] ، وقال تعالى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، و عَنْ أَنَسٍ قَالَ :( ضَحَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ) ( رواه مسلم ) ، وعن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما) : ( أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نحر يوم الأضحى بالمدينة ، قال : وكان إذا لم ينحر يذبح بالمصلى ) ( رواه النسائي ).

والأضحية من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه في هذا اليوم ، فعن عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا  ) (سنن الترمذي).

ويجب على المسلم الذي يريد أن يُضحي ويحرص على اتباع السنة أن يتأكد من سن الأضحية عند شرائها وذلك بسؤال أهل الخبرة ، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( لاَ تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ ) (والجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل في الثانية).

كما اشترط الإسلام أن تكون الأضحية خالية من العيوب ، فقد روى أبو داود عن البراء بن عازب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( أَرْبَعٌ لاَ تَجُوزُ فِى الأَضَاحِى الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا وَالْكَسِيرُ الَّتِى لاَ تَنْقَى) قَالَ : قُلْتُ فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِى السِّنِّ نَقْصٌ. قَالَ: ( مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ وَلاَ تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ ). قَالَ أَبُو دَاوُدَ لَيْسَ لَهَا مُخٌّ  (سنن أبي داود).

هذا وقد وجه الإسلام إلى الإحسان في يوم الأضحية  إلى الفقراء والمحتاجين ،  وإن من الأفضل لمن وسع الله عليهم  أن يتصدق بالأضحية كلها فهذا أقرب للتقوى وأعظم للثواب ، وقد أجاز الإسلام للمضحي  أن يأكل منها وأن يهدي لقرابته وأصدقائه ، أو أن يجعل ذلك أثلاثًا ، وكل ذلك مقبول إن شاء الله   كما كان يفعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) ففي حديث عائشة  (رضي الله عنها ) لما ذَبحَ الرسول (صلى الله عليه وسلم)  الشّاة وأمر بالتصدق بها جميعاً، فلما سَأل عائشة فقالت ذَهَب كلها إلا الكَتِف، فقال  (صلى الله عليه وسلم ) : ( بقِي كلُها إلا الكَتِف ) ( أخرجه الترمذي ) .

كما نؤكد أن العمل الصالح لا يقف عند حدود العبادات ، وإنما يشمل كل ما فيه نفع الفرد والمجتمع ، من الأخلاق الكريمة ، والعمل والإنتاج ، والبذل والعطاء ، والتكافل والتراحم.

وإذا كنا قد عرفنا عظمة هذه الأيام وفضلها وشرفها وفضل العمل الصالح فيها ، فلنحرص على الخير في هذه الأيام حتى نكون أهلا بقبول دعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لنا ، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا لنا من غير أن يرانا ، ففي حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: لما رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم ) طيب النفس ، قلت يارسول الله ، ادع الله لي ، فقال : ( اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ، وما أسرّت وما أعلنت ) فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك ، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( أيسرك دعائي ؟) فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك ، فقال (صلى الله عليه وسلم): (والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة ) (صحيح ابن حبان ).

فحَرِيٌّ بالمسلم أن يشكرَ الله - تعالى - على فضلها وفضْل العمل الصالح فيها، وأن يشكرَه - عز وجل - على بُلُوغها وهو في أمْنٍ وعافية ، وأن يعرف لهذه الأيام فضلها، ويقدر لها قدرها، ويحرص على الاجتهاد فيها بالأعمال الصالحة .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الحـج ووحـدة الأمـة

         أولا : العناصر :

         1- وحدة الصف من غايات مناسك الحج .

          2- مظاهر الوحدة بين المسلمين في الحج.

          3- أثر الحج في إذكاء روح الأخوة بين المسلمين.

          4- من ثمرات الوحدة :

                    - التكامل والتعاون .

                    - الإخلاص في التعامل بين أفراد الأمة.

                    - نبذ الفرقة  والخلاف  0   

                   - أدب الحوار وأدب الخلاف .                     

    ثانيًا : الأدلـة :

        الأدلة من القرآن الكريم :

1-     يقول الله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

2-    ويقول تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

3-    ويقول تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُو اْنِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[  آل عمران 103].

4-    ويقول تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[البقرة 197 ، 198 ، 199].

5-    ويقول تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [ الحج 27 :30].

6-    ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[ الحج : 32].

7-    ويقول تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات آية10].

8-    ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[  الحجرات : 13].

الأدلـة من الســنة :

1-    عَنْ أَبِى مُوسَى (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ) (متفق عليه).   

2-    وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ ) ( سنن الترمذي).

3-    وعن جَابرٍ (رضي الله عنه) أنَّ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ فِي خُطْبَتِه وَسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ: قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ) (مسند الإمام أحمد، وحلية الأولياء لأبي نعيم ).

4-    وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) (متفق عليه).

     ثالثًا : المـوضــــوع    

تأتى فريضة الحج كلَّ عام لتذكر الأمة بثوابتها وأصولها ، ومن بين هذه الثوابت والأصول أنها أمة واحدة، واحدة في عقيدتها ، وواحدة في وجهتها ، وواحدة في قبلتها ، وواحدة في غايتها، قال تعالى :{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وقال تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، فبيَّن ربنا تبارك وتعالى أن ديننا واحد وشريعتنا واحدة ، وفى خاتمة الآية الأولى قال:{وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } فكأن من أصول الدين وثوابت هذه الأمة وحدتها وتماسكها لأنها موحَّدَة فى عباداتها ، وفى خاتمة الآية الثانية قال تعالى : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}إذ وحدة الأمة وتماسكها بثوابتها والحفاظ على هويتها يحتاج إلى ركيزة أساسية تقوم عليها ألا وهى : التقوى ، التى هى إخلاصٌ وتجرد لله تعالى فى العبادة والمعاملة و السلوك . ويأتى موسم الحج ليؤكد على هذا المعنى، معنى الوحدة التى تحتاج إلى الإخلاص والتقوى قال تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }.

          إن وحدة الأمة واعتصامها بدينها والحفاظ على ثقافتها هو سر بقائها ودعامة قوتها والسبيل إلى نهضتها ، ولذا كانت دعوة الإسلام إلى الحفاظ على هذا التماسك ونبذ الخلاف والتفرق والتشرذم، وقد جاءت هذه الدعوة صريحة واضحة فى قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُو اْنِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[سورة آل عمران 103]، وكانت دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) للأمة بلزوم جماعة المسلمين وعدم الفرقة والتنازع، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ )، وضرب النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلا للأمة في تماسكها وتآزرها فقال:( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ).

وأكثر ما تتجلى فيه روح الأخوة، وتزيد أواصر المحبة بين أبناء الأمة: شعيرة الحج التي تعتبر خُمُسَ الإسلام ،وخامسَ الأركان كما قال النبي العدنان - عليه الصلاة والسلام-،كما أنها تجمع باقي أركان الإسلام في أسمى معانيها ، وتحلق بجموع المسلين في سماء من الرقي ، تفيض بالطهر والإيمان، وتنأى بهم عن الرجس والبهتان، والإفك والطغيان، فيكونون مع الرحمن بالقلوب والأبدان ، تذوب الفوارق فيما بينهم، وتعلوهم روح العدل والمساواة، ولا تخضع الجباه إلا لله تعالى.

أما كون الحج يجمع أركان الإسلام فيبدو في مناسكه، فالطواف بالبيت في اتجاه واحد يتفق مع دوران الأرض حول نفسها ومع دورانها فى محورها وكأن القلوب قد اتسقت حركتها مع حركة الكون فى طواف واحد لرب واحد ، وهذا من مظاهر الوحدة بين أفراد الأمة بل بين المؤمن والكون من حوله إضافة إلى كون الطواف صلاة،  فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)  قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ، ولكنّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَلَّ لَكم فيه الكلام، فلا تكثروا فيه مِن الكلام ) (سنن النسائي).

كما أن الحاجَّ بإحرامه يمتنع عن أشياء أحلها الله له وهو في حله وحتى وهو صائم ، مما يرتقي بالمسلم ويسمو به على شهواته وملذاته ، ومنها إزالة شعر الرأس بحلق أو غيره لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقوله تعالى:  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، ولا شك أن هذا مظهر يدل على الوحدة والمساواة بين عباد الله تعالى الذين لبسوا لباسا واحدا وأحرم كل منهم من محل إحرامه قاصدين بيتا واحد ، لا فرق بين غنى أو فقير صغير أو كبير ، رجل أو امرأة، فكل من قصد بيت الله الحرام قد أحرم ولبى بالحج.

ووحدة الصف من غايات مناسك الحج فيبدو  فيها وحدة العقيدة ، فالمؤمن قلبه عامر بالإيمان مطمئن بذكر الرحمن قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد: 28]، وشعيرة الحج تجعل المؤمنين يكثرون من ذكر الله ويُشْغَلون به عما سواه، فالحاجّ يلبي نداء مولاه "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك " وغير الحاجّ ممن لم تتوفر لهم مؤنة الحج مشغولون بالدعاء والذكر فى عيد الأضحى وصوم يوم عرفة الذى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبه أمته إلى فضله : (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) ( سنن الترمذي ).    

ويوم عرفة رمز لوحدة المسلمين ومظهر من مظاهر قوتها ، فالحجيج على اختلاف لغاتهم وتباين ألوانهم وتباعد أقطارهم قد اجتمعوا فى صعيد واحد ولباس واحد وهتفوا بهتاف واحد فى وقت واحد ، يتعارفون فيما بينهم وتتآلف قلوبهم وأصبح كلٌ منهم ممثلًا لبلده فى هذا المؤتمر الحافل يتدارسون مشاكل أمتهم ويبحثون علاجها ويعلنون للدنيا كلها أنهم أمة واحدة وكيان واحد.

كما يبدو الأخذ بالأسباب في السعي بين الصفا والمروة ، فعلى المسلم أن يتمثل موقف السيدة هاجر التي جاءت برضيعها في واد غير ذي زرع، وتوكلت على الله حق التوكل، أخذت بالأسباب وجدت في البحث عن الماء لرضيعها ولم تيأس حتى نبع الماء لرضيعها ، فعلى المسلم ألا ييأس ، بل يطمع في رحمة الله تعالى ويأخذ بالأسباب وما أحوج أمتنا إلى العمل ، ونبذ التكاسل والخمول .

كما أن فريضة الحج تبعث فى الأمة روح التعاون والتكامل وهذا مما يدعم وحدتها وينمى قوتها، فحين تتكامل فى اقتصادها وتتبادل احتياجاتها بحيث تقوى كل أركانها فإنها تصبح عصية على أعدائها ، ولذا كان فى الحج منافع دنيوية كما أن فيه منافع أخروية قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير}[ الحج : 27 – 28] .وروى عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقنا في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا أن يتجروا في الحج فسألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} [ البقرة : 198] ونحن أمة خيِّرةٌ مدعوة بالتعاون فى كل سبل الخير إذ إن من ثمرات الوحدة التعاون والتكامل في كل النواحي الاقتصادية والسياسية والزراعية والدفاعية قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

ومن ثمرات  الوحدة الإخلاص وتقوى القلوب ، فمن التقوى أكل  الحلال يقول الله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51]، ومن التقوى تعظيم الحرمات وعدم سفك الدماء وعدم ترويع الآمنين ، عن طريق التطرف والتعصب لغير الحق، وصاحبه أبعد ما يكون عن الحق، ونبه الحق على هذا قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

والنبي صلى الله عليه وسلم نبَّه على هذا في حجة الوداع فقال: ( أَيُّها النّاس: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ: قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟  قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ).

والإخلاص يجمع كل هذا فهو أساس العبادة قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: 5]، وفي سورة الحج يقول الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مخلصًا في حجه مقتصدا في نفقته عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال حج النبي (صلى الله عليه وسلم) على رحل رث ، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي ، ثم قال : ( اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا وَلاَ سُمْعَةَ ).

فعلى المسلم أن يخرج من حجه وقد تغير ظاهرًا وباطنا وبدا طاهرًا قلبه ، نظيفًا فى تعامله مع الناس، محافظًا على وحدة الصف متآلفًا مع أبناء مجتمعه، وإذا كان الله عز وجل قد شرع للمسلمين اجتماعات تلم شعثهم وتوحد صفوفهم كصلاة الجماعة والجُمعة فإن الحج أعظم هذه الاجتماعات فيه يتعارفون ويتآلفون، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الحج بين السلوك والنسك

وفضائل العشر الأول من ذي الحجة

أولاً : العناصر :-

1.       فضل الحج ومكانته في الإسلام

2.       الحج  دعوة إبراهيم وشريعة محمد عليهما السلام

3.       العبادات كلها تهذب السلوك وتقومه

4.       الحج أنموذج للتربية والسلوك

5.       آثار الحج السلوكية على الفرد والمجتمع

6.       فضائل العشر الأول من ذي الحجة  

    ثانياً : الأدلة :

          الأدلة من القرآن :-

1.   قال تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] .

2.   وقال تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27، 28] .

3.   وقال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 200، 201] .

4.   وقال تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات: 102] .

5.   وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:  13] .

6.       وقال تعالى : {وَإِنَكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .

 

 

الأدلة من السنة :-

1. عن أَبَي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (رواه البخاري) . 

2. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: خَطَبَنَا وَقَالَ مَرَّةً: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا) فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ) لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ) ثُمَّ قَالَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَدَعُوهُ) (رواه مسلم) .

3. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) (رواه مسلم).

4. وعَنْ عَائِشَةَ ( رضي الله عنها ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ ، دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ) (رواه أحمد في مسنده) .

5. وعَنْ جَابِرٍ ( رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ  مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَىَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ ) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ : ( الْمُتَكَبِّرُونَ ). (رواه الترمذي).

6. و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): ) إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ )(رواه البيهقي) ، وفي رواية لأحمد ) إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ).

7. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. (رواه البخاري) .

8. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :      (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) (رواه البخاري).

9. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ). يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ : ( وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشيء ). (رواه الترمذي) .

ثالثاً : الموضوع :-

إن الحج موسم من مواسم الطاعة ، و ركن من أركان الإسلام ، وركيزة من ركائزه ، ففي الحديث َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) رواه مسلم ، فرضه الله تعالى على من استطاعه من عباده ، فقال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا) (رواه مسلم).

ففريضة الحج ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، من أنكر ها فقد كفر ، ومن أقرَّ بها وتركها تهاونًا فهو على خطر ، إذ كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه.

والحج له فضل كبير وثواب جزيل بيّنَه رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) ( رواه البخاري ). ورغم أن الحج مرة واحدة في العمر كله ، إلا أن تأثيره يمتد بقية عمر الإنسان إن أحسن حجه وأخلصه.

وقد أمر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام أن ينادي بالحج ، فقال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27).

والمتأمل في العبادات يجد أن الغاية المنشودة والثمرة المرجوّة منها هي تزكية النفوس  البشرية وتقوية صلة الإنسان بربه وخالقه ، وبمن يعيشون معه في مجتمعه ، لتؤتي أكلها إذا صدقت النية ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت : 54] . وبالزكاة تتآلف القلوب وتتطهر النفوس والأموال، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة 103].

وبالصوم يتدرب المسلم على الصبر ، وبالحج ومناسكه تغرس الفضائل في قلوب المسلمين  وتدعوهم إلى محاسن الأخلاق  وإلى وحدة الصف ، وإلى التعارف والتعاون والتراحم والتكافل ورحمة القوي بالضعيف والإيثار ولين الجانب، فالعبادات والطاعات شرعت للارتقاء بالخلق الإنساني وتقويم السلوك البشري ، فكل عبادة تأخذ بيد صاحبها إلى الطريق المستقيم ، ومن ذلك فريضة الحج ، والتي تسهم بدورها في تصحيح مسار السلوك الإنساني .

فقد يظن بعض الناس أن مجرد السفر إلى الأراضي المقدسة لأداء النسك رحلة مجردة عن المعاني الخلقية ، وهذا ظن خاطئ ، فالعبادات تحمل في طياتها كل المعاني الخلقية والإنسانية ، ولها ثمرتها التي تؤثر في أخلاق صاحبها وسلوكياته ، وفي فريضة الحج يقول ربنا سبحانه: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197]. وفي هذا إشارة إلى علاقة الأخلاق والسلوك بالحج ، فلا يتصور أبداً أن يكتمل حج إنسان دون أن يتخلق بأخلاقياته ، فالحج ليس كلمة ، وإنما هو سلوك ومسئولية وخلق.

فالآية الكريمة جاءت حاملة معها النهي عن هذه السلوكيات تحديداً ، لأن الحج شُرع ليطهر الروح والنفس من كل أشكال الرفث والفسوق ، وإن المسلم إذا تحققت فيه آثار العبادات وتحلى بالآداب الشرعية ، وأصبحت أخلاقه انعكاساً لما يعلمه ويعمل به من دين الله - عز وجل -كان من أهل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

فمن بداية رحلة الحج يعلن الحاج عن حسن توكله على الله وتفويض كل أموره إليه ، ويردد : اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَمِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ

إن الحج يربي في نفس صاحبه أخلاقا عظيمة ، وآدابا رفيعة، وقيما عالية، والتي يجب أن يتحلى بها الحاج  وتنعكس على تصرفاته وسلوكه كله ،بعد أن حل ضيفا على  أكرم الأكرمين ، مبتغيا الأجر والثواب ،  قال (صلى الله عليه وسلم)  :  (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) (متفق عليه) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) (رواه مسلم).

وبناء على فضل الحج وثوابه العظيم، كان الانضباط الخلقي أشد لزومًا ، يتطلب من الحاج أن يسمو  بعقله وقلبه وسلوكه إلى مقام رفيع من الاستقامة والتقدير والتعظيم لشعائر الله تعالى : { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (الحج32) .

 

وحسبنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد بين الغاية من بعثته بقوله : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، فقد ملك قلوب الناس في دعوته بسلوكه القويم ، وتعامله الحسن ، وخلقه العظيم الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى به في قوله : {وَإِنَكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]،   وما أجمل قول الشاعر:

       إنما الأمم الأخلاق ما بقيت    ***    فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وللحج أثاره البالغة التي تظهر على سلوك الفرد في السمو الأخلاقي، ويتعدى هذا الأثر من الفرد إلى المجتمع كله من خلال وحدته، وتصرفاته، ومن تلك الآثار: 

        وحدة الصف : فالحج فرصة لتوحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم تحت راية واحدة ، شعارهم التلبية ـ لبيك اللهم لبيك ـ ، والوقوف في وجه الإرهاب ، والتصدي لكل دعوات التخريب تحقيقاً لأمر الله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }. 

كذلك من آثار الحج : تبادل المنافع والتجارب والخبرات في المجال الاقتصادي ، فلا شك أن هذا التجمع للمسلمين من كل بقاع الأرض فرصة  لبحث الأمور الاقتصادية والاجتماعية وغيرها لدى بعض البلاد  ليتم تحقيق التكامل بين جميع أفراد الأمة.    

ومن ذلك أيضاً : البذلُ والإنفاقُ للمحتاجين والفقراء والمساكين ، فلا يبخل بمال أو جهد رغبة في الثواب والأجر ، ومن أشهر من عرف عنه ذلك الإمام عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان إذا أراد الحج من بلده (مروْ ) جمع أصحابه وقال : من يريد منكم الحج ؟ فيأخذ نفقاتهم ، فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه ، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة ، ويطعمهم أطيب الطعام ، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف ، ثم يرجع إلى بلده ، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ، ثم جمعهم عليه ، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم ، فرد إلى كل واحد منهم نفقته.              

ومن ثم فإن الحاج لا بد وأن يتأثر بخلق الحج ويبقى أثره في نفسه ، ويعود من الحج وقد تحسن حاله واستقام أمره وأقبل على طاعة ربه ، حتى يتقبل الله حجه، فالله لا يقبل العمل إلا من المتقين ، كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27].                                                                    

ولنعلم أن أعظم الزمن بركة ، عشر ذي الحجة ؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى ، تدل على محبته وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات ، وهي أفضل أيام العام كله ، حيث يجتمع فيها حجاج بيت الله الحرام في أطهر بقعة من الأرض ، حول الكعبة المشرفة يطوفون ، وإلى الطاعات يتسابقون ، وفي الخيرات يتنافسون ، وبخير زادٍ يتزودون ، عملاً بقول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

ومن فضائلها:

* أن الله تعالى أقسم بها فقال:{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}. ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، وأن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات ، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل ، وقد حظيت بهذه المكانة وتلك المنزلة ؛ لاجتماع أمهات العبادات فيها ، وهي الصلاة ، والصيام ، والصدقة ، ووقوع غالب مناسك الحج فيها، ولا يتأتى ذلك في غيرها ؛ لحديث ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عنِ النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  قال: ((ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله - عز وجل - ولا أَعْظَم أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الأَضْحَى))، قِيلَ: ولا الجِهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجِهَاد في سبيل الله - عز وجل- إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ)) (رواه الدارمي ).

* أنَّ الله - تعالى - نصَّ في كتابه العزيز على ذكره فيها ؛ تعظيمًا لله - تعالى - وإعلامًا بفضيلة هذه العشر، وإظهارًا لشعائرها ، حيث سماها الأيام المعلومات ، فقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 27]. وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – هي أيام العشر . فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر أهل العلم.

* ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، وهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ). يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ( وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشيء ). ومن هذا الحديث يتضح أن هذه الأيام أفضل أيام السنة كلها، وأن العمل الصالح فيها - أيًّا كان نوعه - أفضل منه في غيرها ، وأن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله الذي رجع بنفسه وماله.   

إلى غير ذلك من الفضائل ، ويستحب فيها الإكثار من العبادات من صلاة وصيام وذكر ، وآكدها صوم يوم عرفة لغير الحاج، وقد خص النبي (صلى الله عليه وسلم ) صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية ، وبيّن فضل صيامه ، فقد ثبت عن أبي قتادة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ( يكفّر السنة الماضية والباقية ) [رواه مسلم] . وقال (صلى الله عليه وسلم): (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)(رواه مسلم)].   

* التكبير والتحميد والتهليل والذكر:

ومن الأعمال التي ورد فيها النص على وجه الخصوص الإكثار من ذكر الله عمومًا ومن التكبير خصوصاً لقول الله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } [الحج: 28] ، وجمهور العلماء على أن المقصود بالآية : أيام العشر.

وعن ابن عمر (رضي الله عنهما ) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) [رواه أحمد]. وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة (رضي الله عنهما) يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وقال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه ، وفي مجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.  

ويستحب أن يكثر العبد من نوافل الصلوات بعد الفرائض ، فهي سبب من أسباب محبة الله، ويكثر فيها من الصدقة ، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان ، ويكثر من الصيام فيها، ولو صام التسعة أيام لكان ذلك مشروعاً ، لأن الصيام من العمل الصالح ، وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح ، ويكثر من الدعاء والاستغفار ، ويتقرب إلى الله بكل قربة، وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره شيئاً، وأما من يُضحَّى عنه فلو أمسك لكان حسناً باعتباره يضحي في الأصل بأضحية وليِّه ، وإن لم يمسك فلا حرج عليه.

فعلى المسلم أن يخرج من حجه وقد تغير ظاهرًا وباطنا وبدا طاهرًا قلبه ، نظيفًا فى تعامله مع الناس، محافظًا على وحدة الصف متآلفًا مع أبناء مجتمعه، وإذا كان الله عز وجل قد شرع للمسلمين اجتماعات تلم شعثهم وتوحد صفوفهم كصلاة الجماعة والجُمعة فإن الحج أعظم هذه الاجتماعات ، فيه يتعارفون ، وفيه يتآلفون ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].

ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يحرم أحدا أيا كان من الفضل والثواب ، فمن لم يستطع الحج أو كان قد أدى الفريضة التي افترضها الله عز وجل عليه فقد جعل رب العزة له          في هذه العشر متسعا من ألوان الخير والبر ، كما شرع فيها التكبير والأضحية لنشارك الحجاج في نسكهم وفي تقربهم إلى الله عز وجل ، هذه الأضحية التي هي سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل قادر ، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: )سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (رواه أحمد في مسنده)، وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) ، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: )مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ ، قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا).

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

حقوق الإنسان والحفاظ على آدميته في ضوء خطبة الوداع

أولا: العناصر:

1.      خطبة الوداع من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم)

2.      خطبة الوداع والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

3.      حرمة الدماء والأعراض في الإسلام

4.      الإعلان عن حقوق النساء والأمر بالاعتراف بها وأدائها

5.       الإعلان عن حرمة الاستغلال بكل صوره

ثانيا : الأدلة:

         الأدلة من القرآن الكريم:

1. قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(النجم: 3-4).

2.  وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29-30].

3. وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. [النساء: 93].

4. وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}. [المائدة: 32].

5. وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة: 228].

6. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

الأدلة من السنة النبوية:

1. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه )عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ ( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِى يَدَىَّ) (رواه مسلم في صحيحه).

2. وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ  (رضي الله عنه ) قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم ) يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، فَقَالَ: أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ ؟ قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، قَالَ : أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ ؟ قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) ( رواه البخاري في صحيحه).

3. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما )، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)( رواه البخاري في صحيحه).

4. وعن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنهما) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: (...فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ) (رواه مسلم).

5. وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها )  أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ) ( رواه البيهقي في السنن الكبرى ).

6. وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ ( رضي الله عنه ) قال : حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى) (رواه أحمد في المسند).

ثالثًا : الموضوع:

كلما لاحَ في الأفق هلالُ ذي الحِجَّة تجلت في الأذهانِ شعائر الحج ، وتذكر المسلمون جميعا حجة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي رسمت معالم الحج لكل المسلمين في كل عصر ومصر ، فقد اِحتوت هذه الحجَّةٌ النبويةُ على مجموعة من المبادئ السامية ، وبها عدة مشاهد إيمانية راقية ، يضيق المقام عن ذكرها أو استقصائها .

ويتجلى لنا مشهد الخطبةِ الجامعةِ المانعة التي خطبَها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) في صعيدِ عرفات ، في جَمْعٍ من الصحابة وقد التفوا حولَ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) فكانَ لقاءً مشهوداً بين أمَّةٍ ورسولِها ، الكلماتُ تتلألأ من فَمِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وهو يَسْتَشْعِرُ مع كل حرف منها  دنوَّ أجلِه بعد هذه المناسك ، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، أَنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا بِمَكَانِي هَذَا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)(رواه الدارمي في سننه ) .

وتُعد خطبة الوداع من جوامع كلمه وفصاحته (صلى الله عليه وسلم) ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ : ( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِى يَدَىَّ ) (رواه مسلم في صحيحه)، فكلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أعلى درجات البلاغة والفصاحة لأنه مضبوط بضابط الوحي ، قال تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(النجم: 3-4). وأصغت الدنيا بأسرها لتسمع كلام النبي (صلي الله عليه وسلم ) وهو يوضح مبادئ الرحمة والإنسانية ويرسي لها دعائم السلم والسلام ، ويقيم فيها أواصر المحبة والأخوة وفرش بأرضها روح التراحم والتعاون. 

وتعد خطبة الوداع أول وثيقة وإعلان عالمي لحقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو معتقده أو لونه أو جنسه ، ويعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الرائد الأول والراعي الأعظم لحقوق الإنسان، فرسالته التي حملها للعالمين جميعا رسالة إنسانية ، شملت برعايتها جميع الحقوق التي تتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان.

          وقد تطرقت خطبة الوداع إلى جوانب دقيقة من حياة الإنسان ، لم يتطرق إليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في القرن العشرين ، ولم يخطر على بال واضعي هذا الإعلان أن يتحدثوا عنها من جملة الحقوق التي تضمنها إعلانهم.

إن رسول الإنسانية الأعظم ( صلى الله عليه وسلم ) الذي وقف لجنازة يهودي احتراما لإنسانيته ، وجعل من نفسه خصما لكل من يؤذي ذميا لجدير بأن يتربع على عرش حقوق الإنسان، وأن يقف واضعو هذه الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان صاغرين أمام عظمته وإنسانيته. يقول الشيخ الغزالي ( رحمه الله): إن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشري كان من أبجديات الإسلام، وان إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ترديد عادي للوصايا النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الكبير والرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).

وإذا تأملنا خطبة الوداع بكل ما فيها من كلمات مباركات ودققنا فيها النظر ، وجدنا كل ما يتشدق به الشرق والغرب من نظريات وأفكار موجودًا في هذه الكلمات المعدودة ، بل إننا نجد ما هو أكثر منه وأهم.

لقد فرَّقت هذه الخطبة الجامعة بين عهدين : عهد الظلم والقوة والجهل والكفر البواح، إلى عهد العدل والأمان والعلم والإيمان ، فرسمت للبشرية منهج حياة ومبادئ دائمة لا تتغير ولا تتبدل عبر العصور والأزمان.

وتأتي على رأس حقوق الإنسان والمحافظة على آدميته حرمة دمه ، وهذا ما أكده النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبة الوداع بقوله: ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ) .

إن الإسلام لا يرضى - بأي حال من الأحوال - بسفك الدماء ، ويُحرِّم قتل النفس البشرية بغير حق ، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.

          إن المسلم في متسع من الأمر يرجو دومًا أن يعدل مساره ويتوب إلى ربه، لكن حينما يقترب من الدماء ويعتدي على البناء الذي بناه الله سبحانه وتعالى وهو الإنسان يكون قد ضيَّق الخناق على نفسه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما )، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ) لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا).( رواه البخاري في صحيحه)، إن القتل ورطة يورط القاتل بها نفسه، فهذا عبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ (رضي الله عنهما ) يقول: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا ، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ ( رواهُ البخاري ). وَثَبَتَ عَنْه ( رضي الله عنه ) قوله لِمَنْ قَتَلَ عَامِدًا بِغَيْرِ حَقٍّ: ( تَزَوَّدْ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِد ، فَإِنَّك لَا تَدْخُلُ الْجَنَّة) (فتح الباري).

          إن أمر الدماء في الإسلام عظيم ، لدرجة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ) لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ) ( رواه ابن ماجه)، بل إن المعاهد الذي له عهدٌ مع المسلمين بعقدِ أمان حقه محفوظ ، وقتله منهي عنه ، فعن‏َ ‏عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو ‏‏(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ‏‏قَالَ : (‏ ‏مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ) (رواهُ البخاري).

          وأعظم ذلك أن الإسلام حمى الإنسان من نفسه فحرم عليه الانتحار ، وأن يلقى بيده إلى التهلكة ، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29). وقال سبحانه : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195).

ومن المبادئ الإنسانية العظيمة التي أرست قواعدها خطبة الوداع حرمة انتهاك الأعراض واستباحتها بالقيل والقال ، وخاصة القول الفاحش ، ولقد أعلن النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا المبدأ في خطبة الوداع ، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ ، أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ : فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ) (رواه البخاري ).  وفي رواية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا - أَوْ ضُلَّالًا - يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (رواه مسلم).

وللإسلام عناية عظيمة بالأعراض فقد صانها وحرم الاعتداء عليها بالإيذاء أو النظر أو القذف، ومن أجل الحفاظ على الأعراض : حرم الله - تعالى - الزنا ، وحرم الوسائل المؤدية إليه من النظر والاختلاط والخلوة ، قال تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}(الإسراء:32).

ومن أجل حماية الأعراض وصيانتها حرم الله (عز وجل)  السخرية بالمسلم ، ونهى عن اللمز والهمز ، وأن يعيب المسلم أخاه ويتنقصه ، وحرم الغيبة والنميمة ، وحرم القذف بالفاحشة، وبالجملة حرم كل ما من شأنه أن يهتك عرضاً أو يجرح كرامة ، فالعِرض والشرف لا يُقدِّره إلا أصحاب النخوة والدين والمروءة. 

هـــذا : والمرأة أيضا كان لها نصيب في خطبة الوداع لما  لها من حقوق آدمية وكرامة إنسانية ، فالنساء شقائق الرجال ، كما أخبر الصادق (صلى الله عليه وسلم) ، ومن ثم  جاء في الإعلان عن حقوق المرأة في خطبة الوداع ما رواه جابر بن عبد الله  ( رضي الله عنهما)  أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ) فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (رواه مسلم).

      فالمرأة في الإسلام لها من الحقوق وعليها من الواجبات مثل ما للرجل، ولقد لخص القرآن دستور العلاقة بين الزوجين أجمل تلخيص حين قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.}. (البقرة: 228).

وهكذا اهتم الإسلام بالمرأة أما و أختا و بنتا و زوجة وجعل لها من الحقوق ما يكفل سعادتها في الدارين ويصونها ويحافظ على كرامتها الإنسانية.

      وأوصانا بهنَّ النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) خيرًا ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً) (رواه البخاري في صحيحه) فكلمة (خيرًا) الواردة في الحديث كلمة جامعة مانعة للتخلق بأسمى معاني الرجولة حين يتعامل الرجال مع النساء.

   كذلك يتجلى في خطبة الوداع مبدأ المساواة بين جميع أفراد الأمة كحق إنساني يحافظ على كرامة الفرد في الأمة ، ويجعل معيار التفاضل هو التقوى والعمل الصالح ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)، وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ ( رضي الله عنه ) قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى) (رواه أحمد في المسند).

    وبيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) معنى المساواة  عمليا بين جميع أفراد الأمة حين جاء وجهاء من القوم شفعاء في امرأة شريفة وجب عليها حد السرقة ، حتى لا توقع عليها العقوبة، فأبى النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك ، ونبَّه إلى خطورة المسألة ، فلو انتهك مبدأ المساواة بين جميع أفراد الأمة لعمَّت الفوضى وحل الهلاك كما حل بالأمم السابقة ،  فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ) أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. (رواه البخاري في صحيحه).

   إن مبدأ المساواة مبدأ أصيل بين جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن أي اعتبار على أساس أنه حق أصيل للإنسان ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }. (النساء: 135).

   ومن الصور المشرقة لتحقيق هذا المبدأ على أرض الواقع ما حدث من تنازع بين سيدنا عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو أمير على المؤمنين مع يهودي ، فاحتكما إلى شريح قاضي المسلمين ، فسأل أمير المؤمنين ـ على اعتبار أنه خصم يتساوى مع خصمه اليهودي ـ  البيّنة فعجز عن إقامتها ، فوجّه اليمين إلى خصمه اليهودي فحلف ، فحكم بالدرع لليهودي ، فتعجب اليهودي من  الأمر ، وقال: قاضي أمير المؤمنين يحكم لي عليه! ونطق بالشهادتين وأسلم لما رأى من عظمة الإسلام وعظمة مبادئه وأحكامه التي تتعامل مع الإنسان على اعتبار إنسانيته.

    كذلك من حقوق الإنسان التي تناولها النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبة الوداع المحافظة على ماله ، فلا ينكر أحد ما للمال من أهمية فى تسيير أمور الحياة لتحقيق وسائل العيش الكريم ، وصدق من قال:

بالعلم والمال يبنى الناس ملكهمُ                 لم يبن ملك على جهل وإقلال

وجاء فى مأثور الحكمة : ) لا خير فيمن لا يطلب المال ، يصون به عِرْضه ، ويسد به خلله).

   وحفظ المال من ضروريات الدين الخمس ، وحق تملكه في الإسلام غاية في السمو والرقي أوجب على المسلم أن  يحفظه ويصونه ، وحرَّم عليه سرقته أو إتلافه.

    وفي خطبة الوداع حذر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الربَّا على اعتبارها أفحش صور استغلال حاجة الناس وضياع أموالهم وأكلها بالباطل ، فقال ( صلى الله عليه وسلم): ( وإنَّ رِبَا الجَاهِليّة مَوضوعٌ ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا، وإنّ أَوّلَ رباً أَبْدأُ بِهِ رِبَا عَمّي العباسُ بن عبد المطلب).

      ويقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}( البقرة: 278 ، 279 ، 280، 281).

          ويقول سبحانه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}( النساء: 29 ، 30).

ما أجدر الدنيا كلها أن تقف أمام هذا الهدي النبوي العظيم المتمثل في خطبة الوداع التي جمعت في كل ألفاظها ومعانيها الخير كله للبشرية جمعاء ، فقد كانت بحق سبقا   في تاريخ البشرية أرست قواعد حقوق الإنسان . فهذه الخطبة أعظم وثيقة رائدة في مجال حقوق الإنسان، رسمت المبادئ والقيم الأساسية الإنسانية والخلقية.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع

أولاً : العناصـر:

1-          التأكيد على حرمة الأنفس والأموال والأعراض.

2-          الربا وخطره على الفرد والأمة في الدنيا والآخرة.

3-          الوصية بالنساء.

4-          تقريرها لحقوق الإنسان.

5-          وحدة الأمة والنهي عن العصبية العمياء.

     ثانيًا : الأدلـة:

         الأدلة من القـرآن الكريم :   

1-يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

2-ويقول تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].

3-ويقول تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29].

4- ويقول تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

5- ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[البقرة: 278 - 279]،.

6-ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

7- ويقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46]

      الأدلة من السنة النبوية :

1- عَنْ جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم)خَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: ( ... إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا ... ) (صحيح مسلم) . 

2- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): (... كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ) (صحيح مسلم) .

3- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه)  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ ) (صحيح مسلم).

4-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ ) (صحيح البخاري) .

5- وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ) (المستدرك للحاكم).

6-   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ:  ( لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ ) (مسند أحمد).

7-  وعن عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال في حجة الوداع: ( أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ... ( سنن الترمذي).

8- وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ) ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: ( أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ )، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: ( أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ )، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ( أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ )، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: ( فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ ) قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا ـ ( كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ )، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: ( لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ) (مسند أحمد) .

ثالثًا :  الموضـوع:

ما أحوج الأمة في أيام محنِها وشدائدها، وأيام ضعفها وضياعها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأمّلها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها تستلهم منها العبر ويتجدّد فيها العزم على الجهاد الحقّ، ومحاربة كل بغي وفساد.

ما أحوجها إلى دروسٍ تستعيد بها كرامتها وترد من يريد القضاء على كيانها، وإن في حجة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) الوداعية لعبرًا ومواعظ، وفيها مِن الدروس ما فيها، فلو تدبَّرها المسلمون وعملوا بما فيها، لكانت سببًا لسعادتهم في الدنيا والآخِرة.

فبعد أن استقر التشريع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي الله لنا الإسلام دينًا ، كما قال -سبحانه وتعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة: 3]، خطب النبي (صلى الله عليه وسلم) في موقف عرفة ويوم الحج الأكبر خطبةً جامعةً موجزة ، أرسى فيها قواعد الإسلام وهدم مبادئ الجاهلية، وعَظّمَ حُرمات المسلمين، وثبّت النبي (صلى الله عليه وسلم) في نفوس المسلمين أصول الدين وقواعد الشريعة الإسلامية بعبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهد الناسَ فيها على البلاغ بقوله: ( اللهم فاشهد).

وتُعَد خطبة حجة الوداع دستورًا للأمة الإسلامية ومنهجًا للبشرية جمعاء؛ فلقد أتم الله رسالته إلى البشرية على يد أشرف وأكرم رسول بعث إلى الإنسانية ، ووضع الدعائم لقيام الدولة الإسلامية ، والتمكين لدين الله - تعالى- في الأرض إلى يوم القيامة.

* ومن الدروس المستفادة من خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: التأكيد على حرمة الأنفس والأموال والأعراض.

إن حِفْظ النفوس وصيانة الدماء والأموال والأعراض قضيةٌ خطيرة يُثيرها خطاب الرسول(صلى الله عليه وسلم)  إلى الأمة في كلماته التوديعية، حيث أكد النبي)صلى الله عليه وسلم) أنَّهُ رحمةٌ للعالمينَ، يحفظُ للإنسانِ كرامتَهُ، وللمجتمعِ استقرارَهُ ومكانَتَهُ، يصونُ الأعراضَ والدماءَ، ويحمِي العقولَ والأموالَ، قالَ)صلى الله عليه وسلم)  فِي خطبةِ حجةِ الوداعِ: ( أيهَا الناسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا ) .

لقد بيَّن النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) حُرمة الدماء والأموال، ووضَّح لنا أن هذه الحُرمة تُساوي حُرمة اليوم والشهر والبلد، ومعلومٌ أن حُرمة البلد الحرام - وهو مكة - حُرمةٌ عظيمة، وحُرمة الشهر الحرام - وهو شهر ذي الحجَّة - حرمة عظيمة ، وكذلك حرمة الدِّماء والأموال حُرمة شديدة وعَظيمة.

بهذا التوجيه النبوي أسَّس الرسول )صلى الله عليه وسلم) لمجتمعٍ حضارِيٍّ مستقِرٍّ ، تسودُهُ الأُلْفَةُ، وتُرْعَى فيهِ الحرمةُ، ويأخُذُ فيهِ كلُّ ذِي حقٍّ حقَّهُ ، وتقوم العلاقةُ بيْنَ أفرادِهِ علَى التعاونِ والتراحُمِ، لينهضُوا فِي نسيجٍ واحدٍ مُتلاحِمٍ ، فلاَ يحلُّ لامرِئٍ أَنْ يعتدِيَ علَى أخيهِ بأيِّ شكلٍ مِنَ الأشكالِ، كما بين النبي)صلى الله عليه وسلم) بقوله: ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ).

ولو تدبَّر الناس هذا الكلام، لَمَا تعدَّى أحد على أحد، ولَمَا سُفِكَت الدماء، ولَمَا خُطفَت الأموال، ولما سُرقَت، ولَما اغتُصبَت، ولَعاش الناس عيشةً هنيئةً فيها سعادتهم الدُّنيوية قبل الأُخرويَّة، فهذا التحريم يجعل الإنسانَ يعمل ألف حِساب قبْل أن يتعدَّى على غَيره ليَسفك دمه ، أو ليأخُذ ماله دون وجْه حقٍّ، ولأمِن الناس على دمائهم وأموالهم، ولما عاشوا في رعْب وخَوف .

فقتْل النفس بغير حقٍّ حرام بالكتاب والسنَّة ، فقد جاء في كتاب الله - عز وجل - قولُه تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].

وقد حصر النبي (صلى الله عليه وسلم) استباحة الدم المحَرَّم في هذه الثلاثة فقال في الحديث الصحيح: ( لاَ يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِى وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )  ( سنن أبي داود).

فكيف يتجرَّأ بعض الناس ويَسفِكون الدماء، ويَهدِمون بُنيان النفس، وقد حرَّم الله - عز وجل - ذلك ،  بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن كل عمل يؤدي إلى القتل أو القتال ولو كان إشارة بالسلاح ، فقال: ( لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ فَيَقَعُ في حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (صحيح مسلم).

حتى القتال في سبيل الله - عز وجل - فيه حقْن للدماء، فالذي لا يُحارِب لا يُقتَل، فكان  ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أرسل جيشًا أوصاهم ألا يَقتلوا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة ولا طفلاً صغيرًا، هذا مع الكفار، فما بالُنا بحُرمة دماء المسلمين؟

وكما حرَّم الإسلام الاعتداء على الأنفس كذلك صان الأموال وحرم الاعتداء عليها غصبًا ، أو سرقةً ، أو احتيالا ؛ فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29].

وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين حرمة المال وحرمة الدم والعرض في سياق واحد، وجعل السرقة منافية لما يوجبه الإيمان، فقال: (...وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ... ).

فلنتق الله في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ، ولا يأخذ أحد مالاً إلا بحقِّه؛ فالله - عز وجل- سوف يسأل كل صاحب مال مِن أين اكتسبَه؟ وفيمَ أنفقه؟ وسوف يسأل القاتل عندما يقول المقتول: سلْه يا رب فيمَ قتَلني ؟

* ومن الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع : الربا وخطره على الفرد والأمة في الدنيا والآخرة. حيث يقفُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع، ويُوقف أمته على أمرٍ حاسم وموقفٍ جازم، فيبيِّن (صلى الله عليه وسلم) أن الربا موضوع وباطل، وأول ربًا يضعه (صلى الله عليه وسلم) رِبا العباس بن عبد المطَّلب، فإنه موضوع كلُّه .

فالرِّبا باطل وحرام، والله - عز وجل - قد حرّم الربا؛ يقول تعالى :{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[البقرة: 278 - 279]، فهذا وعيد شديد لمَن لم يَنتهِ عن الرِّبا، فقد سدَّ الإسلام الطريق على كل من يحاول استثمار ماله عن طريق الربا، فحرّم قليله وكثيره ، وأعلن الرسول(صلى الله عليه وسلم) حربه على الربا والمرابين، وبيّن خطره على المجتمع فقال: " إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ".

ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ). فآكِل الربا مَلعون، واللعنَةُ: هي الطرد مِن رحمة الله - عز وجل- فعلينا بتقوى الله - سبحانه وتعالى - وأكْل الحلال، والبُعد عن أكل الحَرام ، و التعامل بالربا الذي يُطرَد آكِلُه من رحمة الله تعالى.

* ومن الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع : الوصية بالنساء.

لقَدْ أوصَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بالمرأةِ خيرًا فِي خطبتِهِ يوم عرفةَ، تقديرًا لمكانتِهَا، فقالَ (صلى الله عليه وسلم):«أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»(رواه الترمذي). وبِهذهِ الوصيةِ النبويةِ نالَتِ المرأةُ احترامَهَا، وحظِيَتْ بتقديرِ جميلِهَا، والوفاءِ لصنيعِهَا، فغَدَتْ أُمًّا مُربِّيَةً، وأُختاً مُكَرَّمَةً، وزوجةً صالحةً، وبنتاً طاهرةً، وأضْحَتِ النساءُ شريكاتٍ للرجالِ فِي البناءِ والعطاءِ، قالَ (صلى الله عليه وسلم) :«إنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(رواه أبو داود). وبذلِكَ أخذَتِ المرأةُ نصيبَهَا مِنَ الرعايةِ والتعليمِ، وأُتِيحَتْ لَهَا المشاركةُ فِي شتَّى الميادينِ.

فلنحرص علَى وصيةِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) ولنحْسِن إلَى النساء حتى يحسن الله إلينا، ولنعاملهم معاملة حسنة ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم(: (...فاتَّقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتُم فروجهنَّ بكلمة الله)، فأمرنا النبي(صلى الله عليه وسلم) بتقوى الله تعالى في النساء، وعلَّمنا أن نؤدي الحقوق التي علَينا قِبَلهن، وبيَّن لنا أن أصل الفروج حرام بقوله (واستحللتُم)، فالأصل أن الفروج حرام، ولا يحلُّ منها إلا ما أحله الله - تعالى - وقد أمَرنا الله - تعالى- بغضِّ الأبصار؛ فقال- عزَّ وجل- :{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا...}[ النور:30 - 31]. فالأمر بغضِّ البصر الذي هو بَريد الزنا يدلُّ على تحريم الفروج ؛ حيث منع ما يُتوصَّل به إليه، بقوله - عزَّ وجل–: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً }[الإسراء: 32].

وإذا كان الله - سبحانه وتعالى- أحلَّ لنا الزواج مِن النساء، فقد أمَرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بتقوى الله- تعالى- في النساء والإحسان إليهنَّ، فعلى الأزواج أن يُحسِنوا في إطعامهن، وكسوتهنَّ، وأن يُعاشِروهنَّ بالمعروف؛ يقول الله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا }[النساء: 19]، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خير الناس لأهلِه، وهو قُدوتنا (صلى الله عليه وسلم).

ومِن خلال الخُطبَة الجامِعة  نلاحظ أن على النساء ألا يوطِئنَّ فرُش الرجال أحدًا يَكرهه الزوج ، حيث بيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هذا حقٌّ للرجال على النساء.

* ومن الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع : تقريرها لحقوق الإنسان.

حيث أكدت أن الناس جميعًا متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات ، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسبٍ ولا تمايزَ في لونٍ، فالناس سواسية كأسنان المشط ، وأعلنت إعلانا حقيقيا عالميا لحقوق إنسان ، وليس خاصة بطائفة من الناس، ويُعْلِن النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ "، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ "، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ "، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ "، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: " فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ " ـ قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا ـ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ "، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " (مسند أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ).

فالناس جميعا سواسية أمام الشريعة لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى – كما ذكر في الحديث - ، ولا تمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم ، فالناس كلهم في القيمة الإنسانية سواء ، " كلكم لآدم وآدم من تراب"والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأمر الناس بشيء دون أن يطبقه على نفسه وبيته ، ففي الحديث : " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

فكل ما يؤدي إلى التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، هو مخالف لما قرره النبي (صلى الله عليه وسلم) في خطبته ، ومصادرة للمبدأ الإسلامي العام ، حيث حدَّد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه بجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدًّا ، وهي التقوى والعمل الصالح ، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

* كذلك من الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع : وحدة الأمة والنهي عن الفرقة والعصبية.

فمِمَّا حذَّرَ منْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  فِي حجةِ الوداعِ الفرقةُ والتنافرُ، والتنازعُ والتدابرُ، فقَدْ قالَ فِي خطبتِهِ (صلى الله عليه وسلم):( أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)[ مسلم، والترمذي واللفظ له].

قالَ العلماءُ: ومعنَى التحريشِ: التَّحْرِيضُ بِالشَّرِّ بَيْنَ النَّاسِ وحملُهُمْ علَى الفتَنِ والبغضاءِ، والإفسادِ والشحناءِ، فلنحْذَرْ مِنْ كُلِّ مَنْ يُفرِّقُ أمرَنَا، ويَبُثُّ الفتَنَ بينَنَا، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (‏رَضِيَ الله عَنْهُ) ‏قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ‏ ‏يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ:" ‏اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ"(رواه الترمذي) ومعنَى وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ: أَيْ أطيعُوا وُلاةَ أمورِكُمْ، فإنَّ طاعتَهُمْ واجبةٌ فِي الدِّينِ، متصلَةٌ بطاعةِ ربِّ العالمينَ.

وقد بيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) في خطبته أن اعتصامنا بالكتاب والسنَّة فيه النجاة مِن كل شرٍّ وسوء، فإذا أراد المسلمون الثبات على الهداية ، فعليهم أن يتمسَّكوا بالقرآن الكريم والسنَّة المشرَّفة ، ففيهما سعادة مَن تمسَّك بهما في الدنيا والآخِرة.

فما أحوج الأمة إلى مثل هذه الدروس التي عرضها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في خطبته التي ودع فيها أمته ، تستلهم منها العبر ، وتستعيد بها كرامتها، وترد من يريد القضاء على كيانها ، ويتجدّد فيها العزم على محاربة كل بغي وفساد.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

خطبة عيد الأضحى المبارك

أولاً: العناصر:

1-   عيد الأضحى رمز للتضحية والبذل والعطاء.

2-   بعض الدروس المستفادة من قصة الذبيح عليه السلام.

3-  الأضحية عبادة وتوسعة.

4-  من فضائل يوم الأضحى.

ثانيًا : الأدلة :

    الأدلة من القرآن:

1-    قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].

2-    وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات: 101 - 107].

3-    وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[الكوثر].

4-    وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32].

5-    وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج: 37].

 الأدلة من السنة والآثار:

1- عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ – يعني اليوم الذي يليه- ) (سنن أبي داود ).

2- وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا بَقِىَ مِنْهَا؟ ). قَالَتْ مَا بَقِىَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قَالَ:  ( بَقِىَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا ) (سنن الترمذي ).

3- وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لاَ تَأْكُلُوا لُحُومَ الأَضَاحِىِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ ) ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ لَهُمْ عِيَالاً وَحَشَمًا وَخَدَمًا فَقَالَ: (كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَاحْبِسُوا أَوِ ادَّخِرُوا ) (متفق عليه).

4- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ثُلُثٌ لاَِ هْلِك، وَثُلُثٌ لَك، وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ ) (المحلى لابن حزم ).

ثالثًا: الموضـــوع

هذا يوم عيدنا الأكبر،  عيد التضحية والبذل والعطاء، التضحية بكل شيء في سبيل مرضاة الله عز وجل، التضحية بالنفس والمال، التضحية بالأهل وبكل شيء، فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يضحي بكل شيء في سبيل دينه وعقيدته ، أخرج من وطنه الذي يحبه فحب الأوطان فطرة في النفوس، هجر وطنه بعد صراع بينه وبين قومه، وبعد أن عانى من أبيه نفسه ما عانى، بعد رفقه به غاية الرفق في دعوته، وحاول بكل سبيل أن يستميله إلى طريق الله عز وجل قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:41 - 44]، ثم يبلغ الأدب والرفق وحسن التأدب مع الأب غايته حين يقول لأبيه:{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم: 45] لم يقل له : إنك كافر جاحد وإن مصيرك العذاب ، ولم يقل: ستعذب في النار .. لا ، بل قال: إني أخاف أن يمسك – مجرد مسّ ... تخيلوا مدى الرفق والأدب مع الأب على الرغم من كفره !!! ثم إن المقام مقام عذاب ومع ذلك لم يقل: عذاب من الجَبَّار ، وإنما أتى باسم من أسماء الله تعالى فيه رحمة حتى لا يفجع أذن أبيه – منتهى الأدب والبر ؛ لكن كيف كان ردّ الأب الكافر:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم: 64] فهذا ردّ الأب الكافر الذي مات على الكفر.

لكن كيف كان جزاء سيدنا إبراهيم (عليه السلام) ؟! رزقه الله تعالى بولد أطاعه فيما لا يطيع فيه أحد أحدًا في الذبح وإنهاء الحياة كلها قال تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[ الصافات:102] منتهى البلاء وغاية المحنة أن يؤمر الأب بذبح ابنه ؛ ثم مَن الأب ومَن الابن؟! الأب رجل بلغ من الكبر عتيا ورزق ولدا في نهايات العمر ، ثم هو اليوم يؤمر بذبحه! والابن شاب في بداية شبابه بدليل قوله : {فلما بلغ معه السعي ...} في بداية شبابه؟ يعني في السن التي يكون الولد فيها قرة عين لأبيه ويكون الشاب فيها مزهوًا بشبابه ؛ في هذه اللحظة الفارقة في عمر الولد والوالد يؤمر الوالد بذبح ولده... فماذا كان رد الابن؟! { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ياأبتِ ؟! إنها نفس الكلمة الحانية التي كان يقولها سيدنا إبراهيم لأبيه ! حقًا إن الجزاء من جنس العمل؛ كما تدين تدان؛ بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ؛ ما تفعله اليوم مع والديك ستلقاه غدا من أبنائك .

إن الدرس الأعظم في قصة الذبيح عليه السلام هو منتهى الامتثال والاستسلام الكامل والانقياد التام لأمر الله تعالى، امتثال يجعل حرص المسلم على أمر الله تعالى وطاعته أشد من حرصه على نفسه وولده والدنيا وما فيها، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور: 51، 52].

ما أحوجنا أن نستلهم هذه المعاني الإيمانية العظيمة  في زمن بدت تلوح في آفاقه موجات جديدة من الضلال والإلحاد، وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام دروس وعبر يتوجب علينا أن نديم النظر فيها، لقد واجه خليل الرحمن محنًا شديدة، وواجه مهمات جسامًا، لقد وجد نفسه يواجه وحده سيلًا من الإلحاد والضلال، الإلحاد الذي وصل إلى أن يدعي النمرود أنه يحيي ويميت،  قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، يقول ابن كثير رحمه الله: ( وكان  - أي النمرود- طَلَبَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي إنما الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ضَرُورَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهَا، وَهُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ المحاجّ - وهو النمرود-:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، قال قتادة: وذلك أني أوتَى بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عَنِ الْآخَرِ فَلَا يُقْتَلُ، فَذَلِكَ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَلَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ يَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ هَذَا الْمَقَامَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَيُوهِمُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ كَمَا اقْتَدَى بِهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا ادَّعَى هَذِهِ الْمُكَابَرَةَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أَيْ إِذَا كُنْتَ كَمَا تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْوُجُودِ، فِي خَلْقِ ذواته تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إِلَهًا كَمَا ادَّعَيْتَ تُحْيِي وَتُمِيتُ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ؟ فَلَمَّا عَلِمَ عَجْزَهُ وَانْقِطَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بُهِتَ، أَيْ أُخْرِسَ فَلَا يَتَكَلَّمُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ) (تفسير ابن كثير )، لكن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) حين اختلى بربه أراد أن يُريه الله تعالى قضية الإحياء والإماتة رأي العين حتى يعاينَ ما تطمئنُ به نفسه حين يجادل الملحدين قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة: 260]، يقول القرطبي –رحمه الله-: ( ...فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثُمَّ قَطَعَهَا قِطَعًا صِغَارًا، وَخَلَطَ لُحُومَ الْبَعْضِ إِلَى لُحُومِ الْبَعْضِ مَعَ الدَّمِ وَالرِّيشِ حَتَّى يَكُونَ أَعْجَبَ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ الْمُخْتَلِطِ جُزْءًا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، وَوَقَفَ هُوَ مِنْ حَيْثُ يَرَى تِلْكَ الْأَجْزَاءَ وَأَمْسَكَ رُءُوسَ الطَّيْرِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَتَطَايَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَطَارَ الدَّمُ إِلَى الدَّمِ وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ حَتَّى الْتَأَمَتْ مِثْلَ مَا كَانَتْ أَوَّلًا وَبَقِيَتْ بِلَا رُءُوسٍ، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ فَجَاءَتْهُ سَعْيًا، أَيْ عَدْوًا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ ) (تفسير القرطبي).

وعيد الأضحى عيد الأضحية، عيد إخلاص الدين لله عز وجل قال تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، نذبح الأضاحي في هذا اليوم تقربًا إلى الله تعالى، وإنها لدليل على عظيم فضل الله على هذه الأمة، فالأضحية ذبيحة توسِّعُ بها على نفسك وأهلك ومن حولك، ومع ذلك هي قربة وعبادة تؤجر عليها الأجر العظيم، إن الأضحية شعيرةٌ من شعائر الله واجبٌ تعظيمها كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32]، وسنة من سنن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ينبغي الالتزام بها، وإحياؤها بالعمل بها، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته، ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه، ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئًا، ولا تختار في ما تقدمه لربها هيئةً ولا طريقةً لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم، ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء، ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعةً ملبيةً وافيةً مؤدية مستسلمةً لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام، وهكذا تكون التكاليف الشرعية تربية وتأديبًا للعباد لا طلبًا للمشقة عليهم.

          والمسلم  بذبحه الأضحية يعبر عن ذبحه شهواته وتضحيته بحظوظ نفسه تقربًا إلى الله تعالى، فالأهم ليس اللحم والدم ولكن التقوى المُسْتَكِنَّة في القلب، التقوى التي يريد الله تعالى أن يربي العباد عليها من خلال العبادات التي يشرعها لهم، فهي التي تدفعهم لكل خير، وتمنعهم عن كل شر، وتأخذهم إلى تحري مرضاة الله تعالى،  يقول الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج: 37]، يقول الزمخشري: والمعنى :( لن يُرضى المضحون والمقرِّبون ربَّهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حل ما قرب به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك ، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم ) (الكشاف).

          وإذا كانت الأضحية قد شرعت توسعة على النفس والأهل والأقارب والمساكين فإن للمضحي أن يأكل منها ما شاء، ويدخر ويتصدق بما شاء فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:  (كُلُوا وَأَطْعِمُوا وادَّخِرُوا )، لكن يستحب أن يقسمها ثلاثًا، فيأكل هو وأهله ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: ( الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا ثُلُثٌ لأََهْلِك، وَثُلُثٌ لَك، وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ )، وعلينا أن ندرك أن الصدقة منها هي الأبقى والأنفع لصاحبها في الآخرة، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا بَقِىَ مِنْهَا؟ ). قَالَتْ مَا بَقِىَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قَالَ ( بَقِىَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا ).

وينبغي أن تكون الأضحية مظهرًا من مظاهر عظمة الإسلام ونظافته وطهارته، فلا ينبغي الذبح في مداخل العمارات والبيوت وفي الشوارع والأزقة وأمام المساجد والمستشفيات ونقل العدوى، والمناظر المشينة المسيئة للإسلام والمسلمين، كيف وقد حرم الإسلام الضرر، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : (لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضْرَارَ )، كما أمرنا بتطهير الطرقات وإبعاد الأذى عنها وعدَّ ذلك من شعب الإيمان، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (صحيح مسلم).

فهذا يوم ينبغي أن يكون رحمة كله وخيرًا كله وجمالاً وعظمة، إنه أعظم الأيام، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ – يعني اليوم الذي يليه- )، وفي هذا اليوم العظيم وقف نبيُّنا محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) في منًى خطيبًا في الحجَّاج، فذَكَر تعظيم مكان الحج، وتعظيم زمانه، وتعظيم يومه الأكبر الذي هو يوم النحر، وتعظيم أمر الدماء والأعراض والأموال؛ روى جَابِرٌ (رضي الله عنه) قال: خَطَبَنَا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم النَّحْرِ، فقال: (أيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟)، فَقَالُوا: يَوْمُنَا هذا، قال: (فأي شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟)، قالوا: شَهْرُنَا هذا، قال: (أي بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟)، قالوا: بَلَدُنَا هذا، قال: (فإن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، هل بَلَّغْتُ؟)، قالوا: نعم، قال: (اللهم اشهد).

          فسبحان من جعل حرمة الدم كحرمة بيته الحرام، فهلّا اتخذنا من هذه المناسبة الكريمة فرصة للتآلف وتعظيم معاني الأخوة؟! هذه الأخوة فرضها الله تعالى علينا وربط بها بين جميع المؤمنين، يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، والآية التي بدأت بإثبات الأخوة بين المسلمين ختمت بقوله "وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" أي: اتقوا الله فيما ذكر في هذه الآية من الأخوة لعلكم ترحمون، فتأمل كيف علق الله تعالى الرجاء في رحمته على مراعاة الأخوة!! وكأن الله تعالى يقول لنا: لن أرحمكم حتى يرحم بعضكم بعضًا، وليعلم كل واحد منا أن أحدًا لن يدخل معه قبره، لا الجماعة الفلانية ولا الزعيم الفلاني ولا الحزب الفلاني، ستقف وحدك أمام ربك ليحاسبك فاتق الله فيما بينك وبين المسلمين من أخوة، واستثمر الفرصة العظيمة هذه الأيام الطيبة المباركة.

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

خطبة أخرى في عيد الأضحى المبارك  

أولا: العناصر:

1.    مكانة الأعياد في الإسلام

2.    الأعياد فرصة للتواصل والتكافل

3.    فضائل عيد الأضحى وما يستحب فعله فيه

4.  الأضحية من شعائر الإسلام

   ثانيا: الأدلة:

           الأدلة من القرآن الكريم

1.   قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

2.   وقال تعالى:  {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة- آية 3]،

3.   وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]،

4.    وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة:203].

5. وقال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ *  رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ *  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ *  كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *  إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ{ [ الصافات: 99 ـ 111].

6.  وقال تعالى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

7.  وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]

            الأدلة من السنة النبوية

1.  عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِى وَقَالَ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ ( دَعْهُمَا ) فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَإِمَّا قَالَ ( تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ). فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِى وَرَاءَهُ خَدِّى عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ ( دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفَدَةَ ). حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ ( حَسْبُكِ ). قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ : ( فَاذْهَبِى) ( رواه مسلم ).

2.  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):  أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ) ( رواه أحمد وابن خزيمة).

3.  عَنِ الْبَرَاءِ (رضي الله عنه)  قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ فَقَالَ إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا). (رواه البخاري).

4.  وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه )، عن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) .( متفق عليه).

5.  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى أَنْ لاَ تَصُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ). (رواه النسائي في السنن).

  ثالثا: الموضوع:

الأعياد في الإسلام شعيرة من الشعائر الهامة ، شرعها الله - عز وجل - لتتحقق معاني البر والرحمة والتكافل والتوادد في المجتمع الإسلامي ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

فالأعياد تعتبر منهج عبادة وعمل، فرح وشكر ، عفو وإخاء ، يتبادل فيها المسلمون  التهاني ، وتقوى الروابط الاجتماعية، وتنمو القيم الأخلاقية ، وتعلو قيم التآخي والتعاون والجود والكرم والتراحم والتعاطف  ، والفرح فيها بالمشروع مشروع ، فعَنْ عَائِشَةَ ( رضي الله عنها ) قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِى وَقَالَ : مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ : (دَعْهُمَا ) فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَإِمَّا قَالَ ( تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ). فَقُلْتُ : نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ : ( دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفَدَةَ ) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ : ( حَسْبُكِ). قُلْتُ : نَعَمْ.   قَالَ : ( فَاذْهَبِي ). ( رواه مسلم ). قال الحافظ ابن حجر: وفيه مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة ، وأن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين.

والأعياد في الإسلام ظاهرها الزينة والمتعة والفرح واللهو واللعب ، وباطنها العمل والشكر  للمنعم المتفضل المنان ، واستثمار الأوقات في طاعة الله (عز وجل) ، فكل يوم لا يعصي الله فيه فهو عيد ، كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة الله ، وذكره ، وشكره فهو له عيد .

وجعل الله (عز وجل) الأعياد دفعة روحية ومادية للمؤمنين لمواصلة الأعمال الصالحة ، وتبعدهم عن السآمة والملل.

          والعيد يوم فرح وسرور للمؤمن بإكمال طاعة ربه ورجاء مغفرته ، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلا لغفلته عن الله ، فالغافل يفرح بلهوه وهواه ، والعاقل يفرح بمولاه .

     إن الأعياد في الإسلام ليست اتباعا للشَّهوات ، أو انجرافا خلف النَّزوات، أو انتِهاكًا للمُحرَّمات أو اعتداء على الحرمات.، ولكنها طاعة تتبع الطاعات ، تجلب لأهلها الحسنات ، وتمحو عنهم السيئات ، ويفوزون بها برضا رب الأرض والسموات.

وعيد النحر هو اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحج الأكبر المذكور في قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3]، وهو أكبر العيدين وأفضلهما ، وفيه يواصل الحاج أعمال الحجِّ فيرمي جمرة العقبة ، وينحر ، ويحلق أو يقصر، ويطوف ويسعى ، وهو أفضل أيام السنة لما فيه من خير وبركة ، فَعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):  أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ)   ( رواه أحمد وابن خزيمة).

وفيه شرعت الأضحية ، فعن الْبَرَاء بن عَازِبٍ (رضي الله عنه)  قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) : (إِنََّ أَوَّلَ ما نَبْدَأُ في يَوْمِنَا هذا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذلك فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قبل الصَّلاةِ فَإِنَّمَا هو لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ، ليس من النُّسْكِ في شَيْءٍ). (متفق عليه ) ، وعن أم المؤمنين  عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) : )أَنَّ رَسُولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ في سَوَادٍ ، وَيَبْرُكُ في سَوَادٍ ، وَيَنْظُرُ في سَوَادٍ، فأتى بِهِ ليضحيَ بِهِ ؛ فقال لها : يا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ. ثُمَّ قال: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ؛ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ ، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ، ثُمَّ قال: بِسْمِ الله، اللهم تَقَبَّلْ من مُحَمَّدٍ ، وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ) (رواه مسلم) .

والأضحية شعيرةٌ من شعائر الله واجبٌ تعظيمها كما قال تعالى:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وسنة من سنن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ينبغي الالتزام بها للمستطيع.

شرعت إحياء لذكرى الخليل وولده ( عليهما السلام ) ولتكون وسيلة وسببا في التوسعة على النفس والأهل وإكرام الجيران والأقارب والأصدقاء والتصدق على الفقراء والمساكين، وشرعت أيضا من باب شكر الله والتحدث بنعمه المتعددة.

          ويشترط فيها أن تكون من النعم وهي الإبل والبقر والغنم والماعز ، وأن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية فهي  قربة يتقرب بها العبد إلى الله (عز وجل) ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً ، فعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) : (أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِيِّ : الْعَوْرَاءُ ، الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ ، الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَرْجَاءُ ، الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا ، وَالْكَسِيرَةُ ، الَّتِي لاَ تُنْقِي) ( رواه ابن ماجة). ويستحب للمضحي أن يذبح بنفسه أضحيته ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ذَبَحَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَأَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ : ( إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ )، (ثُمَّ ذَبَحَ). (رواه أبو داوود) ، ويجوز له أن ينيب غيره إن لم يكن يحسن الذبح.

    ولا تذبح إلا بعد صلاة العيد ، قال تعالى :{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، و قال جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ (رضي الله عنه ): شَهِدْتُ الْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَلَمْ يَعْدُ أَنْ صَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحِيَّ قَدْ ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَالَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) (رواه مسلم).

ويجوز للمضحي أن يأكل من أضحيته ويتصدق منها على المسلمين من الفقراء والمحتاجين ، ويهدي إلى الأقارب والأصدقاء والجيران وإن كانوا أغنياء ، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج: 27] ، وعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله (رضي الله عنهما) عَنِ النَّبِىِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ : ( كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا ) (رواه مسلم).

ويُشرع التكبير في هذه الأيام المباركة ، دبر الصلوات  وفي كل وقت إلى غروب شمس يوم الثالث عشر، وهي أيام عيدٍ وأكلٍ وشربٍ وذِكْرٍ لله تعالى، لا يحلُّ صيامها، ولا أن تُنْتَهَك حرماتها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى أَنْ لاَ تَصُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ. (رواه النسائي في السنن).

ويشرع التكبير من فجر يوم عرفه إلى عصر آخر أيام التشريق ، قال الله سبحانه و تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203 ]، وعن ابن عمر( رضي الله عنهما)  كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجتهد بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يخرج الإمام ، وعن ابن شهاب  الزهري ( رضي الله عنه ) قال: (كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا).

ويشرع أيضا  تبادل التهنئة بالعيد ، فعن جبير بن نفير (رضي الله عنه )، قال: (كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)  إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض، تُقُبِّل منا ومنك). .

وفي يوم العيد تتأكد صلة الأرحام فهي من أعظم الواجبات، وأفضل الطاعات، وقطيعتها من أعظم الذنوب وأخطر الآفات ، فبسببها يزيد الله في العمر، ويبسط في الرزق، ويصل من وصلها، وهي من أسباب المحبة بين الأهل والأقارب. فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) عن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) ( متفق عليه) ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أن النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  قَالَ : (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ ) ( رواه الترمذي ).

أما قطيعة الرحم فهي من أكبر الكبائر ، رتب الله تعالى  عقوبة الطرد من رحمته لمن قطع رحمه، قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد:23] ، وقد قال علي بن الحسين لولده:     يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواطن،  الأول: قوله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد:23] ، والثاني: قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]. والثالث: قوله وتعالى: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].

فما أجمل أن يتقرب العبد من مولاه  يوم العيد بصلة رحمه، ابتغاء لمرضاته وراجيا ثوابه وفضله جل جلاله  ، وإن كان في النفس شيء تجاه الأرحام  فالعفو والصفح مطلوبان ، إذ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ، كما أخبر النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم) .

وفي العيد يجب ألا  ينسى المسلم قيمة التكافل فيرحم القويُّ الضعيفَ ، ويعطف الغنيُّ على الفقير ، ويعطي القادرُ ذا الحاجة ، فالإسلام يحرص على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخير وفعل المعروف ، وفرحة العيد وبهجته لن تكتمل إلا بالتكاتف والتعاون والتواصل ونبذ الفرقة، والتسامح والعفو وشعور جميع أفراد الأمة بهذه الصلات التي تجمع بينهم داخل المجتمع الواحد ، هكذا تكتمل فرحتنا بالعيد وهكذا يكون شكرنا لله سبحانه على تفضل به علينا من نعم ومنن ، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. وذلك كله بغرض  الوصول إلى المجتمع المتحاب المتماسك الذي شبهه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأنه كالجسد الواحد ، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ  ( رضي الله عنه ) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ( رواه البخاري في صحيحه) .

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

ماذا بعــد الحـــج ؟

     أولاً- العناصر:

1-شكر الله تعالى على توفيقه لأداء العبادة.

2-رجاء قبول العبادة وعدم العجب.

3-المداومة على العمل الصالح وفتح صفحة جديدة مع الله تعالى.

4-المداومة والامتثال لأمر الله تعالى استلهامًا لمعاني الحج .

5-استصحاب السلوك القويم بعد الحج .        

6-بين العبادة والسلوك  .

    ثانيًا- الأدلـة:

     الأدلة من القــرآن:

1-يقول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ *وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 200 - 202].

2-ويقول تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152].

3-ويقول تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الحج: 36].

4-ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

5-ويقول تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

6-ويقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

7-ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون: 57، 61].

8-ويقول تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر: 98، 99].

9-ويقول تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 30، 32].

10-ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }[الأنفال: 20، 21]. 

الأدلــة من الســنة:

1- عَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ (رضي الله عنه) وَهُوَ فِى سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِكَذَا أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِكَذَا قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِى قَلْبِى أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ : فَقَبَضْتُ يَدِى ، قَالَ : (مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟). قَالَ: قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: (تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟) قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) (صحيح مسلم).

2- وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ» فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»[سنن أبي داود].

3- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه).

4- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ) (متفق عليه).

5-وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ)(صحيح البخاري).

6- وعَنْ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ)(سنن ابن ماجة).

7- وعن علي (رضي الله عنه) قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز  وجل يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[لطائف المعارف لابن رجب].

8- وقيل للحسن البصري (رحمه الله) : "الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. و قيل له: جزاء الحج المغفرة ؟ قال: آية ذلك : أن يدع سيء ما كان عليه من العمل الحج المبرور"[لطائف المعارف].

     ثالثًا :   المـوضـــــوع

          إن أي عبادة سواء أكانت حجًا أم صلاة ، أم زكاة هي في الواقع نعمة تستحق الشكر ،  يامن نلتم من الرحمات وارتدتم أرض الحرمين المباركات، طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلًا، وهنيئًا لمن عظَّم الشعائر واستنارت بسعيه وطوافه البصائر، يا من وقف على عرفات فتجددت معالم الإيمان في قلبه حين عاين صورة ما أشبهها بيوم الحشر، يا من رمى الجمرات وهزم إبليس اللعين ومعها هزم وساوس النفس فقويت روحه واشتدت عزيمته، يا من ارتاد أرض الأنبياء وتذكر تاريخ الصالحين والأتقياء، إنها رحلة عظيمة ومنة كريمة من الله العلى القدير، أن يُتِمَّ الله عليك نعمته وتؤدى فريضة الحج قبل فوات العمر لهى نعمة كبرى تستوجب شكر المنعم جل وعلا على تمام هذه النعمة وأداء هذه الفريضة التي لن يكتمل ثوابها ويَعْظُم خيرها إلا بشكر الله جل وعلا القائل {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 152] ، وشكر الله عز وجل على أداء الطاعة بأن يظهر أثر النعمة على اللسان ثناء واعترافًا بفضل الله تعالى وتوفيقه وإحسانه وإسباغ نعمه،وذلك بكثرة ذكره والثناء عليه سبحانه ، وأن يظهر أثر النعمة على القلب شهودا ومحبة للمنعم جل جلاله، فلابد وأن يتعلق القلب بحب الله تعالى الذي منَّ فأفضل وأعطى فأجزل،ووفق لأداء هذه الفريضة وأعان عليها ، وأن يظهر أثر النعمة  على الجوارح طاعة لله سبحانه وانقيادًا لأوامره واجتنابًا لنواهيه، هذا الشكر على الطاعة يُثْمِر خيرًا وبركة في النفس والعمل ويجعله مقبولًا ومأجورًا قال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7] فشكر النعمة يزيدها ويُثََمِّرها، وكفر النعمة وجحدها يُنْقِصُهَا ويمحوها.

والنبي (صلى الله عليه وسلم) وجه صحابته الكرام (رضوان الله عليهم) إذا فرغوا من العبادة أن يلتزموا شكر الله على الطاعة ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: ( يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ) فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ، قَالَ: (يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ) فَقَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).

ولقد تكرر في القرآن الكريم ختم آيات الشرائع والأحكام بذكر الله تعالى وشكره عليها، ففي آيات الصيام مثلاً: {...وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185]، وفي آيات الحج: {...وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } [البقرة: 198]، فينبغي على من منّ الله عليه بالتوفيق لأداء هذه الفريضة أن يشكر الله تعالى مكثرًا من ذكره متمثلًا قوله سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 200 - 202].

إن الحج فريضة عظيمة القدر كثيرة الثواب  فمن أداها  وتحمل مشقتها وجد لذتها في قلبه وانعكس أثرها في حياته تواضعا لله تعالى وتذللًا له فلا يداخل نفسه كبر ولا ينازع طاعته عُجب ، فما من طاعة يؤديها المؤمن بإخلاص وصدق نية إلا وتدفع به إلى طاعة أخرى وعبادة أسمى، فلا يزال يرتقى من عبادة إلى عبادة ومن طاعة إلى طاعة حتى يبلغ درجة الإحسان وإن هذا من علامات قبول الطاعة ، كما أن المؤمن لا يُعجب بعمله، ولا يغتر بكثرته إذْ لا ندرى مَنْ المقبول عمله فنهنئه ومَن المردود عمله فنُعزيه ، ولقد بين الله تعالى من صفات المؤمن عدم إعجابه بعمله ووقوفه بين مقام الخوف الرجاء ، الخوف من عدم قبول العمل ، والرجاء والطمع في قبوله ونيل ثوابه قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 57، 61]، وقيل للحسن البصري (رحمه الله) : "الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. و قيل له: جزاء الحج المغفرة ؟ قال: آية ذلك : أن يدع سيء ما كان عليه من العمل "، وعن علي (رضي الله عنه) قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا قول الله عز و جل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.فالمؤمن لا يهتم  بكثرة العبادات وكثرة النوافل بقدر ما يهتم بقبول العمل من عدمه ، وبقدر ما ينعكس على حياته من هذه العبادات .

ولقد ربى الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) على السعي والاجتهاد في الطاعة فلا يستصغر عملا فيتركه ولا يستكثر عملا فيعجبه قال تعالى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6، 7] ، ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن العُجب من المهلكات ومحبطات الأعمال، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (الْمُهْلِكَاتُ ثَلاثٌ: إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبِعٌ) [مسند البزار].

وإذا كان المؤمن قد وفقه الله تعالى وأدى فريضة الحج فليس ذلك نهاية الطاعات ، بل إن لديه الكثير من الأعمال الصالحة التي تعدل ثواب الحج والعمرة وسائر العبادات كالسعي في مصالح العباد وكالنوافل من الصلاة والصيام وكفالة الأيتام وعيادة المرضى  وغير ذلك مما يرفع قدره ويعلى منزلته عند الله تعالى ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )(صحيح البخاري).

          فعلى المؤمن أن يجتهد فى الطاعة ويداوم على صالح الأعمال ويرجو من الله تعالى القبول، ولقد كان حال الصحابة (رضي الله عنهم) بعد أداء العمل خوفًا وإشفاقًا ووجلا، وقد وصف الله تعالى حالهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون: 60، 61]، يقول ابن كثير (رحمه الله):"..أَيْ هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا... وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أَيْ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ وهم خائفون وجلون أَلا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: "لا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ"[تفسير ابن كثير].

لقد عاد الحاج من حجه مغفورًا ذنبه إن شاء الله مأجورًا على عمله مشكورًا على سعيه، فليحذر ممن يترصد له ليفسد حجه ، فليخالف النفس والشيطان  وليعصهما ، ولنفتح جميعا صفحة جديدة مع الله تعالى، صفحة يملؤها حب الله وحب الناس وحب الكون والحياة، ولنحاسب أنفسنا على أعمالنا صغيرة أم كبيرة ، فلا تحقرن صغيرة  إن الجبال من الحصى ، ولا تستعظمن كبيرة فإن عفو الله أعظم ، ولا نُسَوِّفُ في الأعمال الصالحة فنقول: سأفعل سأتوب سأعود. بل بادروا بالأعمال الصالحة وأكثروا من الاستغفار فقد رجعتم من جهاد لا شوكة فيه إلى جهاد أعظم وعمل متواصل إنه جهاد النفس والشيطان.

       فأنت أيها الحاج انتهيت بفضل الله تعالى من فريضة يُكفر الله تعالى  بها  الذنوب  ورجعت مطهرا من كل إثم كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، فلعلك ممن شملهم الله تعالى بالمغفرة، فلا تدنس صفحة طهرها الله لك، ولا تسود قلبًا بيضه الله لك بالمغفرة، جاءت الفرصة فلا تضيعها.

      لقد رأينا في الحج كيف يكون الامتثال لأمر الله تعالى والانقياد لحكمه، رأينا ذلك في الطواف ببيت الله الحرام وفى تقبيل الحجر الأسعد وفى رمى الجمرات وفى السعي بين الصفا والمروة، فلا يزاحم  الحاج الناس ولا يفسق ولا يرفث ويعظم شعائر الله  تعالى، والحاج بعد عودته لا بد أن يستصحب هذه المعاني  في حياته وسلوكياته ، فيقف على أوامر الله طاعة وينقاد لحكمه، يأتمر بأمر الله وينتهي عند نواهيه، يخالق الناس بخلق حسن ويعاملهم  معاملة صالحة، يحلم مع الجاهل ويتورع عن الحرام ، ويسعى في مصالح العباد والبلاد ، إن الحج ليس لقبًا يمنح للحاج وإنما هو امتثال لأوامر الله تعالى يدور معها حيث دارت بحثا عن مرضاة الله والفوز بثوابه، إذ السعادة في الدارين تنبني على حسن الامتثال لأمر الله تعالى  وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71] والشقاء والتعاسة تنبني على مخالفة أوامر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].

 

*     *     *

 

 فهرس الموضوعات

 

الـديـــن المعــامـلــــة

العـناصـر  :

1 -  المقاصد العليا للشريعة الإسلامية .

2-  ثمرات العبادات في الإسلام .

3-  فضائل المعاملة الحسنة والسلوك الطيب في الإسلام .

4-  منهج الإسلام السمح في البيع والشراء.

5-  الانضباط الأخلاقي: الأمانة ، الصدق ، الوفاء بالوعد.

6 - دعوة الإسلام إلى المعاملة الحسنة (مع الأطفال و الخدم و الأعداء ).

7-  رسائل لأبناء الأمة ( الطبيب- المهندس – المدرس – العامل - الصانع ......).

8-  أثر المعاملة الحسنة على الفرد والمجتمع .

الأدلـــــة من القــرآن :

1- قال تعالى :{ َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] .

2- وقال تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199].

3- وقال تعالى:{وقُلْ لعبادي يقولوا الَّتي هيَ أحسنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بينَهُم إنَّ الشَّيطانَ كان للإنسانِ عدوّاً مُبيناً }[ الإسراء : 53] .

4- وقال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ المؤمنون : 1-11] .

5- وقال تعالى :{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ لقمان 17]  .

6- وقال تعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [ آل عمران: 195] .

7- وقال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب: 72]  .

8- وقال تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح : 29] .

9- وقال تعالى :{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء: 34].

الأدلـــة من الســـنة : 

1-عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ ) فقالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: ( إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة؛ بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ ـ قبل أن يُقْضى ما عليه ـ أُخِذَ من خطاياهم؛ فطُرِحَتْ عليه ، ثم يُطْرَحُ في النار) ( أخرجه مسلم) .

2- ورُوي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ،غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ : (هِيَ فِي النَّارِ). قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ – القطع من الجبن- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد ).

3- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا بِلَعَّانٍ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ ) (مسند أحمد ) .

4- وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَلَّ مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلا  قَالَ : ( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ ) ( صحيح  ابن حبان ) .

5- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) ( سنن أبي داود ) .

6- وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ ) ( الإمام أحمد في مسنده ).

7-  وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) ( صحيح مسلم) .

8- و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وحُسْن الخُلُق) ( الإمام البزار في مسنده ).

9- وعن جابر (رضي الله عنهما): قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى ، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى ، سَمْحًا إِذَا قَضَى) (صحيح ابن حبان ).

10- وعن عمر بن أبي سلمة ، قال: كنت غلامًا في حِجْر رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وكانت يدي تطيش في الصحفة ؛ فعلَّمه رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في رفق ولين كيف يأكل فقال له: ( يا غلام سم الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك ) ( صحيح البخاري).

الموضـــــــــوع  :

إن الشريعة الإسلامية السمحة لها مقاصد وغايات تحقق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة ليتمكن من خلافته في الأرض، وقد جاءت الأحكام الشرعية دليلا ومرشدا  لتساعده في تحقيق  مصالحه، وتجلب  المنافع له، وتدفع عنه الشرور  و المضار ، فتدلّه  على كل  خير، وتهديه إلى الطريق المستقيم. 

وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها الشرع، وأوجد لها ما يكفل إيجادها والحفاظ عليها وما من مفسدة في الدنيا والآخرة  إلا وحذّر منها وأوجد لها بديلا ، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: ( اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة ، أو هما معًا ، تفضلاً منه على عباده)، ثـم قال: ( وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغيـر فائدة عاجلة ولا آجـلة، لكنّه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه) .

ومن مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على الكليات الخمس التي نادى بها رسل الله الكرام (عليهم السلام ) ووجوب المحافظة عليها ، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض، ومنها اليسر ورفع الحرج والمشقة .

إن الغاية المنشودة والثمرة المرجوّة من الطاعات والعبادات  في الإسلام هي تزكية النفوس  البشرية وتقوية صلة الإنسان بربه وخالقه ، وبمن يعيشون معه في مجتمعه ، لتؤتي أكلها إذا صدقت النية ،  فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال تعالى:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [ العنكبوت : 54] .

وبالزكاة تتآلف  القلوب  وتتطهر النفوس والأموال ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[ التوبة: 103].

وبالصوم يتدرب المسلم على الصبر ، وبالحج ومناسكه تغرس الفضائل في قلوب المسلمين  وتدعوهم إلى محاسن الأخلاق ، قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ  فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ  وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ  وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى  وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:  197 ] ، فالعبادات والطاعات لها ثمرات جليلة  حين تجتمع  مع المعاملة الحسنة والسلوك الطيب .

ومن تتبع نصوص القرآن الكريم وسنّة النبي (صلى الله عليه وسلم )  يجد أنها اعتنت بمعاملة الناس معاملة حسنة،  ولننظر إلى الآية الكريمة التي جمعت أصول فضائل المعاملة الحسنة   قال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .  فجمعت الآية الكريمة  أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلّق بمعاملة الإنسان مع الغير : 

الأول :  الأخذ بالعفو ، وهو السّهل اللين  من أخلاق الناس وأعمالهم، دون تكليفهم بما لا يطيقون ، وأن يصل الرحم المقطوعة ، وأن يرفق بالمؤمنين ،  كما ورد عن أنس بن مالك عن النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلم ) : ( يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا) ( متفق عليه ) .

والثاني :  الأمر بالعرف وهو المعروف والجميل من الأفعال ، وهو كل ما أمر به الله تعالى، واستحسنه أهل الخير ، فيشمل كل  خير من طاعة وبرّ وإحسان إلى الناس. ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة .

والثالث  :  الإعراض عن الجاهلين ويكون هذا في عدم مقابلة السّفهاء والجهّال بمثل فعلهم، والابتعاد عن معاشرتهم ، والصّبر على سوء أخلاقهم ، عملا بقوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }[الفرقان: 63 ] .

ولما  نزل  قوله تعالى :{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال عكرمة :  قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا جبريل، ما هذا ؟ قال: إنّ ربّك يقول: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك) ، فجاء الإسلام ليهذب السلوك والأخلاق ويسمو بالنفوس إلى درجات الرقي والتحضر ، ويدعو إلى حسن التعامل مع الآخرين ويعد ذلك من أعظم العبادات والقربات إلى رب الأرض والسموات.

ولما كان الدين المعاملة في القول والفعل والأخلاق  ، فقد فكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) ألين  الناس قولا ، وأطهرهم  فعلا وخُلقًا، فأظهر الفهم  الصحيح للإسلام سلوكًا عمليًا  عرفنا   أثره  في معاملته للناس ومخالطته لهم، فكان نِعم القدوة  والأسوة كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب:21]. وقد أمرنا باتباعه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يحسن إلى الناس قولا وعملا ، وأن يتخير من الكلمات أحسنها ، ومن الجمل أفضلها  ، حتى ينشر المودة والألفة بين أهله وأصدقائه ومجتمعه .

فالقول الحسن اللطيف  يفتح مغاليق القلوب ، ويورث المحبة والتقدير ، ويدل على سمو نفسه ،  وعفة لسانه ،  قال تعالى: { وقُلْ لعبادي يقولوا الَّتي هيَ أحسنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بينَهُم إنَّ الشَّيطانَ كان للإنسانِ عدوّاً مُبيناً }[ الإسراء : 53] .

وعن عَبْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ ) (رواه البزار) .

           إن المعاملة الحسنة والأخلاق - وهي سلعة نادرة - تكشف معدن الإنسان وتظهر سمو فكره ، والناس لا يحبون العابد المتكبر ، وإنما يحبون البسّام الهيّن  المتواضع ، وهذه صفات نبينا   التي جمع بها من حوله قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [ آل عمران :159] .

وإذا تتبعنا  أخبار المسلمين المخلصين  الأوائل وجدنا  أن عامة من دخلوا في الإسلام ليس إلا بسبب خُلُق رأوه من مسلم فأقرَّت قلوبهم قبل عقولهم أن الإسلام هو دين الله الحق فدخلوا فيه أفواجًا .  وقد حذرنا رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من سوء الخلق والمعاملة السيئة للناس حتى ولو كنت عابدًا زاهدًا فهي تضيع الأجر والثواب .

إن دين الإسلام هو دين السماحة واليسر في جميع المعاملات ، وقد أثنى (نبينا صلى الله عليه وسلم ) على من كان سمحاً في بيعه وشرائه ؛ فعن جابر (رضي الله عنه): قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى ، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى ، سَمْحًا إِذَا قَضَى) ( رواه ابن حبان ).

فيجب على المسلم ألا يستغل حاجة الناس وفقرهم وشدة حاجاتهم ، فهذا يـُعد من التعسير والتضييق على الناس مما يوغر الصدور ، ويزيد الأحقاد ، وينشر الكراهية والبغضاء وهذا ما لا يريده الإسلام ولا تقبله النفوس المؤمنة ، وليعلم الرجل السمح في بيعه وشرائه أن الله   سيرحمه في الدنيا والآخرة ، فعن ابن مسعود ( رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال: ( ألا أخبركم بمن يحرم على النار ؟ تحرم النار على كل قريب هين سهل) ( أخرجه الترمذي) .

بهذا يكون المسلم  قريباً من الناس فإذا  أحب الله تعالى عبدًا  جعل محبته في قلوب الخلق ، وكل هذا راجع إلى حسن المعاملة وحسن الخلق ، فالإنسان المؤمن يتعامل مع الخَلْق المعاملة التي يجب أن يعامله الناس بها  ، فيُحسّن خٌلُقَه ولا يبتغي من وراء  ذلك إلا  وجه  الله .

          ولكي تكونَ المعاملة حسنة يجب ضبط السلوكيات الأخلاقية ، ومنها الأمانة  التي يجب أنْ يتَّصِف بها المسلم ؛ لأنها من الدِّين، ولثقلها أبَت السماوات والأرض والجبال حَمْلَها وحمَلَها الإنسان، قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }[الأحزاب: 72] .

وقد وَرَد في القرآن الكريم ما يؤكِّد أهميَّة هذا الخُلُق الكريم للرجل  الأمين  في أكثر من موضع، من ذلك على سبيل المثال قولُه  تعالى :{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26] .

كما أمرنا  الله تعالى في كتابه بحفظ الأمانات وأدائها في  قوله تعالى  : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].

          وحذر الله تعالى المؤمنين من الخيانة بكافة أشكالها ، لأن خائن الأمانة  مضيع للحقوق ، ومقطع لأواصر المحبة ، ويلحقه غضب الله تعالى في الدنيا وعذاب الله في الآخرة ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27] .

 وهذا  مما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)  فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَلَّ مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )  إِلا  قَالَ : ( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ ) (أخرجه الإمام أحمد ) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم)  أيضًا : ( أدِّ الأمانة إلى مَن ائتَمنَك، ولا تخن مَن خانَك) ( أخرجه الحاكم في مستدركه).

        ومما يدل على المعاملة الحسنة و انضباط السلوك الصدق في المعاملات  ، فالمسلم  الحق صادق في كل أقواله وأفعاله ، لا خوفًا من عقاب ، ولا هروبا من عذاب ، ولا بحثًا عن مصلحة شخصية ،  ولا مآرب دنيوية .

 ألا فليصدق المسلم مع أخيه ، وقد روي أنّ النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)قال:  ( كَبُرَتْ خيانة أن تحدِّث أخاك حديثًا ، هو لك مصدِّق، وأنت له كاذب ) ( أخرجه أحمد) .

        وصدق قول القائل  :

عـوِّد لســــــانـــك قـــــول الصــــــــــدق تَحْـــــــظَ به       إن اللســـــــــان لمــا عـوَّدْتَ معــــــــتـادُ

ومن الأخلاق التي تكون دليلا على المعاملة الحسنة وانضباط السلوك الإنساني الوفاء بالعهد وهو خلق كريم ، من أخلاق الإسلام  ، كما   قال الله سبحانه وتعالى :{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا }[الإسراء: 34] ، وقال في صفات أهل الجنة : {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32] .

          وإذا نظرنا  إلى سيرة الحبيب  (صلى الله عليه وسلم) لنأخذ موقفًا واحدًا من المواقف العظيمة  في الوفاء بالعهود ، منها :  ما كان قبل غزوة "بدر" حين أخبره حذيفة بن اليمان، : ( أن كفَّار قريش قد أخذوه قبل أن يدخل المدينة هو وأبا حُسَيل، فقالوا : إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عَهْد الله وميثاقه لننصرفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معك يا رسول الله ، ومع أنه كان في أشد الحاجة إلى الرجال ليقاتلوا معه ضد المشركين، وبالرغم من كلِّ هذا، قال لهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (انصرفَا نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعين الله عليهم) (صحيح مسلم). إن كان هذا هو وفاء المسلمين لغير المسلمين  ، فكيف يكون وفاءُ المسلمين للمسلمين ؟! .

لقد دعا الإسلام إلى المعاملة الحسنة مع كل أعضاء المجتمع أطفالا وشيوخًا ونساء ورجالا ، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم )  يحسن معاملة الأطفال ويفيض عليهم من حنانه ويحبهم ويقبلهم ويداعبهم ويلاعبهم ويسأل عنهم ، ويسلم عليهم، ويمسح على رؤوسهم ويضع يده الشريفة على خدهم،  ويدعو لهم ويضعهم في حجره  ، بل ويستمع إلى أحاديثهم  ، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه ابن عباس وعن يساره الأشياخ - كبار الصحابة -  فقال لابن عباس( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) فقال : لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا ، قال: ( فتله) دفعه إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في يده (صحيح  البخاري) .

ومن جمال سيرته (صلى الله عليه وسلم) معاملته الحسنة مع الخدم  فعن عائشة (رضي الله عنها )  قالت : (ما ضرب رسول الله بيده خادمًا له قطّ، ولا امرأة، ولا ضرب رسول الله بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين أمرين قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما إلا أن  يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم ، ولا  انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله (عز وجل) فينتقم لله) (صحيح  البخاري) .

وقال أنس (رضي الله عنه) : ( خدمت النبي (صلى الله عليه وسلم) عشر سنين بالمدينة وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهى صاحبي أن أكون عليه ما قال لي مرة أف قط ، وما قال لي لما فعلت هذا ولم لم تفعل هذا ) (سنن  أبو داود).

          ولما كانت حقيقة الدّين تتجلّى عمليًّا في إحسان معاملة النّاس، فإنّ مفهوم   المعاملة واسع يشمَل كلّ علاقات المسلم وغير المسلم ، فحثنا الإسلام على التعامل مع العدو معاملة حسنة فكان صلى الله عليه وسلم  يتعامل  مع أعدائه وهو متمكّن منهم، فلم نعرف في السيرة والتاريخ  أرحم منه مع أعدائه رغم ما كان يلاقيه منهم من الأذى فكان مثالا  للأخلاق الحسنة ،  ماذا أقول  عن رجل هدى الله به الحيارى  ؟ ! فالدين المعاملة أيها الطبيب ، فكن رحيمًا بالمرضى وخفف عنهم الآلام ولا تثقل عليهم وعليك بطيب الكلام وما يبث الأمل في النفوس و الرجاء في  القلوب .

الدين المعاملة أيها المهندس، فكن مخلصًا في عملك وتعامل مع الناس بأمانة وصدق ولا تقلق من الرزق فهو مكتوب مع الأجل.

الدين المعاملة أيها المسلم ، فلتكن أخلاقك حسنة مع الناس ، فعنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ لَهُ : ( اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) (مسند الإمام أحمد).

الدين المعاملة أيها المدرس ، فعلّم أبناء المسلمين ما ينفعهم في الدنيا والآخرة وكن أنت قدوتهم في المعاملة والنصح وفعل الخيرات وترك المنكرات .

الدين المعاملة أيها المواطن الصالح  : فعامل الناس كما تحب أن يعاملوك وكن متواضعًا ولا تقابل السيئة بالسيئة  بل قابل السيئة بالحسنة ،وأتقن عملك ، ولا تتبع عورات الناس ، وكن محبًا لدينك، مخلصًا لوطنك ، إيجابيًا لا سلبيًا .

فالمسلم الحق هو الذي يترجم إسلامه إلى سلوكيات إيجابية في واقع حياته ، ليعود أثر ذلك عليه وعلى المجتمع بكل ما هو مفيد وصالح وفيه النفع لعامة المسلمين ، فلقد جعل النبي الكريم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حسن المعاملة والعلاقة مع الآخرين من كمال الإيمان فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) (مسند الإمام أحمد) ، وقال: ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) (رواه البزار).

وفي مقابل ذلك قد تكون المعاملة السيئة مع الناس سبباً لدخول النار حتى ولو مع الاجتهاد في العبادات ، لما روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ،غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ : (هِيَ فِي النَّارِ) قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ - القطع من الجبن- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد).

وهناك ارتباط وثيق بين الأخلاق والإيمان، وكل عمل يقوم به العبد المسلم يحتاج إلى الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة ولاشك أن من فقد الإيمان والتقوى فقد تلك الأخلاق ، وكلما كان المؤمن أكمل أخلاقاً كان أكثر إيماناً . والالتزام بمكارم الأخلاق فيه تقوية لإرادة الإنسان وتمرينها على حب الخير وفعله والبعد عن الشر وتركه ، وبذلك تتحقق سعادة القلب ، ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة ، بل إن المعاملة الحسنة والخلق القويم تدعو إليها الفطر السليمة، فهي أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء.

    ومن أثر المعاملة الحسنة وحسن الخلق على الفرد والمجتمع أيَضًا أنه يكون سببًا في شيوع المحبة والرحمة بين أفراد المجتمع ، وإزالة أسباب الشقاق.

إنه حين يتعامل الناس معاملة حسنة بعضهم مع بعض يسود في مجتمعهم الصدق ،  والأمانة ، والوفاء بالوعود ، والتواضع ، واحترام الكبير والعطف على الصغير وتقبل النصيحة وأداء الواجبات بكل دقّة وإخلاص ، حينئذٍ  لن نجد مستغِلا أو غاشًّا أو سارقًا أو متطرفًا أو منحرفًا .

إن المعاملة الطيبة تورث التقوى والورع وتكسب ثقة الآخرين ، وتجلب الخير والبركة ، وتكون سببًا  في رفع الدرجات  والحصول على عفو الله ومغفرته .  

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

عوامل القوة والنصر وأسباب الهزيمة والضعف

أولاً : العناصر:

1- رمضان شهر الانتصارات .

2- من عوامل القوة والنصر في القرآن الكريم:

أ- الإيمان الصادق والعمل الصالح.

 ب - الصبر والثبات وتحمل المشاق.

ج- التوكل على الله عز وجل وحده، مع الأخذ بالأسباب.

             د- الوحدة والتآلف.

            هـ- الإعداد الجيد.

3- من أسباب الهزيمة والضعف في القرآن الكريم:  

أ‌-        الشقاق والاختلاف.

ب‌-    التنافس على الدنيا.

ج – اقتراف المعاصي.

د- الإعجاب بالكثرة .

4- التأكيد على أن الإرهاب وترويع الآمنين لا علاقة له بالجهاد ولا بالإسلام أصلا .

ثانيًا: الأدلة:

     الأدلة من القرآن:

1- يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

2-ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

3-ويقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

4-ويقول تعالى : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

5-ويقول تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[الطلاق: 3].

6-ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7].

7- ويقول تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

8-ويقول تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }[آل عمران103].

9-ويقول تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

10- ويقول تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 105].

الأدلة من السنة :

1-   عَنْ أَبِي مُوسَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ) (صحيح البخاري).

2-  وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) (متفق عليه).

3-  وعَنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ)، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: ( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ) (سنن أبي داود).

4-  وعن عَمْرو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ:( أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ؟) قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) (متفق عليه).

5-  وعَنْ  عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم ) يقول: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا) (سنن ابن ماجه).

ثالثًا : الموضوع: 

      إذا كان رمضان شَهْر التقوى والصيام، وشهر الصبر وتلاوة القرآن، وشهر النفقة والإحسان، فهو كذلك شهرُ الانتصارات ، وشهر الفتوحات، إذ منَّ الله تعالى فيه على الأمة الإسلامية بالنصر على أعدائها في المعارك التي خاضتها قديمًا وحديثًا، منذ عصر النبوة إلى عصرنا الحاضر، فما من غزوة من الغزوات، ولا معركة من المعارك خاضها المسلمون في هذا الشهر العظيم إلا وتحقق لهم النصر على أعدائهم، وكُتب لهم الغلبة والتمكين، وفي ذلك دلالة على قيمة هذا الشهر الكريم ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، وفيه دلالة أيضًا على أن رمضان ليس شهر تكاسل وتقاعس ؛ بل هو شهر جدٍ واجتهادٍ ونشاطٍ وإقبالٍ على كل ما يرضي الله تعالى.

في رمضان وقعت غزوة بدر الكبرى حيث خاض المسلمون فيها أول معركة، فَرَّق الله فيها بين الحق والباطل ، وذلك في يوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة ، مرورًا بفتح مكة والذي تم – أيضا- في هذا الشهر المبارك في العام الثامن للهجرة ، وهو الفتح العظيم الذي تحطمت فيه الأصنام وثبت به الحق والصواب ، وزهق الباطل.

والمتأمل في التاريخ الإسلامي يجد كثرة انتصار المسلمين أيضا في شهر رمضان المبارك ، ففي عام 658هجرية كانت موقعة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون على التتار، وفي هذا الشهر المبارك أيضًا كانت معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وفي تاريخنا المعاصر كان انتصار العاشر من شهر رمضان، سنة 1393 هجرية، ذلك اليوم التاريخي الفذ الذي أعاد لمصر والوطن العربي والإسلامي مشاعر العزة والكرامة، فشهر رمضان هو شهر الفتوحات والبطولات والانتصارات.

وإذا كانت الأيام دولاً بين الناس بين نصرٍ وهزيمةٍ فإن للنصر أسبابه التي لا يتحقق إلا بها، وللهزيمة أسبابها التي لا يَحُول دون وقوعها إلا اجتنابُها، وقد جاء في القرآن الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) نصوص صريحة واضحة، تبين هذه الأسباب التي من أخذ بها فاز بحلاوة النصر ، ومن أهملها ذاق مرارة الهزيمة.

ومن عوامل القوة التي تساعد على النصر : الإيمان الصادق والعمل الصالح ، والصبر والثبات وتحمل المشاق ، والتوكل على الله عز وجل- وحده مع صدق الأخذ بالأسباب ، والوحدة والتآلف، مع التنظيم الدقيق والإعداد الجيد ....إلى غير ذلك من عوامل القوة والنصر.

فأما الإيمان الصادق بالله سبحانه فيتمثل في : طاعة الله تعالى ، والامتثال لأوامره ونواهيه، وطاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم) ، ويتجلى ذلك في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].

     فإن المسلم الحق يدرك أن النصر لا يأتي إلا من عند الله على عباده المؤمنين ما داموا ينصرون الله -حقّاً - سرّاً وعلانية ، وما داموا يستقيمون على منهج الله، بطاعة أمره واتباع رسوله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم} [محمد: 7].

ومن نصرَه اللهُ - عز وجل - فلا غالِبَ له من الناس، ولن يضُرَّه خُذلانُ الخاذِلين ، قال تعالى : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:160] ، وقال- جلَّ ذكره -:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}[الصافات: 171-173].

     فاستكمال حقيقة الإيمان ومقتضاه من الأعمال الصالحة ، تحقَّق النصر والتمكين للمؤمنين ، قال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر:51] ، وقال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

ومن ثمَّ  فإنه ينبغي علينا أن ننصر الله تعالى بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا، ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره وإعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله، وانتصار النفس على شهواتها وملذاتها ، ولا يتأتى ذلك إلا بعزائم صادقة وقلوب راسخة بالإيمان قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

فحينما يترسخ الإيمان في قلب المؤمن يكسبه ثقة فيما عند الله -سبحانه وتعالى- فيركن إليه، ويتوكل عليه، ويطلب منه المدد والتوفيق، والنصرة والتمكين قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]. فإذن لابد من إيمان صادق وعمل صالح.

كذلك من عوامل القوة وأسباب النصر : الصبر والثبات وتحمل المشاق ، فرمضان شهر الصبر وتقوية الإرادة وتكامل بناء الشخصية الإسلامية بشقيها الروحي والبدني، مع تحقيق التقوى والرقابة الدائمة لله عز وجل، وكل هذا يمنح المسلم من القوة ما يجعله يقف أمام أعدائه ثابت الجأش، قوي الإرادة ، يصبر ويصابر ويرابط إلى أن يحقق الله له النصر ، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

فالصبر الذي هو ثمرة الصيام ، هو أيضاً من أسباب النصر ، وقد قيل: ( الصبر مع النصر)، والمسلم لا يتوقف صبره على مواجهة العدو في ساحة المعركة، بل إنه يشمل جميع نواحي حياته في طريق دعوته ودفاعه عن هذا الدين. فالصبر والثبات، والإكثار من ذكر الله، من أكبر الأسباب للنصر.

ومن عوامل القوة والنصر -أيضاً- : التوكل على الله عز وجل– وحده ، والاعتماد عليه ، مع صدق الأخذ بالأسباب :

فإذا وقع المسلم في كرب شديد فإنه يلجأ إلى الله رب العالمين داعيًا: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فإن من أسباب النصر : التوكل على الله عز وجل ، وصدق ربنا حيث قال:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[سورة يوسف: 67]. فمع اشتداد الأزمة والشدة يكون الفرج القريب ، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

ولقد أشار الله تعالى إلى حقيقة التوكل في المعارك مع الأعداء والاعتماد عليه فقال تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[سورة آل عمران:160] ، كما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) حثنا على التوكل على الله تعالى فقال: ( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ) (سنن ابن ماجه).

وقد نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن التكاسل والتخاذل والتواكل ، وأمرنا بالجد والإخلاص والمثابرة ، وهذا يقتضي الأخذ بالأسباب والإعداد العسكري والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي ببناء الإنسان الصالح الساعي إلى عمارة الكون الذي يعرف حق وطنه عليه ويعمل لأجله .

ولقد رأينا في معركة العاشر من رمضان حينما عادت الأمة كلها إلى الله، القادة والجند، والأمة من ورائهم في المساجد، وصيحة الله أكبر في الميدان، لاحت بوادر النصر ؛ لأن منزل النصر ومدبره إنما هو الله -عز وجل-.

كذلك يضع الله عاملاً  آخر  للقوة وسبباً من أسباب النصر ، وهو : الوحدة والتآلف فيما بين المؤمنين ، فإن الإسلام هو الذي يوحد الأمة، فيجعلها تتماسك كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ويؤدي إلى وحدة الاتجاه والفكر والشعور بحيث إذا اشتكى منه عضو اشتكى كله، فلا عداوة بينهم ولا تمييز بين عناصرهم، ولا صراع بين الطبقات لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[سورة الحجرات: 10] ، ويترتب على هذه الأخوة الحب والسلام والتعاون والوحدة.

وقد أكد هذا نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ )، وقال في حديث آخر: ( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ) (صحيح البخاري).

إن الوحدة والتآلف تؤدي إلى قوة الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات ، وذلك بأن تكون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وتكون أمة واحدة متآلفة متحابة فيما بينها ، قال تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون:52]، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92]. 

ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة ودوام دولتها ونجاح رسالتها ، فينبغي توحيد الصف ، وجمع الكلمة ، والالتفاف حول هدف واحد ، وقيادة واحدة .قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وهكذا كانت أخلاق السلف الصالح عملا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]. فلا نصر لقوم متفرقين مشتتين ، متباغضين متنافرين ، لا نصر إلا بصف مرصوص ، وقلوب متآلفة ، وأخوة غامرة...

          وهذه قاعدة أساسية في الإيمان والإسلام ليكون المسلمون والمؤمنون أمةً واحدةً ، فلقد حث الإسلام على التعاون والترابط ، قال الله تعالى:{وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ }[المائدة: 2].

كذلك من عوامل القوة والنصر : الإعداد الجيد ، فإن الجهاد في سبيل الله تعالى يحتاج إلى الإعداد الذي يواكب المرحلة التي يعيشها المسلمون ، فإن ذلك من أقوى عوامل القوة والنصر ، ومن ثمَّ  يجب على الأمة التي تكون دائماً على مستوى المسئولية المنوطة بها، لذلك كان الأمر الإلهي بإعداد العدة قال تعالى :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}[سورة الأنفال: 60].

ويتضح من هذه الآية أن الله تعالى أمر بإعداد القوة ورباط الخيل، وأن الهدف من ذلك هو إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة، كما يتبين أن إظهار القوة للأعداء وإخافتهم، وإيقاع الرهبة والرعب في قلوبهم، يحقق النصر عليهم، ويحقق أهداف الإسلام أكثر من أية وسيلة أخرى من وسائل مواجهة الأعداء.

فالمطلوب أن نأخذ بجميع الأسباب المتاحة والميسرة في إعداد القوة من الوسائل الحديثة المعاصرة ، فالإسلام في جميع معاركه لم يعتمد على العدد فقط، ولا على كثرة الأسلحة والمعدات، وإنما ينظر إلى طاعة المسلمين وأخذهم بالأسباب المتاحة ، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

فإذا ما أعددنا العدة بقدر المستطاع ، وأخذنا بأسباب القوة والنصر ، فإن الله  تعالى يتكفل عباده بعد ذلك بالنصر والتأييد والتمكين ، أما إذا ابتعدنا عن أسباب القوة والنصر ، كانت الهزيمة والفشل والخذلان ، ومن الأسباب التي تؤدي إلى ذلك:

الشقاق والاختلاف : فإن الشقاق يضعف الأمم القوية ويميت الأمم الضعيفة ، ومن هنا فقد جعل الإسلام أول نصيحة لهم بعد انتصارهم في غزوة بدر حينما اختلفوا على الغنائم أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا أمرهم ، قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:1].

ولقد جعل سبحانَه التنازع والاختلاف محلاًّ للضعف وداعيًا للسقوط في هوّة العجز والكسَل عن كلّ مصلحةٍ دنيويّة أو أخرويّة ، ولقمة سائِغة في مخالب الأعداء، فمن نظر نظرَةً في أحوال الشعوب ماضيها وحاضِرها ولم يكن مصابًا بموت القلب وعمَى البصيرة أدرَك سرَّ أمرِ الله في قوله:     {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}[ آل عمران: 103] ، وسرَّ نهيه سبحانه في قوله: { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [الأنفال : 46].

لقد نهت الآية عن التنازع والاختلاف والشقاق، فإن الشقاق إذا دبَّ في جماعة فرق أواصر المودة بين أفرادها، وزرع الأحقاد في نفوسها، وانشغلت بنفسها عن عدوها، ومن ثم كتب عليها الفشل في جهادها وجهودها لتحصيل مقصودها ، فضعفت قوتها، وسقطت هيبتها، وزالت دولتها، والذي يبدو أن الذي يقضي على كيان الأمة ليس مجرد الاختلاف، وإنما هو الخلاف المبني على الهوى، وحب الظهور والاعتداد بالرأي، والتعصب له، إنها الأنانية التي تدعو صاحبها إلى التمادي بالباطل والغرور.

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شديد الاحتراس والتحذير من عواقب الاختصام والفرقة والتنازع ، وكان في حله وترحاله يوصي بالتجمع والاتحاد في السلم وفي الحرب ، فعن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ) (موطأ مالك).

وقد شهد الواقع أن الشقاق والاختلاف يورث الفشل والهزيمة ، لأن التنازع فشل ، والفشل ضعف ، والضعف من أقوى أسباب الهزيمة ، ففي غزوة أحد حينما اختلف المسلمون وتنازعوا وخالفوا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) لحقت بهم لطمة موجعة أفقدتهم سبعين شهيداً ، ومن قبل الواقع شهد رب السموات والأرض ؛ لذلك جاء النهي عن التنازع في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[سورة الأنفال: 46]. 

كذلك من أسباب الهزيمة والضعف : التنافس على الدنيا ، فإن التعلق بالدنيا ومحاولة التلذذ بملذاتها  يؤدي بالمرء إلى الحرص على هذه الدنيا لدرجة الشعور بالبقاء الأبدي بلا موت حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه وينسى قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185].

لقد كان التعلق بالدنيا من البعض سبباً للهزيمة في غزوة أحد بعد النصر في بدايتها حيث أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}[ آل عمران: 152].

وصدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال : ( ... فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) (متفق عليه).

بل إن تداعي الأمم على المسلمين واحتلال أراضيهم وخيراتهم وأموالهم ناتج عن حب الدنيا وكراهية الموت ، وهذا ما أكده النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الشريف ، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ) ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : ( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ )، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : ( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ) (سنن أبي داود). وواقع الأمة اليومَ يجسّد هذا الحديث ويوضحه، فأعداد المسلمين كثيرة، لكنها لا تفرح صديقًا، ولا تخيف عدوًا، فهم غثاء كغثاء السيل.

ومن أسباب الهزيمة والضعف : اقتراف الذنوب والمعاصي ، فقد يبتلي الله تعالى الأمة بتأخير النصر أو تمكين الأعداء بسبب الذنوب والمعاصي، قال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}[آل عمران:165].

إن الوقوع في المعاصي من أكبر أسباب الهزيمة ، لأنها طريق الشيطان، فيستدرج من يطيعه حتى يبدأ بصغائر الذنوب ثم الكبائر التي يؤدي انتشارها في الأمة إلى الهزيمة ، ولقد حذرنا الله تعالى من الشيطان وألاعيبه عندما تحدث عن غزوة أحد حيث قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [ آل عمران:155].

فقد ذكرت هذه الآية المصاب الجلل في غزوة أحد حيث إنها جمعت موانع النصر وهي الذنوب والمعاصي، ولقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن أوقعهم في الزلل، أي الهزيمة وعدم الثبات في المعركة بسبب مخالفة أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مما أدى إلى تعطيل النصر وعدم تحقيقه، وهذه سنة الله تعالى لا تتخلف ولا تتعطل، وهي أن الهزائم لا تقع إلا بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه النصر ، وتقرب إليه الهزيمة.

إن اجتناب المعاصي والتحذير منها من أعظم أسباب فلاح الأمة ؛ فالمعاصي مفتاح لكل شر ومغلاق لكل خير ، وبسببها يتصدع كيان الأمة وتزول هيبتها ، وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل رضوان الله عليهم، فقد تتابع وصية الأمراء والخلفاء إلى قوادهم في المعارك بطاعة الله والبعد عن المعاصي ، لأنها سبيل النصر، وهذا ما أكده  عمر بن الخطاب في وصيته إلى سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنهما) ومن معه من الأجناد: ( أما بعد ، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب ، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة....) (العقد الفريد).

فمن عوامل النصر : الابتعاد عن المعاصي، لأن المعاصي والآثام إذا اقترفها المسلمون تكون أشد خطرًا عليهم من أعدائهم ، والأشد خطرًا وإثمًا هو المجاهرة بالمعاصي، وهذا ما نشهده في أيامنا هذه، فإن ارتكاب المعاصي والآثام والموبقات والمجاهرة بها من أسباب إلحاق الهزائم المتكررة بالأمة.

كذلك من أهم أسباب الهزيمة والضعف : الإعجاب بالكثرة : فإن المسلم الذي يؤمن بالحق يدافع عنه بكل ما يملك، ولا يقعده عن ذلك قلة عدد أو انعدام العتاد، ويظل على تمسكه بالحق والدفاع عنه، حتى يظهره الله أو يموت دونه .. ويوم يزهو المسلم بمن معه من أعداد، أو لما معه من عتاد، فإنه يدخل في دائرة الإعجاب بالنفس والاغترار بالقوة والكثرة ، وهذا ما يؤدي به إلى الهزيمة ، فإن المسلمين حين يركنون لكثرة العدد ، ويعجبون بأنفسهم ، وينسون سندهم الأصيل بتخلُّف عنهم النصر ، وتكون الهزيمة ، كما وقع في غزوة (حنين).

ففي حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثني عشر ألفاً فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فقال تعالى مخبراً عن ذلك: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:25، 26]. والحكمة في ذلك أن يعلم العباد أن النصر من عند الله تعالى ،  وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء.

هذه هي مقوِّمات النَّصر ، وأسباب الهزيمة ،فما أحوجَنا إلى التأمل والتدبر فيها لأخذ العبر والعظات ، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

فالأمة التي تريد النصر - والنصر من عند الله - تنهض لأمر الله طاعة وعبادة والتزاماً ، عن إيمـان بالله واليوم الآخر ، إيمان صادق تؤثر به الآخرة على الدنيا ، وتسعى إلى الآخرة كما أمر الله وبيّن وفصّل ، ولا تنسى نصِيبها من الدنيا لتكون قوة لها على درب الآخرة ، ولا تطلب الدنيا للدنيا.

ومن أهم أسباب الهزيمة والانكسار : الخلود إلى الراحة والكسل وعدم الأخذ بالأسباب ، فأمة    لا تنتج غذاءها وكساءها ودواءها وسلاحها ولا تملك أسباب قوتها لا مكان لها في عالم اليوم ولا تستطيع أن تستقل بقرارها ، فلابد من أن نعمل ، وأن ننتج ، وأن نسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات ولا يكون ذلك إلا بالجهد والعرق والصبر والمثابرة .

ونؤكد أن الإرهاب وترويع الآمنين لا علاقة له بالجهاد ولا بالإسلام أصلا ، فقد حرم الإسلام قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، كما حرم الاعتداء على المال أو العرض وترويع الآمنين ، بل جعل جزاء من يعيثون في الأرض فسادًا شديدًا وحاسمًا ، حيث يقول الحق سبحانه: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 33] .

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

حقوق الجار

أولاً : العناصر:

1- مكانة الجار في الإسلام .

2- من حقوق الجار .

   - الإحسان إليه .

   - كف الأذى عنه  .

   - تحمل الأذى منه .                       

3- أنواع الجيران

4- أثر مراعاة حقوق الجار في إصلاح العلاقات بين أفراد المجتمع .

ثانيًا : الأدلـة:

الأدلة من القــرآن الكريم :

1- يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [ النساء : 36] .

2- ويقول تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .

3- ويقول تعالى:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:43].

4- ويقول تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة :8] .

5- ويقول تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [ الحجرات ] .

الأدلة من السنة والآثار :

1-   عَن ْأَبِى شُرَيْحٍ الْخُزَاعِىِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ، ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرً أَوْ لِيَسْكُتْ " (صحيح مسلم).

2-   وعنْ أَبِي شُرَيْحٍ العَدَوِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِن ُبِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ،قَالَ : وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهْوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ِفَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) (متفق عليه).

3-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) : (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ) (صحيح البخاري).

4-   وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم )قَالَ: (وَاللَّهِ لاَيُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ) قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ،قِيلَ: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ : شَرُّهُ)(صحيح البخاري ومسند أحمد).

5-   وعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) يَقُولُ: (مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَار ِحَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)(متفق عليه).

6-   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُم ْلِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ ) (سنن الترمذي) .

7-   وعَن ْأَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ َرَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم )كَانَ يَقُولُ: (يَانِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ)(متفق عليه).

8-   وعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) َقالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ): (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)(الأدب المفرد للبخاري) .

9-   وعن الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ (رضي الله عنه) قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِأَصْحَابِهِ : (مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ ) قَالُوا: حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِأَصْحَابِهِ: ( لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)، قَالَ: فَقَالَ: ( مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ ) قَالُوا: حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: (لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ)(مسند أحمد) .

10- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)(صحيح مسلم).

11- وعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) (صحيح البخاري) .

12- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ(رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ) (متفق عليه) .

13- وجاء رجل إلى ابن مسعود (رضي الله عنه) فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ، فقال: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه. (إحياء علوم الدين) .

14- وعن الْحَسَنِ البصري (رحمه الله)قال: لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ احْتِمَالُ الْأَذَى. (إحياء علوم الدين).

15- وعن الحسن البصري (رحمه الله) أنه: "كان لا يرى بأسًا أن تطعم جارك اليهودي والنصراني من أضحيتك" ( مكارم الأخلاق للخرائطي) .

ثالثًا : المـوضـــــــــــوع :

يحرص الإسلام على دعم أواصر المحبة بين أفراد المجتمع مما يمنحه قوة وتماسكًا، ومما يشيع روح التعاون بين الناس ويزيد المجتمع ثباتًا واستقرارًا مراعاةُ حقوقِ الجار التي أعلى الإسلام شأنها واهتم بها أيّما اهتمام، بل جعلها من علامات الإيمان، فقد جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) الإيمانَ مشروطًا بالإحسان إلى الجار، فعَن ْأَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِن ُبِالله ِوَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)، كما جعل حسنَ معاملة الجار وإكرامَه من الإيمان أيضًا، فَعن ْأَبِي شُرَيْحٍ  العَدَوِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ ، حِينَ تَكَلَّم َالنَّبِيّ ُ(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) َفَقَالَ : (مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)، ولقد أوصى الله (عز وجل) في كتابه الكريم بالجار وأمر بالإحسان إليه فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: 36]، ولهذا كان كثيرًا ما ينزل الوحي على النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي بالجار حتى ظنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم)  أن الله (عز وجل) سيشرع ميراثًا بين الجيران من شدة الوصية بهم ، فعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) يَقُولُ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ).

إنها وصية عُلْوِيَّةٌ يريد الله (عز وجل) أن يُطَهِّرَ بها المجتمع المسلم من الأحقاد والعداوات والمشاحنات ليسوده الود الوئام والتعاون والتكاتف، هذه شيمة المجتمع المسلم، فهذا جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) يشرح للنجاشي طبيعة رسالة الإسلام ويُبيِّنُ له أهم ملامح هذا الدين حين طلب منه مبعوثا أهل مكة : عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص أن يَرُدَّ مهاجري الحبشة إلى بلادهم، فطلب النجاشي من المسلمين أن يحدثوه عن هذا الدين الذي خالفوا به قومهم، فتكلم جعفر (رضي الله عنه) فقال: "أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ،يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّه ُإِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِف ُنَسَبَهُ ، وَصِدْقَه ، وَأَمَانَتَهُ ، وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَع َمَاكُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِن َالحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْن ِالْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ ، وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ..." (مسند الإمام أحمد)، بهذه المبادئ العظيمة تحول المجتمع من الجاهلية إلى الإسلام، من الهجر والتقاطع وسوء الجوار والعداوة إلى البر والصلة وحسن الجوار والتكاتف والتآزر.

إن الجار في نَظَر الإسلام مُعين ، وناصِر ، وحارِس ، وأمين ، يُطْعمُكَ إذا جُعْت ،ويُشارك في الأفراح والمناسبات الطيبة ، ويُواسي ويُعزِّي في المصائب والأتراح ، ويُرْشِد ، وينصَح ، ويتعاوَن معك على البرّ والتقوى ، ويعودُك إذا مرِضْت ، ويزورُك زيارة الأخوّة الخالصَة يحْفظُك في أهلك وولدك ، ولا يخونك في مالٍ ولا أهلٍ.

قال الإمام الغزالي رحمه الله : وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام ، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال ، ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح ، ويظهر الشركة في السرور معه ، ويصفح عن زلاته ، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته ، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره ، ولا في مصب الماء في ميزابه ، ولا في مطرح التراب في فنائه ، ولا يضيق طرقه إلى الدار ، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره ، ويستر ما ينكشف له من عوراته ، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة ، ولايغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ، ولا يسمع عليه كلامًا ، ويغض بصره عن حرمته ، ولا يديم النظر إلى خادمته ، ويتلطف بولده في كلمته ، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه (إحياء علوم الدين).

ومن حقوق الجار تفقد حاله لا سيما الفقير وذو الحاجة ، وهذا من الإيمان والمروءة ، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما )قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُو َجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ" (الأدب المفرد للبخاري)، فالإحسان إلى الجار يشمل كل وجوه الخير، فعَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْن ِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما )عَنْ رَسُول ِاللَّه ِ(صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ )أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْد َاللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْر ُالْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ )، فالإحسان إلى الجار دليل على صدق الإيمان بالله تعالى ، وعلى التخلق بمكارم الأخلاق وعلى كمال العقل ورجاحته.

ومن إكرامِ الجارِ والإحسان إليه : المُبادرةُ بتقديم هديةٍ إليه قليلة كانت أو كثيرة، إذ إن الهدية في ذاتها رسول يحمل الصلة والألفة،فعن أبي ذرٍّ(رضي الله عنه )قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): (يا أبا ذر إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءَه وتعهَّد جيرانَك) ، فللمعاملة الكريمة والهدايا الأثر الطيب في تأليف القلوب وإشاعة المحبة والألفة بين الناس خاصة الجيران الأقربين،فعَن ْعَائِشَةَ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قالت: قُلْتُ َيا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْن ِفَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا ) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( يَانِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِر َنَّجَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ ) ، وقوله فرسن شاة : هو ما فوق الحافر وهو كالقدم للإنسان ، والمقصود الحض على التصدق ولو بالقليل، يقول النووي (رحمه الله) : " وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمُعطية المُهدية ، ومعناه : لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها– أي لظنها أنها قليلة- واحتقارها الموجودَ عندها بل تجود بما تيسر وإن كان قليلا كفرسن شاة وهو  خير من العدم ، وقد قال الله تعالى : {فَمَن ْيَعْمَلْ مِثْقَال َذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة: 7]..."(شرح مسلم للنووي).

ومن حقوق الجار كف الأذى عنه ، فهذا الحق من أعظم حقوق الجيران، وإلحاق الأذى بالآخرين وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار ، لأن الأذية للجار أعظم من أذية غيره فعقابها مضاعف ، فعن الْمِقْدَادِ بْن ِالْأَسْوَد ِ(رضي الله عنه )قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )لِأَصْحَابِهِ : (مَا تَقُولُون َفِي الزِّنَا ؟ ) قَالُوا : حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ،قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ )لِأَصْحَابِه ِ: ( لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ )، قَالَ: فَقَالَ: ( مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ ) قَالُوا: حَرَّمَهَا اللهُ و َرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ ،قَالَ: ( لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ ،أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ ) (مسند أحمد) ، فليس معنى هذا يسر الزنا بغير حليلة الجار وإنما عِظم الجرم في الحالتين وفي حق الجار أعظم وأشد ، لأن الاعتداء هنا اعتداءان : اعتداء على الأعراض ، واعتداء على حقوق الجار ، وقد حذر النبي (صلى الله عليه وسلم)من أذية الجار أشد التحذير لدرجة أنه أقسم على انتفاء الإيمان عمن لا يأمنُ جارهُ شرَّه ، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ) قِيلَ وَمَن ْيَا رَسُولَ اللهِ ؟قَالَ : (الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ) ، قِيلَ: وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ: ( شَرُّهُ ) ، فهذا الجار الذي لا يراعي للجوار حقًا ولا حرمة، يعيش جارُه في خوف وقلقٍ بسببه، يتوقع منه الضرر ولا يأمن على نفسه وماله وعرضه، إنه جار لم يعرف الإيمانُ إلى قلبه سبيلًا، وقد جعل النبي (صلى الله عليه وسلم)أذي الجار سببًا في عدم دخول الجنة أيضًا ، فَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ).

فأذى الجار أو انتقاصه حقًا من حقوقه يَحرم الإنسان من دخول الجنة وإن كثرت حسناته، إذ إن سوء الجوار محبط للعمل، فلا ينفع معه صلاة ولا صيام ولا صدقة ، فعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَال َرَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا خَيْرَ فِيهَا ،هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"،قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا ؟فَقَال َرَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) :(هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) (الأدب المفرد للبخاري)، وجعل عدم إيذاء الجار علامة على الإيمان بالله واليوم الأخر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ).

إن الإساءة إلى الجار أو انتقاصه حقًا من حقوقه يعد من أكبر الكبائر المفضية بصاحبها إلى النار والعياذ بالله، ويعد أيضا علامة على انتهاء الخير وفناء الدنيا ، فعن  عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الأَمِينُ وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ،حَتَّى يَظْهَر َالْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ ، وَقَطِيعَةُ الأَرْحَامِ وَسُوءُ الْجِوَارِ)(مسند أحمد).

ومن حقوق الجار أيضًا تحمل الأذى منه ،فكما قال الحسن رحمه الله : "لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفّ َالْأَذَى ،وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ احْتِمَالُ الْأَذَى " ، فتَحَمُّلُ أذى الجار من شيم الكرام ذوي الأخلاق الكريمة والهمم العالية ،إذ يستطيع كثيرٌ من الناس أن يكفّ أذاه عن الآخرين ، لكن أن يتحمل أذاهم صابرًا محتسبًا فهذه درجة عالية : قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }[الشورى:43]، وقال الله تعالى: {َلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34] ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) القدوة والمثل فقد آذاه أهله وجيرانه إبّان البعثة النبوية المباركة ، فما زاده ذلك إلا حلمًا وعفوًا وما حدث منه (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح مكة لهو من أصدق الأمثلة الواقعية على تأكيد الإسلام على الإحسان والصفح.

على أننا نؤكد أن الإحسان إلى الجار عبادة بينك وبين الله تعالى ، فلا تتعلل بسوء معاملته ، فإن أجرك على الله تعالى ، فقد رُوي أن رجلا جاء إلى ابن مسعود (رضي الله عنه) فقال له : إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ ؟ فقال:" اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه" (إحياء علوم الدين)، ذلك لأن الإحسان يغلب الإساءة والصلة تَجُبُّ القطيعة، وقد يكون للجوار بعضُ الأمور التي يكون فيها بعض تجاوز دون إلحاق ضرر فلا حرج في ذلك، فالتعامل فيها يكون بالفضل ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ(رضي الله عنه )أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:  (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ) (متفق عليه).

وقد تحدث العلماء عن حدود الجوار الذي أمر الإسلام بمراعاته وجعل له حرمة،يقول القاضي عياض رحمه الله: "واختُلف في حد الجار ، فجاء عن على (رضي الله عنه): من سمع النداء فهو جار"، وقيل : من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار ، وعن عائشة (رضي الله عنها): (حدّ  ُالجوار أربعون دارا من كل جانب " (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم) ، لكن كلما قَرُبَ الجار عَظُمَ حقه ، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "واسم الجار يشمل المسلمَ والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارًا والأبعد ،وله مراتب بعضها أعلى من بعض ،فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأُول كلها ثم أكثرها وهلم جرا "(فتح الباري).

وفي الآية التي أمر الله تعالى فيها بالإحسان إلى الجار بيّن فيها أنواع الجيران الذين تجب لهم حقوق الجوار والإحسان في المعاملة، يقول تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}[النساء: 36]،

والْجِوَارُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْقَرَابَةِ ، ومنها قُرْبُ النَّسَبِ ، وقُرْبُ الْمَكَانِ و َالسَّكَنِ، وَقَدْ يَأْنَسُ الْإِنْسَانُ بِجَارِهِ الْقَرِيبِ مَا لَا يَأْنَسُ بِنَسِيبِهِ الْبَعِيدِ ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ مَالَا يَحْتَاجُ الْأَنْسِبَاءُ الَّذِينَ تَنَاءَتْ دِيَارُهُمْ ،فَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خَيْرٌ لِسَائِرِ النَّاسِ.

والجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب: له حق الجوار، وحق القرابة ، وحق الإسلام ،وجار له حقان وهو المسلم غير القريب: له حق الجوار، وحق الإسلام ، وجار له حق واحد وهو الجار غير المسلم : له حق الجوار، فيشمله ما أمر الله تعالى به من البر والإحسان إليه، سبحان الله! حتى من هو على غير ملة الإسلام يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نحسن جواره، فهل بعد هذا دليل على أهمية الجوار في الإسلام؟!!

ولا شك أن لأداء حقوق الجار وحسن معاملته أثرًا بالغًا في المجتمع وحياة الناس، فهو يزيد التراحم والتعاطف والتحابّ، وهو مصدر  للتآلف والتوادّ والتعاون، فبه يحصل تبادل المنافع وقضاء المصالح والاستقرار والأمن، واطمئنان النفوس، وسلامة الصدور، فتطيب الحياة ويهنأ الناس بالعيش فيها، فلو أحسن كل جار إلى جاره لحقق الناس لأنفسهم ولمجتمعاتهم السعادة والأمن والاستقرار والتقدم ولعاشوا أسرة واحدة فتنصهر الفوارق وتذوب الطبقات وتنصرف الهمم إلى الإصلاح والبناء والسعي نحو الرقى والتقدم.

هذا، وليعلم كل واحد منا أن الجوار دائرته أوسع وأشمل، والتي على أساسها ينشأ التعارف والتآلف الذي قال عنه ربنا تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويصبح المجتمع جسدًا واحدًا متعاونًا في الخير متضامنًا في الشدة، بل ربما يتسع مفهوم الجوار في الإسلام ليشمل القرى والمدن والدول وكل هؤلاء لهم حقوق وعليهم واجبات.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

حق الطريق والمرافق العامة

أولا : العناصر:

1-      شموليةُ الإسلام لكل جوانب الحياة.

2-      من حقوق الطريق وآدابه:

- غضُّ البصر .

- كفُّ الأذى .

- ردُّ السلام .

3-      دعوة الإسلام إلى الحفاظ على المرافق العامة.

 ثانيًا : الأدلـة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1-  قال تعالى: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}[لقمان:٢٠].

2-  وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 63- 67].

3-  وقال تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }[الإسراء: 36 - 38].

4-  وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30، 31].

5-  وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 11،12] .

6-    وقال تعالى:{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء: 86]. .

7-    وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 85].

8-    وقال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161]. 

9-  وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29].

  الأدلـة من الســنة :

1- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) (رواه مسلم) .

2- وعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ) قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ : (غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (رواه مسلم).

3- وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ : (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِيِ ) (رواه مسلم).

4- وعن عَبْد اللهِ بْن عَمْرٍو (رضي الله عنهما) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ ) (مسند أحمد).

5- وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ. قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) ثُمَّ قال: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ النَّارَ الْمَاءُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ) ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ الْجِهَادُ)، ثُمَّ قَالَ:(أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ) قُلْتُ: بَلَى. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: (تَكُفُّ  عَلَيْكَ هَذَا) قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! ) (سنن ابن ماجه).

6- وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ ) (المعجم الكبير للطبراني).

7- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) (صحيح مسلم).

8- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ) (رواه مسلم).

ثالثًا : المـــوضــــــوع :

لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرّمه ، وهيأ له من الأسباب ما يساعده على الحياة الكريمة ، فسخر كل ما في السموات وما في الأرض لخدمته ومنفعته ، قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}[لقمان:٢٠].

والمتأمل في شريعة الإسلام يجد أنها قد شملت واستوعبت كل مناحي الحياة وشئونها ، فلم تدع مجالاً في السلوك العام أو الخاص إلا وحثّت عليه ، ومن هنا فلا غرو أن يكون لتوجيهات الإسلام وأحكام الشريعة دورٌ بالغٌ في تنظيم شئون المجتمع ، ولا أدل على ذلك من أن مدونات أهل الإسلام في الفقه والأخلاق لا تزال مشحونة بالحكم والأحكام في فهم شئون الإنسان وسياسة المجتمعات، مع نماذج حية وسِيرٍ فذة وتطبيقاتٍ جليةٍ على مدى تاريخ الأمة المجيد.

وإن مما يُظهر شمولية هذا الدين وجلاءَ حِكَمِه وأحكامه ما أوضحته آيات القرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 63- 67]. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }[الإسراء: 36 - 38].

وفيما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ).

ولما كانت شريعتنا الغراء قد اهتمت بسعادة الناس في دنياهم وأخراهم، شرعت لهم من الآداب والأخلاق التي لو التزموا بها لعاشوا حياة طيبة كريمة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن: 16].

ومن هذه الآداب وتلك الأخلاق التي حثَّ عليها ديننا الحنيف:  إعطاء الطريق حقَّه ، والالتزامُ بآدابه وواجباته ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ). قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ ( غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (رواه مسلم).

ويؤكد ضرورة هذه الحقوق للطريق في حياتنا ؛حيث لم تعد الطرقات كما كانت قديمًا مجتمعًا لقضاء حوائج الناس والنقاش في مسائلهم الملحة ، بل أصبحت مرتعًا لذوي الأغراض الدنيئة، المتبعين للشهوات ، والمتتبعين للعورات.

          وعلى ذلك تأتي هذه الحقوق علاجًا لما هو حاصل في واقع حياتنا من مخالفات يرتكبها بعض الناس في الطرقات ، وحسب ترتيب الحديث النبوي لهذه الآداب يقع غضّ البصر  الحق الأول من حقوق الطريق:

وقد جاء الأمر بغض البصر عامًا في الرجال والنساء على السواء ، وذلك لخطر النظر الفاحش من كلا الطرفين للآخر ، ويؤكد هذا ما جاء في الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ جَلَّ وَعَزَّ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) (المستدرك للحاكم).

ولأجل هذا دعا الإسلام أتباعه إلى غض البصر ، فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور: 30، 31]. وعلى ذلك فلو غض الإنسان بصره لاطمأنت نفسه وهدأ قلبه وسكن فؤاده.

وقد راعى الإسلام في الإنسان الخطأ غير المقصود ، فلم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، لذا أمر من نظر إلى امرأة أجنبية أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى ، لما رواه مسلم في صحيحه عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ : (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِيِ ). (رواه مسلم).

أما الحق الثاني من حقوق الطريق فهو كفُّ الأذى عن المارَّةِ ، وعدم التعرض لهم بأي لون من ألوان الاعتداء ، سواء كان هذا في أبدانهم أو أعراضهم ، بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم وأديانهم ، ففي الحديث عن عَبْد اللهِ بْن عَمْرٍو (رضي الله عنهما) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ ) (مسند أحمد).

ولما كانت المجالس كثيرًا ما تشتمل على الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية ؛ كان تشديد الإسلام على خطورة اللسان باعتباره الأداة الأولى في الإيذاء ؛ لذا جاء الحديث عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ. قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) ثُمَّ قال: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ النَّارَ الْمَاءُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ) ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ الْجِهَادُ)، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ) قُلْتُ: بَلَى. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: (تَكُفُّ عَلَيْكَ هَذَا) قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! ) (سنن ابن ماجه).

فليحذر المسلم ألوان الإيذاء للآخرين باللسان أو اليد ، فلا يسخر أو يستهزئ ولا يشتم ولا يسب ولا يغتاب ولا ينم ولا يتجسس ، حيث نهى الحق تبارك عن ذلك كله ، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 11،12] .

كذلك فليحذر المسلم أن يعتدي على الآخرين بأي نوع من التطاول ، وخاصة ما يكون باليد كضرب بريء أو قتل نفسٍ أو سفك دمٍ أو نحو ذلك ، وليعلم أن هذا من الإفساد في الأرض{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]. وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ) (المعجم الكبير للطبراني).

وسر هذا أن الاعتداء على حرمات الطرقات أمر يكرهه الإسلام وتحذر منه الشريعة، وذلك لما فيه من مخاطر على الفرد والمجتمع؛ حيث تحول بعض الطريق من وسيلة لإنجاز حوائج الناس إلى أداة لترويعهم ، وأصبح الإنسان - رجلاً كان أو امرأة-  لا يأمن على نفسه أو أهله من السير في الطريق لما يكتنفه من مخاطر .

ثم إن جزاء ذلك منصوص عليه في قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: 33، 34].

ويا ليت الناس يعلمون عظم فضل إماطة الأذى عن طريق الناس ومجالسهم ، فما أعظمه من أجر  يناله الإنسان حينما يرفع الأذى عن الناس ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) (صحيح مسلم).

          وكذلك من أبرز حقوق الطريق : ردُّ السلام ؛ فهو أدبٌ كريمٌ يتخلق به أبناء الإسلام ، وحق يحفظونه لإخوانهم ، يغرس المحبة ويزرع الألفة ويغسل الأحقاد ، ويستجلبُ به رضا الله تعالى وغفرانه ، ففي الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ) (رواه مسلم).

فمن جلس بطريق يمر به المارة فيسلمون عليه وجب عليه أن يرد عليهم ، وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء: 86].

أما إذا جلس الإنسان في طريق ولم يرد السلام على أحد ، أو يرد على من يعرفهم فقط، أو يرد على من كان في منزلته كفعل بعض المتكبرين ، فإن ذلك يُعدُّ من سوء الأدب واكتساب الإثم، وإخلال بحق الطريق، فمن جلس في طرق الناس وجب عليه أن يؤدي لهم حقوقهم  ، فإن السلام سنة ، ورده واجب على من سلم .

ومن المعلوم أن الطريق ليس ملكًا لأحد معين ، إنما هي من المرافق والممتلكات العامة التي ينتفع بها الجميع ، لكن للأسف الشديد نرى عبث البعض بها والاعتداء على ما فيها من مرافق بحجة أنها حق عام وليست لأحد بعينه ، وهذا ضرب من الإفساد المذموم شرعًا ، قال تعالى :{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 85].

ففي الآونة الأخيرة كثرت صور الاعتداءات على المرافق والملكيات العامة لأسباب شتى من بينهـا : ضعف القيم الإيمانية والأخلاقية لدى البعض من الناس والذين يلحقون أضرارًا جسيمة بالفرد وبالمجتمع ، في حين أن الإسلام قد أكد على ضرورة حماية المال العام من السارقين والمختلسين ، والغلولين والنصّابين والمرتشين والأفَّاقين ، والمرابين والمقامرين ، وممن يتلفون ويسرقون وممن يستغلون المرافق العامة لمنافعهم ومآربهم الشخصية من دون الناس جميعًا.

إن المرفق العام ملك للجميع وتخريبه هو اعتداء على المال العام الذي حذّر الله - تعالى- من سرقته أو الإضرار به ، فإن ذلك يعد من الغلول، قال تعالى : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[آل عمران/161].

فالواجب علينا جميعًا أن نتعاون في الحفاظ على هذه المرافق وتطويرها والبعد عمّا يؤدي إلى إتلافها ؛ لأنها مال عام ينتفع به الجميع ، ويعتبر الحفاظ عليه إحدى الضروريات

الخمس التي جاءت بها شريعتنا الإسلامية الغراء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29].

فالحفاظ عليها مسئوليتنا جميعًا ، والاعتداء عليها اعتداء على مجموع الأفراد والمجتمع ؛ لأن الذي يسرق من المال العام فإنه يسرق من الأمة كلها، وعليه إثم كل من له حق في هذا المال ، فسرقته أعظم جرمًا من سرقة المال الخاص، كان مُعَيْقِيب على بيت مال عمر ، فكنس بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال مُعيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال لي: ويحك يا مُعيقيب، أوجدت عليّ في نفسك شيئًا ؟ قال : قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) في هذا الدرهم؟! (مسند الفاروق لابن كثير بتصرف ).

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

حق الطفل في التنشئة السوية والحياة الكريمة

أولا: العناصر:

1-  الأطفال نعمة من الله يجب شكرها.

2-  عناية الإسلام بالأطفال.

3-  من أسس التنشئة السوية للأطفال.

               أ ـ اختيار الاسم الحسن.                                     ب- الرضاعة الطبيعية

          ج - الإحسان وعدم الغلظة والشدّة.               د- العدل والمساواة بينهم جميعًا.                 4- ضرورة تحقيق الحياة الكريمة للأطفال.

ثانيًا: الأدلة من القرآن والسنة :

      الأدلة من القرآن:

1-  قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى:49-50].

2-  وقال تعالى :{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}[النحل: 72] .

3-  وقال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: 233].

4-  وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الحشر:18].

5-  وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مّنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور:21].

6-  وقال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }[لقمان : 13 : 19].

7-  وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6].   

الأدلة من السنة :

1-   عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، قَالَ الراوي: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (صحيح البخاري).

2-   وعن مَعْقِلٍ بن يَسَارٍ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).

3-   وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا فَقَالَ: ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيء قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) (سنن الترمذي).

4-  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ) (المستدرك للحاكم) .

5-  وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِي ، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي ، فَقُلْتُ : إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ ، وَأَنَا ذُو مَالٍ ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لاَ ، فَقُلْتُ : بِالشَّطْرِ ؟ فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : الثُّلُثُ ، وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ، أَوْ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً، تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ ، إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا) (صحيح البخاري).

6-  عَنْ ثَوْبَانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ) ، قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ : وَأَىُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ ) (صحيح مسلم) .

7-  وعن عُثْمَان الْحَاطِبِيّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ (رضي الله عنه) يَقُولُ لِرَجُلٍ: (أَدِّبِ ابْنَكَ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ وَلَدِكَ ، مَاذَا أَدَّبْتَه ُ؟ وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ؟ وَأَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ) (السنن الكبرى للبيهقي).

8-   وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ) (رواه أبو داوود).

9-   وعَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(صحيح البخاري).

10-     وعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ (رضي الله عنهما) قَالَ: كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي: ( يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) (رواه مسلم).

ثالثًا: الموضوع.

إن من أجل النعم التي أنعم الله (عز وجل) بها على الإنسان بعد نعمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى نعمة الولد الذي به يُحفظ النسل ، وتُقر العين ، فالأطفال نعمة إلهية، وهبة ربانية، يختص الله بها من يشـاء من عباده ، قال تعالى: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى: 49، 50] ، فبالأطفال تُملأ الحياة بهجة وسرورًا ، ويُبدل ظلام البيوت إلى ضياء ونور ، فهم مصابيح البيوت ، وقرة العيون، وفلذات الأكباد ، فهم زينة الحياة الدنيا ، كما قال ربنا في القرآن الكريم: {المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } [الكهف: 46].

هذه النعمة العظيمة ـ نعمة الأطفال ـ تستوجب شكر الله (عز وجل) عليها ، قال الخليل إبراهيم (عليه السلام) بعد أن رزقه الله (عز وجل) بنعمة الولد : {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}[إبراهيم:39،40]  فالشكر على النعم يحفظها ، قال تعالى :{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[ إبراهيم:7] ، وتستلزم الاهتمام بها حتى ينشأ جيل يعرف حقوق الله (عز وجل) وحقوق الوالدين والوطن والمجتمع.

ولقد اعتنى الإسلام عناية فائقةً بالأطفال وتربيتهم تربيةً تحقق للأبناء وللآباء سعادةً في الدنيا والآخرة ، فاعتنى الإسلام بالطفل قبل أن يأتي للحياة فأمر راغبي الزواج بالانتقاء واختيار الزوجة الصالحة ، لأنّ البيوت إذا شاع فيها جوُّ الإيمان انعكست آثاره على أهله خيرًا وبرًا، وسعادةً وهناءً ، وهذا ما أشار إليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم) حين قال : ( ... فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ) (صحيح مسلم) ، وكان اهتمام الإسلام بالطفولة قبل ظهور المنظمات الدولية التي تهتم بشأن الطفولة ،  وذلك لأهمية هذه المرحلة الخطيرة والحرجة في حياة الإنسان ، فالطفولة مرحلة أساسية يعبر بها كل إنسان إلى مرحلة النضج والرشد ، فاعتنى الإسلام بالأطفال حتى يكونوا إضافة إيجابية وعنصراً فاعلا في المجتمع ، فشرع لهم الكثير من الأحكام التي تعود على الولد والأسرة ثم المجتمع بالنفع والفائدة.

    واهتمام الإسلام بالطفولة بدأ من مرحلة كونه جنينا في بطن أمه ، فشرع له من الأحكام والتشريعات ما يكفل له حقه ، ويحافظ على آدميته واحترامه ، في عناية فائقة ورعاية شاملة، فهذه المرحلة هي نقطة البدء ، التي تستحق العناية والاهتمام ، ومن ثمّ ضمن له حق الحياة وهو في بطن أمّه ، فحرّم الإجهاض عمدًا ، وأوجب رعاية الحامل طيلة فترة حملها ، وأباح للمرأة الحامل الفطر فى شهر رمضان إذا خافت على جنينها ، حتى ينمو الجنين نموا طبيعيا، فعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) أن النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ نِصْفَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمَ وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ) (رواه النسائي).

كذلك من مظاهر عناية الإسلام بالطفل: اختيار أحسن الأسماء له ، فقد ألزم الآباء باختيار الأسماء الحسنة لأولادهم التي ينادون بها بين الناس ، فالاسم الحسن يبعث في النفس راحة وطمأنينة لا تتحقق مع الاسم السيئ ، فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ) (رواه أبو داوود)، فإذا ما أَهَلَّ المولود على أبويه فهما مأموران باختيار أحسن الأسماء له ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : « الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعقيقته يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» [سنن الترمذي].

ولقد رغب النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) الأمة في أحسن الأسماء وأحبها إلى الله ، فعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ) (سنن أبي داود) وفي رواية الإمام مسلم ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ) ، وكان (صلى الله عليه وسلم) ينهي عن تسمية الأبناء بأسماء قبيحة ، فقال: (لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ رَبَاحًا، وَلَا يَسَارًا، وَلَا أَفْلَحَ، وَلَا نَافِعًا) (صحيح مسلم).

والعلة من النهي عن الأسماء القبيحة مراعاة الجانب النفسي عند الطفل ، حتى لا تسبب له أي نوع من أنواع الإيذاء النفسي ، جاء رجل إلى الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يشكو إليه عقوق ابنه ، فأحضر عمر الولد وابنه ، وعاتبه على عقوقه لأبيه ، ونسيانه لحقوقه ، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه ؟ قال : بلى ، قال : فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه ، ويحسن أسمه ، ويعلمه الكتاب (أي القرآن) ، قال الولد : يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي ، وقد سماني جُعلاً (أي: خنفساء) ، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً ، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ابنك ، وقد عققته قبل أن يعقك ، وأسأت إليه قبل أن يسيئ إليك .(تربية الأولاد في الإسلام)

قال سفيان الثوري: "حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، وأن يزوجه إذا بلغ، وأن يحسن أدبه " ، فإن حسن اختيار الاسم للولد يساعد على تنشئته في حياة كريمة فيبعد عنه السخرية والاستهزاء ، ويوفر له الراحة النفسية التي يحتاجها كلما ذٌكر اسمه ، فالاسم هو عنوان الشخصية.

ومن مظاهر عناية الإسلام بالطفل: أن جعل رضاعته حقًّا معلوما له ، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] ، ففي الآية الكريمة أمر للأمهات في صيغة خبر والمعنى:  يا أيتها الوالدات أرضعن أولادكن حولين كاملين ، فالطفل في هذا السن يحتاج إلى نوعية معينة من الغذاء تساعد على بناء جسده ، ولا يكون أفضل من لبن أمه الذي هيأه ربنا لهذه المهمة وصدق الله حين قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]. أما إن كانت الأم لديها علة طبية مشروعة تمنع من الرضاعة ، أو امتنع الطفل من الرضاعة من الأم ، أو توفيت الأم فشريعة الإسلام أوجبت على والده إحضار مرضعة لهذا الطفل بأجرٍ سلامة له.

ولقد أثبتت بعض الدراسات الصحية والنفسية أن فترة رضاعة الطفل المقررة شرعا بحولين كاملين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الناحيتين: الصحية والنفسية ، وتقوي شعور الطفل بالدفء والحنان والأمان وهو ملتصق بأمه مما يساعد على تنشئة الطفل تنشئة سوية ويحيا حياة كريمة.

ومن أسس التنشئة السوية للأطفال: الإحسان إليهم وعدم الغلظة والشدّة معهم ، فمن المقرر شرعا أن الرفق لا يأتي دائما إلا بكل خير ، فعن أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أن النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ) (صحيح مسلم) ، فالقسوة والغلظة في التربية وتقويم سلوكيات الطفل تؤدّيان في أغلب الأحوال  إلى نفوره من المربّي ، وكرهه ، وعدم الانصياع لكلامه. وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يحمل الحسن والحسين (رضوان الله عليهما )على كتفيه ويلاعبهما، وكان مبدأه (صلى الله عليه وسلم) في التربية هو اللين والرفق ، فعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إِذْ أَقْبَلَ حَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ، وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ فَحَمَلَهُمَا وَقَالَ: ( صَدَقَ اللهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}[التغابن: 15] ، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ، وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى نَزَلْتُ فَحَمَلْتُهُمَا) (سنن النسائي).

          إن المربي الرفيق ـ والدا كان أو معلما ـ هو الذي يراعي هذا الأساس العظيم من أسس التربية وهو المعاملة برفق ولين ، ويبتعد عن الغلظة والقسوة ، ويعالج الأخطاء بحكمة ورحمة، فالقسوة تورث في قلب الطفل الخوف والجبن فضلا عن حالة من الاضطراب النفسي والخجل والتردد ، قال الأحنف بن قيس في إحدى نصائحه لا تكن عليهم قُفلا فيتمنّوا موتك ويكرهوا قُربك ويملُّوا حياتك. إن التعامل بالرفق لا ينافي استعمال العقوبة عند الحاجة إليها ، لكن يجب أن نذكر أنّ العقوبة يجب أن تستعمل بحكمة ، فلا  تكن على كل مخالفة يقوم بها.

كذلك من أسس التنشئة السوية للأطفال: العدل والمساواة بينهم جميعًا ، فالعدل بين جميع الخلق مبدأ إسلامي أصيل يجب مراعاته ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[ المائدة: 8] ، وينبغي أن يطبق هذا المبدأ خاصة بين الرجل وأولاده .

وقد وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) الآباء والأمهات لهذا المبدأ وضرورة الالتزام به ، بل وقرن الأمر به بالأمر بتقوى الله عز وجل ، فعَنْ عَامِرٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ( أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(صحيح البخاري) ، وروى عبدالرزاق في مصنفه أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) دَعَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَضَمَّهُ وَأَجْلَسَهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَتْهُ ابْنَةٌ لَهُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَأَجْلَسَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَوْ عَدَلْتَ كَانَ خَيْرًا لَكَ ، قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ وَلَوْ فِي الْقُبَلِ ).

فالعدل بين الأولاد له فوائد عظيمة ، فهو من أعظم أسباب الإعانة على البر ، ويساعد على تقديم جيل صالح سوي للمجتمع ، ويساعد على زرع الأخوة بمعناها ومبناها بين الإخوة. 

وعلى النقيض نجد التفريق بين الأولاد من أعظم أسباب العقوق والهجر والكراهية ، ويكون سببا ً في زرع الضغينة بين الأبناء .

وقد أثبتت بعض البحوث النفسية أنّ ظهور الإضرابات النفسية والاجتماعية على الطفل يرجع في أغلبها إلى إحساس الطفل بالظلم وعدم العدل مع أقرانه ، وليس أدل على ذلك من تصرف إخوة يوسف معه حين خُيل إليهم تفرقة في المعاملة من أبيهم يعقوب (عليه السلام) وتفضيله ليوسف (عليه السلام) عليهم ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }[يوسف: 7 ـ 9].

كذلك من الأسس التي وضعها الإسلام لضمان تنشئة سوية للأطفال: التربية والتوجيه على أسس شرعية ، فلقد أمر القرآن الكريم الآباء والأمهات بضرورة العمل على وقاية النفس والأهل من الوقوع في التهلكة ، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6] ، وتربية الطفل وتأديبه على أسس شرعية مطلب شرعي ، وهو أيضا حق من حقوق الولد على الوالد ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا حَقَّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، فَمَا حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ؟ قَالَ: ( أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ، وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ) (شعب الإيمان للبيهقي). وروى الترمذي في سننه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ).

          فمن أهمّ أسس التنشئة السوية عند الأطفال توجيههم وتربيتهم تربية فاضلة ، وينبغي أن تكون التربية والتعليم باللُّطف ، دون إحراج خاصة أمام الآخرين ، وهذا ما كان يحرص عليه النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) في تربيته للأطفال ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمًا، فَقَالَ: ( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه الترمذي) .

          وها هو النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) يربي ويوجه بأدب ورفق ضاربا أروع الأمثلة في توجيه الطفل وإرشاده ، فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ (رضي الله عنهما ) قَالَ: كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي: (يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) (رواه مسلم). قال الإمام الغزالي (رحمه الله): والصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، فإن عٌود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.

ومن ثم ينبغي على المربي أن يكون قدوة لأولاده ، فيتحلى بمكارم الأخلاق قبل أن يأمرهم بها ، فإن الأبناء يقلدون الآباء.

ولله در من قال: 

وينشأ ناشئ الفتيان منا            على ما كان عوده أبوه

جدير بالذكر أن تربية النشء ليست قاصرة على الوالدين فحسب، بل تشمل المعلم بالمدرسة ، فالمعلم يمثل قيم المجتمع وعليه مهمة تنشئة الأطفال تنشئة اجتماعية مرتبطة بقيم وتقاليد المجتمع الذي يعيشون فيه ، فإن الأطفال أمانة يتحمل المجتمع بأسره مسئولية رعايتهم، وحسن تربيتهم؛ وعلى الجميع أن يدرك عظم المسئولية الملقاة عليهم تجاه الأطفال، وليس أدل على ذلك من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، قَالَ الراوي:وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (صحيح البخاري) .

إن الإسلام يحمل الوالدين مسئولية حفظ الأبناء ، فعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفَظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان). وعندما نظر إلى الطفل اعتبره إنسانا له كامل الحقوق الجسدية والنفسية والمالية والتعليمية والتربوية ، وأمر بالمحافظة عليها، يسعى بذلك لتحقيق حياة كريمة للأطفال ، حتى يكون المجتمع متحضرا ، تسوده روح الألفة والمودة والمحبة والرحمة.

 

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

عظمة الإسلام وخطورة المتاجرة به والافتراء عليه

أولاً: العناصر:

1-    عظمة الجوانب الأخلاقية في الإسلام.

2-    عظمة الجوانب الإنسانية.

3-    خطورة المتاجرة بالدين.

4-    خطورة الافتئات على الدين.

5-    حرمة القتل والتخريب.

ثانيًا: الأدلة:

      الأدلة من القرآن:

1-    قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

2-  وقال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 133، 134].

3-    وقال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].

4-  وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ  * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 -10].

5-  وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

6-    وقال تعالى:{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95].

7-  وقال تعالي: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء: 93].

الأدلة من السنة:

1-  عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) قال :  (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (مستدرك الحاكم).

2-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) : ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) (سنن الترمذي).

3-  وعَنْ مَسْرُوقٍ : قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَقَالَ : لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ (خَيْرِكُمْ) أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا) (صحيح البخاري).

4-    وعن عائشة (رضي الله عنها) حين سئلت عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) قالت: (كَانَ خلقه الْقُرْآن) ( مسند أحمد ).

5-  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ )صلى الله عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) (متفق عليه).

6-  وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ )صلى الله عليه وسلم)  قَالَ : ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا) (صحيح البخاري).

ثالثا: الموضوع:

          لقد تحدث القرآن الكريم عن الأخلاق حديثًا عظيمًا ، فما من كتاب دعا إلى مكارم الأخلاق مثل القرآن الكريم ، فالنهج الأخلاقي القرآني يمثل إعجازًا، فإذا تأملنا كيف تغيرت بلاد العرب خلال سنوات قليلة بعد أن كانت موطنًا للوثنية والجمود والقسوة والعنف والظلم وغير ذلك من سيِّء الأخلاق، وكيف تغيرت سلوكياتهم وعاداتهم ، فتعلموا ضبط النفس ومكارم الأخلاق ، وتخلصوا من العصبية والغضب بالحلم والصفح ، وتخلصوا من الضغائن والأحقاد ، وتعلموا الرفق والعفو والإحسان.

والنموذج العملي الأكمل في امتثال الأخلاق الإسلامية هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي وصفه القرآن الكريم بأنه على خلق عظيم ، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. فقد كان (صلى الله عليه وسلم) أجمع الخَلْق خُلُقا ؛ لأنه كان أجمعهم للقرآن الكريم تطبيقًا وامتثالاً، كما ورد على لسان أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) حين سئلت عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) قالت: (كَانَ خلقه الْقُرْآن) ( مسند أحمد ).

كما تحدث القرآن الكريم عن عظمة الجوانب الإنسانية في الإسلام ، فتحدث عن البشرية جمعاء مبيِّنا أنهم متساوون في الخلقة والتكريم على سائر المخلوقات ، قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ليؤكد بذلك على مبدأ لا يقبل حذفا ولا تعديلا ولا نسخا ولا تعطيلا وهو هدف من أهداف الخلق وهو (التعارف والتآلف) قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ، فالقرآن يبين عظمة الإسلام في نظرته لكل البشر بغض النظر عن اللون والجنس والديانة ، وهذا يجسد مفهوم الحقوق والواجبات ، والرحمة والصدق ، ومفهوم الولاء والانتماء ، وترسيخه بين المسلم وغيره ممن يعيشون تحت مظلة وطن واحد ، ويؤمن بسنة التنوع والاختلاف ، فالاختلاف بين الناس سنة من سنن الله عز وجل الكونية ، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118، 119] .

ولقد تجسَّد هذا المفهوم من خلال وثيقة المدينة التي كانت بمثابة الدستور الأول المنظم للعلاقات بين البشر ، والتي تعد أفضل أنموذج في فقه التعايش السلمي بين البشر جميعا على اختلاف أديانهم وأعراقهم ، كما جسد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه العظمة الإنسانية في تعامله مع غيره ممن لا يدينون بدين الإسلام بأواصر الترابط والتراحم ، فعن ابْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ (خَيْرِكُمْ) أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا).

ولقد ربى النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على هذا الخلق العالي الرفيع حينما أعلنها مدوية معرفًا المسلم الحقيقي حين قال :( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ) فقد بيَّن الإسلام للبشر أن المسلم سِلْم للمسلم ، وسِلْم لغير المسلم .

فالأخلاق الإنسانية تقوم على مبدأ العطاء، فينكر المسلم ذاته وحظ نفسه في سبيل الآخرين، وقد أطلعنا القرآن الكريم على عينات رائعة من نماذج ليست مقصورة على أفراد معينة بل أصبحت صفة للمسلمين عامة ، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[لحشر:9]، وقال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].

ولقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة في العطاء أفرادًا وجماعاتٍ ، فلما هاجر الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وآخى بين المهاجرين والأنصار كان الأنصاري يشاطر أخاه المهاجر بنصف ماله.

ولقد حذر الإسلام أن يتخذ الإنسان الدين وسيلة لكسب أغراض سياسية أو حزبية ، دينية أو دنيوية، لأن ذلك يعد متاجرة بالدين ، والمتاجرة بالدين هي النفاق بعينه الذي قال عنه ربنا سبحانه وتعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة: 8 - 10].

إن أخطر ما يهدد البلاد ويؤدي إلى الفرقة والتشاحن إساءة استخدام الدين ، والمزايدة عليه ، سواء بالشعارات الجوفاء أو بالخطب الرنانة أو بالمجادلات العقيمة التي لا تحقق نتيجة ولا تصل إلى غاية ، وما ذلك إلا متاجرة بالدين.

ومن صور المتاجرة بالدين وتوظيفه لأغراض سياسية أو سلطوية ، تلك الدعوات الآثمة إلى رفع المصاحف ، ونقول لهؤلاء محذرين من الاستجابة لدعواتهم : هذه فعلة الخوارج ، فما أشبه الليلة بالبارحة ، لقد صنع الخوارج هذا الصنيع وخرجوا على سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ورفعوا المصاحف ، وقالوا: لا حكم إلا لله، ثم كفروه وهو من هو (رضي الله عنه) ، وكانت فتنة عظيمة سفكت فيها الدماء، ونهبت فيها الأموال ، وتحول رفع المصاحف إلى رفع السيوف وقتل الآمنين على الرغم أن من قواعد الشريعة التي يرفعون ظلمًا وخداعًا شعارها: حفظ الدين، والنفس ، ومن قواعدها أيضا : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .

 وهذه الدعوات الآثمة التي يرفعونها قد تؤدي ما لم نتنبه لها إلى فتن عظيمة تعصف بالبلاد والعباد من قتل وتدمير وتخريب وزعزعة لأمن الفرد والمجتمع ، فالشريعة تدعو إلى تعظيم شأن المصحف وصيانته عن كل مالا يليق به ، فكيف بالمصحف الشريف حين يحدث الهرج والمرج ، أو يحدث احتكاك بين هؤلاء وبين المعارضين لهم ، أليس من المحتمل ، بل من المؤكد أن تسقط بعض المصاحف من أيديهم على الأرض وربما تهان بالأقدام ، ولا حول ولا قوة إلا بالله! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم ، إثمه وإفكه على من دعا إليه أو يشارك فيه.

إن إقحام الدين في السياسة والمتاجرة به لكسب تعاطف العامة إثم كبير وذنب خطير ، ويكفي الإسلام ما أصابه من تشويه صورته في الداخل والخارج على يد ولسان بعض المنتسبين إليه ، وليس لهم من حقيقته إلا مجرد أسمائهم وبطاقات هوياتهم.

ونؤكد على حرمة المشاركة في هذه التظاهرات الآثمة ، وعلى إثم من يشارك فيها من الجهلة والخائنين لدينهم ووطنهم.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الأمانة وأثرها على الفرد والمجتمع

أولًا: العناصر:

1-  الأمانة ومكانتها في الإسلام.

2- خطورة الكلمة.

3-الأمانة في القول والعمل.

4-الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران.

5- أثر الأمانة على الفرد المجتمع .

ثانيًا : الأدلة :

       الأدلة من القرآن الكريم:

1-     يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء : 58].

2-     ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 70 - 72] .

3-     ويقول تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون : 8 - 11].

4-     ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: 27 ، 28].

5-     ويقول تعالى: {...فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .

6-     ويقول تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[آل عمران:75 ، 76].

7-     ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...} [المائدة: 1].

  الأدلة من السنة :

1- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): ( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) ( متفق عليه ).

2-وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ (يعني رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : ( فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ (يَأْمُرُ) بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ) (صحيح البخاري).

3-وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (صحيح البخاري).

4-وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( رضي الله عنه) قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَّا قَالَ: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ )( أخرجه أحمد والبزار ).

5-وعن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) (صحيح البخاري).

6-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ) ( أخرجه أبوداود ).

7-وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ) (متفق عليه ).

8- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) (صحيح البخاري).

ثالثًا : الموضوع:

من كمال الإيمان وحسن الإسلام أن يتخلق المسلم بأخلاق القرآن الكريم ، التي دعانا إليها ديننا الحنيف وحث على التحلي بها حتى يعيش المجتمع في خير وبركة ، ومن تلك الأخلاق : الأمانة ، فهي خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين الصالحين ، لا يستطيع تحملها إلاّ الرجال العظام الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم ، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها ، وإن من عظيم شأنها وجلال خطرها أن عرضها المولى (سبحانه وتعالى) على بعض مخلوقاته فأعرضن عن حملها وخفن من ثقلها وشدتها ، وحملها الإنسان ، وقد أعطاه الله من النعم التي تعينه على أداء مسئوليته والقيام بأمانته، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72].

والأمانة هنا كما قال جمهور المفسرين: كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمرٍ ونهي وشأنِ دينٍ ودنيا ، فالشرع كله أمانة، ومن جملة هذه الأمانات : أمانة القول والعمل ، والأمانة في العبادة ، والأمانة في حفظ الجوارح ، والأمانة في الودائع ، والأمانة في البيع والشراء ، والأمانة في حفظ الأسرار فالكلمة أمانة ، يجب على قائلها أن يتقي الله (عز وجل) فيها ، لما لها من خطورة وما يترتب عليها من خير كبير أو شر مستطير ، فقد ترفع صاحبها إلى مراتب الصديقين ، وقد تهوي به في دركات الهالكين ، فعن بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ (رضي الله عنه) يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)[سنن الترمذي].

إن الكلمة قد تخرج من فم الإنسان بلا تفكير فتسبب بلاءً كبيرًا لا يمكن تداركه ، ومن هنا يجب على الإنسان ألا ينطق إلا بالقول الطيب المستقيم الذي يرضي الله (عز وجل) والذي ينفع ولا يضر ، ويبني ولا يهدم ، ويعمر ولا يخرب ، يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:70-71] ، فقد وجه الإسلام أتباعه إلى التثبت والتحقق من كل ما يقال أو يشاع ، إذ ليس كل ما يُقال يُصدق قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]. فكل كلمة تخرج من فم المسلم سيحاسب عليها .

كما أن الأمانة في القول تتطلب صدق الحديث وسلامة اللسان ، فالتحدث باسم الدين أمانة ومسئولية تحتاج إلى علم ، والكلام في دين الله بدون علم خيانة لله ورسوله ، يقول الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

أما الأمانة في العمل فتتطلب أن يراقب الإنسان ربه (عز وجل) في عمله المكلف به، سواءً أكان صاحب العمل حاضرًا أم غائبًا ، وسواءً أكان عملاً عامًا أم خاصًا ، وليعلم أن الله تعالى  يراقبه من فوق سبع سموات ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، فعن عبد الله بن دينار ، قال: ) خرجت مع ابن عمر إلى مكة ، فعرسنا ، فانحدر علينا راع من جبلٍ ، فقال له ابن عمر: أراع ؟ قال: نعم، قال: بعني شاةً من الغنم ، قال: إني مملوك ، قال: قل لسيدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله ؟ قال ابن عمر: فأين الله!! ثم بكى، ثم اشتراه بعدُ فأعتقه ) (سير أعلام النبلاء).

وأما أمانة حفظ السر فيجب المحافظة عليها ؛ لأن إفشاء السرّ خيانة ، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ ) (رواه الترمذي وحسنه) ، ومن أشد ذلك أثرًا إفشاء السر بين الزوجين ، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة : الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ، ثم ينشر سرها ) ، فليكن صاحب المجلس أمينًا لما يسمعه ويراه ، وما يقع فيه من قَول وفعل.

أما أمانة المسئولية فكل من ولي من أمر المسلمين شيئًا فهو أمانة في عنقه ، سواء أكان رجلا أم امرأة فهو راعٍ ومسئول عن رعيته ، كما علمنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها (زوجها) وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) [متفق عليه].

إن خلق الأمانة من أبرز ملامح الدين الإسلامي ، ولذلك حين سأل هرقل عظيم الروم أبا سفيان عن دين الإسلام وصفة نبيه (صلى الله عليه وسلم) أخبره أنه يأمر بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ) فقَالَ له هرقل : (هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ) فأبو سفيان في هذا الموضع يذكر ما رآه أهم ما يميز الإسلام.

لقد تَمَثَّلَ خلق الأمانة في شخص سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وكان أشهر من اتصف بالأمانة في كل أمور حياته ، قبل البعثة وبعدها ، حتى إن أعداءه وخصومه كانوا يلقبونه قبل بعثته بالصادق الأمين ، وكان (صلى الله عليه وسلم) أحرص النَّاس على أداء الأمانات وردّ الودائع لأصحابها حتى في أصعب الأوقات ، فحين هاجر (صلى الله عليه وسلم) أمر عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن ينام في فراشه وأن ينتظر ليرد الأماناتِ المودعةَ عنده إلى أهلها ، مع أنهم قوم ناصبوه العداء ، وأخرجوه وآذوه وآذوا أصحابَه وأخذوا كل ما يملكون ، ذلك لأن المؤمن لا تحل له الخيانة حتى مع أعدائه، والله تعالى يقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، فالمؤمن لا يعرف الخيانة حتى مع الخائنين ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ): (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ).

          إن خيانة الأمانة صفة من صفات النفاق ، جعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) علامة يعرف بها المنافق ، فقال (صلى الله عليه وسلم): ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)،  بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) نفى الإيمان عن خائن الأمانة ومضيعها فقال: ( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ )، وذلك لما يترتب على خيانة الأمانة من فساد المعاملات بين الناس ، وقطيعةٍ بين أفراد المجتمع ، وتباغضٍ يفضي إلى النزاع والشقاق ، وتكدُّس في المحاكم بالعديد من القضايا التي يعدُّ سببها الأول خيانة الأمانة.

ومن ثم فيجب على المسلم أن يكون حريصًا على الأمانة حافظًا لها ، لأن جزاء خائن الأمانة عظيم وأليم ، بيَّن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سوف يعذب بسببها في النار، وسوف تكون عليه خزيًا وندامة يوم القيامة، فعن ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ) (أخرجه مسلم)، ويكفي خائن الأمانة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خصيمه يوم القيامة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم) : ( ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ) ( أخرجه ابن ماجه) .

فليحذر المسلم من العقوبة التي تنتظر مضيع الأمانة ، فالخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران ، ففي الحديث عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قال : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم )، وعلى المجتمع بكل أطيافه أن يرجع إلى كتاب ربه ، وسنة نبيه ، فتصفو القلوب ، وتتوحد المشاعر، وتتكامل الأدوار لرفعة هذا الوطن ، وتنطق بخيريتها جميع الأمم ونكون مثالًا ونموذجًا مشرّفًا لهذا الدين العظيم.

          وإنَّ من علامات قيام الساعة ضياع الأمانة والتّفريط فيها والتّهاوُن في أدائها ، وتغليب المصالح الخاصّة على المصالح العامّة فتقطع الأرحام ويُساء الجوار ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ، حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ ، وَسُوءُ الْجِوَارِ) ( رواه أحمد) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) (أخرجه الإمام البخاري).

فكل إنسان لا يؤدي ما يجب عليه من أمانة أو يراقب الناس ولا يراقب الله ( عز وجل) فهو خائن، والله لا يحب الخائنين، قال تعالى: {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}[النساء: 107، 108]، وقد نهانا الله (عز وجل) عن الخيانة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27].

          إن للأمانة أثرًا جليلاً على حياة الفرد ، فهي تقوي صلته بربه ، وتحقق مرضاة الله (عز وجلّ) وتزيد ثقة الناس في صاحبها ، فبها يحفظ الدين ، وتصان الأعراض والأرواح والأموال ، وتصل الحقوق إلى أصحابها .

           كما أن لها أثرًا بالغًا على المجتمع فتقوي العلاقات والروابط بين الأسر ، وتؤسس لمجتمع فاضل إيجابي  يملأه الأمل ، وبيئة صالحة للإنتاج والعمل ، فحفظ الأمانات ينظم شئون الحياة كلها من عبادات ومعاملات وآداب ، وتكافل اجتماعي ، وحكم رشيد ، وخلق حسن كريم، وهي بذلك سر سعادة الأمم في الدنيا والآخرة ، فعندما يلتزم الناس بالأمانة يتحقق لهم الخير، ويعمهم الحب والرخاء  وتنتشر بينهم المودة  والسخاء

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

المسلم من سلم الناس من لسانه ويده

وضرورة كف الأذى عن المجتمع

  أولاً : العناصر :-     

1.     متانة الروابط في المجتمع المسلم.

2.     تحذير الإسلام من أذى العباد.

3.     حرمة المؤمن عند الله.

4.     من صور الإيذاء المحرم للمسلم وغيره.

5.     فضل دفع الأذى عن الناس.

    ثانياً: الأدلـــة:-

         الأدلــة مـن القـرآن:-

1.      قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11].

2.      وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }[الأحزاب: 58].

3.      وقال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور: 15].

4.      وقالَ تَعالى :{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق: 17- 18].

5.      وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

6.      وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] .

الأدلــة مـن السنة:-

1.   عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) قال إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ: ( مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ) (رواه مسلم).

2.   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (متفق عليه).

3.   وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ). وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ) (رواه مسلم).

4.   وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)  قَال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).

5.   وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ ، وَاللَّهُ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ) (رواه الترمذي).

6.   وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ : وَاللَّهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُؤْذِيهِمْ. فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ) (رواه مسلم).

7.   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) (رواه مسلم).

8.   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ) (متفق عليه).

9.   وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَفْعَلُ وَتَصَّدَّقُ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا خير فيها هي من أهل النار) (رواه البخاري في الأدب المفرد).

ثالثا: الموضوع:

لقد حث الإسلام أتباعه على المحافظة على الروابط الإنسانية ، والأخوة الإيمانية التي تربط وتوثق الصلة بين أفراد المجتمع ، قال تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10].

          فالمحافظة على الأخوة بين أفراد المجتمع تزرع المودة والألفة بين الجميع ، من هنا حرص الإسلام كل الحرص على أن يكون المسلم إنسانا كاملا يحمل الخير لكل من حوله ، فلا يؤذ أحدًا بلسانه ولا بيده ولا يتناول أعراض الناس وسلوكهم بما يكرهون ، ولا يشتم أحدا منهم ولا يجري قبيح الكلام على لسانه ، ولا يسف في القول فيخرج عن دائرة الأدب.

ولقد جاءت الشريعة بالآداب والتوجيهات التي تعظم الحرمات وتحمي جناب المسلم أن يُمَس بأدنى أذى ولو كان لمشاعره وأحاسيسه ، وقرر الإسلام مبدأ الأخوة التي تستوجب الإحسان وتنفي الأذى بكل صوره وأشكاله ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحاسَدُوا ولا تناجشُوا ولا تباغَضوا ، ولا يبِعْ بعضُكُمْ على بيعِ بعْض ، وكُونوا عبادَ الله إخوانَا ، المسلمُ أخو المسْلم لا يظلمْهُ ولا يحقِرْه ولا يَخْذُله ، التقوى هَا هُنا ، وأشارَ بيدِه إلى صدرِهِ ثلاثا ، بِحسْبِ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقرَ أخاهُ المسلِم .. كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرَام دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ ) رواه مسلم ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : ( لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يحبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه ) (متفق عليه) .. ولقد كانت (حجة الوداع) إعلانا لحقوق المسلم وإشهارًا لمبدأ كرامته وتعظيم حرمته وقدره عند الله (عز وجل) وتحريم أذيته بأي وجه من الوجوه في ميثاق تاريخي نودي به في أعظم جمع جمعه الله.

والمتأمل في الشريعة الإسلامية يجد أنها نهت عن أذى المسلم لعظم حرمته ، وحتى لا يفضي ذلك إلى وقوع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويؤدي إلى انتشار الفوضى وزعزعة الأمن الاجتماعي وقطيعة الرحم وانصرام حبال المودة بين الأصحاب ، كما أن انتهاك هذه الحرمة التي عظمها الله والتعدي على المسلمين بأذيتهم لمن أعظم الذنوب والآثام ،  قال تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب : 58) . وتزداد الجريمة إثمًا إن كانت الأذية للصالحين والأخيار من المؤمنين ، وفي الحديث القدسي يقول الله ( عز وجل) : (مَنْ عَادَى لي وليًّا فقدْ آذنتُهُ بالحرْب) (راوه البخاري ).

وقد يكون المسلم الضعيف المغمور وليًّا لله وأنت لا تدري ؛ فاحذر من أذية من تولى الله الدفاع عنهم ، قال ابن كثير - رحمه الله- :  ( وقوله : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا }- أي ينسبون إليهم ما هم برءاء منه لم يعملوه ولم يفعلوه - {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }، وهذا هو البهت البين أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم) .

          ولقد حرَّمت  الشريعة  كل ما يؤدي إلى مضايقة المسلم في مشاعره ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): ( إذا كُنْتمْ ثلاثَة فَلا يتنَاجَى اثنانِ دونَ صاحبِهِمَا .. فإنَّ ذلكَ يُحْزِنُه)، وفي رواية: ( فإنَّ ذلكَ يُؤذِي المؤمِن ، والله يكْرَهُ أذَى المؤمِن ). (راوه الترمذي).

بل وصل الأمر إلى الجزاء بالجنة لمن أزال شوكة عن طريق المسلمين .. قال (صلى الله عليه سلم ): ( مر َّرجلٌ بغصنِ شجرةٍ على ظهرِ طريق ، فقال : واللهِ لَأُنحيَنَّ هذا عنِ المسلمِين لا يؤذِيهِم؛ فأُدخِلَ الجنَّة ). (رواه مسلم) .. فهذا ثواب من كفَّ عن المسلمين أذى وإن كان يسيرا .. وإن لم يتسبب فيه.

إن مجرد كف الأذى لَهُو معروفٌ وإحسان يثاب عليه المسلم .. قال ( صلى الله عليه وسلم): ( تكفُّ شرَّكَ عنِ الناسِ فإنها صدقةٌ منكَ على نفسِك ) (رواه مسلم) . ولما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (أيُّ المسلمين خَير ؟ قال : ( مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِنْ لسانِهِ ويدِه ) (متفق عليه)  ، وفي رواية : ( المسلمُ مَنْ سلِمَ المسلمونَ من لسانِه ويدِه ) ثم تأتي رواية شاملة للناس جميعًا فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعاصِ (رضي الله عنه) قال : إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ).  قال ابن حجر - رحمه الله -: فيقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام ، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب ؛ إذ سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة ، وأذى المسلم حرام باللسان أو اليد.

وللإيذاء صور كثيرة ، وعلى المسلم أن يتجنب جميعها ؛ خاصة ما ورد النص عليه تنبيها لخطره وتعظيما لأثره .. ومن صور الأذى ما ورد في الغيبة والنميمة وأذية الجيران والخدم والضعفاء  قال (صلى الله عليه وسلم ): (مَنْ ظلمَ معاهَدًا أو انتقصَه أو كلَّفهُ فوقَ طاقتِه أو أخذَ منه شيئا بغير طيب نفسه فَأنا حجِيجُهُ يومَ القيامة ) (رواه أبو داوود).

فإذا كان هذا في ظلم المعاهَدِين فكيف بمن ظلم إخوانه المؤمنين ؟! عن أبي هريرة (رضي الله عنه)  قال : ( قِيلَ يا رسولَ الله .. إنّ فلانةَ تصلِّي الليلَ وتصومُ النَّهارَ وتؤذِي جيرانَها بلسانِها ، فقال : لا خيْرَ فيها .. هي في النَّار ) . (رواه أحمد). وقال صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يؤذِ جارَه )  (متفق عليه).

ومن صور الأذى : السباب والشتائم والغيبة والنميمة والقدح في الأعراض ، والله – تعالى – يقول: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور: 15] ، وعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : (صعِدَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) المنبر فنادَى بصوتٍ رفِيع ، فقال : (يا معشرَ مَنْ أسلَمَ بلسانِهِ ولمْ يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه .. لا تُؤذُوا المسلمِينَ ولا تُعيرُوهُمْ ولا تتَّبِعُوا عورَاتِهِم ؛ فإنَّ مَنْ تتبَّعَ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَه ، ومنْ تتبعَ الله عورتَه يفضحْهُ ولو في جوفِ رَحلِه) ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة ، فقال : ما أعظمك وما أعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمةً منك) . (رواه الترمذي).

كل ذلك يوضح خَطَرَ اللِّسانِ فعلى المسلم أن يعمل بِمَا قالَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ): ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ) ، ويعمل بِما قالَهُ سَيِّدُنا عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ ( رضي الله عنه) حَيْثُ أَمْسَكَ لِسانَهُ وخاطَبَهُ قائِلاً : يا لِسانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ واسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَم. 

          فَإِيّاكَ أيها الْمُسْلِم وَالاِسْتِهْزاء بِأَخِيك الْمسلم بِكَلام تَجِدُه سهلاً على لسانك يكون سببًا في عَذاب النار يوم القِيامَةِ وإِيّاكَ وسَبَّ مسلم أَو لعنه بِغيْرِ حَقٍّ فَإِنّكَ تَجِد وَبالَهُ يَوْمَ لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وإِياك أَن تغتابَ مسلمًا فَيَكُونَ سَبَبَ عَذابِكَ في قَبْرِكَ وإِيّاكَ أَنْ تَرْمِيَ مُسْلِمًا أو مُسْلِمَةً بِالزِّنَى فَتَهْلِكَ في الآخِرَةِ فَالعاقِلُ مَنْ عَقَلَ لِسانَهُ ووَزَنَ قَوْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ فَكُلُّ ما تَتَلَفَّظُ بِهِ يَكْتُبُهُ الْمَلَكانِ الْمُوَكَّلانِ بِذَلِكَ ، فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 17 - 22] ، واجتمع قس بن ساعده وأكثم بن صيفي فقال أحدهما للآخر : كم وجدت في ابن آدم من عيوب ؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى ، والذي أحصيته كثير ، ووجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها ، قال : ما هي ؟ قال : حفظ اللسان .

احــفـظ لســانك أيهـــــا الإنســــــان  ***     لا يـلـدغنــــك إنـــه ثعبـــــــــــــــــــان

كم في المقــــــابر من قتيـــل لســـانه    ***    كانت تهــــاب لقــــــاءه الشجعــــــان

فالمسلم لا يؤذي غيره بلسانه وكذلك المسلم يسلم المسلمون من شر يده ، فلا يؤذِ أحدًا بِضَرْبٍ أو قَتْلٍ ، أو سرقة ، أو كتابةِ ما يضر المسلمين في عقيدتهم وأخلاقهم، أو يخدش في أعراضهم. ويدخل في ذلك الاستيلاء على حقوقهم عن طريق الظلم والمعاملات المحرمة. وينبغي للمسلم أن يعلم بأن أذية المسلمين من أعظم ما يقضي على حسنات المرء في الآخرة. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) . وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم): أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: ( إِيمانٌ بِاللهِ وَجِهادٌ في سَبيلِهِ قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقابِ أَفْضَلُ قَالَ: أَغْلاها ثَمَنًا وَأَنْفَسُها عِنْدَ أَهْلِهَا قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ َلأخْرَقَ قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ: تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّها صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِها عَلى نَفْسِكَ) . فمن تمام الإسلام أن يسلم المسلمون من يدك، فلا تؤذ أحدًا بفعلك.

ومن صور الأذى الكتابة على أملاك الآخرين بلا إذن من صاحب الملك، وتشويه الشوارع العامة بكتابة ما يتنافى مع ديننا وقيمنا وأخلاقنا وذوقنا ، ورمي المخلفات في الطريق.

ومن صور الأذى التدخل في خصوصيات الأقارب والجيران وتتبع عوراتهم وإبداء الرأي في أحوالهم وإلقاء اللوم عليهم ونقد تصرفاتهم دون استشارة منهم أو إذنهم وعلمهم بذلك في الوقت الذي لا يسمح المتكلم لأحد التدخل في شؤونه.

ومن صور الأذى التدخل في عمل الغير وتتبع عوراته وهو لا يمت بصلة إلى هذا العمل من أي جهة وليس مسؤولاً عنه ، ولا مخولاً بذلك ، بينما كان الواجب عليه أن ينصحه إذا رأى تقصيرًا واضحًا  دون التدخل في هذا العمل ، ففي الحديث عن عليِّ بنِ حسينٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُه ما لا يَعنيهِ).

وصور الأذى لا تكاد تنحصر في الناس من كثرتها ، مما يدل على سوء الأخلاق ، وينافي تعاليم الإسلام الذي جعل الأخلاق من أجلِّ العبادات وأفضلها. وفي ذلك من التشديد قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (من آذَى الْمُسْلِمِينَ في طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عليه لَعْنَتُهُمْ) (رواه الطبراني بإسناد حسن).

إن الله عز وجل كما تعبدنا بفعل الطاعات تعبدنا أيضا بحفظ حرمة المسلمين وعدم التعدي عليها بنوع من الأذى. فالمسلم كما يؤجر على فعل الطاعات وبذل المعروف كذلك يؤجر على كف الأذى وصرف الشر عن المسلمين لأن ذلك من المعروف ويدخل في معنى الصدقة.

إن دفع الأذى عن المسلم أمرٌ محمود عندَ الله جلّ وعلا، وفعلٌ مرغوب كما يقول أحد السّلف معبِّرًا عن منهاج النبوّة: ( اجعَل كبيرَ المسلمين عندك أباً، وصغيرَهم ابنًا، وأوسطَهم أخًا، فأيّ أولئك تحبّ أن تسيء إليه)، ويقول آخر: ( ليكُن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه ، وإن لم تُفرحه فلا تغمَّه، وإن لم تمدَحه فلا تذمَّه). فالمسلم الحقيقي هو الذي تظهر عليه آثار الإسلام وشعائره وأماراته ، هو الذي يكف أذى لسانه ويده عن المسلمين ، فلا يصل إلى المسلمين منه إلا الخير والمعروف. 

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الإتقان سبيل الأمم المتحضرة

أولًا: العناصر:

1-       دعوة الإسلام إلى إتقان العمل.

2-       إتقان العمل واجب ديني ووطني.

3-       الإتقان سبيل رفعة البلاد.

4-       المراقبة والمتابعة طريق الإصلاح. 

ثانيًا- الأدلة:

       الأدلة من القرآن الكريم:

1-   يقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].

2-       ويقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف: 30] .

3-       ويقول تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }[النمل: 88].

4-       ويقول تعالى :{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران: 195].

5-       ويقول تعالى:{...إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: 90].

6-       ويقول تعالى:{...وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 128].

7-       ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }[هود: 117].

    الأدلة من السنة والآثار:

1- عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ) وفي رواية : ( إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن) (شعب الإيمان للبيهقي).

2- وعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُمْكِن لَهَا، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (سَوُّوا لَحْدَ هَذَا) حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ)(شعب الإيمان للبيهقي).

3- وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، قَالَ صَدَقْتَ.... قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ...)(متفق عليه).

4- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)(صحيح مسلم).

5- وقال أبو بكر (رضي الله عنه): ( إن عليك من الله عيونًا تراك)( مجمع الأمثال للميداني).

6- وقال عمر (رضي الله عنه): ( إلى الله أشكو ضَعْفَ الأمين وخيانة القوى)( مجمع الأمثال للميداني).

ثالثًا- الموضوع:

إن الإتقان في العمل والاهتمام به والمحافظة عليه والتميز فيه من أهم القيم والمبادئ التي دعا إليها الإسلام ، فهو أساس نهضة الأمة ، به يعلو شأنها، وتستقيم حياتها، وبه يكون بناؤها بناءً قويًا شامخًا، والإتقان هو الذي تقوم عليه الحضارات، ويعمر به الكون وكذلك هو هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقى به إلى مرضاة الله تعالى والإخلاص له ، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وإخلاص العمل لا يتم إلا بإتقانه.

ولقد لفت الله تعالى أنظارنا إلى الإتقان، حيث خلق كل شيء بإتقان مُعجز، يقول تعالى:{...صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]، وأوجب على الإنسان السعي نحو الإحسان والإجادة ، ونهاه عن الإفساد فقال: {...وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[البقرة: 195]، وقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].

ولقد دعانا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى إتقان العمل وتجويده والإخلاص في أدائه طلبًا لمرضاة الله تعالى، ونصحًا لعباده، وخدمة وتعاونًا بين أفراد المجتمع، ووعد على ذلك الثوابَ العظيمَ والثناء الحسن في الدنيا والآخرة ، وبيَّن أن الإنسان وهو يزاول عملًا ما يكون تحت رقابة الله العلــيم بمكنونات الصـدور وخفايا القلــوب، وأنه لا يغيب عنه مثاقيل الذر من أعمــال العبــاد،       

فهو سبحانه يسطرها لهم ويسجلها عليهم ويجازيهم بها يوم يلقونه، قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، فالله تعالى مطلع على جميع أحوالكم في حركاتكم وسكناتكم، فراقبوا الله تعالى في أعمالكم وأدوها على وجه النصيحة والاجتهاد فيها، فعلى كل عامل أن يتقن عمله ويبذل فيه الجهد لإحسانه وإحكامه تعبدًا وتقربًا إلى الله تعالى قبل أي شيء آخر، فالله عز وجل هو الذي يراه ويراقبه في عمله، يراه في مصنعه وفي مزرعته وفي أي مجال من مجالات سعيه، يقول تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

يقول الشوكاني رحمه الله:  قوله :{وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون}فالأمر فيه تخويف وتهديد : أي إن عملكم لا يخفى على الله ، ولا على رسوله ولا على المؤمنين ، فسارعوا إلى أعمال الخير ، وأخلصوا أعمالكم لله عزّ وجلّ ، وفيه أيضًا ترغيب وتنشيط ، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء أكان خيرًا أم شرًّا رغب إلى أعمال الخير ، وتجنب أعمال الشرّ، وما أحسن قول زهير :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة  **  وإن خالها تخفى على الناس تعلم

والمراد بالرؤية هنا : العلم بما يصدر منهم من الأعمال ، ثم وعد سبحانه بوعيد شديد فقال : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } أي : وستردّون بعد الموت إلى الله سبحانه ، الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه ، وما تخفونه وما تبدونه) (فتح القدير).

وفي السنة النبوية دعوة إلى محاولة الوصول إلى الأفضل والأحسن والأتقن ، ففي الصلاة يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وفي قراءة القرآن يقرؤه الماهر به الذي بشره الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأنه مع السفرة الكرام البررة ، وفي قصة مشروعية الأذان حينما رأى عبد الله بن زيد الرؤيا قال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): (أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ، فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا) (سنن البيهقي)، ويأمر من يلي أمر الميت بقوله: (إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ) (رواه مسلم).  وهكذا بينت السنة النبوية أن كل عمل يعمله الإنسان لابد وأن يكون حسنًا متقنًا، وأن يراعي الله تعالى فيه؛ لأن الله مطلع على قلوب العباد ويحصي عليهم أعمالهم دقَّت أو جلَّت.

فالإحسان والإتقان والحرص على بلوغ الكمال في العمل قربة وطاعة لله عز وجل، وإن لم ينتفع الإنسان بذلك في الدنيا ؛ لأنه فعل شيئًا يحبه الله تعالى، فعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُمْكِن لَهَا، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (سَوُّوا لَحْدَ هَذَا) حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ)(شعب الإيمان)، فهاهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بالإتقان في موضوع لا ينفع ولا يضر، لكنه يريد أن يُربيَ المسلمين على الإجادة والإتقان، يريد تربية الشخصية المسلمة على تَلَمُّسِ طريق الكمال.

والذي يتقن عمله ويحسنه لن يضيع سعيه وجهده، بل سينال جزاءً حسنًا في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف:30]، ويقول تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ }[آل عمران: 195]، فالذي يسعى نحو الإجادة والإتقان      في كل عمل يعمله صالحٌ فاضلٌ، نورُ الهدى ساطع في قلبه، حريص على حقوق الله وحقوق الناس، معتصم بالفضيلة يضع كل شيء في مكانه الجدير به واللائق له، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل أعماله التعبدية والسلوكية وما يتصل منها  بالمعايش لأن كل عمل يقوم به المسلم يعد عبادة ما دام مقرونًا بنيّة التعبد لله تعالى يُجازى عليه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: 162].

أما الذي لا يتقن عمله ولا يراقب الله تعالى فيه فإنه آثم، آثم بقدر ما يتسبب فيه من ضياع الأموال وإهدار الطاقات، فهذا الموظف الذي يقصر ويهمل ولا يتقن عمله ويرضى لنفسه أن يتقاضى أجرًا حرامًا يخاصمه فيه الشعب كله يوم القيامة، فهذا عمر (رضي الله عنه) يقول لمعيقيب عامله على بيت المال الذي أعطى ولده درهمًا وجده وهو يكنس بيت المال: ( ويحك يا معيقيب! ‘ أوجدتَ علىَّ في نفسك شيئًا؟ قال قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) في هذا الدرهم؟!) (الورع لابن أبي الدنيا).

فهذا الذي يعمل في رصف الطرق فلا يراعي الله في عمله فيتسبب في فساد الطرق آثم بقدر ما يتسبب فيه من حوادث وقتل، وهذا الفلاح الذي لا هَمَّ له إلا جمع المال وفي سبيله يُهلك أجسام الناس بالمبيدات السامة غشاش قاتل يأثم بقدر كل كبد أفسده وبقدر  كل كُلْيَةٍ أفشلها، وهذا الصانع الذي لا يتقن صنعته فينتج سلعة مغشوشة آثم غشاش يدخل فيمن تبرأ منهم النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قال:  ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) (صحيح مسلم).

فمن كانت هذه صفتهم يتحملون وزر تأخر الأمة وتخلف البلاد، نشكوهم إلى الله تعالى، يقول عمر (رضي الله عنه): ( إلى الله أشكو ضَعْفَ الأمين وخيانة القوى)، أما يعلم هؤلاء جميعًا أن الله يراهم، {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، ألم يعلموا أن الرقيب عليهم هو الله تعالى؟! {...إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1].

إن من أشد أسباب تأخرنا وإهدار الطاقات والثروات في بلادنا وجود نوعية من الموظفين أو من العاملين في المجالات المختلفة لا يبالون بما وقعوا فيه من تقصير أو تأخر أو غياب، يخرجون من أعمالهم قبل إنهاء ما كلفوا به من أعمال وأداء ما حُمِّلُوه من أمانة، متناسين أن هذه الأعمال أمانة سيسألون عنها يوم القيامة، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}[الصافات: 24].

إن وطننا الحبيب لن ينهض ويحقق آماله إلا بعد أن يزكي كل عامل قلبه بالإخلاص وينقي لُبَّهُ بالإحسان،  ويعلم أنه لن تعلو  مرتبته إلا بحسن العمل وجودة الإنتاج، وسلامة الصنع ونبل المقصد، وسيجد المجتمع عند ذلك في إتقان العمل ما يوفر الجهد والمال والوقت وما يحفظ الحقوق من الضياع والإهمال، وهنا تسعد البلاد وتنعم بهذا الإتقان ويجني من ثمار عقول وسواعد أبنائها ما يغنيها عن غيرها ويحفظ لها عزتها وكرامتها، أما حين يسود الإهمال ويستبدُّ الكسل والخمول وينعدم الضمير فسيتجرع المجتمع مرارة ذلك، ويسهم ذلك في تخلف الأمة برمتها.

إن من أسباب تقدم غيرنا في الميادين المختلفة إتقان العمل وإحسانه وقيام كل فرد بواجبه وما يناط به من عمل على خير وجه، فمن أتقن وأحسن تقدم وإن كان كافرًا، ومن أساء وقصر شقي وتأخر وإن كان مسلمًا، يقول ابن تيمية (رحمه الله): ( إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً)(فتاوى ابن تيمية)، فهذه سنة الله في خلقه، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}[هود: 15]، وفي نفس السورة يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود: 117]، فالله سبحانه لا يخلف سننه مع من يصلحون بها دنياهم ولو كانوا أهل إشراك، فإذا ما أدرك المسلم أهمية الإتقان وضرورته وما يؤدى إليه من نتائج جيدة، وإذا أدرك كذلك عاقبة الإهمال والتقصير وخطورته وما يؤدى إليه من عواقب وخيمة دفعه ذلك إلى الإتقان وإجادة ما يقوم به من أعمال لينفع نفسه ومجتمعه.

ما أحوجنا اليوم إلى أن نربيَ أجيالًا على مراقبة الله تعالى، فالمراقبة تكسب الأمة المسلمة الإخلاص في العمل، كما أنها تجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء، فكثير من الناس يتقن عمله ويجوّده إن كان مراقبًا من رئيس له، أو قصد به تحقيق غايات له أو سعى إلى السمعة والشهرة لأنه يفتقد المراقبة الداخلية التي تجعله يؤدي عمله بإتقان في كل الحالات دون النظر إلى الاعتبارات التي اعتاد بعضهم عليها.

          فأين نحن من مراقبة الله تعالى؟! وأين نحن من الإحسان الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم): (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)، ورحم الله ابن المبارك حيث قال لرجل: ( رَاقِبِ اللهَ تعالى، فسأله عن تفسيره فقال: كن أبدًا كأنك ترى الله عز وجل)[إحياء علوم الدين]، ويقول أبو بكر (رضي الله عنه): ( إن عليك من الله عيونًا تراك)، فالمسلم يستشعر دائمًا أن الله تعالى يراه ويطلع عليه فيتقن عمله إرضاءً لله تعالى، بغض النظر عمن يراه ويراقبه من الخلق.

          إن تَمَثُّلَ هذه المعاني الإيمانية هو المخرج مما يعانيه المجتمع، فإنه من الصعب بل ربما كان من المستبعد أو المستحيل أن نجعل لكل إنسانٍ حارسًا يحرسه، أو مراقبًا يراقبه، وحتى لو فعلنا ذلك فالحارس قد يحتاج إلى من يحرسه، والمراقب قد يحتاج إلى من يراقبه، لكن من السهل أن نُربيَ في كل إنسانٍ ضميرًا حيًا ينبض بالحق ويدفع إلى الخير لأنه يراقب من لا تأخذه سنة ولا نوم.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

إسهامات الشباب في الحضارة الإسلاميةْ

أولا: العناصر:

1-  مكانة الشباب في الإسلام.

2-  دور الشباب في النهضة العلمية للحضارة الإسلامية .

3-  دور الشباب في الحفاظ على الفكر الوسطي المعتدل .

4-  دور الشباب في حاضر الوطن ومستقبله. 

ثانيا : الأدلة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1-  يقول الله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ  ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم : 54].

2-  ويقول تعالى :{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف : 13،14].

3-  ويقول تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء: 60].

4-  ويقول تعالى : {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12].

الأدلة من الســنة :

1-        عن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )(متفق عليه).

2-        وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ علمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟) (المعجم الكبير للطبراني).

3-        وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)(صحيح مسلم).

4-        وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ (رضى الله عنه)قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ )(السنن الكبرى للنسائي مرسلا وله شاهد).

5-        وعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضى الله عنه) َقال: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم): ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ) (رواه الترمذي). 

6-        وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ) (صحيح البخاري) .

7-        وعن عَبْد اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه) قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)(متفق عليه).

8-        وعنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ قَالَ : فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ : فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. (سنن الترمذي).

ثالثًا : الموضــــــوع :

إن الشباب هم القلب النابض والعمود الفقري لأي أمة من الأمم، فهم عماد حضارتها، وسر نهضتها، وأمل مستقبلها، لأنهم في سن البذل والعطاء، سن التضحية والفداء، فبعقولهم وبسواعدهم تتقدم المجتمعات ، وهم القوة بين الضعفين ، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، قال الله تعالى :{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم من ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}[الروم : 54].

ولقد اعتنى الإسلام بالشباب عناية فائقة ، ووجههم للخير والبناء، والإصلاح والعطاء، فهم الثروة الحقيقية ، ومنبع القوة والعزة لأي مجتمع من المجتمعات ، وقد ذكر القرآن الكريم العديد من النماذج الشابة من الأنبياء والمرسلين ، وغيرهم من الصالحين ، ليكونوا قدوة صالحة لشباب المسلمين، وكذلك ربّى النبي (صلى الله عليه وسلم)جيلاً من شباب الصحابة الكرام الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء ، والتضحية والفداء ، والعلم والعمل ، فكانوا خير قادة وأفضل سادة، ولقد صور القرآن الكريم هذه الحقيقة في قصة أصحاب الكهف، وهم شباب قاموا داعين لتوحيد الله تعالى في مجتمع طغت فيه الوثنية ، وانتشر فيه الإلحاد ، قال تعالى :{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 13،14]، ولفظ (الفتية) ينطبق على المرحلة الزمنية التي يطلق عليها مرحلة الشباب بكل خصائصها وسماتها، قال ابن كثير: (فِتْيَةٌ) وَهُمُ الشَّبَابُ، فهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ، وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ.

وإذا كان الإسلام قد اهتم بالشباب هذا الاهتمام ، وأولاه هذه العناية الفائقة فلا بد إذًا من الاستفادة من طاقاته ، وحسن توجيهها فيما يخدم بناء الوطن بناءً قويًّا اقتصاديا وثقافيًّا، حتى يستفيد منه المجتمع ، فهم عماد النهضات، وهم أهل العزائم والشجاعة والإقدام والتضحيات.

وهذا ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقد كان يختبر ذكاء الشباب من صحابته ويعهد إليهم بما يتفق وإمكانات كل واحد منهم ، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال : قال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ : فَاسْتَحْيَيْتُ ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنَا بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) هِيَ النَّخْلَةُ ) (صحيح البخاري).

كما استفاد النبي (صلى الله عليه وسلم) من الشباب ، حيث جعل سيدنا مصعب بن عمير (رضي الله عنه) أول سفير في الإسلام ، وأمَر أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) أن يتعلم السريانية فتعلمها في وقت قصير ، فعنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ قَالَ : فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ ، قَالَ : فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. (سنن الترمذي).

ولقد رسم النبي (صلى الله عليه وسلم) منهجًا واضحًا في توجيه الشباب ممثلاً في ابن عمه عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) حيث قال: ( يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ) (سنن الترمذي). 

ولقد كان للشباب دور بارز في نشر الدعوة الإسلامية وبناء حضارتها ، وذلك لما لهم من خصائص عقلية، ونفسية، وجسمية، أهّلَتهم للقيام بهذه المهمة ، فإن عامة أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) كانوا من الشباب حين كذّبه معظم شيوخ مكة ، فهم الذين أحاطوا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نشر دعوته ، حتى أصبحوا من أكثر الرواة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى جاوزت مروياتهم ألف حديث لكل راوٍ وهو دون الثلاثين من العمر عند وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكان أبو هريرة (رضي الله عنه) الذي روى (5374) حديثًا في نحو السابعة والعشرين، وروى عبد الله بن عمر الذي (2630) حديثًا وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وكان أنس بن مالك (رضي الله عنه) الذي روى (2286) حديثًا في العشرين من عمره ، وروت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) (2210) أحاديث وهي بنت ثماني عشرة سنة ، أمَّا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) الذي روى (1660) حديثًا فلم يتجاوز عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثالثة عشرة من عمره، وكان جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) الذي روى (1540) حديثًا حوالي سبع وعشرين سنة، وأمَّا سابعهم أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) الذي روى (1170) حديثًا فكان في نحو العشرين من عمره، وتبعهم عبد الله ابن مسعود الذي قاربت مروياته ألف حديث، وكان دون الأربعين عند وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

كما أن الشباب هم الذين ناصروه (صلى الله عليه وسلم) في جميع غزواته ، وهم الذين حملوا لواء الإسلام ومشعل النور في كل بقاع الأرض، فهذا أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يروي كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، فله مائة وثمانية وعشرون حديثا، ولقد ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إمارة الجيش وسنه دون العشرين، وفي الجيش أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وأكابر الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين) ، وكان قوامه ثلاثة آلاف من أصحاب رسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فلما طعن بعض الناس في إمارته قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن هذا لمن أحب الناس إلي) وزاد في رواية مسلم – (وأوصيكم به فإنه من صالحيكم ) .

ولا ينكر أحد ما لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) من دور فعال في نصرة الإسلام وهو لا يزال شابًا يرقد في فراش النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة الهجرة تمويهًا على المشركين، مع علمه بما يدبره المشركون لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيضحي بنفسه وروحه في سبيل الله ، وعرّض نفسه للقتل ونقمة قريش، وكان عمره يومئذ ثلاث وعشرون سنة. وقد حمَّله النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ ذاك مسئولية ردّ الأمانات إلى أصحابها.  وفي تلبيته (رضي الله عنه) أمْرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلا للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام ، حيث فدى قائده بحياته ، ففي سلامة القائد قوة الدعوة ، وفي هلاكه وهنها.

جدير بالذكر أن الشباب قد أسهم إسهامًا عظيمًا في بناء الحضارة الإسلامية منذ عصر النبوة من خلال تعلم العلوم الشرعية ونشر العلم النافع في كل مجالات الحياة ، فكان أكثر فقهاء الصحابة من الشباب ،حيث برز منهم العالم، والفقيه ، والمحدث ، والمفتي، وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) الذي كان أكثر الصحابة فتوى وأوسعهم فقهًا، حتى كان عمر (رضي الله عنه) يجلسه وهو شاب صغير مجالس الكبار من أهل بدر وغيرهم، ويقول: إن له لسانًا سؤولاً وقلبًا عقولاً، والذي جمعت فتاواه فبلغت سبعة أسفار كبار، وتبعه في الفقه وكثرة الفتوى عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما)، وقد كانا من شباب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا نظرنا إلى المشهورين بالعلم والفقه من غيرهم رأينا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) الذي كان ابن بضع وعشرين حين أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن مفتيًا وقاضيًا، وكان حين أسلم ابن ثماني عشرة سنة، وشهد بيعة العقبة وهو شاب أمرد، ووصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وكان أحد المفتين في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأحد حفظة القرآن كاملاً في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم).

ومن هؤلاء الفقهاء: زيد بن ثابت، الذي وصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه أفرض المسلمين، يعني أعلمهم بالفرائض، الذي أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة، والذي بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتعلم لغة اليهود ليقرأ له كتبهم، فتعلمها في سبع عشرة ليلة، وكان أحد الذين حفظوا القرآن الكريم كله في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم حمَّله أبو بكر وهو ابن إحدى وعشرين سنة مسئولية جمع القرآن ، وهي من أخطر المهام على الإطلاق ، فكان أحق بها وأهلها، وكان أحد المفتين من الصحابة ، وأمَّا فقيهة النساء عائشة، فكانت في الثامنة عشر من عمرها حين توفي النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان الصحابة يرجعون إليها فيما أُشكل عليهم، وما سألوها عن شيء إلا وجدوا عندها منه علمًا، وغير هؤلاء كثير من شباب الصحابة الذين اشتغلوا بالعلم منذ حداثة أسنانهم، فاستنارت بهم الأمة في شئون دينها ودنياها، وازدهرت بهم الحياة.

وفى العلوم الدنيوية : حث الإسلام على الأخذ بكل علم نافع ، فقد اهتم عدد كبير من الشباب المسلم بالرياضيات لتحديد المواقيت واتجاه القبلة ، أشهرهم الخوارزمي واضع علم الجبر، وعلم الهندسة ، واهتموا بالطب والجراحة، وبنى المسلمون المستشفيات وأتقنوا علم الجراحة والصيدلة منهم : الرازي وابن سينا وابن النفيس ، واهتموا أيضا بعلم الفيزياء كابن الهيثم خاصة في علم البصريات ولا تزال نظرياته تدرس إلى الآن ، واهتموا بعلم الفلك لفهم بعض آيات القرآن وصنعوا المراصد الجوية لتتبع حركات النجوم .

وإذا كان للشباب الدور الأبرز في الحضارة الإسلامية ، فلا شك أن لهم دورًا مهمًا في الحفاظ على الفكر الوسطي المعتدل للإسلام ، فالإسلام دين السماحة،  والوسطية ، ولا علاقة له بالإرهاب ، والتطرف والتشدد ، ولا سيما أن شريعته السمحة قد جاءت لما فيه صلاح العباد والبلاد، وبما يحقق للفرد وللأسرة وللمجتمع السعادة والأمن والاستقرار، مما يؤكد أن الجماعات الخارجة التي جعلت القتل والعنف ديدنها خارجة عن الدين الإسلامي، فهم امتداد للخوارج الذين استحلوا الدماء والأموال وعاثوا في الأرض فسادا، والإسلام منهم براء.

ولا شك أن على الشباب الآن الدور الأكبر تجاه حاضر الوطن ومستقبله ، فعلى الشباب الآن بصفة خاصة أن يتسلحوا بالعلم والمعرفة، حتى يكونوا أقوياء في مواجهة التحديات ، وأن يطلبوا العون والمدد من الله تعالى ولا يتعجلوا النتائج،  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ).

وعلى الشباب أن يتمسك بالفكر المعتدل النابع من الفهم الصحيح للإسلام ، وأن يكون له شخصيته المتميزة ، حتى يكون مؤهلا لحمل الرسالة ، وتأدية الأمانة ، وقيادة سفينة النجاة لإنقاذ الأمة من حيرتها ومن تخبطها ، والوصول بها إلى طريق الرشاد والأمن والسعادة والاستقرار والتقدم وعلى الشباب أن يتحلى بروح المبادرة إلى الخير والعمل الصالح، فقد كان الصحابة يبادرون ويتسابقون إلى فعل الخيرات ، فمن ذلك ما قاله عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قال:( أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) ، قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ ). فالمراد خلق روح التنافس بين الشباب بصفة خاصة وبين الناس بصفة عامة على التسابق في أوجه الخير ، قال تعالى :{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148].

كذلك على الشباب أن يحسنوا توظيف طاقاتهم ، فلديهم طاقات هائلة لو أحسنوا استثمارها، ووجَّهوها إلى أبواب الخير ، وميادين الإصلاح والتنمية ، لكانت سببا في رقي المجتمع وتقدمه وتحضره، فالإسلام لا يقبل أن يعيش الشباب عالة على المجتمع ، بل دعا الشباب إلى العمل والإنتاج ، فعن كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ)(المعجم الكبير للطبراني).

وقد عمل النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في صباه برعي الغنم ، كما عمل في شبابه بالتجارة في مال السيدة خديجة (رضي الله عنها) ، فهل لشبابنا أسوة وقدوة في رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؟ ، وبخاصة في اغتنام شبابهم في الخير ، فعنَ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لا تَزُول قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ علِْمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)(رواه الطبراني ، وكذا أخرجه الترمذي وقال :حديث صحيح) .

كذلك على الشباب أن يحسنوا استثمار الوقت، فالوقت أمانة سَنُسأل عنها يوم القيامة حتى إن الأسئلة الأربعة التي توجّه إلى المكلف يوم القيامة يخص الوقتَ منها سؤالان رئيسان ، فالإنسان يسأل عن عمره عامة ، وعن شبابه خاصة ، والشباب جزء من العمر ولكن له قيمة مميزة باعتباره سن الحيوية والنشاط والقوة  فعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) (سنن النسائي) ، فالوقت نعمة لا يعرف قيمتها إلا الموفقون فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ) (رواه البخاري) .

وقد حث النبي (صلى الله عليه وسلم) الشباب على فعل الخير والطاعة ، وبين لهم فضل العبادة ، لاسيما في مرحلة الشباب ، حيث يظلهم الله في ظله، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ....) كذلك على الشباب أن يناهضوا الفكر المتطرف والبعيد كل البعد عن الفكر الإسلامي المستنير، فبدلا من أن يكونوا حقلا لتجارب من لا علم لهم ولا دين ، عليهم أن يكونوا جنودا أوفياء لدينهم ، فيتسلحون بالعلم والفهم المستنير لدينهم.

إننا في حاجة إلى أن نعيد تأهيل الشباب تأهيلاً مبنياً على العلم والدين الصحيح، ودفعه إلى العمل والإنتاج والابتكار بعيدًا عن تلك الثقافات التي تسربت  إلى أخلاقيات المجتمع عامة والشباب خاصة ، وأن نغرس في نفوس الشباب احترام الآخر .

كما أنه لن ينهض مجتمع إلا بالتعاون المثمر القائم على المحبة والمودة والاحترام الكامل بين الشباب والشيوخ ، حيث يفيد الشباب من حكمة وخبرة الشيوخ ، ويفيد الشيوخ من طاقة وقوة الشباب، فيوجه كل واحد منهما عِلْمَه وتجربته إلى ما يعود نفعه خيرًا على الوطن والمواطنين.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

إسهامات المرأة في الحضارة الإسلامية

أولا : العناصر :

1-    مكانة المرأة في الإسلام.

2-    رعاية الإسلام للمرأة في جميع مراحل حياتها. 

3-    إسهام المرأة في بناء الحضارة الإسلامية.

أ- دور المرأة في بناء المجتمع .

ب- دور المرأة في المشاركة الوطنية.

  ثانيًا : الأدلـة:

          الأدلة من القرآن الكريم:

1-       قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].

2-       وقال تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35].

3-       وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران: 195].

4-       وقال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

5-       وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13].

6-       وقال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}[النساء: 7].

7-       وقال تعالى : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان: 74].

 

الأدلـة من الســنة :

1-       عَنْ أَبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَة إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ ، فَقَالَ: (اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا) فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ: ( مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّم بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً، إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ ) فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللهِ واثْنَيْنِ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) (متفقٌ عَلَيْهِ).

2-       وعند الترمذي من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)قَالَ: (لَا يَكُونُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ). (سنن الترمذي).

3-       وعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ( لَمَّا أُصِيبَ أَكْحُلُ سَعْدٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَثَقُلَ، حَوَّلُوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، فَكَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا مَرَّ بِهِ يَقُولُ: (كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟)، وَإِذَا أَصْبَحَ: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟) فَيُخْبِرُهُ ) (الأدب المفرد).

4-       وعن الرُّبَيِّع بنت معوذ الأنصارية قالت : ( كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ) (رواه البخاري).

5-       وعن عطاء بن أبى رباح- رحمه الله- قَالَ: (كَانَتْ عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ وَأَعْلَمَ النَّاسِ وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ)  (رواه الحاكم في المستدرك).

     ثالثًا : المـــوضــــــوع:

لقد رفع الإسلام مكانة المرأة ، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه؛ فالنساء في الإسلام شقائق الرجال ، خُلقا من أصل واحد- خلقا من ذكر وأنثى- يَسعد كل منهما بالآخر، ويأنس به في هذه الحياة، فهما في الإنسانية سواء ، قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].

ولم تعرف البشرية دينًا ولا حضارةً عنيت بالمرأة أجمل عناية وأتم رعاية كالإسلام؛ فقد تحدث عن المرأة وأكد على مكانتها وعظم منزلتها، وجعلها مرفوعة الرأس عالية القدر، لها الاعتبار الأسمى والمقام الأعلى، حيث تتمتع بشخصية محترمة وحقوق مقررة وواجبات معتبرة.

فالمرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تَقْدُم فيه إلى هذه الحياة ، مُرورًا بكل حال من أحوال حياتها ، أُمًّا كانت ، أو بنتًا ، أو أختًا ، أو زوجة ، أو امرأة من سائر أفراد المجتمع .

          والإسلام الحنيف أراد للإنسان رجلا أو امرأة أن يقوم بدوره في قيادة البشرية والسير بها في طريق الخير والمحبة والسلام ، والوصول إلى مرضاة الله سبحانه، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: 110] ، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان: 74].

        فمن هذه المفاهيم وغيرها نجد أن الإسلام يريد أن يُعِدَّ أمة قائدة رائدة في طريق الخير والحضارة المدنية بما لديها من رسالة إنسانية ، يشترك في ذلك الرجل والمرأة على السواء. إذ إن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات عمرًا، وأعظمها أثرًا في الحضارة العالمية ، لأن من خصائصها أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة.

          ولقد أسهمت المرأة في بناء الحضارة الإسلامية إسهاماً واضحاً من خلال أدوارها المختلفة في المجتمع ، فللمرأة دورها المهم في بناء المجتمع  ، حيث إن وجودها بارزٌ وواضحٌ في كل مجالات الحياة ، فهذه أم المؤمنين  السيدة أم سلمة (رضي الله عنها وأرضاها) صبرت على فراق ابنها الصغير قبل الهجرة ثم صبرت على وفاة زوجها أبو سلمة حتى كافأها الله بالزواج من النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان لها دور سياسي بارز  في صلح الحديبية عندما شعر  المسلمون بأن بنود الصلح كان بها إجحافٌ ،  وأنهم لن يعتمروا هذا العام ، فلم يبادروا بالتحلل من الإحرام، فدخل الرسول ( صلى الله عليه وسلم) خيمته وذكر لأم سلمة ما لقي من الناس ،  فأشارت عليه بأن يبدأ بنفسه ، ويتحلل من الإحرام ، وعندئذ سيضطر الجميع إلى التحلل من الإحرام، فتكون بذلك قد أسهمت بالرأي الذي قدمته للنبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين في تقديم حل عملي يسهل على المسلمين الأخذ به ، وهو ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) .

ولقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم ) عن نسيبة بنت كعب : ( إنني في غزوة أحد ما تلفت يمينا ولا شمالا  إلا ورأيت أم عمارة تقاتل دوني) حتى جاء من يريد أن يقتل الرسول كلما أراد أن يطعن رسول الله (رضي الله عنها ) يجد أم عمارة أمامه ، وأخذ يضربها بالسيف حتى غارت عظام كتفها من شدة ضرب السيف عليه، فقال لها الرسول: (ما أشد ما تطيقين يا أم عمارة) قالت : بل أطيق وأطيق وأطيق يا رسول الله  ، فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم) : (سليني يا أم عمارة ) ، قالت : أسألك مرافقتك في الجنة يا رسول الله ، فقال (صلى الله عليه وسلم ): لست وحدك يا أم عمارة ، بل أنت وأهل بيتك).

        ولم يقتصر دور المرأة المسلمة على هذا الجانب ، بل كانت حريصة على طلب العلم والاهتمام به منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى العصور الزاهية بالعطاء والإشعاع العلمي، والإسهام في البناء الحضاري ، إذ كانت تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يخص النساء بمجلس علم ، ففي الحديث عن أَبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه) ، قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَة إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ ، فَقَالَ: (اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا) فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّم بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً، إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللهِ واثْنَيْنِ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) (متفقٌ عَلَيْهِ).

ومن ثم تعلمت المرأة علوما شتى، فأسهمت إسهامات فعالة في الحركة العلمية منذ عصر النبوة إلى الوقت الحالي ، وكان لها دور كبير في تعليم العلوم الشرعية، والعلوم اللغوية وتبليغها عبر العصور ، بالإضافة إلى علم الطب والفلك والرياضيات والتمريض والحساب وغيرها، فبرزت نساء عالمات ، وفقيهات ، ومحدثات ، ومفتيات، وأديبات، وشاعرات، وفي مجالات الطب والصيدلة والعمل الخيري، وقد كانت النواة الأولى لذلك أمهات المؤمنين ، وعلى سبيل المثال: السيدة عائشة (رضي الله عنها )كان بيتها مدرسة و جامعة لـمختلف العلوم ، حتى قال الزهري: ( لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل)، وكان عطاء بن أبى رباح- رحمه الله- يقول: (كَانَتْ عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ وَأَعْلَمَ النَّاسِ وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ) (رواه الحاكم في المستدرك). وقد أخذ العلمَ عنها كثيرٌ من الصحابة والتابعين، وكذلك أم سلمة (رضي الله عنها) التي اشتهرت بالفقه ، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين ، والسيدة عَمْرَة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، وكانت يتيمةً في حجر عائشة (رضي الله عنها) وتربَّتْ تحت ظِلِّها، وكانت من أعلم الناس بحديثها، قال عنها الزركلي في الأعلام: فقيهة عالمة بالحديث ثقة.

          كما أسهمت المرأة بخبرتها في الطب والصيدلة في الغزوات والحروب التي خاضها المسلمون مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعد وفاته ، وعلى سبيل المثال: السيدة رُفيدة الأنصارية أول طبيبة ميدانية ، والتي كانت تداوي الجرحى في الغزوات والحروب، وتحتسب عملها خدمةً للمسلمين ، لقد ارتبط اسمها بخيمتها ، مع كل غزوة من غزوات النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وظهرت خيمة رفيدة على مسرح الأحداث بدءا من يوم أحد ، تستضيف الجرحى ، وتضمد جراحاتهم ، وتسعفهم ، وتسهر على راحتهم ، وتواسيهم ، فعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ أَكْحُلُ سَعْدٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَثَقُلَ، حَوَّلُوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، فَكَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) إِذَا مَرَّ بِهِ يَقُولُ: (كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟)، وَإِذَا أَصْبَحَ: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟) فَيُخْبِرُهُ)(الأدب المفرد) (والأَكْحَلُ: عِرْق في وسَط الذّراع يَكْثُر فَصْدُه).

وقد ظلت المرأة في الإسلام مشاركة في أمور الحياة العامة مع التزامها بوقارها وأدبها ، فقد عُرفت المرأة في الإسلام معلمة ومتعلمة وقائمة على شأن الفقراء والمساكين حتى أصبح منهن من تلقب بأم المساكين ، وهي (زينب بنت خزيمة ) زوج النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، وقد برز في حياة التابعين كثير من النساء الفضليات مثل حفصة بنت سيرين أخت محمد بن سيرين سيدة التابعيات ، والتي حفظت القرآن وعمرها اثنتا عشرة سنة، وأم الدرداء الصغرى هُجيمة الوصابية ، فقد كانت فقيهة وهي زوجة الصحابي الجليل أبي الدرداء (رضي الله عنه).

وكما أسهمت المرأة في الحركة العلمية والبناء الحضاري ، فقد شاركت كذلك في نشر الدعوة إلى الله - عز وجل - جنبا إلي جنب مع الرجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تحقيقا لقوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة: 71] 

وقد ضربت المرأة المسلمة المثل الأعلى في الدعوة إلى الله (عز وجل) وهذه بعض النماذج التي توضح هذا الدور العظيم :

في عهد الخليفة المقتدر الخليفة العباسي كانت امرأة تسمى (ثِمْل) من ربات النفوذ والسلطان، وكانت الساعد الأيمن لأم المقتدر الخليفة ، وكلفتها الدولة (بالرصافة) سنة 306هـ  يعني النظر في شئون المظالم ، وكان يحضر في مجلسها القضاة والفقهاء والأعيان، توفيت عام 317هـ.

فاطمة السمرقندية : وهي ابنة محمد بن أحمد السمرقندي كانت فقيهة عالمة وكان أبوها لا تأتيه الفتوى إلا ويعرضها على ابنته ويسمع رأيها فكانت الفتوى تخرج بتوقيعين ، توقيعه وتوقيع ابنته، وتزوجت من ملك العلماء علاء الدين الكاساني ، وكانت تنظم الحلقات التي كان يقصدها الآلاف من طلبة العلم.

ذكر ابن بطوطة عند زيارته لمصر أنه لا يستطيع حصر النساء اللاتي أسهمن في المدارس العلمية ، وذكر منهن:

1- شمسية بَنَتْ عجلان التي بَنََََت المدرسة الأشرفية.

2- فاطمة ابنة قايتباي العمري الناصري التي عَمَّرت المدرسة الحنفية ، وأوقفت كتبا على طلبة العلم .

وقد ذكر الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة904هـ المئات من المتخصصات في الحديث. وغيرهن من النساء الكثيرات اللاتي عرفن بإخلاصهن وكفاحهن واستمساكهن بالإسلام وتعاليمه.

ولم تقتصر مكانة المرأة في الإسلام على ذلك ، بل تعددت أدوارها عبر العصور والدهور، فحكمت ، وتولت القضاء ، وعلَّمت ، وخرجت أجيالا ساهمت في البناء الحضاري للأمة الإسلامية ، وغير ذلك كثير مما يشهد به التاريخ .

وصفحات التاريخ الإسلامي مليئة بالشخصيات والنماذج التي تظهر قيمة المرأة في الحضارة الإسلامية، وكم لها من إسهامات في بناء المجتمع وإرساء دعائمه.

إن الأعداد الهائلة من النساء اللواتي أسهمن في بناء الحضارة الإسلامية ليس بوسعنا أن نستوعب جميعهن في عدة سطور، ولكن الأمثلة المذكورة كافية لتأكيد مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية، وإسهامها في بناء الحضارة وتعمير الكون.

جدير بالذكر أن دور المرأة لا يقل أهمية عن دور الرجل في الدفاع عن الوطن والإسهام في بنائه وحضارته ، فهي المربية التي تغرس في نفوس أبنائها حب الوطن والانتماء إليه وأن يكونوا عناصر إيجابية قوية وفعالة في الحياة.

فإذا أردنا إطلاق نهضة بناء حقيقية فعلينا أن نركز  اهتمامنا علي الإنسان ، وينبغي الالتفات إلى أن المرأة هي نصف المجتمع ، فقد نظر الإسلام إليها نظرة سامية  من حيث مشاركتها في ميادين الحياة و ممارستها لأنشطتها ، وتعليمها ، وعملها ، ومساعيها الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادي، والعلمية وفق الضوابط الشرعية ، فالمجتمع في حاجة إلى جهود جميع أبنائه رجالاً ونساءً وشبابًا وشيوخًا حتى ينهض بجهود أبنائه جميعًا.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

التنمية الشاملة وسبل تحقيقها

أولا : عناصر الموضوع :

1-    مفهوم التنمية ومعناها في الإسلام .

2-    أنواع التنمية ومجالاتها :

أ‌-     التنمية الإيمانية .                    

ب‌- التنمية العلمية .

 ج - التنمية الاجتماعية .             

 د- التنمية الاقتصادية.

3-    سبل تحقيق التنمية الشاملة.

ثانيا : الأدلـة :

    الأدلة من القرآن الكريم :

1.       قال تعالى :{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }[التوبة:124].

2.       وقال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11].

3.       وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر: 28] .

4.       وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1- 5].

5.       وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261].

6.       وقال تعالى:{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

7.       وقال تعالى:{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران: 92]. وقال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: 275]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[البقرة: 278 - 279].

8.       وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29].

 

الأدلة من السنة :

1-       عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (رواه أحمد والحاكم) .

2-       وعن أبى الدرداء (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ .. ) (رواه أبو داوود والترمذي).

3-       وعن أَبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم) قَال َ: ( ... إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ... )(رواه الترمذي).

4-       وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) (متفق عليه) .

5-       وعَنِ ابْنِ عُمَرَ(رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقًا خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ يَفْزَعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ فِي حَوَائِجِهِمْ أُولَئِكَ الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ) (رواه الطبراني في الكبير) .

6-       وعن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ) (متفق عليه) .

7-       وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (متفق عليه).

8-       وعَنْ  الْمِقْدَامِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قال:( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) (رواه البخاري).

ثالثا : الموضــــوع :

لقد جاء الإسلام بالأسس المتكاملة التي يقوم عليها المجتمع المسلم ، والتي تمتاز بالشمول والواقعيّة ، وتضمن سير الحياة في المجتمع على وجه يحقق العدل والأمن والحياة الكريمة لكافّة أفراده ، من خلال إتاحة الفرصة للجميع بالمشاركة في التنمية الحضارية ، مما يؤدي إلى تطور المجتمع وتقدمه في كل المجالات ، اجتماعيًّا ، واقتصاديًّا، وزراعيًّا ، وصناعيًّا ، وغير ذلك من المجالات ؛ لمواكبة التطور المذهل في أنحاء دول العالم المتقدم خاصة النمور الاقتصادية وبالأخص التي تجِلُّ العلم وتجعله عماد نهضتها .

          إن التنمية تعني طلب الزيادة والبركة، وذلك لأنها إدراك حقيقي للدور الذي يجب أن ينهض به الإنسان، ليؤدي الدور الاجتماعي الملقى على عاتقه في الحياة.

وقد ارتبطت التنمية  في العصر الحديث بالجانب الاقتصادي والزراعي والصناعي ، وكثيرًا ما تتردد عبارات ( التنمية الاجتماعية ، والزراعية ، والاقتصادية ، والصناعية) وغيرها .

أما النظرة الإسلامية لمفهوم التنمية فتشمل كل جوانب الحياة نظرة شاملة كاملة دافعة ومحرضة على تحقيق التنمية في شتى المجالات ، كالتنمية الإيمانية ، والعلمية ، والاجتماعية، والاقتصادية، وغير ذلك.

هذا: وقد عني الإسلام بجوانب التنمية المختلفة والمتنوعة ، فمن ركائز التنمية في الإسلام ما يتصل بالإيمان ، فالإيمان يجب أن ينمو باطّراد ، فإذا لم يكن هناك نمو وزيادة في الإيمان تنعكس التنمية الإيمانية سلبًا في حياة الإنسان وسلوكه ، وبالتالي يتأثر المجتمع كلّه ، وفى ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، فزيادة الإيمان مع البشارة تعطى دفعة للعبد المؤمن وتأخذ بيده للعمل والتنمية والنشاط المتواصل الذي يعم بالخير والنفع عليه وعلى مجتمعه.

والمتأمل في السنة النبوية يجد أنها تدعو المسلم دعوة جادة للتنمية الإيمانية ، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ) ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)(رواه أحمد والحاكم) ، فكلما تجدد الإيمان في قلب العبد ازداد نشاطا ، وكان حريصًا على بلوغ أعلى الدرجات وإرضاء الله سبحانه وتعالى.

ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن رب العزة سبحانه: ( إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا ، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)، فهذه دعوة للتقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح والتنمية الإيمانية التي تعد جانبًا مهمًّا وركيزة أساسية في التنمية الشاملة التي تعم المجتمع بالخير والنفع وتبعث السعادة والراحة في قلوب العباد

كذلك نجد أن الإسلام قد عني بالتنمية العلمية عناية فائقة ، حيث قدّم العلم على العمل، ورفع شأن العلماء العاملين على العابدين بغير علم ، فعن أَبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَال َ: (إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ) ؛ لأن العلم هو الباب الأوسع إلى الإيمان ، وإلى معرفة سنن الله تعالى ، وخشيته عز وجل قال سبحانه : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].

فالإسلام دين العلم ، لا يُعرَفُ دينٌ مثلُه أشاد بالعلم وحثَّ عليه ، ورغب في طلبه ، ونوَّه بمكانة أهله ، وأعلى من قدرهم ، وبين فضل العلم وأثره في الدنيا والآخرة ، وحضَّ على التعلم والتعليم ، وحسبنا أن أول آيات نزلت من الوحي على قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشارت إلى فضل العلم ، حيث أمرت بالقراءة وهي مفتاح العلم ، ونوهت بالقلم وهو أداة نقل العلم ، وذلك في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1- 5].

ولقد عني الإسلام أعظم عناية بالعلم، وحث أتباعه على طلبه ونشره ، والبحث والتفكير في كل ميادين المعرفة، وكل مجالات الحياة ، وحض على التنمية العلمية التي من شأنها أن توسع الأفق وتنير الفكر الذي يعود بالنفع على الفرد والمجتمع ، قال تعالى :  { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11] ، وأنعم بذلك من قدر ومن رفعة حينما يرفع المولى سبحانه وتعالى أهل العلم ويعلى شأنهم ويزيد في قدرهم.

كذلك تحض السنة النبوية على التنمية العلمية وتحث عليها ، فعن أبى الدرداء (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ .. ) (رواه أبو داوود والترمذي) فهذا بيان نبوي يحث على تلقّي العلم وسلوك طرقه والسعي على تحصيله.

          إن الإسلام يدعو إلى العلم والتقدم الذي تستفيد منه الحضارة الإنسانية ، ويحثّ على النظر في الكون، ويُنشِئ العقلية العلمية التي تبدع وتبتكر، ويرفض العقلية الجاهلة المستسلمة لكل ما يتوارثه الناس دون مناقشة له ، فالأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ، وما كانت البشرية لتصل إلى ما وصلت إليه إلا بالعلم والبحث العلمي ، ومن ثم فالتنمية الشاملة تتطلب اكتساب المعارف و تعليم مستمر وتطوير ثقافي ، فالجانب الثقافي الحقيقي يرفع من مستوى تفكير الأمة ووعيها ويساهم في التنمية واللحاق بركب الحضارة المادية.

كذلك قد حلق الإسلام في مجال التنمية الاجتماعية ، والحفاظ على كيان المجتمع، وبناء علاقات ودية أساسها الأخوة والتعاون والتراحم ، مما يجعل جهد الناس يتوجه إلى البناء والإعمار وليس إلى التخريب والدمار.

          وحتى يتم الترابط والتماسك بين أفراد المجتمع ، لا بد من نشر روح المحبة والمودة بين أبنائه ، وتعميق معاني الأخوة وتصفية النفوس من الشحناء وتفريج الكربات ، فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا ، كما وصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث بقوله: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).

ومما ينمي هذه الروح في المجتمع الحث على التعاون ، والبذل والإنفاق وتفقد المحتاجين ، وسد حاجتهم، ومد يد العون لمن يعانون من الفقر والضيق، وسد حاجات اليتامى والمساكين وانتشالهم من مذلَّة السؤال ، يقول تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]. ويقول سبحانه: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً }[إبراهيم: 31]. فإن الإسلام لا يغفل التكافل بين أفراد الأمة من خلال الإنفاق ونشر المودة والمحبة بين الناس ، وهذا جانب عظيم يسهم في التنمية الاجتماعية التي تقوم عليها الأمم وتحيا بها الأفراد.

وفي سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) عشرات الأحاديث التي تحضُّ على مختلف أنواع البر والخير ، كالسير في حوائج الناس، ورفع الظلم عنهم، والمطالبة بحقوقهم، وتيسير عسرهم، وتنفيس كربهم، وكفالة أيتامهم، ورعاية أراملهم، وإيواء مشرديهم، وإطعام الجائعين منهم ، من ذلك ما رواه ابْن عُمَرَ(رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقًا خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ يَفْزَعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ فِي حَوَائِجِهِمْ أُولَئِكَ الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ ) (رواه الطبراني في الكبير). وعن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ، فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ، قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ) (متفق عليه).

فينبغي على الإنسان أن يسعى جاهدًا في نفع غيره ومجتمعه بالإنفاق والصدقات ، ومساعدة الآخرين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكذلك الإمساك عن الشر ، كل هذه الأمور تنمية واضحة ، شاملة للفرد والمجتمع ، فعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، مَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).

فالتنمية الاجتماعية تبرز آثارها النافعة في معالجة النفوس وإصلاح القلوب وتهذيب السلوك والشعور الأخوي بين أفراد المجتمع ، ومن هنا فإن تنمية المجتمع تعد أحد أهم ركائز التنمية الشاملة.

وإذا أمضينا إلى جانب التنمية الاقتصادية نجد أنها إحدى مؤشرات التقدم ، لذا كان الاهتمام بالشأن الاقتصادي ضرورة ملحة في التنمية والتطوير من أجل حياة حرة كريمة ، فالنشاط الاقتصادي في الإسلام يقوم على مبادئ إنسانية وأسس أخلاقية وضوابط شرعية، تغرس في نفوس أتباعه الحرص على مزاولته وإتقانه في الإطار الذي يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية ، ومن ثم فقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالقضايا الاقتصادية وبينت الحلال من الحرام فيها ، وحثت على حفظ المال من التلف والضياع وتنميته بالعمل والإنتاج والاستثمار ، وحذرت من الكسب الحرام لما له من آثار وخيمة على الأمة سواء على دينها أو قيمها أو أخلاقها .

ومن ثمَّ حرمت الشريعة الإسلامية كل صور المعاملات المحرمة التي من شأنها أن توغر الصدور ، وتفسد العلاقة بين المسلمين ، وتكون سببًا في عرقلة التنمية الاقتصادية ، فقد حرم الإسلام الربا بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيلة سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل ،  وسدَّ الطريق على كل من يحاول استثمار ماله عن طريق الربا، فحرّم قليله وكثيره، يقول تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: 275]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة: 278 - 279]، فهذا وعيد شديد لمَن لم يَنتهِ عن الرِّبا.

 وكذلك أعلن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حربه على الربا والمرابين، وبيّن خطره على المجتمع فقال: (إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): ( لعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ)، فآكِل الربا مَلعون، واللعنَةُ: هي الطرد مِن رحمة الله (عز وجل) فعلينا بتقوى الله - سبحانه وتعالى - وأكْل الحلال، والبُعد عن أكل الحَرام، و التعامل بالربا الذي يُطرَد آكِلُه من رحمة الله تعالى.

ومن أسباب عرقلة التنمية الاقتصادية : التعامل بالرشوة أخذًا وإعطاءً وتوسطًا  ، لذا حرمها الإسلام تحريمًا جازما ، وذلك لخطرها الكبير على المجتمعات الإنسانية ، فهي تفتك بالمجتمع فتكًا ذريعًا ، وتهدر أخلاق الأمة وكيانها وتعود عليها بالوبال والدمار في الأسر والمجتمعات والأفراد ولم يتوقف الأمر على مجرد النهي عنها وذمها ، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد اللعن الصريح الذي يعني الطرد من رحمة الله تعالى ، فَعنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ) يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا ، وما دخلت الرشوة عملًا إلا عاقته، ولا مجتمعًا إلا أفسدته ، فالرشوة ُ أكل للأموال بالباطل ، وتناول للسحت ، يقول تعالى:{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}[البقرة: 188] .

وكذلك حرمت الشريعة الإسلامية (الغش في التعامل بين المسلمين) ، فقد أكد القرآن الكريم حرمة هذه الآفة الخطيرة ، وتوعد عليها بالويل والخسران ، لمن يتلاعب بالوزن والكيل ، فقال سبحانه:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[ المطففين :3:1].

فالغش خيانة وخداع. وهو حرام بإجماع المسلمين، وفاعله مذموم عقلاً وشرعًا، وقد ثبت تحريم الغش بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فعموم الآيات التي تنهى عن أكل أموال الناس بالباطل، ومنه قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29]. وأما السنة فقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على تحريم الغش ، ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم):(مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (سنن الترمذي)، فالربا والرشوة والغش من أسباب عرقلة التنمية الاقتصادية وانتشار مظاهر الفساد في المجتمع.

ثم إن التشريعات التي تناولت الشئون الاقتصادية وضعت لها أصولها وقواعدها وضوابطها، لتؤكد على مدى اهتمام الإسلام بالتنمية الاقتصادية والتجارية، من بيع وشراء ومرابحة ومشاركة.

هكذا جاء الإسلام بشريعته الخالدة داعيًا إلى الخير والعدل ومحاربًا لكل ما هو فاسد وضار بالفرد والمجتمع ، فالمجتمع الذي يبحث عن تنمية اقتصادية على أسس من القيم الأخلاقية الفاضلة لا يقبل قطعا أن يتعامل بالحرام ، بل إنه يمنع الفساد ويأخذ على أيدي المفسدين ، ويمنع جميع صور الاستغلال والكسب الحرام ، محافظًا بذلك على ثروات الأمة، من أجل النهوض بالأفراد والأمم لتحقيق وسائل العيش الكريم، والرقى إلى مدارج التقدم والتنمية.

وحتى تتحقق التنمية الشاملة بكل أنواعها أوجب الإسلام على كل مسلم أن يعمل ، وأن يأكل من كسب يده ، فهو لا يرضى لأتباعه أن يكونوا عالة على الآخرين ، فقد حث النبي (صلى الله عليه وسلم) على السعي والكسب وتحصيل الرزق الحلال ، فقال (صلى الله عليه وسلم): ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) (رواه البخاري).

فإذا كانت مهمة الإنسان في هذه الحياة هي إعمار الأرض فإن ذلك لن يتحقق إلا بالعمل من أجل بلوغ الهدف، فالحياة بلا عمل موات ، والإنسان أعطاه الله من القوى والطاقات ما يجعله قادرًا على قيادة سفينة الحياة بالعمل الجاد المنتج الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم ومن هنا كان اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل اهتماما بالغًا لأنه مصدر كرامة الإنسان.

بهذا يتبين لنا أن التنمية في الإسلام سياسة شاملة متوازنة متكاملة ، تفرض على الفرد والمجتمع الأخذ بجميع أسباب النماء والارتقاء المادي والمعنوي .

إن التنمية الحقيقية هي أن نربي الإنسان علي قيم الحق والعدل والفضيلة، لأن الإنسان هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع ، وإذا فسدت فسد المجتمع.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

التنافس في الخيرات وخدمة الأوطان

أولا: العناصر:

1-   فضل التنافس في الخيرات وأهميته.

2-   أهمية التنافس في خدمة الوطن.

3-   ميادين التنافس والتسابق في الخيرات.

4-   ضوابط التنافس.

5-   خدمة الأوطان مطلب شرعي وواجب وطني.

ثانيا: الأدلة:

        الأدلة من القرآن:

1- قال تعالى: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].

2- وقال تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].

3- وقال تعالى:{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

4- وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60،61].

5- وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90].

6- وقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

7- وقال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

     الأدلة من السنة :

1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ؟ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ) قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولُ اللهِ قَالَ: (تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً) (رواه مسلم).

2- وعَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما ) قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: (أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ) قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ( رواه ابن ماجة ).

3- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ) (متفق عليه) .

4- وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (رضي الله عنه) عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ: ( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. (رواه الترمذي).

ثالثا: الموضوع:

لقد خلق الله عز وجل الإنسان ومنحه إمكانات عظيمة، يقوم عليها معاشه وحياته، وفضَّله بها على سائر المخلوقات ، منحه العقل الذي يفكر به، ويميز به بين الخير والشر، والنافع والضار، ومنحه الحواس التي يحس بها بما حوله ، ومنحه الشعور والإحساس الذي تتحرك به عواطفه ، كل ذلك لتكتمل شخصيته ، وتتوازن مقومات حياته. وهذا كله بلا شك من نعم الله سبحانه على الإنسان ، ولذا عاش الناس في هذه الدنيا وامتدت بهم الحياة، وصاروا يتنافسون باستغلال هذه الإمكانات، وصارت الحياة ميدانًا لهذا التسابق بمختلف أنواع المنافسات ، فكلما قلب الإنسان نظره في مشارق الأرض ومغاربها وجد أحوال الناس مختلفة ، فهناك فئات من الناس همهم المال ، ركزوا جهودهم في جمعه وإنفاقه ، وفئات أخرى همهم البحث عن كل جديد ، فما استحدث من آلة إلا والتفكير أسبق إلى ما بعدها ، وفئات أخرى وجهوا همهم وإمكاناتهم إلى إرضاء رغباتهم  وإشباع شهواتهم ، كل بحسب ما يرغب ويهوى ، مستغلًا ما استطاع من نعم الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من استغل إمكاناته الجسمية والبدنية، فوجهها إلى ميادين مناسبة لهذه الإمكانات، حتى على مستوى الأُمم وهكذا الناس نجد لكل منهم وجهة ، ولكن المسلم دائمًا وجهته إلى فعل الخير، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] ، وقوله تعالى{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(المائدة : 48)، وقوله:{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133].

ولا شك أن الإسلام دين الخير والصلاح، ودين السعادة والرخاء، دين يأمر بكل ما فيه صلاح الفرد والمجتمع ، فأقرّ ويقر مبدأ المنافسة ، ويشجع على استغلال إمكانات الإنسان، ويوجه إلى ما يستحق بذل الجهد فيه، وجعل في مقدمة ما يسعى إليه الإنسان وينافس فيه ما يسعده في دنياه وآخرته، يقول سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[القصص:77]، فالهدف من السعي هو الدار الآخرة مع التمتع بالحياة في الدنيا.

والتنافس في الخير هو التنافس المشروع المحمود حينما يُشمر كل امرىءٍ عن ساعده ليصنع المعروف أو يبذل الخير أو يُعمر الأرض ، والغاية من كل ذلك نيل رضا الباري (عز وجل) والفوز بجنانه والظفر بالسعادة الأبدية الدائمة.

 كما أن التنافس في أعمالِ الخيرِ من وصايا النبي (صلى الله عليه وسلم)،ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: ) ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم): ( أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: ( تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ) .

          فميادين التنافس كثيرة ؛ لذلك أرشدهم الرسول (صلى الله عليه وسلم ) إلى لون من ألوان الخير والعمل الصالح يكن لهم عوضًا عن ما فقدوه من التسبيح والتكبير  والتحميد ثلاثًا وثلاثين دبر كل صلاة، ويختمون المائة بلا إله إلا الله . هكذا كان السلف رضوان الله عليهم، فهل لنا أن نتشبه بهم ؟

وليتَأَمَّلْ كل منا قَولَ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) حَاثًَّا على المُبادَرَةِ ، والمُسَارَعة في الطاعات وعلى رأسها  الصلاة في جماعة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أن رسول (صلي الله عليه وسلم) قال : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ- أي التبكير- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا).، ويقول (صلي الله عليه وسلم)- كما في الصحيح -: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) ، و البردان هما الفجر و العصر . 

وقد سَادَتْ رُوحُ المنافسةِ في الخيراتِ بينَ الصحابة رضوان الله عليهم ،  وكانَ أبو بكرٍ الصديق (رضي الله عنه) سَبَّاقاً أَبَدًا، فقد أَخْرَجَ أبو داودَ في سننه، والترمذيُ عن عُمَرَ ابْن الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.

وهذه صورة أخرى من صور تنافس وتسابق الصحابة (رضوان الله عليهم ) بالخيرات، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَإِنَّ اللهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: ( نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ ) ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رسول الله قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي- وَلَهُ حَائِطٌ فِيهَا سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا- قَالَ فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ لَبَّيْكَ، فَقَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (كَمْ عِذْقِ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ) وَفِي لَفْظٍ (رُبَّ نَخْلَةٍ مُدَلاةٍ ، عُرُوقُهَا دُرٌّ وَيَاقُوتٌ ، لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ) (صحيح أصله في مسلم

و اللفظ لأحمد وغيره). وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران: 92] . قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ، وَأَنَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: ( أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ: فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ) (متفق عليه).

ولقد تأسى الصالحون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام (رضوان الله عليهم) في المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الصالحات ، قال وهيب بن الورد (رضي الله عنه) : إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.

والإنسان العاقلُ هو الذي  يُسارِعُ ويُبادرُ قَبْلَ العوائِقِ والعَوَارِض، فَنَافِسْ مَا دُمْتَ في فُسْحَةٍ ونَفَسْ، فالصِّحْةُ يَفْجَؤُهَا السَّقَم، والقوةُ يَعْتَرِيهَا الوَهَن، والشبابُ يَعْقُبُهُ الهَرَم ، فعلى الإنسان أن يسارع ويبادر إلى فعل الخير ولا يؤجله فإنه لا يدري ماذا سيحدث غدًا

بَادِرْ بِخَيْرٍ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرَا  ***  فَلَيْسَ في كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ

وهذا ما أمر به النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ). 

إن أبواب الخير كثيرة ، ومفتوحة للراغبين، والمؤمن العاقل هو الذي يبادر إلى الخيرات  ويقطف من ثمراتها ، فالله الله ما دام في الوقت مهلة، وفي العمر بقية، قبل فوات الأوان.

          هذه الميادين الواسعة للتسابق هي ميادين المؤمنين الصادقين، الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57: 61] .

               لقد جعل الإسلام السبق إلى الخيرات والمسارعة إلى الصالحات مَطْلَبًا شرعيًّا حث المؤمنين عليه وأمرهم به ، فقَالَ تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الحديد: 21]. وقال سبحانه:{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة: 148]. وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : ( قال الله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرأوا إن شئتم قول الله تعالي : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17] , كما أن المسارعة والمسابقة في الخيرِ صفةٌ من صفاتِ الرسل (عليهم السلام ) قال تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وصفة من صفات المؤمنين الموحدين أهل الفلاح في الدارين ، فقد مدح الله تعالى المتصفين بها وأشاد بأصحابها ، وبين أن بلوغ الدرجات تكون بما قدمه الإنسان من خيرات فقال تعالى:  {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10–12]، وفي الصحيحين عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ:(بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ).

وقد تمثل صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا التسابق الشريف والمنافسة العظيمة على المستوى الفردي ، وعلى المستوى الجماعي ، يتضح ذلك من الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ). قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضى الله عنه):أَنَا ، قَالَ : (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ ). قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، قَالَ:( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، قَالَ :( فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ )، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ).   

وعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ (رضي الله عنه) قَالَ : ( كَانَ رَجُلٌ لاَ أَعْلَمُ رَجُلاً أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ وَكَانَ لاَ تُخْطِئُهُ صَلاَةٌ - قَالَ - فَقِيلَ لَهُ أَوْ قُلْتُ لَهُ : لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ وَفِى الرَّمْضَاءِ. قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ ) (صحيح مسلم).

إن التنافس سَبَبٌ لرفعِ الهمةِ ، وإثارةِ الْحَمَاسِ، يَكْشِفُ عنْ معادِنِ الناسِ، وعُلُوِّ نُفُوسِهِم، وقُوَّةِ عزائِمِهم كما يُبَيِّنُ مَوَاطِنَ ضَعْفِهِم وقُصُورِهِم، ولا يَسْتَوِي في الناسِ مُبَادِرٌ إلى الخير ومُتَبَاطِئ، ومُسَابِقٌ في الفَضْلِ، ومُتَثَاقِل؛ قال تعالى :{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

والتنافس من أهم مؤشرات القوة والنهوض بالوطن ، فمن علامات التقدم والتحضر أن تصبح سمة التنافس بين القوى والأحزاب والشخصيات والفئات حول خدمة الوطن والاجتهاد في البذل والتضحية من أجل حمايته ورفعة الأمّة ، وتصديق ذلك بالأقوال والأفعال والبرامج والخطوات والإجراءات .

ومن أهم أعمال المسابقة بالخيرات التي يجب أن نهتم بها لرفعة الوطن ما يسمى بالمشاركة المجتمعية ، التي يمكن من خلالها النهوض بالمجتمع والارتقاء به ، والعمل على تحسين مستوى حياة المواطنين اجتماعيًّا واقتصاديًّا ، فهي تعد من الضروريات ، وليست شعارًا تربويًا ولا شعارًا مجتمعيًا ، إنما شعار يجب أن يتحول إلى واقع ، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ( واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدًا ).

إن الشعور بالانتماء للوطن من أهم دعائمه التي تحافظ على استقراره ونموه ، وهو يشير إلى مدى شعور الأفراد بالانتماء إلى وطنهم، ويمكن أن نستدل على ذلك من خلال المشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع ، والدفاع عن مصالح الوطن ، والشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء له، والمحافظة على ممتلكاته ، وكل هذه المؤشرات يمكن أن تقاس ويُستدل عليها.

ومن ثم فإن من صور التنافس بالخير لخدمة الوطن الانتماء له ، والإخلاص في العمل ، والنية الصادقة حتي يكون الإنسان حصنًا منيعًا لوطنه ، مدافعًا عنه وعن دينه، والتصدي لكل ما يلحق به الضرر ، أو يُشيع فيه الخراب، أو يُوقظ الفتنة ، ويسعى للشقاق والخلاف.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

وجوب تقديم الكفاءات الوطنية في كل مجالات الحياة

أولاً : العناصر :

1-    الأمانة في الاختيار .

2-    اختيار الكفاءات مبــدأ إســـلامي ووطني .

3-    تشجيع الإسلام وتقديره للكفاءات .

4-    خطورة تقديم الولاء على الكفاءة .

5-    أهمية التدريب والتطوير ورفع الكفاءات للفرد والمجتمع.

ثانياً: الأدلـــة:

       الأدلــة مـن القـرآن:

1-       قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

2-       وقال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55].

3-       وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].

4-       وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 247].

5-       وقال تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ }[الأنبياء: 79].

6-       وقال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص: 34].

7-       وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103].

8-        وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].

 

الأدلــة مـن السنة:

1-       عَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي. قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ) (صحيح مسلم).

2-       وعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ). (مسند أبي يعلى ، وشعب الإيمان للبيهقي).

3-       وعَنْ أَبِي مُوسَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ. فَقَالَ: ( إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) (متفق عليه).

4-       وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ: (لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا) (متفق عليه).

5-       وعَنَ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قالت : َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :(أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (متفق عليه).

6-       وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ) (مستدرك الحاكم) .

7-       وعن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ:(مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (صحيح مسلم).

8-       وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ:( مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللهَ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ ، أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (مسند أحمد).

9-       وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ : يَا يَزِيدُ ، إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ ذَلِكَ أَكْثَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ ) (مستدرك الحاكم).

10-  وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم) يقول: (كُلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، الإمام راعٍ وهو مسئول عَنْ رَعِيَّتِهِ ، والرجلُ رَاعٍ فِي أهلهِ، والمرأةُ راعيةٌ فِي بيتِ زوجِها ، والخادِمُ فِي مالِ سيدهِ ) (مسند أحمد) .

ثالثاً: المـوضـــوع:

إن الإسلام قد اشتمل على بيان علاقة الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى –العبادة-، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان - المعاملة -، لذا نجد أن هناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تنظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وتضع لها الأسس والقواعد التي تساعد البشر على عبادة الله، وعمارة الأرض. فلا غرو إذا كان الإسلامُ  نظامًا يتناول قواعد وشروط تنظم حياة الناس بأفضل الطرق.

كذلك نجد أن الشريعة الإسلامية كانت رائدة في تبني مبدأ العمل الجماعي ، لما فيه من توحيدٍ للهمم والطاقات ، وتعاون تتهاوى أمامه أصعب المهام وتتحقق من خلاله أعظم الإنجازات ، وما ذلك إلا لمساواة الناس جميعًا في الحقوق والواجبات ؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .

ونجد أن الساعات الحاسمة في تاريخ المسلمين هي الساعات التي تتحول فيها الأمة كلها إلى (ورشة عمل)، كلٌّ في مكانه وكل له مكانته ، يشعر كل فرد أنه يشارك في البناء بل إنه ضروري لهذا البناء ، وهكذا قام المجتمع الإسلامي الأول عندما شارك المسلمون كلهم في بناء المسجد بمن فيهم قائد هذا المجتمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعندما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين وتنازلوا عن شطر أموالهم ، ونفَّذوا هذا عمليًّا ولم يكتفوا بالأدبيات والكلام عن الأخوة الإسلامية ، وذلك مصداق قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].

ومن الأهمية  الإشارة إلى أن تَبَنِّي الحضارة الإسلامية أسلوب العمل الجماعي وبث روح الفريق في الجماعة ينبع من العقيدة الإسلامية ذاتها ، مما يزيد الدافعية لدى أفراد فريق العمل ويجعل هناك نوعا من الرقابة الذاتية النابعة من الفرد نفسه على تصرفاته وأعماله ، ولعل هذا ما يبرر ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية من تقدم ورقي في شتي المجالات ، فقد قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103].

وقد جربت الكثير من مؤسسات الدولة اختيار أهل الثقة ، على حساب إقصاء أهل الكفاءة ، فكان من نتيجة هذا المعيار المعوج ، امتلاء كثير من مؤسسات الدولة بالفساد والمفسدين ، وهذا أمر لم يعد خافيًا على أحد ، في الوقت الذي تلقفت فيه كثير من الدول هذه الكفاءات لتبنى بها حضاراتها ، فقامت على أسس من العلم والصلاح والاستقامة.

وبالنظر نجد أن قائد أول دولة إسلامية نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يتحرى الأقوياء الذين لهم القدرة على أداء ما نيط بهم من مهام ، فيوليهم من أعمال هذه الدولة ما يمكنهم إنجازه على أكمل وجه ، معتبرًا أن تولية العاملين في الدولة أمانة ، لا يقوم بها إلا قوي قادر على أدائها ، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟. قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى منكبي ثُمَّ قَالَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ) (صحيح مسلم).

إن المجتمع يحمل من الطاقات الكبيرة ، والإبداعات العديدة، والواجب توجيه كل إنسان فيما يحسنه وفيما يبدع فيه ، وتوجيه الأفراد إلى مواقع الإبداع فهذا من الأهداف التربوية، تأمل هذا الحديث الشريف: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ: ( أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (مسند أحمد) ، فنجد في هذا الحديث الشريف إعدادًا للمواهب والصفات والطاقات التي اتصف بها هؤلاء الصحابة الكرام ، كلٌ حسب ما قدِّر له من رزقٍ ، وحَسْبَ ما عليه من كفاءة.

وقد شهدت الدولة الإسلامية حِقبًا من الضعف ، ربما كان سببها عدم الأمانة في الاختيار وذلك بتقديم أهل الثقة ، وإقصاء أهل الكفاءة ، فأحدث ذلك صدعًا في جدار الأمّةِ الإسلامية والتي ما زالت تعانى منه حتى يومنا ، وإن مصر بما مر عليها من محنٍ وأحداثٍ جسامٍ ، ينبغي على القائمين عليها تنقية مؤسساتها من العاملين بها المصنفين ضمن أهلِ الثقة والذين ولُّوا دُونَ اعتبارٍ لخبرةٍ أو كفاءةٍ ، حتى أنها تفتح المجال لاختيار من كان على شاكلتها ، وهذا ما يسفر عنه الواقع الأليم ، من انتشار الرشوة والفساد في أوصال الدولة ومؤسساتها المختلفة ، لكن كل من يقيم في هذه الدولة من أهلها أو من غيرهم ، يأمل في غدٍ تشرقُ شمسهُ على مؤسسات الدولة دون أن يكون بها مفسدٍ أو خائنٍ لأمانته ، تَمّ اختياره مجاملةً دون أن يكون له أدنى خبرة بما أسند إليه من عمل ، وإذا كان الإسلام يحض على إتقان العمل ، لما روته عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ) (شعب الإيمان للبيهقي) ، فإن هؤلاء المفسدين لا يتقنون إلا لغة واحدة بعيدة كل البعد عن الصلاح والإصلاح.

ولقد كان (صلى الله عليه وسلم) قدوة حسنة  في تعامله مع أهله ، فكان يتعامل معهم بمعيار الكفاءة ؛ لذلك لم يستعمل منهم سوى الأكفاء في كل شيء ، حيث أَمَر ابن عمهِ على بن أبى طالب بالنوم في مكانه أثناء الهجرة ليؤدى الأمانات إلى أهلها، فهو أحق الناس بهذه المهمة ، وأكفأ وأجدر من يقوم بها ، فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يولِّ أحدًا من أقاربه أي منصبٍ إلا بمعيار الكفاءة.

ونجد أيضًا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يبحث عن الكفاءات في كل المجالات حتى لو لم يكونوا مسلمين ؛ فقد استعان بغير المسلمين في بعض الأحيان ، حيث استأجر رجلاً كافرًا اسمه (عبد الله بن أريقط) ليكون دليله في دروب الصحراء عند الهجرة إلى المدينة ؛ لما له من معرفة وخبرة متمرسة بدروب الصحراء وطرقها ، فهو لهذه المهمة كفءٌ وللقيام بها أهل. 

فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعامل أهله وعشيرته من منطلق أنهم أهل الثقة ، ولم يعينهم في المناصب القيادية ، بل كانت رؤيته أن يُولِي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح وأكفأ من يجده لهذا العمل ، فهو (صلى الله عليه وسلم) القائل: ( مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ) (مسند أحمد والمستدرك للحاكم).

ولم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعطى الولاية لأي شخص يطلبها أو يكون حريصًا عليها ، فعَنْ أَبِي مُوسَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي ، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ ، فَقَالَ: ( إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ ) (متفق عليه).

ولم يقتصر الهديُ النبوي الكريم على منع الولاية والإمارة عمن يسألها فحسب ، بل جاء التوجيه الكريم والإرشاد العظيم في أمر الولاية بالنهي عن سؤالها ، أو السعي في الحصول عليها ،  كما ورد عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ  لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ) (متفق عليه).

في حين أننا نفرق بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) في كونه بشرًا وكونه نبيًّا يوحى إليه ، نجد أنه في كلتا الحالتين لم تأخذه في الله لومة لائم فيما يتعلق بأهله وقبيلته؛ ولم يجامل أحدًا منهم على حساب دينه أو حساب أحدٍ ، فقد نزل قول الله - تعالى- في حق عمه أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] ، فقالها ولم ينكرها حين نزلت ؛ في المقابل نرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) رؤوفًا رحيمًا بأهله، لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: ( قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ) (صحيح البخاري) .

ونجد أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان يختار الرجل المناسب في المكان المناسب ؛ فعندما أرادَ أنْ يرسل ولاةً إلى اليمن أرسل في البداية معاذ بن جبل ثم بعده أبا موسى الأشعري ، وأخيرًا على بن أبى طالب (رضي الله عنهم) على الرغم من أنه كان يقول: (أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا )(مستدرك الحاكم) ؛ لكنه لم يرسله باعتباره أحد أقاربه ، إنما باعتباره أحد العلماء؛ كذلك عندما أخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) البيعة من أهل المدينة أرسل معهم بعض أصحابه لم يكن منهم أي من أقاربه ، و لم يرسل أيًّا من أقاربه لأخذ البيعة من أهل المدينة.

وبعد اختيار أهل الكفاءات لابد أن نشجعهم ونشد من أزرهم حتى يبدعوا ويبذلوا قصارى جهدهم في عملهم سواء تشجيعًا ماديًّا أو معنويًّا أو بهما معًا نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك مع أبي قتادة ، وسلمة بن الأكوع (رضي الله عنهما) في (غزوة ذي قرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعد أن أبلى سلمة بن الأكوع وأبو قتادة (رضي الله عنهما) بلاءً حسنًا، ثم ناموا في الطريق، قال سلمة (رضي الله عنه) : فلما أصبحنا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ). قَالَ : ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ  (صلى الله عليه وسلم) سَهْمَيْنِ سَهْمُ الْفَارِسِ وَسَهْمُ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا ، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ (صحيح مسلم).

تأمل هذه الحادثة .! وكم فيها من الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ ففي قوله: (وخير رجالتنا سلمة) إعلان للتكريم أمام مجمع من الصحابة، ثم إن في إعطائه سهمين مكافأة أيضًا وتقديرًا لجهوده، ثم في إرداف النبي (صلى الله عليه وسلم) له على الدابة زيادة في التكريم والتقدير له، ولك أن تتصور مقدار التكريم حين يُركبك القائد معه في مركبته الخاصة تسير بصحبته أمام الناس ـ كم سيضاعف هذا الثناء والتقدير من نشاطٍ في نفس سلمة أو أبي قتادة (رضي الله عنهما)، بل كم سيحرك في نفوس الآخرين حين يكون المدح في محله.!

إن كثيرًا من القدرات ، وكثيرًا من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور ، بل ربما يموتون وتموت مواهبهم وقدراتهم ؛ لأنهم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء ، أو يرفعهم بعبارة تشجيع؛ إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهد المجتهد منهم فحسب ، بل إننا نحرك نفوسًا ربما لا يحركها أسلوب آخر.

جدير بالذكر أن الإسلام يرفض المحاباة أو التستر على أهل الفساد والإفساد ، مهما كان قدرهم ومهما كانت منزلتهم ، فهذا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان يرفض أن يحابى أحدًا من أهله وعشيرته ، وكان يقول:( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَأيّمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) (متفق عليه). 

ولم يُعرف عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) طوال حياته التزكية أو الترقية أو تعيين أحد أقاربه في أي منصب من مناصب الدولة ، خوفًا من ضياع الأمانة، التي كان حريصًا على استقرارها عند أهلها، فهو (صلى الله عليه وسلم) القائل:(إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قِيلَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) (صحيح البخاري) .

ولم تكن المحاباة يومًا من الأيام سبيل تولى المناصب ، أو الحصول على مكاسب ، فإن أنبياء الله تعالى ورسله كان دأبهم وحرصهم الأول على تولي أهل الكفاءة ، وأصحاب المسئولية، حيث قال الله - تعالى- مخبرًا عن نبيه يوسف (عليه السلام):{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55] ، كذلك فهمت ابنة الرجل الصالح أن الكفاءة شرط في تولى القيادة ، وإسناد العمل للفرد وتكليفه به ، دون مجاملة أو محاباة ، قال تعالى:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26].

وهذا نبي الله موسى (عليه السلام) حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها استخلف أخاه هارون ، قال تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف: 142] ، وأوصاه بالإصلاح في أمرهم وفي نفسه ، كذلك نهاه عن اتباع سبيل العاصين ، ولا يكن عونًا للظالمين .

إن دين الإسلام قد جاء ليؤسس لقواعد صارمة وحاسمة للأمور الإدارية التي دعت إليها بعد قرون مختلف النظريات الإدارية المعاصرة ، وتعرف الإدارة في الإسلام بأنها الولاية أو الرعاية التي تأتي في نطاق المسئولية التي تلزم وجود أمانة لدى من يتصدى لشئون الإدارة على اختلاف أنماطها ومستوياتها ..كما وضع الإسلام جملة من الركائز لفن الإدارة ، من تقديم أهل الكفاءة ، باعتبارها أصلًا من أصول علاقات العمل.

وهناك أحاديث نبوية شريفة كثيرة تحدثت عن الإدارة ، وسبل اختيار المسئُول أو القائد، وتقديم الكفاءة وحُسْن الإدارة على غيرهما ، منها ما يشير إليه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):( مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ) (مستدرك الحاكم)، وكان من دعائه (صلى الله عليه وسلم): ) اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ) (صحيح مسلم).

وهذا يبين لنا خطورة تقديم الولاء أو غير الأكفاء على أصحاب الخبرة من أهل الكفاءة ومتقني الإدارة ، الذي قد يلحق ضررًا أو يأتي بِشَرِّ على الفرد والمجتمع ، فعن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) (صحيح مسلم). فكل هذه الأحاديث تشير إلى ضرورة أن يتولى الإدارة أهل الصلاح والإصلاح، وأهل المعرفة والإتقان ، وأهل الكفاءة والخبرة في مجالاتهم ، وتقديمهم على غيرهم.

فالإدارة فن أقره الإسلام ، وأوصى باختيار الرجل المناسب في المكان المناسب ، سواء على مستوى المؤسسات العامة أو المؤسسات الخاصة أو حتى مستوى الأسرة ، واختيار هذا الرجل يجب أن يعتمد على شرط الكفاءة ، وحين اختار الله - سبحانه وتعالى- لبني إسرائيل ملكًا يقاتلون وراءه في سبيل الله ، اختار طالوت عليه السلام ، وبيّن علامات صلاحيته لتلك القيادة ، بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، فجعل القدرة الجسمية اللازمة والعلم الواجب علامتان لكفاءته ودلالة على أهليته للقيادة. يقول الإمام القرطبي: قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} أي: اختاره وهو الحجة القاطعة، وبيَّن لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة ، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب ، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته ، وإن كانوا أشرف منه نسبًا ، وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة ، ولم يرد عظم الجسم.

ومن هنا فقد حرص الإسلام على رفع المستوى الثقافي وغرس روح المبادرة وحسن التصرف، وكذلك التركيز على التدريب المشترك لجميع الأفراد والتركيز على التدريب المستمر على العمل في ظروف متعددة وطارئة واستخدام الإمكانات المتاحة ، وذلك لحل المشاكل التي قد تواجه المؤسسات .

ونجد في نصوص الإسلام أن التدريب والتطوير يعد من الضرورات الحيوية لإعداد القوة التي أمر بها الإسلام ، كما تحتوي توجيهات الإسلام في التدريب الإتقان في التدريب لبلوغ أعلى قدر من الكفاءة ، ومن مقتضيات هذا المبدأ ألا يكتفي المسلم بالمستوى التدريبي الذي بلغه، بل عليه أن يجود فيه ويرفع مستواه بالمزيد من التمرين والمعرفة ، فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: { رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }[طه: 114] وهذه المسئولية تقع على عاتق الفرد قبل أن تقع على قيادته.

ومن أهم مبادئ التدريب الحديثة الاستمرارية ؛ لأن الاستمرار يحقق فائدتين كبيرتين هما: المحافظة على مستوى كفاءة الفرد ، ودعم هذه الكفاءة والارتفاع بها إلى مستوى أفضل. وهذا ما يفهم من قول رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو يحذر المسلمين من الانقطاع عن التدريب: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (.. وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ فَقَدْ كَفَرَ الَّذِي عُلِّمَهُ) (رواه أبو داود).

ومن المعروف أيضًا أن المنافسة من أفضل الحوافز على الإجادة والإتقان لأنها من وجهة نظر علم النفس تحرك في الإنسان دافعًا ذاتيًّا لكي يتفوق على غيره ؛ ولهذا كان التنافس من مبادئ التدريب التي تستهدف رفع مستوى الكفاءة لدى الأفراد ، وقد كان رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) معنيًّا غاية العناية بهذا المبدأ ، فكان يشجع على المسابقات في كل مجالات التدريب البدنية والرياضية والفروسية والرمي بالسلاح ، بل كان (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يشترك بنفسه فيها تحفيزًا للهمم وإذكاءً لروح التنافس البريء والمشجع .

وحيث أكّدَ الإسلام على المبادئ الأساسية للتدريب ، في الماضي والحاضر ، فإن الإسلام الحنيف قد سبق غيره من الأنظمة الحضارية في تأصيل وتجديد وإقرار هذه المبادئ التدريبية الإيجابية والتي يؤدي تطبيقها إلى رفع مستوى الكفاءة النوعية .

من هنا نؤكد على اعتبار المسئولية تكليف لا تشريف ، فالقائد للأمة خادمها وراعيها، وينبغي إمداد الدولة بالطاقات البشرية ، ومراعاة الدقة في الاختيار ، والاعتماد على أصحاب الكفاءات والثقات ، الكفيلة بمواجهة الشدائد ، والقادرة على النهوض بالأمة.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

خطورة الدعوات الهدامة وضرورة التصدي لها

لتحقيق الأمن والاستقرار

أولا: العناصر:

1.     نعمة الأمن والاستقرار. 

2.     استقرار الأوطان ضرورة شرعية ووطنية.

3.     من عوامل استقرار الأوطان.

أ‌-      حب الإنسان لوطنه.

ب‌-  إشاعة التآلف والتعاون بين الناس.

                    ج - السمع والطاعة لولي الأمر في طاعة الله وخدمة الوطن.

4.     التحذير من الفتن. 

5.     خطورة الدعوات الهدامة على الفرد والمجتمع.

6.     وجوب التصدي لهذه الدعوات.

ثانيا: الأدلة:

       الأدلة من القرآن الكريم:

1-  قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[البقرة: 126] .

2-  وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}[إبراهيم: 35].

3-  وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82].

4- وقال تعالى:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:1ـــ 4].

5-  وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[القصص: 57] .

6- وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[العنكبوت: 67].

7- وقال تعالى :{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}[سبأ: 18] .

8- وقال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173].

9-  وقال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}[الأنفال: 25]. 

10- وقال تعالى:{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النور:19].

11- وقال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].

12- وقال تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء: 83].

الأدلة من السنة :  

1-  عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي).

2-  وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (رواه الترمذي).

3-  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَاقِفًا عَلَى الحَزْوَرَةِ فَقَالَ: ( وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ) (مسند أحمد والترمذي). و  ( الحَزوَرةُ ) موضع بمكة.

4-  وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِمَكَّةَ : (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَىَّ وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ) (رواه الترمذي).

5-  وعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ ) (رواه البخاري).

6-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ ) (رواه البخاري ).

7-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِىِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: ( مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ ) (رواه مسلم ). و ( عمِّية ) : يقال: بكسر العين وبضمها ، وكسر الميم وتشديدها وتشديد الياء : هِيَ الْأَمر الَّذِي لَا يستبين وَجهه، وقيل : قَوْله ( تَحت راية عمية ) كِنَايَة عَن جمَاعَة مُجْتَمعين على أَمر مَجْهُول لَا يعرف أَنه حق أَو بَاطِل.

8-  وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الماشي ، والماشي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الساعي ، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ ) (متفق عليه). وقوله: (من تشرف لها تستشرفه) يريد من تطلع لها دعته إلى الوقوع فيها. والتشرف: التطلع. واستعير هاهنا للإصابة بشرها ، أو أريد بها أنها تدعوه إلى زيادة النظر إليها.

ثالثا: الموضوع:

 إن من أجل نعم الله (عز وجل) على الإنسان نعمة الأمن والاستقرار ، فبدونها لا يهدأ للإنسان بال ، ولا تطمئن له نفسٌ ، ولا يهنأ إنسان بالحياة حتى لو أوتي الدنيا بحذافيرها ، فسعادة الدنيا ونعيمها في تحقيق الأمن والاستقرار ، ففي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي).

فنعمة الأمن والاستقرار مطلب كل مخلوق على وجه الأرض ، طلبها إبراهيمُ (عليه السلام) لأهلِهِ وقومِهِ ، حيث قالَ:{رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة: 126] ، فإبراهيم (عليه السلام) سأل الله (عز وجل) أن يمُنَّ على مكة بالأمن والرزق ، وقدَّم الأمن على الرزق ، لأن الرزق لا تكون له لذة إذا فُقد الأمن ، فبالأمن يهنأ الإنسان ويشعر بقيمة الحياة ، فاستجاب الله لدعاء نبيه وخليله ، وجعل من مكة مستقرًّا وبلدًا آمنًا بإرادته ومشيئته ، وجعلها وطنًا للإسلام ، وذلك ببركة دعاء إبراهيم (عليه السلام) ، بل إن إبراهيم (عليه السلام) قدم نعمة الأمن على العبادة والتوحيد ، فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}[إبراهيم: 35].

كمَا امتَنَّ اللهُ (تعالى) بهذه النعمة العظيمة علَى أهْلِ قُريشٍ ، فحبَاهُمْ برَغَدِ العيشِ فِي الحياةِ ، والأمْنِ فِي الأوطانِ ، قالَ تعالَى:{ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش: 3، 4] .

كمَا منَّ عليهم بأن جعل لهم حرمًا آمنًا ، فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[العنكبوت: 67].  فبالأمن والاستقرار ترتقي الأوطان ، ويستقر الناس في حياتهم ومعاشهم ، وتتقدم الأمم والمجتمعات ، وينمو ويتطور الاقتصاد ، وهذا ما بينه القرآن الكريم حين امتن الله (تعالى) على أهل سبأ بنعمة الأمن والاستقرار ، فقال تعالى : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}[سبأ: 18] ، فما تقدمت أمة من الأمم ، وما ارتقى مجتمع من المجتمعات إلا إذا ساد الأمن، وعم الاستقرار بين أفراده .

إن اختلال الأمن والاستقرار يؤثر على البلاد والعباد ، حتى في العبادات - وهي الهدف الأول من خلق الإنسان - ، ولهذا كانت صلاة الخوف مختلفة عن صلاة الأمن في صفتها وهيئتها، والحج كذلك يشترط في وجوبه على الإنسان أمن الطريق ؛ فإذا كان الطريق غير آمن فلا يجب عليه الحج ، ومن هنا فإن العبادات لا يتأتى الإتيان بها على أكمل صورة إلا بنعمة الأمن والاستقـرار.

فإذا شاع الأمن في أمة ، واطمأن كل فرد فيها على نفسه وماله وعرضه نَعِمَ المجتمع بحياة هادئة مستقرة لا رعب فيها ، ولا اضطراب ، ولا قلق ، ونَعِمَ المجتمع كذلك بالتقدم والازدهار ، ومن ثمَّ فإن استقرار الأوطان ضرورة شرعية ومطلب وطني ، ومقصد عظيم من أهم مقاصد الدين العظيم .

ومن عوامل الاستقرار : أن يحب الإنسان وطنه الذي يعيش فيه بكل حرياته المشروعة ، وأن يشعر بقيمة الوطن الذي ترعرع على ثراه ، وهذا ما جسده النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عمليًّا ، حين هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، فقد علمنا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حب الأوطان وشرف الانتماء إليها ، وكان حبه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لوطنه مكة المكرمة وشعوره بقيمته هو الأساس ، رغم قسوة أهلها ، فقال متأثراً لفراقها : ( وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ) (مسند أحمد والترمذي)، وفي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِمَكَّةَ : (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَىَّ وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ) (رواه الترمذي).

          ولما هاجر إلى المدينة المنورة وشرع في بناء الدولة الحديثة أراد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يعلم أصحابه (رضوان الله تعالى عليهم) والدنيا كلها أن الأوطان لا يسعى لبنائها إلا من أحبها ، فكان من دعائه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ما جاء عن أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أشَدَّ ) (رواه البخاري). فما سأل النبي الكريم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) محبةَ الوطن إلا لتحقيق الاستقرار والطمأنينة لكل أفراده.

ومن ثمَّ وجب على الإنسان أن يحافظ على وطنه بحبه وصيانته ، والدفاع عنه ، وأن ينهض بواجباته ومسؤوليّاته نحوه ، فَلِلْوَطَنِ فِي الإِسْلامِ شَأْنٌ عَظِيمٌ ، والتَّفْرِيطُ فِي حَقِّهِ خَطَرٌ جَسِيمٌ ؛ لذلك أعلى النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من قيمة الرجل الذي يحافظ على استقرار وطنه ، ويضحي من أجله بأن الله (عز وجل) لا يعذبه ولا تمس النار عينه ، فالجزاء من جنس العمل ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (رواه الترمذي ) ، فحبَّ الوطن من عواملِ الاستقرارِ الأساسية لأيِّ مجتمعٍ ، فالإنسانُ إذَا أحبَّ وطنَهُ استشعَرَ مسئوليةَ المحافظةِ علَى أمنِه واستقرارِهِ ، ولاَ يستجيبُ لِمَنْ يَسْعَى لِخرابِ الأوطانِ مِنَ الأدعياءِ ، لأنَّ الإنسانَ إذَا اطمأَنَّ فِي موطنِهِ استقرَّتْ نفسُهُ وأبدَعَ فِي عملِهِ وعَظُمَ إنتاجُهُ وعطاؤُهُ.

ومِنْ عواملِ الاستقرارِ - أيضًا- : إشاعةُ التآلُفِ والتعاون بينَ الناسِ ، قالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ) (متفق عليه) ، والبعد عن الخلافِ والنِّزاعِ ، فإنَّهُ شرٌّ يَجُرُّ إلَى الْفُرْقَةِ والضياعِ ، قالَ تعالَى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46]. فالحذرَ الحذرَ مِنَ الخلافِ والنِّزاعِ ، فإنَّهُ شرٌّ يَجُرُّ إلَى الْفُرْقَةِ والضياعِ ، والحذرَ الحذرَ مِنَ الانتماءاتِ أَوِ التحزُّبَاتِ ، فإنَّهَا شَرٌّ يُؤدِّي بالمجتمعاتِ إلَى التفكُّكِ والشتاتِ ، فيجب أن يتآلف الجميع ويتعاون لتحقيق استقرار الأوطان ، وهذا ما أمر الله (عز وجل) به فقال:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2].

ومن أعظم الأمور التي تساعد في تحقيق استقرار الأوطان: السمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية الله (عز وجل) ، قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59] ، فولي الأمر هو ظل الله في الأرض، كما قال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):  ( السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ أَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللهُ ، وَمَنْ أَهَانَهُ أَهَانَهُ اللهُ ) (رواه الطبراني والبيهقي) ، وقَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( مَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الدُّنْيَا  أَهَانَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (رواه أحمد) .

إن طاعة ولي الأمر في طاعة الله ومصلحة الوطن عقيدة يدين بها المسلم لربه ، فإن أمر بأمر أو نهى عن أمر  وجبت طاعته مالم تكن معصية لله عز وجل ، فعن أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ) (رواه البخاري)، فطاعة ولي الأمر في غير معصية الله فيها صلاح الدين والدنيا ، وعصيانه فيه فسادهما ، ومعنى (جُنَّة) أي: ستر وحجاب عن الفتن والشرور .

ومن ثمَّ فعلى المرء السمع والطاعة لولاة الأمر ، ولا يخرج على جماعة المسلمين فيفرق كلمتهم ، فعن أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ: ( مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَلَسْتُ مِنْهُ ) (رواه مسلم ).

ولعل السبب في ضرورة السمع والطاعة لأولي الأمر أن ما يترتب على معصيتهم وعدم طاعتهم من المفاسد أضعاف ما قد يحصل بالخروج عليهم ، على أن للنصح والإصلاح طرقًا ووسائل سلمية وديمقراطية متعددة ، وذلك حتى تجتمع كلمة الأمة ، ومنع الفرقة والشقاق ، وما يترتب عليهما من قتل وسفك للدماء ، وانتهاك للأعراض ، واعتداء على الحرمات ، وتدمير البلاد ، وضياع الأموال ، وتشتيت الشمل ، وهذا مشاهد وواضح للجميع نتيجة الفوضى التي سببها عدم السمع والطاعة لبعض ولاة الأمور.

ومن أعظم الأمور التي تهدد استقرار الوطن : إشعال الفتن التي تؤدي إلى زوال النعم، وحلول النقم ، وقطع التواصل بين الشعوب والأمم ، وتؤدي إلى انتشار الرذيلة ، وطرد الفضيلة ، وبث روح العداوة والبغضاء ، والقضاء على روح المودة والإخاء ، فالفتن نار تأكل اليابس والأخضر ، تفرق بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، وتؤدي إلى البعد عن طاعة رب العباد ، موقظها ملعون ، وناشرها مفتون ، تفسد الأحوال وتؤدي إلى سوء المآل ، القاتل والمقتول فيها مصيره النار وبئس القرار.

لذا كان الإسلام حريصًا أشد الحرص على وقاية المجتمع من الفتن والخوض فيها ، ووجهنا النبي الكريم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بتوجيهات وقائية حال وقوع الفتن ، وعلَّم المسلم كيف يتعامل معها ويواجهها ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ - أَوْ يُوشِكُ أَنْ يأتي زَمَانٌ- يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا ) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، فَقَالُوا : وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: ( تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ ) (رواه أبو داود) ، وقوله (كيف بنا) يعني بم تأمرنا عند ذلك ؟ قال: (تأتون ما تعرفون) يعني: أَيْ مَا تَعْرِفُونَ كَوْنه حَقًّا، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ : أَيْ مَا تُنْكِرُونَ أَنَّهُ حَقّ .(عون المعبود) ، و (حُثَالة ) بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الثَّاء هِي: رَدِيء كل شَيْء وَمَا لَا خير فِيهِ.

فالله الله في الوحدة والمحافظة على الوطن ،  والحذر الحذر من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فلقد حذرنا منها ربنا (سبحانه وتعالى) في كتابه الكريم في أكثر من موضع ، من هذه المواضع ما أخبر الله (عز وجل) به أن الفتن لو نزلت لن تفرق بين مؤيد لها أو معارض، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}[الأنفال: 5 2] ، وكذا حذرنا منها النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كثيرًا ، فعن حُذَيْفَة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا - أي: قبلهَا وَسكن إِلَيْهَا - نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا - الْحجر الأملس- فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا - المرباد والمربد: الَّذِي فِي لَونه ربدة: وَهِي لون بَين السوَاد والغبرة كلون النعامة - كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا - المجخي: المائل ، وَيُقَال مِنْهُ: جخى اللَّيْل: إِذا مَال ليذْهب. وَالْمعْنَى: مائلا عَن الاسْتقَامَة منكوسًا- لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) (رواه مسلم) ، وعن أبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ ) (متفق عليه). 

إن الواجب على المسلم العاقل أن يتجنب الفتن وما يثيرها ، وأن يتعامل معها بحذر، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِلْأَنْصَارِ: (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمُ الحَوْضُ ) (رواه البخاري) ، و(أَثَرَةً) من الاستئثار ، أي: يُستأثَر عليكم بأمور الدنيا ، ويُفضَّل غيركم عليكم ، ولا يُجعَل لكم في الأمر نصيب.

إن تحاشي طريق الفتن والتحرز من الوقوع فيها شيمة المسلم الذي يحب النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة ؛ ولذلك يمتدح النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من يحتاط لنفسه ويجنبها الانغماس فيما يقع فيه الناس من الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الماشي ، والماشي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الساعي ، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ ) (متفق عليه).

والسلامة من الفتن تكون باتباع أمر الله تعالى ، وأمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، ولزوم الجماعة ، وطاعة ولاة الأمر في المعروف ، وفي مصلحة الوطن ، لذا حذر الله تعالى من يخالف ذلك من أن يغمس في الفتن في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة من عذاب أليم، يقول الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 63].

          فيجب أن يتعاون الجميع من أجل النهوض بهذا الوطن المبارك ، والسعي إلى رقيه بِالجِدِّ وَالاجتِهَادِ ، والحفاظ على ممتلكاته ، والتقيد بأخلاقه وقيمه ، وأنظمته وقوانينه ، حتى نرقى بأنفسنا ونحافظ على أمننا واستقرارنا ، فالمواطن الصالح هو من يبني وطنه  ويعمل على استقراره ويحافظ عليه ، ولا يسير خلف أصحاب الهوى والمصالح الشخصية ، والدعوات الهدامة الفاسدة والذين يسعون من خلفها لخراب الوطن ونشر الفوضى ، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران : 103].

ومن أعظم الفتن التي تهدد أمن واستقرار المجتمع : الدعوات الهدامة التي تصدر من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان ، الذين لا يؤمنون بوطنهم ، أصحاب الفكر المتطرف الذين يعملون على تفكيك المجتمع وزعزعة أمنه ، وهدم بنيانه وتمزيق أوصاله ، وزلزلة أركانه وتفريق كلمته ، لا يكفون عن أساليبهم ومؤامراتهم الخبيثة التي ليس لها هدف سوى إسقاط الدولة والنيل من استقرارها.

إن أخطر ما يهدد البلاد ويؤدي إلى الفرقة والتشاحن إساءة استخدام الدين ، والمزايدة به ، سواء بالشعارات الجوفاء أم بالخطب الرنانة ، أم بالمجادلات العقيمة التي لا تحقق نتيجة ، ولا تصل إلى غاية ، وقد ظهرت في أيامنا الأخيرة بعض الأصوات الشاذة والدعوات الهدامة التي تدعو بلا حياء ولا خجل إلى الإفساد في الأرض ، وسفك الدماء ، وترويع الآمنين ، وإشاعة الفاحشة ، ورب العزة (عز وجل) يقول في كتابه العزيز :{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النور:19].

هذه الدعوات الهدامة التي يسعى أصحابها لخراب المجتمع ، ونشر الفوضى ، وضياع هيبة القانون تشكل خطرًا بالغًا على الأمن القومي للأوطان ، وتعد أكبر وأهم وقود للتطرف والإرهاب ، وتعطي ذريعة لوصف المجتمع بما ليس فيه ، تلك الدعوات التي يرفعونها قد تؤدي إلى فتن عظيمة تعصف بالبلاد والعباد من قتل وتدمير وتخريب ، وزعزعة لأمن الفرد والمجتمع ، ولنا فيما حولنا من الدول التي سقطت في الفوضى عبرة ومتعظ ، وديننا الإسلامي يدعو إلى كل أمن وأمان واستقرار ، وينبذ كل عدوان وإرهاب

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الوساطة والمحسوبية والرشوة

عوامل هدم وإحباط يجب القضاء عليها

أولا: العناصر:

1-        الوساطة والمحسوبية والرشوة سلوكيات مرفوضة.

2-        موقف الإسلام من الوساطة.

3-         الإسلام يحارب المحسوبية.

4-         أضرار الرشوة بالمجتمع.

    ثانيًا : الأدلـة :

           الأدلة من القرآن الكريم :

1-        قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85].

2-    وقال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85].

3-    وقال تعالى : {يَا أَيُهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. 

4-        وقال تعالى:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}[البقرة: 188].  

5-        وقال تعالى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة : 42].

الأدلـة من الســنة :

1-    عَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ ) (رواه الحاكم).

2-    وعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (متفق عليه).

3-    وعن أَبي بُرْدَةَ بْن أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَبِيهِ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ) قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ : (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا شَاءَ) (رواه البخاري).

4-    وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، و َلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ) (مسند أحمد).

5-        وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ ، قَالَ أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : ( إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) (صحيح البخاري).

6-    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ ) (مستدرك الحاكم).

7-    وعن ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: ( لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ ) يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا(مسند أحمد).

8-    وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ : فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا. (رواه البخاري).

   ثالثًا : المـــوضــــــوع:

فإن المتتبع لشريعة الإسلام يرى أنها صمام الأمان لكافة أمور الحياة ، تقوم على أسس العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ، فما أجمل الحياة في ظل شريعة الله ، وإتقان العمل لله ،  ومحاربة السلوكيات المرفوضة ، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

ومن السلوكيات التي انتشرت في بعض المجتمعات العربية ، والتي تفتك بالأفراد والجماعات ( الوساطة، والمحسوبية ، والرشوة) ، فهي داء عظيم استحكم في مجتمعاتنا وسكن قلوب الناس وعقولهم حتى أصبح من الصعب تركه والتخلي عنه.

جدير بالذكر أن هذه السلوكيات تؤثر في المجتمع تأثيرًا سلبيًّا ، و تنخر في جسد المجتمع حتى تهدم بنيانه ، ذلك لأنها سلوكيات تهدم قيمة ناصعة من قيم الإسلام، وهى تلك القيمة التي ما خلقت السموات والأرض ولا قامت إلا بها ، وهى قيمة الحق قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَق}[ الحجر: 85]. وذلك لأن هذه السلوكيات تحق الباطل وتبطل الحق.

لأجل هذا حرم الإسلام التعامل بها ؛ لما فيها من ظلم الناس وعدم إقامة العدل بينهم ، ولما فيها من تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ، وكذلك عدم الوفاء بالأمانة وهى إسناد الأمر إلى غير أهله، فعَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ) (رواه الحاكم).

أولى هذه السلوكيات التي انتشرت هذه الأيام في كثير من الأمور (الوساطة) ، فلا يكاد الإنسان يصل إلى حق من الحقوق أو أمر يريده إلا بواسطة ، وهي ظاهرة اجتماعية موجودة منذ القدم ، فقد جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).

لقد ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك مثالا رائعا لكلِ من يأتي بعده من حكام وقضاة وولاة ، فما أحرانا بالاقتداء به (صلى الله عليه وسلم) في هذا الأمر وفى غيره.

والوساطة في الاصطلاح الشرعي بمعنى الشفاعة، والشفاعة نوعان : محمودة  ، ومذمومة. فالمحمودة هي: مساعدة كل محتاج للوصول إلى هدف مشروع من حقه أن يحصل عليه لكنه لا يملك الوسائل التي توصله إليه شريطة أن لا يلحق الضرر بالآخرين.

وهذه هي الشفاعة الحسنة التي قال الله تعالى فيها : {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}[النساء: 85]، وفي صحيح البخاري قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ).

أما المذمومة فهي : مساعدة الإنسان لحصوله على حق لا يستحقه أو إعفائه من حق يجب عليه دفعه مما يلحق الضرر بالآخرين ، وهذه هي الشفاعة السيئة التي قال الله تعالى عنها: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}[النساء: 85].

فالوساطة إن كانت لأجل إحقاق حق أو كشف ظلم وباطل فهي شفاعة حسنة ، وهي التي جاء بفضلها الآيات والأحاديث ، أما عكس ذلك بمعنى أن يقوم الإنسان بالشفاعة لأجل رد حق وإبطاله ، أو تثبيت باطل، أو منع إنسان حقه الشرعي ؛ لأجل مصلحة إنسان آخر فهي لا شك وساطة سيئة، وهي من الظلم والعدوان ، وبسببها يُحرم كثير من الناس من حقوقهم الشرعية ، ويُوضع أناس في غير ما يستحقون من الأماكن والمناصب مع أنهم لا يمتلكون المؤهلات التي تؤهلهم لذلك ، وهناك من هو أفضل منهم ، والله عز وجل يقول:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب:58]، وقال سبحانه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}[الشعراء: 227].

وإذا كان ديننا الإسلامي الحنيف وقيمنا الأصيلة تؤكد أن الناس سواسية ، فإن ظاهرة الوساطة المذمومة أحد مظاهر الفساد التي تنسف مبدأ المساواة والعدالة ، وتهدر إمكانات الموهوبين أو المتميزين ، وتعتبر معول هدم ينخر في بنيان المجتمع ، وهي أخطر ما يهدد استقراره وتقدمه .

ومن ثم فإن الوساطة المذمومة سلوك خاطئ غير سوي، وهو أمر محرم من الناحية الشرعية ، ومن الناحية الاجتماعية ، ويؤدي إلى تدمير عملية التفاعل الاجتماعي وفقدان الثقة والشعور بخيبة الأمل، وبالتالي زيادة مشاعر الغيرة والحقد والعداء.

ثاني هذه السلوكيات المرفوضة (المحسوبية) ، التي انتشرت في الوقت الحاضر انتشاراً واسعاً ، حتى أصبح الإنسان لا يستطيع الحصول على حقه إلا بها .

إن المحسوبية تُعد من الأمراض المعنوية الخطيرة التي تفسد الحياة ، وهي نوع من أنواع الظلم.. سواء ظلم الإنسان لنفسه أو للآخرين، مع أن الإسلام لا يعرف المحسوبية ولا يعرف المحاباة ، فالناس جميعا في تشريعات الإسلام سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر أو أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح ، فالبشرية كلها سواء في عرف الإسلام ، خلقوا جميعا من أصل واحد أبوهم آدم عليه السلام وأمّهم حواء.. فلا تفاضل بين بني البشر إلا بالتقوى والعمل الصالح ، قال تعالى: {يَا أَيُهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13].  وفي الحديث أن رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ) (مسند أحمد ).

ومن هذا المنطلق نرى الإسلام لا يفرق بين سيد ومسود ولا بين حاكم ومحكوم ، الكل أمام تشريعات الله سواء ، فلابد من تحقيق العدل بينهم ، فلا محاباة ولا محسوبية في الإسلام ولا عند حكام الإسلام.

ولقد وقف سيدنا على بن أبى طالب (كرم الله وجهه) أمام القاضي مع خصمه اليهودي وهو أمير المؤمنين يومها. وإذ بالقاضي ينادى على أمير المؤمنين بكنية أبى الحسن وبلقبه أمير المؤمنين فيقول: يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين ، وينادى اليهودي باسمه. فيقول أمير المؤمنين، على (رضي الله عنه): والله ما عدلت أيها القاضي ، لقد ناديت على خصمي باسمه ، وناديتني بكنيتي ولقبي فقلت: يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين ، وإنه يجب عليك أن تسوى بيننا في الكنى والألقاب.

نعم إن الإسلام لا يعرف المحاباة ولا يقر المحسوبية، لقد تعلم الصحابة هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ففي حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مواقف حطم فيها كل مظاهر المحسوبية والمحاباة حتى مع أقرب الناس إليه ، كما حدث في شأن المرأة المخزومية. فالإسلام لا يحابى ولا يجامل أحدًا على حساب أحد في الحق والحقيقة. فكم من حقوق سلبت ، وكم من أموال ضيعت ، وكم من نفوس أزهقت وضاع دمها هدراً بسبب تفشى المحسوبية والمحاباة حتى بين الدول بعضها مع بعض ، علاوة على محاباة الأفراد والأشخاص.

فلخطورتها حذر منها الرسول (صلى الله عليه وسلم )، ففي صحيح البخاري ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ ، قَالَ أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ) قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : ( إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).

فقد وضح الحديث أن من فضل أحدا على أحد محاباة وهناك في المسلمين منْ هو خيرٌ منه، فقد ضيع الأمانة وخان الله وخان رسوله وخان المؤمنين ، يؤكد ذلك ما جاء في حديث آخر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ ) (مستدرك الحاكم).

وهذا ما نراه للأسف الشديد في أيامنا هذه من افتقاد للعدالة وانتشار للمحسوبية ، حيث نجد الكثير من الناس لم يحصلوا على حقوقهم نظراً لعدم وجود المحسوبية لديهم، مما أدى إلى الفرقة والبغضاء والأحقاد وإيغار الصدور بين أفراد المجتمع.

كذلك من السلوكيات المرفوضة التي انتشرت في مجتمعاتنا (جريمة الرشوة) : فهي مرض اجتماعي خطير، وجريمة خطيرة، تؤصل وتؤسس مبدأ الظلم الفاحش ،فتحرم ذوى الكفاءة والنباهة الذين لا ظهر لهم ولا ظهير من نيل حقوقهم المشروعة وإعطائها لغيرهم ممن لا يستحقون، وكل ذلك لأن لهم سندا ومعينا يخول لهم ما لا يستحقون.

فهي من أشدّ الأمراض الاجتماعية فتكًا بالأمم ، فهي تفتك بالمجتمع فتكًا ذريعًا، وتهدر أخلاق الأمة وكيانها ، وتعود عليها بالوبال والدمار في الأسر والمجتمعات والأفراد والمال في الدنيا ، ويوم العرض على الكبير المتعال ، فإذا فشت الرشوة في أمة من الأمم واسْتَمْرَأ الناس تعاطيَها فاعلم أن الضمائر قد ماتت ، وأن نظام الأمة قد قُوِّض ، فقد شدّد الشرع على آخذها ودافعها والساعي بينهما بأن جعلهم مطرودين من رحمة الله ، متعرضين لسخطه وغضبه، فَعنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: ( لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ ) يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا  ، فما دخلت الرشوة عملًا إلا عاقته، ولا مجتمعًا إلا أفسدته  ، ولم يتوقف الأمر على مجرد النهي عنها وذمها ، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد اللعن الصريح الذي يعني الطرد من رحمة الله تعالى ، وما هذا إلا لأن الرشوة قتل لكفاءات المجتمع، ودعوة صريحة لهدم أساساته التي يقوم عليها ازدهاره وتقدمه .

والرشوة في الإسلام محرمة بأيةِ صورة كانت ، وبأي اسم سميت ، سواء أسميت هدية  أم مكافأة ، فالأسماء لا تغير من الحقائق شيئًا ، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني ، ولم يعبر القرآن الكريم عن الرشوة بلفظها صراحة ، لكنه ورد عن طريق النهى عن أكل أموال الناس بالباطل وهو الحرام عامة والرشوة خاصة ، قال تعالى:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}[البقرة: 188] ، وقد جاءت في موضع آخر بلفظ السحت وهو الرشوة ، وذلك في معرض ذم أحبار اليهود ؛ لتناولهم إياها وتعاملهم بها ، قال تعالى:{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة : 42] ، وفى الحديث عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ : فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا. (رواه البخاري).

ففي هذا الحديث وعيد شديد لمن يستغل نفوذه ويستبيح لنفسه أن يأخذ ما لا يحل له أخذه ، وإن ألبسه أثوابا مستعارة كالهدية والوساطة وغير ذلك ، فهذا خيانة في الأمانة ، وسحت لا يبارك الله له فيه ولا في نفسه ولا في أولاده ولا في عائلته، فطالما أن العامل يأخذ ما يستحق وينال ما يحتاج ويحصل على ما يقضى حاجته ويلبى مطالبه فما أخذه بعد ذلك فليس من حقه .

ومن أضرار الرشوة بالمجتمع : أنها تهدم ركيزة أساسية هي أساس الملك وبها قامت الدنيا وعليها تقوم الدول ، ألا وهى قيمة العدل ، فالرشوة حرمت لأنها من أهم العوامل التي تؤثر في مجرى العدل بين الناس وتغير موازينه وتمهد للظلم فى الأحكام وإعطاء الحقوق لغير مستحقيها .

وهى كذلك إعانة للظالم على ظلمه، وتفويت الحق على صاحبه، وإهدار للحقوق، وتعطيل للمصالح ، وبها يقدم السفيه الخامل،  ويبعد المجد العامل، فكم ضَيعتْ من حق ، وأَهدرتْ من كرامة ، ورفعتْ من لئيم ، وأهانت من كريم، فهي قضية خطيرة ينبغي التصدي لها بقوة والأخذ على متعاطيها بيد من حديد .

وفي الختام نقول : إن ما تعانيه المجتمعات اليوم من مشاكل مزمنة يعود إلى انتشار الوساطة والمحسوبية والرشوة في الحياة العامة ، وانعدام تكافؤ الفرص بين الناس، والتمييز على أسس مختلفة، مما يؤدي إلى تأخر المجتمع، وغياب العدالة الاجتماعية ، وبالتالي زيادة مشاعر الغيرة والحقد والعداء . ويوم أن تدخل الوساطة ، أو المحسوبية ، أو الرشوة ، في حياة الناس فإن ذلك نذير شؤم، ومؤشر بلاء على المجتمع.

 

*      *    *

فهرس الموضوعات

 

محاربة الفساد والإهمال مطلب شرعي وواجب وطني

أولاً: العناصر:

1.    الإصلاح ضرورة شرعية وغاية إنسانية.

2.  الإصلاح والإيمان والتقوى قرناء.

3.  تحذير الإسلام من الفساد بكل أشكاله وأنواعه.

4.  من صور الإفساد في الأرض.

5.  ضرورة التصدي للمفسدين.

6.  الإهمال لون من أخطر ألوان الفساد.

ثانيًا : الأدلة:

    الأدلة من القرآن الكريم:

1. قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة: 204- 206] .

2. وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56] .

3. وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].

4. وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33].

5. وقال تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف: 142].

6. وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. [هود: 116-117].

7. وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].

8.  وقال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .

الأدلة من السنة الشريفة:

1. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)  قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) فَقَالَ : ( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ). (سنن ابن ماجه) .

2. وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما ) أن النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا) . ( رواه البخاري في صحيحه) .

3. وعَنْ ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ( الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ )  يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا) (رواه الإمام أحمد في مسنده).

4. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَقُولُ: ( لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ) (رواه ابن ماجه في سننه). 

5. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: ( يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ) (مسند أحمد) .

ثالثا: الموضوع:

          لقد جاءت الرسالات السماوية بتوجيهات وأحكام للناس تهدف إلى إصلاح الأرض وحفظ مقوماتها ، ولن يتمكن الإنسان من أداء المهمة العظيمة التي خلق من أجلها وهي العبادة حتى يقوم بمهمة المحافظة على صلاح الأرض وإصلاحها .

والمتأمل لآيات الإصلاح في القرآن الكريم يجد أن كلمة الإصلاح وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم حوالي مائتي مرة ، والإكثار من ذكر الشيء يدل على العناية به، ويدل كذلك على شرفه وعلو مكانته.

          إن الإصلاح مطلب شرعي ، أمر الله (عز وجل ) به الأنبياء (عليهم السلام) فأمروا به أقوامهم، فرسالة الأنبياء جميعا (عليهم السلام ) هي إصلاح الفرد والأرض : فهذا نبي الله صالح (عليه السلام)  ينادي  في قومه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:150-152].

وهذا نبي الله شعيب (عليه السلام)  يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت:36] ، ثم وضح لهم حقيقة دعوته وأنها دعوة للإصلاح فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].

والإصلاح وصية نبي الله موسى ( عليه السلام ) لأخيه هارون ( عليه السلام ) حيث يقول له: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142].

ولم يبخل نبي الله موسى ( عليه السلام ) بالنصيحة لقارون الذي فُتن بماله واستغله في الإفساد في الأرض ، فقال له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77]. 

لقد ربط القرآن الكريم بين الإيمان بالله ( عز وجل ) والإصلاح قال تعالى: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام:48]، وبين التقوى والإصلاح كقوله تعالى: (فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف:35]، وبين التوبة والإصلاح كقوله تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160]، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16] ، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5] ، فالإصلاح إذا هو ثمرة الإيمان والتقوى والتوبة .

ومن فوائد الإصلاح التي أخبر عنها القرآن الكريم أنه يستجلب رحمة الله ومغفرته، قال تعالى: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:129] ، وأنه سبب لنجاة الأمم من الهلاك والضياع ، قال سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. [هود: 116-117].

إذاً فالإصلاح مطلب شرعي وضرورة إنسانية يقتضيها العقل، وهو مسئولية الجميع .

وإن من الإصلاح أن يعي الفرد ماله وما عليه ، فلا يعتدي على حقوق الآخرين ، وأن يدرك الفرد واجباته فيقوم بها خير قيام في حدود طاقته و وسعه، وهذه صفات الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) (رواه الإمام مسلم في صحيحه).

وكما أمر الإسلام بالإصلاح وجعله مطلبا شرعيا وضرورة إنسانية حذر كل التحذير من الإفساد في الأرض حسيًّا كان أو معنويًّا ، باليد كان أو باللسان ، والفساد هو كل قول أو فعل أو تصرف أو سلوك خالف تعاليم الإسلام السمحة التي تدعو  إلى الإصلاح في الأرض.

وفي القرآن الكريم ورد التحذير الشديد من الفساد والمفسدين ، فلقد ورد لفظ (الفساد) في أحد عشر موضعا من ثمان سور، وورد لفظ ( المفسد ) في موضع واحد من سورة البقرة ، وورد لفظ (المفسدون) أو (المفسدين) في عشرين موضعًا من اثنتي عشرة سورة ، وورد لفظ (يفسدون) في خمسة مواضع من خمس سور ، من هذه المواضع قال تعالى: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[الأعراف: 56]، وأخبر المولى (جل جلاله ) أنه لا يحب الفساد ولا المفسدين ، قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال: {وَاللَّـهُ لَا يُـحِبُّ المُفْسِدِينَ}[المائدة: 64]، وقال:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِين}[القصص: 77].

وأخبر القرآن الكريم أن الله ( عز وجل ) يبطل أعمال المفسدين ويخيّب آمالهم ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ) [يونس: 81]. فكل مفسد ـ وإن ادّعى صلاحًا ـ عمل عملا بمكر ودهاء منه ، فإن عمله سيبطل ، وإن تحقق لعمله الفلاح بعض الوقت ، فهو فلاح مؤقت ، فإن مآله المحقق عدم الصلاح ، وهذا هو حال المنافق المفسد المدعي الإصلاح ، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].

وبفساد الإنسان تفسد البيئة ، قال تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، وذلك بظهور الأسقام ونقص الثمار، ومحق البركة من كل شيء. وقال تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وعبر بكلمة (تَعْثَوْا) وهي أشد أنواع الفساد ، أي :لا تفرطوا في الإفساد ولا تفسدوا دنياكم بالتمادي في المعاصي . فالفساد في الأرض هو خلق اللئام من البشر، لا يتخلق به إلا المنافقون واليهود المغضوب عليهم ،الذين قال الله فيهم:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم.

وللفساد صور متعددة أخطرها ما كان في العقيدة والفكر والتصور والإدراك ، وكل ما كان باسم الدين ، فقد ابتليت الأمة بأناس يفسدون في الأرض ويتدثرون بثياب الدين والدين منهم براء ، فيقتلون ويستبيحون الأعراض والأموال باسم الدين ، فهؤلاء ذمهم الله عز وجل في كتابه فقال عنهم : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }[البقرة: 204 :206] .

إن الفسادَ بكل صوره وأنواعه يُزعزِعُ القِيَم الأخلاقيَّة ، وينشُر السلبيَّة وعدمَ الشعور بالمسؤولية، والشعورَ بالظلم، مما يُؤدِّي إلى حالاتٍ من الاحتِقانِ والحِقدِ والتوتُّر والإحباط واليأسِ من الإصلاح، ويضعُفُ الولاء الصادق للحق وللأمة وللدولة، و يُهدِّدُ الترابُط الأخلاقيَّ، وقِيَم المُجتمع الحميدة المُستقرَّة. والفسادُ داءٌ مُمتدٌّ لا تحُدُّه حدودٌ، ولا تمنعُه فواصِلُ، يطَالُ المُجتمعات كلَّها بدرجاتٍ مُتفاوِتة ، ولابد من التصدي للفساد والمفسدين بكل صوره ، فالتصدي له فيه نجاة للمجتمع كله ، وإهماله وعدم التصدي له فيه الهلكة للمجتمع كله ، قال (صلى الله عليه وسلم ): ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ) (رواه البخاري في صحيحه) فلابد من التآزر والتعاون والتناصر والتضامن بين المسلمين وتحقيق الإيمان والأخوة الإسلامية.

          إن الله تعالى قرن بين النفاق والإفساد في الأرض، فقال تعالى – في سياق حديثه عن المنافقين-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]، فكيف بك أيها المفسد وأنت تسير في طريق المنافقين توشك أن تصل إليهم في الدرك الأسفل من النار؟!!

إن تطهير الأرض من المفسدين وتأمين الطرق والمنشآت وحمايتها من المفسدين من أعظم أعمال الخير وأجل أنواع البر ، فالله (عز وجل) يدفع بالمصلحين فساد المفسدين ، وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116]. وإن المفسد مِعول هدم للمجتمع، فلا نجاة للعباد إلا بمنعه من الفساد.

والتصدي للفساد مسئوليَّةُ الجميع أيضاً ، وأول صور التصدي للفساد عدم قبوله ورفضه وبيان خطورته على الفرد والمجتمع ، فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ  (رضي الله عنه )أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ؟  قَالَ : (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم في صحيحه).

          ومن صور التصدي للفساد تفعيل القوانين الرادعة لكل مفسد ، وكما قال سيدنا عثمان بن عفان ( رضي الله عنه): ( إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ).

إن من أعان المفسدين أو رضي بأفعالهم أو تستر عليهم وخاصة من يفسد باسم الدين فهو شريك لهم في الإثم ، وقد نهى الله (تعالى) عن ذلك بقوله:{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ}[المائدة:2]. وفي الحديث: أن رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال : (إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ، حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ) ( أخرجه أحمد في المسند).

على أننا نؤكد على ضرورة القضاء على الإهمال ، وبيان أنه لا يقل خطورة عن سائر ألوان الفساد ، فضياع المال إهمالا كضياعه فسادًا أو إفسادًا ، وقتل النفس نتيجة الإهمال كقتلها فسادًا أو إفسادًا ، لأن المحصلة واحدة هي ضياع المال أو قتل النفس ، مما يتطلب من كل واحد منا القيام بواجبه على أكمل وجه ، ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) (رواه البخاري)، كما أنه مسئول عما استعمله الله (عز وجل) عليه ، وولاه إياه ، فعليه أن يؤدي الأمانة التي تحملها على الوجه الأكمل مرضاة لله ورسوله ووفاء بالمسئولية التي تولاها ، والأمانة التي تحملها ، والوطن الذي ائتمنه عليها.

 

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

النظافة وأهميتها للفرد والمجتمع

أولا: العناصر:

1.      عناية الإسلام ببناء الإنسان صحيًّا وسلوكيًّا.

2.      النظافة سلوك حضاري.

3.       مجالات النظافة .

4.       النظافة من أهم سبل الوقاية من الأمراض.

5.      أنواع التلوث : (البيئي- السمعي- البصري).

6.      أضرار التلوث على الفرد والمجتمع .

ثانيا: الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم:

1.      قال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}[الفرقان: 48].

2.      وقال تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108] .

3.      وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ) [المائدة: 6].

4.      وقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31].

5.      وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ُ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ُ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4:1] .

6.      وقال تعالى:{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...} [البقرة :195].

7.      وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .

الأدلة من السنة:

1.      عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا). (رواه الإمام مسلم).

2.      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ). (رواه الإمام مسلم).

3.      وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَمِطِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ)(رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد) .

4.      وعن أم المؤمنين عَائِشَةُ (رضي الله عَنها) أن النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) . (رواه الإمام البخاري).

5.      وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنهما ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ)(صحيح مسلم).

6.      وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) ،  قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) ( رواه الإمام مسلم).

7.      وعَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) (أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ) (رواه الإمام مسلم).

ثالثا: الموضوع:

لقد عني الإسلام عنايةً بالغة ببناء الإنسان ورعايته صحيًا، ونفسيًا، وسلوكيًا، ، فحثَّهُ على النظافة وأمره بها، وجعلها ضرورة شرعية لحمايته من الأمراض والأضرار ، فهي من أسباب صحة الأبدان وسلامتها وطهارتها ، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}[الفرقان: 48]. هذا الماء الطهور هو نظافةٌ للأبدان وسلامةٌ لها ، فرسالة الإسلام تتطلب أن ينعم أبناؤها بأجسامٍ قوية تجري في عروقها دماء العافية ، ويمتلئ أصحابها فتوة ونشاطًا ، فإن الأجسام الهزيلة لا تطيق عبئًا ، والأيدي الضعيفة لا تقدم خيرًا، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها وأصلب في كيانها من أن تحيا في أمة ضعيفة عاجزة ،{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص: 26] ، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ).(صحيح مسلم) . فالمسلم القوي نافع لنفسه، ودينه، ووطنه، من هنا كانت عناية الإسلام ببناء إنسان قوي البنيان، مستقيم النفس، حسن السلوك ، عالم بأمور دينه ودنياه .

كما أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن النظافة سبب لمحبته ، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، ولقد مدح الله عباده المؤمنين بحرصهم على تنظيف أجسادهم وتنظيف ظواهرهم، كما ينظفون بواطنهم، فقال تعالى: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: 108) .

ولما كانت النظافة ضرورة شرعية في حياة الإنسان ، لازمة له ، جعلها الإسلام نصف الإيمان ، فعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) (رواه الإمام مسلم).

وجعلها جزءًا لا يتجزأ من شرائعه فشرع الاستنجاء ، والوضوء ، والسواك ، والغسل ، وخصال الفطرة، وجعل الطهارة شرطًا لصحة كثير من  العبادات كالصلاة ، والطواف ، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا... }[المائدة : 6]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (تَسَوَّكُوا، فَإِنَّ السِّوَاكَ مَطْيَبَةٌ لِلْفَمِ ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ ، مَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ إِلا أَمَرَنِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى لَقَدْ حَسِبْتُ أَنْ يَفْرِضَهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي ، وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي فَرَضْتُهُ عَلَيْهِمْ، إِنِّي لأَسْتَاكُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي) (رواه الطبراني).

وحرصًا من الإسلام على صحة الإنسان حرَّم على المسلم أن يأتي زوجه أثناء حيضها، فسمى الله عز وجل الحيض أذى ، نظرا لما فيه من أضرار نفسية وجسدية تؤثر على كلا الزوجين، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].

واهتمام الإسلام بالنظافة لا يدانيه اهتمام في الشرائع الأخرى ، فلم ينظر إليها على أنها مجرد سلوك إنساني مرغوب فيه أو متعارف عليه اجتماعيًا فحسب ، بل جعلها سلوكًا حضاريًّا  وخلقًا وأدبًا عظيمًا من آداب الإسلام ، فهي سلوك رفيع وقيمة عظيمة تحبها الفطر السليمة ، ولم يقتصر الشرع على الاهتمام بنظافة البدن فحسب ، بل اهتم بنظافة ما من شأنه أن يحافظ على صحة الإنسان ، فجعل للنظافة مجالات متعددة ، ومن ذلك حثه على حفظ الأطعمة  والأشربة من كل ما يلحق بها الضرر ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنهما ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ).

إن نظافة المأكل والمشرب ، وكذلك نظافة البدن والأسنان وغسل اليدين قبل الأكل وبعده وقاية للمجتمعات من الأمراض والعلل، وتوفير لثمن العلاج والتكلفة المرهقة للمستشفيات والدولة ، والوقاية خير من العلاج ، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...}[التحريم: 6] .

وكذلك حث الإسلام على نظافة الملبس وألزم المسلم أن يهتم به وبطهارته ، فبعد أن أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بذكره وتكبيره وإنذار قومه أمره بتطهير الثوب ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ُ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ُ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر: 4:1) ، فقرن سبحانه الأمر بطهارة الثوب بهذه الأوامر لأهمية الطهارة والنظافة ، ولأنها صفة يحبها الله عز وجل ، وفسر العلماء الطهارة هنا بطهارة ونظافة الداخل والخارج ، وبطهارة السر والعلانية ، فطهارة الخارج أن يكون العبد نظيفاً أنيقاً ، وطهارة الداخل: أن تكون النفس بعيدة عن أدران المعاصي ووسخ الذنوب ، وألا ينعقد القلب على الضرر أو الخداع أو نحو ذلك من الصفات الذميمة.

فلا ينبغي للمسلم أن يكون رثّ الثياب أشعث أغبر ، فالله عز وجل جميل يحب الجمال ، كما أخبر النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) فعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) (رواه مسلم).

كذلك من مجالات النظافة في الإسلام : نظافة الطريق والأماكن العامة من كل دنس أو أذى ، فنظافة الطرق والأماكن العامة دليل على الرقي والتقدم ، وقد دعانا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم )  إلى إزالة  كل ما يلقى على الطريق من القاذورات والأذى ، واعتبر ذلك من أبواب الخير ، فعنْ أَبِي بَرْزَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ ؟ قَالَ : ( أَمِطِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ) (رواه أحمد في المسند) ، بل أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن تنظيف الطرق من الأذى سبب لدخول الجنة ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ  (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِى الْجَنَّةِ فِى شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِى النَّاسَ) (رواه مسلم) ، وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ؟ قَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَمِطِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ) (رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد) .

وفي هذا دلالة واضحة على أن تلوث الطرق بإلقاء القمامة ونحوها من سائر الملوثات والقاذورات يعاقب عليه صاحبه ، وأن إزالة الأذى عن الطريق من أعمال البر التي تكفر السيئات وتوجب الغفران ، وعدها النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) شعبة من شعب الإيمان ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم).

إن الإسلام قد حرص على نظافة البيئة المحيطة بالإنسان ، وأن تكون خالية من الأمراض،  لأن الأمراض إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخص شخصًا دون شخص، ولكنها تؤثر سلبًا على حياة الناس عمومًا، حيث وضع الإسلام قواعد لمنع انتشار الأمراض والأوبئة في المجتمع سبق بها الطب الحديث ، وجعل النظافة من أهم أسباب وقاية المجتمعات من كل الأدران والأضرار ، ومن هذه الوقاية التي شرعها الإسلام : قضاء الحاجة في أماكن معزولة حتى لا يتلوّث بها ماء ، ولا يتنجس بها طريق ولا مجلس ، فعَنْ جَابِرٍ ( رضي الله عنه ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ (رواه الإمام مسلم)، وشدد في ذلك حتى في الأماكن التي يرتادها الناس لمجالسهم وتحت الشجر الذي له ظل، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم) : (اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)  (رواه الطبراني في الكبير).

وكما رغب الإسلام في النظافة وضرورة المحافظة عليها حذر من التلوث بجميع أنواعه (سمعي وبصري وبيئي ) ، حيث قرر  مبدأً عظيمًا وهو أنه ( لا ضرر ولا ضرار ) ، فحذرَنا من تلوث البيئة وإفسادها بما نقترفه في حقها من ممارسـات غير سـليمة من قطع للأشجار وإلقاء الفضلات والمخلفات ومياه الصرف في نهر النيل ، وغير ذلك مما يكون سببًا في ضرر الآخرين ، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41] .

ومن المعلوم أن أضرار التلوث ليست قاصرة على الإنسان وحده فحسب ، بل تتعداه إلى جميع المخلوقات ، لذا جاء النهي عن التلوث بجميع صوره حفاظًا على الفرد والمجتمع وسائر المخلوقات ، قال تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، وروى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) عَن النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنْ الطَّرِيقِ ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ ) ، ويماط: يعني يزال ، والأذى ما يؤذي المارة من شوك وأعواد وأحجار وزجاج وأرواث وغير ذلك مما يؤذي ، فإماطته من محاسن الأعمال.

ومن ثم فإن الإسلام حريص على تربية المسلم على الطهارة بكل معانيها، طهارة العقيدة من كل الخرافات ، طهارة الأخلاق من الرذائل والمنكرات ، طهارة اللسان من كل القبائح والآثام ، طهارة الجسد والثياب من الأوساخ ، نظافة المسجد ، نظافة الطريق ، نظافة البيت وفِناء الدار ، بل إن الإسلام ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حينما جعل النظافة ركنًا أساسيًّا في حياة المسلم ؛ لأن أمور دينه لا تستقيم إلا على نظافة البدن والملبس والمكان ، كما أن الصحة مرتبطة بالنظافة ارتباطًا وثيقًا لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال .

لذا لابد وأن يكون الإنسان على وعي تام بالنظافة وقضايا البيئة وأهمية الحفاظ عليها  وخطورة تلوثها التي تعود بالضرر عليه وعلى الآخرين، ولابد أن نُعَلِّمَ ذلك أولادنا في المدارس والنوادي وجميع صروح التعليم منذ نعومة أظفارهم نظافة أماكنهم وتجميلها حتى يتعودوا على ذلك ، فالحفاظ على البيئة أمر مكتسب نتعلمه ونتربى عليه ، ولابد أن يكون الكبار قدوة حسنة للصغار ، فماذا ننتظر من طفل يرى والديه أو أحدهما يرمي بالقمامة من شرفة المنزل في طريق الناس أو على سطح جاره ، وماذا نتوقع من طفل يرى الكبار يبصقون في الطريق ، أو يكتبون على الجدران أو غير ذلك من جرائم التلوث السمعي والبصري واللفظي التي نراها يوميًا ! لاشك أنه سينشأ على هذا السلوك ، فالولد صنعة أبيه كما يقولون ، وكما قال الشاعر :

وينشــــأ ناشــئ الفتيـــــان منــــا   ***  علـــى مــا كـان عــــوّده أبـــــــــوهُ

ومن هذا المنطلق يجب أن نحرص جميعًا على النظافة ( نظافة قلوبنا ، وجوارحنا ، وأجسادنا ، ومجتمعنا ، و مدننا ، وقرانا) لأنها مظهر من مظاهر التقدم والرقي ، ولا بد أن نأخذ بالأساليب العلمية الحديثة  في نظافة مجتمعنا بوازع دينيٍّ ، ووازع حضاريٍّ ، ووازع إنسانيٍّ.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

عناية الإسلام بصحة الإنسان ودعوته للمحافظة عليها

أولا : العناصر:

1-     الصحة نعمة من أجل النعم.

2-     عناية الإسلام بالإنسان صحيًا.

3-     مظاهر اهتمام الإسلام بصحة الإنسان.

4-     دعوة الإسلام إلى التَّداوي والأخذ بالأسباب.

5-     عناية الإسلام بفقه الصحة الإنجابية.

 ثانيا : الأدلة :

       الأدلة من القرآن الكريم :

1-     قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26].

2-  وقال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].

3-     وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

4-     وقال تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة : 195].

5-     وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].

6-     وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

7-  وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

8-  وقال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233].

الأدلة من السنة :

1. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)(رواه مسلم).

2. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَىُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟  قَالَ: ( سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ). ثُمَّ أَتَاهُ في الْيَوْمِ الثاني فَقَالَ :  يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟  فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ : ( فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَأُعْطِيتَهَا فِى الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ) ( رواه الترمذي).

3. وعَنْ سَلْمَانَ (رضي الله عنه) قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَنَا عَلِيلٌ ، فَقَالَ : يَا سَلْمَانُ شَفَى اللَّهُ سَقَمَكَ ، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ ، وَعَافَاكَ فِي بَدْنِكَ وَجِسْمِكَ إِلَى مُدَّةِ أَجَلِكَ. ( رواه الحاكم في المستدرك).

4. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ ( رضي الله عنه ) أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم ): ( لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ). (رواه البخاري).

5. وعَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِب (رضي الله عنه ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) ( رواه الترمذي).

6. وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ( رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ ....) ( رواه مسلم ) .

7. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنهما) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ) ( رواه مسلم) .

8. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) ( رواه البخاري).

9. وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ - بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ) (متفق عليه).

ثالثًا : الموضوع:

من أجلِّ وأكرم وأعظم النعم الربانية التي أنعم الله - عز وجل- بها على الإنسان نعمة الصحة وسلامة الأعضاء من الآفات والأمراض ، فبالصحة يتمكن المرء من أداء حق ربه جل جلاله ، وحق نفسه ، وحق غيره ، وهي أهم ما يملك العبد في حياته ، وفي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم (: ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ )) رواه البخاري). فكثير من الناس لا يقدِّرون هذه النعمة العظيمة ، ولا يعرفون قيمتها ، ولا يستثمرونها في موضعها الصحيح ، ولا يقدِّرون أهميتها ، فمن اِسْتثمر فراغه وصحَّته فِي طاعة الله فهوَ المغبوطُ ، ومَن اسْتثمرهما فِي معصية الله فهوَ المغبونُ .

وإذا أراد المرء أن يعرف قيمة نعمة الصحة فليذهب إلى المستشفيات ، وينظر إلى أهل الابتلاء الذين أصيبوا بأنواع من الأمراض الجسدية ، وهم يتمنون أن يكونوا في كامل صحتهم وعافيتهم.

لذا نجد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يفضِّل نعمة الصحة على الكثير من متاع الحياة الدنيا ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَمِّهِ ، قَالَ : كُنَّا فِي مَجْلِسٍ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُنَا : نَرَاكَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ ، فَقَالَ: (أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ) ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى ، فَقَالَ : ( لاَ بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى ، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى ، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ ) (رواه ابن ماجه) ، وكان من دعائه (صلى الله عليه وسلم)  لأصحابه الكرام (رضوان الله عليهم) بالصحة والعافية ، ما جاء عَنْ سَلْمَانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَأَنَا عَلِيلٌ ، فَقَالَ : ( يَا سَلْمَانُ شَفَى اللَّهُ سَقَمَكَ ، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ ، وَعَافَاكَ فِي بَدْنِكَ وَجِسْمِكَ إِلَى مُدَّةِ أَجَلِكَ ) ( رواه الحاكم في المستدرك).

وكان (صلى الله عليه وسلم) يأمر أصحابه (رضوان الله عليهم) بالدعاء بالصحة والعافية ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ وَالمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي اليَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِذَا أُعْطِيتَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَأُعْطِيتَهَا فِي الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ. (رواه الترمذي).

لذا حثنا النبي الكريم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على استثمار تلك النعمة في طاعة الله ( عز وجل)، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (بادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (رواه الترمذي ).

ومن عظمة التَّشريع الإسلامي ، ومن أهم مقاصده أن جاء بجملة من المبادئ والأصول تضمن استقامة الحياة في نظام محكم دقيق ، يقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وتهتم ببناء الإنسان ورعايته صحيًا ، ونفسيًا ، وسلوكيًا ، وعلميًا، فالمسلم القوي نافع لنفسه، ودينه، ووطنه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ )، فالمهمات العظام لا يقوم بها إلا الرجال الأصحاء الذين يجمعون بين الأمانة والقوة البدنية ، فهذه ابنة الرجل الصالح تطلب من أبيها أن يتولى سيدنا موسى (عليه السلام) العمل عنده لما يتوفر فيه من القوة والأمانة: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26].

وهذا سيدنا يوسف - عليه السلام - لما وجد في نفسه القدرة على تولي وإدارة شئون خزائن مصر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55].

          وهذا أبو ذر (رضي الله عنه) حين يطلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يوليه ولايةً ضرب على منكبيه ثُمَّ قَالَ: ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا))صحيح مسلم(، من هنا كانت عناية الإسلام ببناء إنسان قوي البنيان، مستقيم النفس، حسن السلوك، عالم بأمور دينه ودنياه.

          وتتجلى عناية الإسلام بصحة الإنسان أن أحاطها بالرعاية ، وذلك في عدة مظاهر ، منها:  أن حرم الاعتداء علي النفس البشرية  بأي لون من ألوان الاعتداء، بل جعل الحفاظ عليها أحد الكليات الخمس التي جاء بها الإسلام، فشرع من التكاليف ما يحفظ للإنسان صحته.

          ومن هذه المظاهر : العناية بالطهارة ؛ فجعل الطهور شطر الإيمان، فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) وجعلها شرطًا لصحة كثير من  العبادات كالصلاة، والطواف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا... } [المائدة : 6].

ومن مظاهر عناية الإسلام بصحة الإنسان أن حثه على ترك كل ما قد يُلْحِقُ به الضرر ، فقال تعالى:{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...} [البقرة :195]، والبعد عن الإسراف في الطعام والشراب قال تعالى :{ .. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وعَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِب (رضي الله عنه ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ). قال ابن رجب: هذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها. (جامع العلوم والحكم).

فالإسلام قد سبق العلم الحديث في التنبيه على خطورة الإسراف في تناول الطعام والشراب ؛ وأنهما أصل كل داء ، وصدق الله العظيم إذ يقول في صفات رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم): { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ..}[الأعراف : 157].

ومن هذه المظاهر:  أن حث الإسلام على حفظ الأطعمة من كل ما يلحق بها الضرر ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنهما ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (غَطُّوا الْإِنَاءَ ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ).

          ومن مظاهر عناية الإسلام بصحة الإنسان إيجاد أسرة قوية : حيث إن الأسرة هي نواة المجتمع واللبنة الأولى في بنائه ، فسلامة الأسرة سبيل سلامة المجتمع ، ومن ثَمَّ اهتم بالعلاقة بين الزوجين ، وحرم كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بأحدهما، فحرم المعاشرة الزوجية أثناء الحيض قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة : 222] . وحرم الزنا لأنه علاقة غير صحية علاوة على كونها محرمة قال تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء : 32] ، وحرم كل ما يلحق الأذى بصحة المرأة فأوجب على الحائض والنفساء الإفطار في رمضان، ورخص في عدم أداء بعض الفرائض حتى لا يتعرض الإنسان للتعب والمرض قال تعالى: {... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...} [البقرة : 185] .

ومن مظاهر اهتمام الإسلام بصحة الفرد: أن أمره بتجنب فعل أي أمر يسبب للجسد تعبا أو إرهاقا ، حتى ولو كان من العبادات ، فعن عَبْد اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( يَا عَبْدَ اللهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ ) فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : ( فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا , وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،  وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ ) فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ : ( فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ) قُلْتُ : وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ قَالَ : ( نِصْفَ الدَّهْرِ ) فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ : بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) (رواه البخاري وبوب له : باب حق الجسم في الصوم).

إن الإنسان لم يخلق للعبادة فحسب ، بل خلقه الله - عز وجل -  لمهمتي العبادة وعمارة الكون، فكيف لبدن هزيل ضعيف مملوء بالأمراض والأسقام والتعب والإرهاق أن يقوم ببناء حضارة ، أو تحقيق عمارة؟

ومن مظاهر اهتمام الإسلام بصحة الإنسان: أن شرع جملة من الآداب الاجتماعية تحفظ على الناس صحتهم، وتمنعهم من التعرض للأمراض، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ)( أخرجه أبو داود ). ونهى عن التنفس في الإناء ؛ لعدم إلحاق الأذى به ونقله للآخرين، فعن أَبِي قَتَادَةَ (رضي الله عنه ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ...).

 

 

*      *    *

فهرس الموضوعات

 

عنايةُ الإسلام بالمرأة وإكرامُه لها

ودورها في المشاركة الوطنية

أولاً : العناصر:

1-    تكريم الله لبني آدم.

2-    مكانة المرأة في الإسلام.

3-    صور ظلم المرأة في الجاهلية . 

4-    رعاية الإسلام المرأة في جميع مراحل حياتها. 

5-    الحث على مراعاة حق النساء ، ومعاشرتهن بالمعروف .

ثانيًا : الأدلة:

      الأدلة من القرآن :

1- قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70].

2- وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].

3- وقال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] .

4- وقال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}[الشورى:49].

5- وقال تعالى:  {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58، 59]. وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير: 8، 9].

6-وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 97].

7-وقال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}[النساء:37].

8-وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] .

9-وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23، 24].

10- وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21].

   الأدلة من السنة :

1-  يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ): (كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا) (صحيح البخاري).

2-  وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا - قَالَ يَعْنِى الذُّكُورَ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ) (سنن أبى داود).

3-  وعن أنس ( رضي الله عنه ) عن النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ :    ( مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْن حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ ) وضَمَّ أصَابِعَهُ .( رواه مسلم ).

4-  وعن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ ( رضي الله عنه ):  قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :  يَقُولُ : ( مَنْ كَانَتْ وَقَالَ مَرَّةً مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ فَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَّتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ ) ( مسند أحمد).

5-  وعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ ( رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: ( لَا يَكُونُ لِأَحَدِكُمْ ثَلاَثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ ) ( رواه الترمذي).

6-  وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ( رضي الله عنه ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : (مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَوْ بِنْتَانِ أَوْ أُخْتَانِ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ ) (مسند أحمد).

7-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : (أُمُّكَ )، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ :( ثُمَّ أَبُوكَ) ( صحيح البخاري).

8-  وعن عائشة (رضي الله عنها) ، قالت : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) عَنِ الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم ):( نَعَمْ تُسْتَأْمَرُ ) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِى فَتَسْكُتُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ): (ذَاكَ إِذْنُهَا إِذَا سَكَتَتْ) (متفق عليه).

9-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: ( لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ ) فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إِذْنُهَا  ؟  قَالَ : ( إِذَا سَكَتَتْ ...) (صحيح البخاري).

10 - وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) (أخرجه البخاري).

11- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ( رضي الله عنهما ) عَنِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ):  فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَاتَ قال: ( اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمُ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ) . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ عَلَى شَرْطِ اللهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: 229] (شعب الإيمان).

12- وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ): ( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ) (مسند أحمد).

ثالثاً : الموضوع:

فإن الله - سبحانه وتعالى - قد كرَّم بني آدم جميعاً ، وفضلهم على سائر المخلوقات، فقال تعالى :{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70].

ولقد رفع الإسلام مكانة المرأة ، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه؛ فالنساء في الإسلام شقائق الرجال ، خُلقا من أصل واحد- خلقا من ذكر وأنثى- يَسعد كل منهما بالآخر، ويأنس به في هذه الحياة، فالنساء والرجال في الإنسانية سواء ، قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].

وهي معه في جانب العبادات على قدم المساواة ، قال تعالى :{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35] ، وقال سبحانه :{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران: 195].

وعلى ذلك فالمرأة قسيمة الرجل في الأحكام الشرعية ، لها ما له من الحقوق ، وعليها أيضا من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها ، قال (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) (سنن أبى داود).

جدير بالذكر أن أول تكليف إلهي صدر للإنسان كان للرجل والمرأة جميعاً، حيث  قال الله للإنسان الأول( آدم عليه السلام ): {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35].

ولم تعرف البشرية ديناً ولا حضارةً عنيت بالمرأة أجمل عناية وأتم رعاية كالإسلام؛ فقد تحدث عن المرأة وأكد على مكانتها وعظم منزلتها، وجعلها مرفوعة الرأس عالية القدر، لها الاعتبار الأسمى والمقام الأعلى، حيث تتمتع بشخصية محترمة وحقوق مقررة وواجبات معتبرة.

ومع هذا فقد كلّفها الله ( عز وجل ) مثلما كلّف الرجل سواء بسواء ، إلا ما كان خاصًّا بها ويتناسب مع فطرتها، رحمةً بها ومراعاة لضعفها ، فهي كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وما يترتَّب عليها من جزاءات أو عقوبات ، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[البقرة: 228] ،

 وقال سبحانه:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة: 38]

ولقد بلغ من تكريم الإسلام للمرأة أن خصص لها سورة من القرآن سماها (سورة النساء) ، فدلَّ ذلك على اهتمام الإسلام بالمرأة اهتماماً كبيراً ، بخلاف ما كان عليه أمرها في الجاهلية قبل الإسلام.

لقد كانت البشرية قبل بعثة النبي( صلى الله عليه وسلم) في ضلالة عمياء وجاهلية جهلاء، لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً ، فقد ظلمت المرأة في الجاهلية ظلماً شديداً ، حيث كان العرب في الجاهلية ينظرون إلى المرأة على أنها متاع من الأمتعة التي يمتلكونها ويتوارثونها، ويتصرفون فيها كما يشاءون.

كما كانوا يكرهون البنات ، ويئدونهن في التراب أحياء خشية العار ، وقد أنكر الإسلام هذه العادة ، وصورها القرآن في أبشع صورة ، فقال تعالى:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] ، وقد بالغ الله سبحانه وتعالى في الإنكار عليهم في دفن البنات أحياء ، فقال:{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9].

وكانوا كذلك لا يورثون المرأة ، ويرون أنها ليس لها حق في الإرث ، وكذلك لم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثًا كبقية أموال أبيه ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كان الرجل إذا مات أبوه، أو حموه، فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها (رواه أبو داود).

وكانوا أيضاً يُكرهون إماءهم على الزنا ، ويتقاضون على ذلك أجراً ، حتى نزل قول الله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النور: 33] ، وهذا كان حال المرأة في الجاهلية قبل الإسلام ، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن رفع الله مكانة المرأة وأعزها وأكرمها، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب( رضي الله عنه) كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا. (صحيح البخاري).

أجل لقد حرص الإسلام أشد الحرص على حفظ كرامة المرأة ، واحترام شخصيتها المعنوية، وسواها بالرجل في أهلية الوجوب والأداء، وأثبت لها حقها في التصرف ومباشرة جميع الحقوق كحق البيع، وحق الشراء وغير ذلك، قال تعالى :{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن} [النساء:32] ، وجعل لها حق الميراث فقال تعالى:{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}[النساء:37].

وهكذا فالمرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، مُرورًا بكل حال من أحوال حياتها ، أماً كانت ، أو بنتاً ، أو أختاَ ، أو زوجة ، أو امرأة من سائر أفراد المجتمع .

ففي باب البر أوصى الله تعالى بها بعد عبادته ، ودعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها ، فقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23، 24]. 

فأي تكريم أعظمُ من أن يقرن الله حقها بحقه ، ويجعلها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أحقَّ الناس بحسن الصحبة وإسداء المعروف ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  ، قَالَ:  جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم)  ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (أُمُّكَ)قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ (ثُمَّ أَبُوكَ). (متفق عليه).

وفي باب الصلة رعى الإسلامُ حقَّ المرأة بنتاً : فرفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة ، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها ، فقال تعالى:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}[الشورى: 49].

ثمَّ أمر الله بإكرامها طفلةً ، وحثَّ على رعايتها والإحسان إليها ، قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}[البقرة: 233] ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا - قَالَ يَعْنِى الذُّكُورَ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) (رواه أبو داود)، وفي صحيح مسلم من حديث أنس ( رضي الله عنه ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم)  قال: ( مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْن حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ ، وضَمَّ أصَابِعَهُ )، وفي مسند أحمد من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ (رضي الله عنه)  قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ :( مَنْ كَانَتْ- وَقَالَ مَرَّةً - مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ فَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَّتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ) .

وفي باب الإحسان رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا، فحثّ على إكرامها والإحسان إليها ، ووعد من أحسن إليها أجراً عظيماً، فعند الترمذي من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)  قَالَ: ( لَا يَكُونُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ ). وفي مسند أحمد من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  :( مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَوْ بِنْتَانِ أَوْ أُخْتَانِ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ).

وفي باب الحريات كرَّم الإسلام المرأة فأعطاها الحرية في اختيار الزوج بالقيود الشرعية. فعن عائشة (رضي الله عنها) ، قالت : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  عَنِ الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)  :( نَعَمْ تُسْتَأْمَرُ ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ : فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِى فَتَسْكُتُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):( ذَاكَ إِذْنُهَا إِذَا سَكَتَتْ ) (متفق عليه) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)  قَالَ : ( لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إِذْنُهَا ؟ قَالَ : (إِذَا سَكَتَتْ ) (صحيح البخاري)

فإذا غدت المرأة زوجة فإنها لا تكون في ظل شريعة الإسلام كما كانت عند الآخرين ، ولكن سما بها إلى العلياء ، وجعل رباط الزواج من نعمه سبحانه على عباده ، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم:21]، وعندئذ أوجب الإسلام لها صداقاً تكريماً ورفعة لشأنها ، فقال تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}  [النساء: 4]، فلا يجوز لأحد أكْل مهرها أو التصرف فيه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي، فإذا ما تزوجت فإن على الزوج أن ينفق عليها ، والنفقة تشمل الطعام والشراب والملبس والمسكن ، وما تحتاج إليه الزوجة لقوام بدنها لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}  [الطلاق:7].

ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة كزوج : عنايته بحقوق الزوجات ، قوله (صلى الله عليه وسلم) في خطبته في حجة الوداع : (اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمُ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ) ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ عَلَى شَرْطِ اللهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] (شعب الإيمان) ، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  عَنِ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) (أخرجه البخاري)

وهكذا جعل الإسلامُ لها حقوقاً عظيمةً على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق والإكرام، لأنها تقوم بعمل عظيم في بيتها، ألا وهو تربية الأولاد الذين يتكوَّن منهم المجتمع، ومن المجتمع تتكون الدولة المسلمة ، فصلاح المجتمع بصلاحها، وفساده بفسادها.

وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : ) السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ: كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ).

هاهي المرأة المسلمة التي رضيت بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد (صلى الله عليه وسلم)  نبيًّا ورسولاً، هاهي قد حُفَّت بسياج عظيم من التكريم ، وأمطرت عليها سحب الرسالة فيضاً من الحفظ والصون ، والاهتمام والرعاية حتى عدت مشاركة قوية وفعالة في الحياة ، لا تصلح الحياة إذا فسدت.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الإخلاص في القول والعمل

 

أولا : العناصر :

1-       الإخلاص جوهر العبادات.

2-       دعوة الإسلام إلى الإخلاص .

3-       التحذير من الرياء وخطره.

4-       ثمرات الإخلاص.

  ثانيًا : الأدلـة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1-  قال تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام: 162، 163].

2-     وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا }[مريم:51].

3-     وقال تعالى :{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر: 2، 3].

4-  وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:11- 14].

5-     وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].

6-  وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].

7-     وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].

8-  وقال تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف: 24].

9-  وقالَ تعالَى:{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ}[ص: 79-83].

 

الأدلـة من الســنة :

1-  عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ (رضي الله عنه)  قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا شَيْءَ لَهُ ) ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا شَيْءَ لَهُ) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ ) (سنن النسائي).

2-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) (رواه مسلم).

3-  وعن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (رواه البخاري).

4-     وعن ابن عباس (رضي الله عنهما)عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عز وجل عِنْده عشر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائة ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَإِنْ هم بسيئة فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عنده حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كتبهَا الله سَيِّئَة وَاحِدَة)(رواه مسلم).

5-  وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ).وفي رواية : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ ). وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ (مسلم).

6-  و عن أبي هريرة (رضي الله عنه)  قال: سمعت رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ :  ( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ . فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ) (رواه مسلم).

7-  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ(رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): ( مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مَاتَ وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ) (رواه ابن ماجه).

8-  وعن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً ، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟  قَالَ : ( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيََ الْعُلْيَا، فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (رواه البخاري).

9-  وعَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيّ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ ) (سنن النسائي).

ثالثًا : المـــوضــــــوع :

لقد بين القرآن الكريم في آيات كثيرة أن الله سبحانه وتعالى قد أوجدنا في هذه الحياة الدنيا لعبادته وطاعته ، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56، 58]. فالعبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان ، وَجَاءَ فِي الأَثَر الإِلَهِيّ: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ).(سنن الترمذي) .

          والعبادات في الإسلام من صلاة وصيام ، وزكاة وحج، وغير ذلك مما أمر الله تعالى به لها أصول لا تتم إلا بها ومن تلك الأصول : أن تكون هذه العبادات جوهرها وظاهرها وباطنها الإخلاص لله رب العالمين ، فهوَ روحُ الطاعاتِ ، وجوهرُ العباداتِ ، لاَ تُقْبَلُ الطاعةُ بدونِهِ ، لأن الله سبحانه وتعالى جعله شرطا لقبول الأعمال الصالحة، ليس في العبادات فقط، بل في جميع الأعمال والأقوال ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا شَيْءَ لَهُ) ثُمَّ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ ) (سنن النسائي).

والإخلاص معناه : الابتعاد عن الرياء والسمعة ، وحب النفس والشهرة ، بمعنى : أن يقصد الإنسان بقوله وعمله ، وبحركاته وسكناته وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته ، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو مظهر أو شهرة ، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة أو مدح من الخلق، وهذا ما أمر الله به رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فقال:{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام: 162، 163].  فالمخلص هو الذي يقوم بأعمال الطاعة من صلاة وصيام وحج وزكاة وصدقة وقراءة للقرآن وقضاء حوائج الناس والوطن ابتغاء وجه الله - عز وجل - ، وليس من أجل أن يمدحه الناس ويذكروه ، فعمله ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريد من الناس جزاءً ولا شكورًا.

ومن عظيم شأن الإخلاص أن الله تعالى مدح به أنبياءه ورسله في القرآن الكريم ، لأنهم أخلصوا أقوالهم وأفعالهم لله عز وجل ، فقال سبحانه وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا }[مريم:51]. ويقول تعالى عن يوسف- عليه السلام: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف: 24].  أي إنه من عبادنا الذين أخلصوا العبادة والطاعة لله عز وجل.

وقَدْ شَهِدَ اللهُ سبحانَهُ بالإخلاصِ لمن صَفَتْ سرائِرُهُمْ، وصدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وسَلِمَتْ أعمالُهُمْ، قالَ تعالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ }[ص: 45-47]. أَيْ أخلَصُوا العبادةَ للهِ عزَّ وجلَّ.

وقد أمر الله تعالى عباده بالإخلاص ، وحثهم عليه في كل أقوالهم ، وجميع أعمالهم ، وأول من وجه إليه هذا الأمر هو رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليكون قدوة طيبة وأسوة حسنة ، فقال سبحانه :{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر: 2، 3] ، وفي آية أخرى يخاطب الله رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقوله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}[الزمر:11، 14].

كما أمر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يتحلوا بالإخلاص ، فقال سبحانه وتعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] ، وقال تعالى : {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }[غافر: 14].

ولقد حث النبي (صلى الله عليه وسلم) أتباعه على الإخلاص في أعمالهم وأقوالهم وعباداتهم لله سبحانه وتعالى وحده ، وحذرهم من الرياء تحذيرًا بالغًا، وشنع على من لم يخلص أعماله وأقواله لله-عز وجل- ، فعن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) (رواه البخاري) وفي رواية : (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)، لقد صدَّر الإمام البخاري كتابه الصحيح بهذا الحديث إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله عز وجل فهو باطل ، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ، وكذلك نوَّه الإمام الشافعي (رحمه الله) بجلال هذا الحديث واشتماله على كثير من المعاني والمقاصد برغم وجازته ، فقال : ( هذا الحديث ثلث العلم).

          فليعلم المسلم أنه لابد لكل عمل من نية، ولابد للنية من الإخلاص لله رب العالمين، فليراجع الإنسان نيته أولاً بأول حتى لا تتحول عباداته إلى عادات ويفقد إخلاصه فيها ، فالعمل وإن كان موافقًا للشرع فإنه لا يكفي حتى يكون مقبولاً، بل لا بد وأن يصاحبه الإخلاص لله رب العالمين، قال الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ في قوله – تعالى - : {لِيَبْلوكمْ أيُّكم أحسنُ عملاً}[سورة الملك:2] : العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه ، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا ، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}[الكهف: 110] ( مدارج السالكين لابن القيم).

ومما يؤكد أن العبد المسلم يجازى بنيته ، ما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عز وجل عِنْده عشر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائة ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَإِنْ هم بسيئة فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عنده حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كتبهَا الله سَيِّئَة وَاحِدَة).    

ومن هذا يتضح أن الله تعالى لا ينظر إلى كثرة الأعمال أو قلتها بقدر ما ينظر إلى قيمة الإخلاص فيها ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ). وفي رواية: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ ). وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ. فالعاقل الفطن هو الذي يخلص النية لله تبارك وتعالى لأنّ الناس لا ينفعونه بشيء إذا راءى لهم بل هو الخاسر يوم القيامة.

وإذا كان الإخلاص في أسمى درجات الكمال ، فإن الرياء في أحطِّ دركات النقصان ؛ لأن الله تعالى توعد المرائين بسوء المصير ، فقال سبحانه : {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }[سورة الماعون].

فإذا اختل شرط الإخلاص، وقُصِد بالعمل غير الله تعالى أصبح رياءً ، لا ثواب له ، وهذا ما يوضحه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)(رواه ابن ماجه).

وقد حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من الرياء ؛ لأنه شرك خفي ، فيعمل العبد عملاً في ظاهره الصلاح وفي الحقيقة لا يريد به إلا مرضاة الناس ومدحهم، فهو سبحانه غنيّ حميد، لا يرضى أن يشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) (رواه مسلم). وفي رواية أخرى : (... فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ) (رواه ابن ماجه).

فإذا حُرِم الإنسان نعمة الإخلاص وراءى  الناس بعمله ولم يقصد به وجه الله عز وجل فسد عمله ، وساء مصيره ، بل كان أول الهالكين يوم القيامة ؛ لذلك حذَّر النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  من الرياء تحذيرًا شديدًا ، ففيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه)  قال: سمعت رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ).

ومن هذا يتضح أن الرياء يمحق الأعمال الصالحة، ويبطلها ، ليس هذا فحسب بل يؤدي إلى التهلكة وسوء المصير ،  يقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود : 15-16]. يقول بعض الحكماء: (مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة، كمثل رجل خرج إلى السوق، وملأ كيسه حصاة، فيقول الناس: ما أملأ كيس هذا الرجل، ولا منفعة له من عمله سوى مقالة الناس عنه ، ولا ثواب له في الآخرة) (تنبيه الغافلين).

إن الإخلاص في الأقوال والأعمال وكل ألوان العبادة إذا ما استقر في القلب ، وظهر في السلوك أثمر الخير الكثير والأجر العظيم ، وجعل الله تعالى لصاحبه من كل همٍّ فرجًا ، ومن كل ضيقٍ مخرجًا ، ومن هذه الثمرات: 

          رضا الله تبارك وتعالى عن المخلصين: فإن من لازم الإخلاص لله تعالى في أقواله وأعماله وعبادته عاش في الدنيا سعيدًا وفارقها والله – تعالى- عنه راضٍ ، فرسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يبين لنا أن رضا الله تعالى لا يكون إلا بالمداومة على الإخلاص له في العبادة والطاعة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): )مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مَاتَ وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ) (رواه ابن ماجه).

قبول الأعمال عند الله عز وجل : فإن الإنسان مرتهن بعمله عند ربه عز وجل ، إما أن يقبله وإما أن يردَّه ، والعمل المردود سبب من أسباب هلاك صاحبه؛ لأنه قصد به رضا الناس لينال مدحهم وثناءهم عليه ، فكان كما قال ربنا سبحانه : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }[الفرقان: 23]. فكل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح أصبح هباء منثورًا ، لا قيمة له ولا وزن له ؛ لأنه لم يقم على الإخلاص لله رب العالمين ، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً (أي : من أجل العصبية والدفاع عن عشيرته ولو بالباطل)، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً (أي : يقاتل من أجل أن يقال عنه : إنه شجاع)، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً (أي يقاتل من أجل رضا الناس وثنائهم عليه وليس من أجل الله تعالى)، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟  قَالَ : ( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيََ الْعُلْيَا، فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (رواه البخاري).

فمن لم يكن عمله خالصًا لوجه الله – تعالى- لا يقبله الله ، ففي حديث أنس (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تعرض أعمال بني آدم بينَ يَدي اللهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ، فيقول الله : أَلْقُوا هَذَا واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا ربِّ والله ما رأيْنا مِنه إِلَّا خَيْرًا، فيقول الله : إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي ، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد بِهِ وَجْهِي) (مسند البزار). وقال العراقي: رواه الدار قطني من حديث أنس بإسناد حسن.

          رعاية الله تعالى وحفظه للمخلصين : فإذا ما أخلص الإنسان لله تعالى في أقواله وأعماله وعبادته فإنه سبحانه وتعالى يحفظه ويرعاه ، ويصرف عنه كل سوء ومكروه ، يؤكد هذا ما جاء في قصة يوسف (عليه السلام) حيث يقول ربنا سبحانه :{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف: 24]. فيوسف (عليه السلام) قد نجاه الله سبحانه وتعالى من البلاء الذي وقع به بسبب الإخلاص.

وكلمة (المخلصين) في القرآن تقرأ بقراءتين : الأولى (المخلَصين) بفتح اللام ، أي : الذين أخلصناهم وطهرناهم لعبادتنا وطاعتنا.  الثانية: (المخلِصين) بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا العبادة والطاعة والدين لله رب العالمين.

 النصر على الأعداء : فإذا ما أخلص الناس في طاعتهم وعبادتهم ، وأقوالهم وأعمالهم، فإن الله تبارك وتعالى ينصرهم على عدوهم مهما كانت قوته ، ومهما كان ضعفهم ، فعَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص (رضي الله عنه) عَنْ النَّبِيّ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ ) (سنن النسائي).

فالإخلاص أساس  العبادة ؛ فبه تكون  الأقوال والأعمال مقبولة ، وبه تكون العبادة والطاعة كذلك ، وبالإخلاص يكون التصديق بسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن ثم العمل بها، وبالإخلاص يكون التعليم ، والتعلم، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإنفاق في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله ، والبذل، والعطاء، والتضحية ، وصلة الرحم ،

وبالإخلاص يكون التحابُّ  في الله والقيام بحقوق المسلم ، والحفاظ عليها ، وبالإخلاص تكون مراعاة حق الجار ، ونصحه ومعاونته ، والأخذ على يديه إذا فرَّط، والسؤال عنه ، وغض البصر عن محارمه ، وبالإخلاص تكون الرحمة والشفقة على المساكين ، ومواساة الأيتام والأرامل ، حتى إنك إذا أفرغت من دلوك في دلو أخيك أجرت على ذلك، بل الأعظم من ذلك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة إذا ابتغيت بها وجه الله تعالى.

 

*      *      *

 

فهرس الموضوعات

 

الشكر ... حقيقته وأثره في حفظ النعم

أولا: العناصر:

1.  حقيقة الشكر وفضله.

2.  أنواع الشكر.

3.  الشكر من صفات الأنبياء والصالحين.

4.  ثمرات الشكر وأثره في حفظ النعم.

5.  شكر أهل المعروف من شكر الله.

ثانيا الأدلة:

      الأدلة من القرآن الكريم:

1.  يقول تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7].

2.  ويقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. 

3.  ويقول تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ]البقرة:152[.

4.  ويقول تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:1]. 

5.  ويقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ * وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ}]يس:71 ــ 73[.

6.  ويقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ]لقمان:12[.

7.  ويقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}]النحل:112ــ 114[.

8.  ويقول تعالى:{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الزمر: 7].

9.   ويقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ]لقمان: 14[.  

الأدلة من السنة النبوية:

1.  عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها)  قَالَتْ:  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ : ( يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ) (رواه مسلم).

2.  وعنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ:        ( يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ ) فَقَالَ : ( أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) (رواه أبو داوود).

3.  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ )(رواه الترمذي). 

4.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (رواه البخاري).

5.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه)(رواه البخاري).

6.  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلاَ صَابِرًا ، مَنْ نَظَرَ فِى دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ وَنَظَرَ فِى دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا ، وَمَنْ نَظَرَ فِى دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِى دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلاَ صَابِرًا ) (رواه الترمذي).

7.  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) (رواه أبو داود). 

8.  وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وسلم ): ( مَنِ استعاذَ بالله فأعيذُوه ، ومَنْ سألَ بالله فأعطُوه، ومَن دعاكم فأجيبُوه ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) (سنن أبي داود).

 

ثالثا: الموضوع: 

لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بنعم كثيرة لا تُعد ولا تُحصى ، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان:20]. هذه النعم قد يرى الإنسان بعضها رأي العين ، ويخفى عليه الكثير منها ، وكلُّ نعمة من هذه النعم تقتضي أن يفكر فيها الإنسانُ ، حتى يدرك أسرارها وقيمتها وأهميتها ، ويتدبر عظيم نعم الله عز وجل عليه.

ولو أحسن الناس النظر والتفكر فيما حولهم من أرض وسماء ، وليل ونهار ، وبحار وأنهار ، وثمار وأشجار ، وأنعام ودواب ، لوجدوا أنفسهم محاطين بنعم كثيرة لا يستطيعون عدَّها ولا القيام بشكرها ، ولأدركوا أن الفضل في ذلك يرجع إلى الخلاق العظيم الذي يقول للشيء " كن فيكون"، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32- 34] ، وقال جل جلاله:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 34]. ويقول سبحانه:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص: 73] .

ولو نظر الإنسان إلى خلقه وتكوينه وما وهبه الله عز وجل من حواس ، وما أنعم به عليه من مال وذرية وصحة ومتاع وغير ذلك لعرف عظيم نعم الله (عز وجل) عليه ، وسارع في شكر الله تعالى على هذه النعم التي سخرها له ، ومن ثم فهذه النعم تقتضي من الإنسان أن يشكر الله تعالى عليها شكرًا يليق بجلاله وعظمته وكبريائه ، شكرًا خالصًا لا يخالطه رياء ولا كبرياء، قال تعالى:{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].

وحقيقة الشكر: مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية ، فيثني على المنعم بلسانه ويبذل الجهد في طاعته ، ويجتنب معاصيه في السر والعلن ، فالمؤمن الحق هو الذي يقر بأن ما به من نعم وفضل مرده إلى  الله وحده ، قال تعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] ، فهو في كل طرفة عين ، ونبضة قلب ، يشكر الله تعالى على نعمه المتجددة بتجدد الليل والنهار ، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

والشكر: دليلٌ على صفاء النفس ، وطهارة القلب ، وسلامة الصدر ، وكمال العقل ، وهو - في حد ذاته- نعمة من الله تستحق الشكر عليها ؛ فنشكر الله ــ تعالى ــ أن ألهمنا شكره ، ومن هنا يتوالى الشكر ولا ينقطع. 

إذا كان شكري نعمة الله نعمة                  عليّ له في مثلها يجب الشّكر

فكيف وقوع الشّكر إلّا بفضله                   وإن طالت الأيّام واتّصل العمر

ومن تمام شكر الله تعالى : أن يستعمل الإنسان نعم الله عز وجل فيما خلقت له ، وأن يضعها    في المواضع التي ترضيه ، فالعين نعمة : وشكرها أن يستعملها في النظر إلى ما أحله الله، لا إلى  ما حرمه الله ، واليد نعمة : وشكرها أن يستعملها في الطاعة لا في المعصية ، في الخير لا في الشر ، والأذن نعمة : وشكرها أن يستعملها في الاستماع إلى ما يعود علينا بالثواب من الله (عز وجل) ، والعقل نعمة : وشكرها أن يستعملها في التفكير السليم الذي يعود علينا وعلى المجتمع كله بالخير والرخاء ، وكذلك المال نعمة: وشكرها أن يُوجَّه للخير ، وأن نساعد به المحتاجين ، ونمسح به دموع المنكوبين ، وننفقه في مصالح العباد والبلاد ، وغير ذلك من نعمة الصحة والشباب والجاه والسلطان ، فكلها نعم سامية يجب أن يشكر الإنسان عليها ربه عز وجل بتسخيرها للخير ونفع العباد ، وبالوقوف عند حدود الله تعالى.  وكذلك كل نعمة أنعم الله بها على الإنسان  يجب أن يستعملها في طاعة الله سبحانه ، يقول عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 78] .

فحقيقة الشكر : أن تكون حركات العبد وسكناته وخواطره ومشاعره وما يتمتع به من نعم موجهة للخير وفي سبيل  الله ومن أجل مرضاة الله.

وفضيلة الشكر من أسمى الفضائل وأعظمها قدرًا لأنها تقرب العبد من مولاه ، وتجعله موضع حبه ورضاه ، حيث أخبر الحق سبحانه في كتابه أن رضاه في شكره وأن سخطه في كفران نعمته ، فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الزمر:7] .

      وشكر الله ــ تعالى ــ لا يكون باللسان فحسب ، بل شكره باللسان ، والقلب ، والجوارح ، والعمل، فشكر اللسان: يكون بذكر نعم الله ــ تعالى ــ وفضائله ، وكثرة حمده عليها ، قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}]الضحى:11[ ، والوفاء بحقها ، يقول الحق سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:1].

وشكر القلب : يكون باعتقاد العبد أنه مُنعَمٌ عليه من الله (عز وجل) ، فعَنْ أَبِي الْجِلْدِ ، قال : قَالَ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ: « إِلَهِي كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتُهَا عِنْدِي مِنْ نِعَمِكَ لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلُّهُ » ، قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ " يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي" [الزهد لأحمد بن حنبل ص 67].

 وشكر الجوارح: يكون بترك المعاصي والذنوب ، قال مَخْلَد بْن حُسَيْن: كَانَ يُقَالُ: « الشُّكْرُ تَرْكُ الْمَعَاصِي ».

علامة شكر المرء إعلان حمده            فمن كتم المعروف منهم فما شكر

إذا ما صديقي نال خيرا فخانني            فما الذّنب عندي للّذي خان أو فجر

ويكفي في بيان فضل الشكر وعظيم منزلته أن الله تعالى وصف به نفسه فقال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23] ، وقال :{وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] ، وقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء: 147] . وليس معنى أن الله شاكر أن هناك من أسدى لله معروفا هو سبحانه محتاج إليه ، فالله لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين ، لكن الشكر من الله معناه : المغفرة والإنعام على عباده ، وإثابتهم على ما قاموا به من العبادة والطاعة ، وما قدموه للعباد من معروف ، بل إن ربنا سبحانه يشكر كل من أسدى معروفا للحياة سواء أداه لإنسان أو حيوان ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا ؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».]رواه البخاري[، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه». ]رواه البخاري[. فشكر الله للعبد بمغفرته سبحانه للذنوب ومجازاته العبد بالأجر والثواب.

وكذلك وصف الله تعالى به أنبياءه ورسله ، فكان الشكر خلقًا لازمًا لأنبياء الله ( عليهم السلام) ، وفي هذا حث للأمة أن تقتدي بهم ، فأولُ أنبياء الله نوحٌ ( عليه السلام ) ، وصفَه ربُّه بقوله:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[ الإسراء :3] ، وخليلُ الله إبراهيم ( عليه السلام) قال فيه ربُّه:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[ النحل:120-121].  

وها هو نبي الله داود (عليه السلام) يناجي ربه كيف يؤدي شكره ، فقال : يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة والشكر ، فالنعم منك والشكر منك ، فكيف أطيق شكرك ؟ فقال: " يا داود الآن عرفتني حق معرفتي " [المواعظ لأبي عبيد ص 142] .

وينظرُ سليمان (عليه السلام ) فيما خصَّه به ربُّه من نعم ، وما سخَّر له من مخلوقاتِه فلم يقابلها بالكبر والجحود ، وإنما قابلها بالدعاء لمولاه أن يوفقه ويعينه على شكره ، فقال تعالى على لسان سليمان:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وقال تعالى - على لسان سيدنا سليمان- أيضًا: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].

أما نبيُّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، فيقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه ، وعندما سئل : لم كل ذلك يا رسول الله  وقد غفرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر ، كان جوابه: « أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ ». قَالَ ابن عُمَيْرٍ  لأم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها ) أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال:  فَسَكَتَتْ ، ثُمَّ قَالَتْ:  لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ : يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي،  قُلْتُ:  وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي ، قَالَتْ : فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ ، قَالَتْ:  ثُمَّ بَكَى ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ:  يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ:  "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" (رواه ابن حبان).

ولقد عُني القرآن الكريم بالحديث عن الشكر عناية واضحة فذكره في مواطن كثيرة من آياته ، وطلب من عباده أن يتحلوا به ويحرصوا عليه ، لما له من أهمية كبرى ومنزلة عظمى ، فهو قيد للنعم الحاضرة ، ومجلبة للنعم المفقودة ، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة:152] ، قرنه بالذكر وأمر بهما معًا . وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة 172] ، {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل: 114] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[ لقمان : 12] . وقال تعالى : { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [ الزمر : 66] ، ولا يأمر الله عباده إلا بما يحقق لهم الخير والسعادة في الدارين ، فالسعيد من امتثل أمر ربه فأطاعه فكان من الشاكرين.

 وشكره سبحانه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى واجب على العبد ــ ليس تفضلا منه ــ، يقول تعالى معددًا بعض نعمه وآلائه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ * وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ]يس:71 ــ 73 [.

وأما عن ثمرات الشكر فكثيرة ، منها : أن الشكر يعود بالخير على الشاكر نفسه ، فلا يقع نفع الشكر ، ولا ضرر الكفران على الله تعالى ، وإنما النفع يقع على الشاكر نفسه ، وضرر الكفران يقع على الجاحد نفسه ، قال سبحانه: ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ]لقمان: 12[.

ومن ثمرات الشكر : حفظ النعم من الزوال ، فعَنِ الْحَسَنِ (رضي الله عنه) قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمَتِّعُ بِالنِّعْمَةِ مَا شَاءَ ، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ عَذَابًا "، وكان عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ (رضي الله عنه) يَقُولُ: «قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ».

ولقد ضرب لنا الحق ــ سبحانه وتعالى ــ مثلاً بقرية زالت نعمها ؛ لعدم الشكر عليها ، فقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ]النحل: 112ــ 114[. فالشكر سبب بقاء النعمة والحفاظ عليها.

وثمرة الشكر لا تتوقف على حفظ النعم فحسب ، بل زيادتها ومضاعفتها ، يقول تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7] ، وقال سيدنا علي (رضي الله عنه) لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ: إِنَّ النِّعْمَةَ مُوَصلَةٌ بِالشُّكْرِ ، وَالشُّكْرُ مُعَلَّقٌ بِالْمَزِيدِ ، وَهُمَا مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ ، فَلَنْ يَنْقَطِعَ الْمَزِيدُ مِنَ اللَّهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ.  

وقد علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كيف نؤدي شكر الله تعالى على نعمه ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : « مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ . فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِى فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ».]رواه أبو داود[.

فمن داوم على شكر الله (عز وجل) كان له مثل أجر الصائم  الصابر ، كما أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ومعلوم أن أجرهما لا يعلمه إلا الله ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّ لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ » (رواه البيهقي في السنن)، وصدق الله العظيم حيث قال :{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

والشكر ليس قاصرا على شكر العبد لربه ، فإذا كان أول من يُشكَر هو الله سبحانه لأنه صاحب الفضل والمنة والنعمة ، ولا منعم في الحقيقة سواه ، فإن شكر الوالدين يأتي بعد شكر الله عز وجل ، لما قدماه لأبنائهم من كل خير في الحياة ، لذا قرن الله ــ تعالى شكرهما بشكره وطاعتهما بطاعته في أكثر من موطن في كتابه الكريم ، يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}]لقمان:14[.

وشكر الوالدين يكون بالطاعة والإحسان إليهما وتوقيرهما وعدم إيذائهما ولو بأقل الألفاظ ، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى :{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: 23].

ومن كمال شكر الله تعالى الشكر  لكل من أسدى إلينا معروفا ، فهو من باب شكر الله تعالى ، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): «لا يشكر الله من لا يشكر النّاس» ]أخرجه أبو داوود[. والحق سبحانه وتعالى يقول : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. ولقد وصانا نبينا (صلى الله عليه وسلم) بذلك حيث قال : « مَنِ استعاذَ بالله فأعيذُوه، ومَنْ سألَ بالله فأعطُوه، ومَن دعاكم فأجيبُوه ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» (سنن أبي داود).

فإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذر ، فإن النعمة مع المعصية تصبح نقمة ، وكلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي نقمة ، قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)  [الإنسان: 3].

ومن يسد معروفا إليك فكن له            شكورا يكن معروفه غير ضائع

ولا تبخلن بالشّكر والقرض فاجزه        تكن خير مصنوع إليه وصانع.

فينبغي للعبد أن يكون شاكرا لله عز وجل على نعمه ، ويتحدث بها ، ويستعملها في مرضاته سبحانه ، وخدمة وطنه وأمته.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة 

أولا - العناصر:

1-  أهمية الكلمة في الإسلام.

2-  الكلمة الطيبة : فضلها وآثارها.

3-  الكلمة الخبيثة : خطورتها وآثارها.

4-  حفظ اللسان من علامات الإيمان.

ثانيا - الأدلة:

الأدلة من القرآن الكريم :

1-  يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا  فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[ إبراهيم:24ـ 26] .

2-    ويقول تعالى: {...وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...} [البقرة : 83] .

3-  ويقول تعالى : {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [ الإسراء: 53] .

4-  ويقول تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [ فصلت : 34] .

5-    ويقول تعالى :{ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }[ الرحمن :1ـ 4].

6-  ويقول تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }[آل عمران: 64] .

7-    ويقول تعالى :{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }[البقرة : 263]

8-    ويقول تعالى :{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:43، 44] .

9-  ويقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [ الأحزاب :70، 71 ] .

 

الأدلة من السنة :

1-  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)( متفق عليه ) .

2-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) (متفق عليه ).

3-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه).

4-  وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ (رضي الله عنه ) قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ) (أخرجه مسلم).

5-  و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  فَلَعَنَهَا - فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا تَلْعَنْهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ) ( أخرجه أبو داود ) .

6-  وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ قَرِيبًا مِنْهُ ... وفيه .... ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) ، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: ( اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ إِنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (رواه الترمذي  وقال حديث حسن صحيح ) .

  ثالثًا: الموضــوع:

لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بنعم كثيرة وعظيمة لا تعد ولا تحصى ، حيث قال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. ومن أعظم هذه النعم نعمة البيان ، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن :1ـ 4].

فبكلمة يدخل الإنسان الإسلام ، وبكلمة يخرج منه ،وبها يدخل الجنة ، وبها يحرم منها ، وتُستحل فُروج بكلمة ، وتُحرّم بكلمة ، وتُبنى أُسر ومجتمعات بكلمة ، وتُهدم بكلمة .

          فالكلمة عنوان الإنسان ، ووسيلة اتصاله بالآخر ، وبها تكاد تكونُ كلَّ شيء في حياة الإنسان ، فهي إما أن تبلغ بالإنسان أرقى الدرجات، أو تهوي به في أسفل الدركات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) .

والكلمة منها الطيب ومنها الخبيث ، ولقد ضرب الله عز وجل مثلًا لكل منهما وما تحدثه من آثار فقال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } [إبراهيم : 24ــ 26] .

فالكلمة الطيبة كشجرة طيبة ، وراقة  يانعة مثمرة ، ضربت في باطن الأرض جذورها، وتمددت في الآفاق فروعها وأغصانها، فهي تثمر الخير ، وهي دليل على طيب المنبت، وسلامة النفس ، وكمال العقل ، ونضوج الفكر ، وهي التي تسُر السامع ، وتؤلف القلب، وتحدث أثرًا طيبًا في نفوس الآخرين ، وهي التي تفتح أبواب الخير ، وتغلق أبواب الشر ، وهي سمة لخطاب المسلم مع المسلم وغيره.

وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول الكلمة الطيبة لجميع الناس دون تفرقة  قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة : 83] ، وقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}[الإسراء : 53] . والكلمة الطيبة  تحفظ المودة ، وتديم الصحبة ، وتحول العدو إلى صديق ، وتقلب الضغائن إلى محبة ، وتمنعُ كيدَ الشيطان قال تعالى : { ...ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [ فصلت : 34] ، وقال تعالى : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}[المؤمنون: 96].

والكلمة الطيبة تؤلف القلوب، وتصلح النفوس، وتذهب الأحزان ، وتزيل الغضب ، وتشعر بالرضا والسعادة لا سيما إذا رافقتها ابتسامة صادقة فعن أبى ذر (رضي الله  عنه ) قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)، والنبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الكلمة الطيبة دليلًا على إيمان صاحبها فقال:  (...وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ).

والكلمة الطيبة تفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر، وتكون سببًا لاستدامة العشرة بين الزوجين، فبها تزول كثير من الإحن، ولا يخفى على أحد وقع الكلمة الحانية على نفوس الزوجات، ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة في حسن عشرته لأمهات المؤمنين فقد ضرب أروع الأمثلة وأرقى أنواع المعاملة مع أزواجه فكانت الكلمة الطيبة نبراسا تهتدي به البشرية حتى تنتظم العلاقات الإنسانية، فيسود الوئام والتآلف بين أبناء المجتمع الإنساني فيغلب على بني البشر قيم الخير والحب والجمال ، وقد كان هذا دأب النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أهله، فعن أم المؤمنين عَائِشَةَ(رضي الله عنها) قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).

وبالكلمة الطيبة تدوم الألفة بين الآباء والأبناء ، فبها يمتلك الآباء قلوب الأبناء ويستميلونهم ، والقرآن الكريم أعطانا نماذج كثيرة لأثر الكلمة الطيبة على نفوس الأبناء فها هو إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام ، وكذلك يعقوب عليه السلام مع أولاده ، وكذلك لقمان الحكيم مع ابنه . وبها تكون مودة الأبناء بالآباء قال تعالى:{ ....فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [ الإسراء: 23].

ولا يخفى ما للكلمة من أثر  طيب في العلاقة بين الجيران،  فالإحسان إلى الجيران بالكلمة يكون سببًا في دخول الجنة، والإساءة إليهم قد تكون سببًا في دخول النار، فعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)  َقالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)(الأدب المفرد للبخاري).

وللكلمة أيضًا أثرها الطيب في حسن العلاقة بين المسلم وغيره، قال تعالى :{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [ ال عمران : 64] . وحتى مع الأعداء أمرنا الله بها يقول تعالى : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه :43 ، 44] .

وبها تكون دعوة المخالفين والتحدث معهم بالحسنى، قال تعالى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46] .

والكلمة الطيبة للفقراء  تكون إحسانًا أفضل من عطاء يتبعه مَنٌّ وأذى، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة : 263] .

أما الكلمة الخبيثة فهي تسبب الفرقة والتنافر بين أبناء المجتمع الواحد مما يهدد وحدة النسيج الاجتماعي، فيؤدى إلى تشرذم المجتمع وتشتته ، وهذا هو السبب في  ظهور كثير من الآفات التي بسببها تقطعت الأرحام، وساء الجوار،  ففسدت العلاقات الاجتماعية بين الجميع ، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر ،الغِيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والجدال بالباطل، والكذب، والقذف، والسباب واللعان بأساليب عديدة فيها خروج عن أقل قواعد الأدب، مع أن المسلم ليس باللعَّان ولا الطعَّان ولا الفاحش ولا البذيء، كما في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود  (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ  رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ، وَلَا الطَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ) (أخرجه الترمذي وأحمد).

كما يبدو خطر الكلمة الخبيثة  في الشائعات التي تطلق في أوساطنا والتي تستهدف وحدة الأمة وتماسكها، فيترتب عليها كثير من المنكرات، خاصة في أوقات  المحن والفتن، بل ربما وصلوا بهذه الخبائث إلى حد الاقتتال، والمروجون لهذه الشائعات توعدهم الله تعالى بعذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النور : 23 ،24]، والشائعات لها خطورة بالغـة علـى المجتمع ، بسبب سرعة انتشارها وتأثيرها على النـاس ، لأن من آثارها، تضليل الرأي العام، وإثارة الفتنة،  ورمي الناس بالباطل، ولقد عظَّمَ الإسلام من خطورتها، ووجَّهنا عند سماع الشائعات إلى أن نحسن الظن ببعض، يقول تعالى :{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:15ـ17] .

وكان النبي (صلى الله عليه وسلم ) يكره الكلمة الخبيثة حتى مع الحيوان، فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ)، ولقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن اللعن حتى وإن كان ذلك  للريح، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما ) أَنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ( صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)  فَلَعَنَهَا - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَلْعَنْهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ). 

ولما كان للكلمة خطورة كبيرة  حث الإسلام على حفظ اللسان، وعدم إطلاق العنان له، فكل ما يصدر عنه من أقوال محسوب له أو عليه ، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق: 18]. فاللسان أميرٌ على الجوارح، فإن استقام استقامت وإن اعوجّ اعوجّت، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :  ( إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ قَالَ سَائِرُ الْجَسَدِ لِلِّسَانِ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، إِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا) (رواه الترمذي)، وبيَّن (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) أن اللسان هو المعوَّل عليه في إدخال الناس الجنة أو النار، يقول ( رضي الله عنه ): كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ قَرِيبًا مِنْهُ ... وفيه ... ثُمَّ قَالَ:( أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) ، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: (اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ إِنَّا لَمَآْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ).

فحريُّ بالمسلم أن يضبط لسانه، ويحفظه من الزلل وأن يستعمله فيما فيه مصلحة، فإن كان خيرًا تكلم وإلا سكت فالسكوت في هذه الحالة عبادة، ولقد ذكر الحق سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو وهو الكلام الذي لا نفع فيه فقال : {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، ومن هنا ندرك أن الواجب الشرعي هنا لا يتمثل فقط في قول الخير والصمت عن الشر بل في اجتناب اللغو الذي لا فائدة فيه.

فما أحوج مجتمعنا الآن إلى أن تشيع بين أفراده الكلمة الطيبة  الحانية لما لها من أثر طيب، حيث  الألفة والمحبة، وإذابة الفرقة والشحناء، فالكلمة الطيبة لها أثرها الطيب في صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب :70، 71 ].

 

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الأسرة ودورها في الحفاظ على استقرار  المجتمع

أولًا : العناصر :

1.     الأسرة عماد المجتمع.

2.     عناية الإسلام بالأسرة.

3.     عوامل النجاح في بناء الأسرة.

4.     حقوق الآباء على الأبناء.

5.     دور الأسرة في تعزيز أمن واستقرار المجتمع.

 ثانيًا : الأدلـة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1.    قال تعالى :{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49].

2.    وقال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}[يس: 36].

3.    وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }[النساء: 1].

4.    وقال تعالى :{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21].

5.    وقال تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

6.    وقال تعالى :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان :14].

7.    وقال تعالى :{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }[الفرقان: 74].

8.  وقال تعالي :{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء 24،23].

9.  وقال تعالى :{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا  حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا  وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[الأحقاف : 15].

  الأدلـة من الســنة : 

1-  عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) (متفق عليه) .

2-  وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) ( رواه البخاري ) .

3-  وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ (رضي الله عنهما) قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، قَالَ : وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

4-  وعن أَبي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (رواه البخاري).

5-  وعن أَبِي مُوسَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه).

6-  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو داود).

7-  وعَنْ أَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) (السنن الكبرى للنسائي).

8-  وعن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : ( سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي العمل أحب إلى الله قال : (الصلاة على وقتها ، قال: ثم أي ، قال : ثم بر الوالدين ، قال : ثم أي ، قال : الجهاد في سبيل الله ) ( متفق عليه ) .

ثالثًا: المـــوضــــوع:              

إن الأسرة هي اللبنة الأولى التي يتكون فيها صرح المجتمع فهي التي تتولى حماية النشء ورعايته وتنمية أجساده وعقوله وأرواحه، وفي ظلها تتلاقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل؛ فهي التي تصنع الرجال الأبطال الذين تقوم عليهم المسؤوليات ، وعلى أكتافهم تصان الحرمات ، فمن الأسرة يخرج القائد المقدام ، والعالم الإمام ، والطبيب الماهر ، والمهندس الباهر ، والرجل الفاضل ، وبمقدار ما تكون عليه الأسرة من قوة أو تقوم عليه من قيم؛ فصلاحها يعني صلاح المجتمع، وفسادها يعني فساد المجتمع.

ومن هنا اهتم الإسلام بالأسرة اهتمامًا بالغًا يناسب أهميتها في  كيان المجتمع وأثرها الفعال في حياة الأمة ومستقبلها، ويتجلى ذلك الاهتمام في بيان كل ما يتصل بتكوين الأسرة من الأحكام والواجبات وما تقوم عليه من التقاليد والآداب وما يكفل سلامتها من الفتن والخلافات ويوفر لها الحماية من عوامل التحلل والفساد ؛ كي تؤدي رسالتها في أمن واستقرار و إعداد النشء وتربيته على القيم الفاضلة والمُثُلِ العليا.

وقد وصلتْ عنايةُ الإسلام بهذا المكون الرئيس للمجتمع (الأسرة) إلى درجة كبيرة؛ حتى إن هذه العناية امتدتْ إلى ما قبل تأسيسها في مُحَاوَلة إلى انتقاء عناصر بنائها بما يحقِّق التلاؤُم والانسجام، ويُقَلِّل من دوافع الفشل لبنيانها، بل إنَّ الإسلامَ حَثَّ أتباعه على الإسهام  في تكوين هذه الأسرة عبر وسيلته المشروعة وهي الزواج، الذي اعتبره الإسلامُ إحدى سُنَن الله في الخلق لما يحققه من مقاصد في الحياة الإنسانية؛ إذ يقول الله - تبارك وتعالى : {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات: 49]، ويقول سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يس: 36].

فالزواج إذًا سُنَّة كونَّية ، ولا ينبغي للإنسان أن يشذَّ عنها ؛ إذ إن الله – ومنذ أن خلق الإنسان الأول آدم وأسكنه الجنة – لم يدعه وحده في الجنة ، بل جعل له حواء ليسكن إليها ، فلا يستطيع أن يحيا وحده بلا أنيس ولا جليس ؛ لذلك خلق الله لآدم من نفس جنسه زوجًا ، قال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[النساء :1 ] ، بل إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) دفع الشباب دفعًا إلى تحقيق هذه السنة، موضحًا فوائد ذلك ومنافعه فقال : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) (متفق عليه) .

وقد حدد الإسلام المعايير والأسس، التي يجب عليها اختيار الزوج لزوجته والزوجة لزوجها وفي  مقدمتها الدين والخلق ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك ) ( صحيح البخاري )،  وعَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) (سنن البيهقي).

فالزواج علاقة تقوم على الودِّ والحبِّ والحنان لا تقوم على الصراع ومحاولات كلِّ طرف لإثبات ذاته، ففي أحضان الأسرة المتماسكة الملتزمة بأحكام الله تنمو الخلال الطيبة، وتنشأ الخصال الكريمة، ويعيش الصبية الصالحون حيث تسود المودة، وتنتشر الرحمة في جنبات هذا البيت الكريم، متمثلاً فيه قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].

إن المودة والألفة هي قوام الأسرة، وإن أجلى مظاهرها وأوضح أسبابها حسن العشرة، ولزوم الطاعة، والتواصي بين الزوجين بالخير، وجميل الخلق، فأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخير المؤمنين خيرهم لنسائهم، والمرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت.

إن الإسلام يحرص كل الحرص على أن تقوم الرابطة الزوجية - التي هي النواة الأولى للأسرة- على المحبة، والتفاهم والانسجام، وهذه هي أهم خطوة في إصلاح المجتمع يليها  تربية النشء وتحصينه، وهذه التربية هي مسئولية الأسرة، رجالاً ونساءً، فكل فرد راع ومسئول عن رعيته.

ولقد فطر الله -عز وجل- الناس على حب أولادهم ، قال تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }[الكهف: 46].

ويبذل الأبوان الغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعليمهم ، ومسئولية الوالدين في ذلك كبيرة ، فالأبناء أمانة في عنق والديهم ، فعليهم أن يحسنوا أداء هذه الأمانة ، وأن يتقوا الله فيهم ، وأن يعودوهم الخير ، فإن تعودوا الخير وتعلموه نشأوا عليه ، وسعدوا في الدنيا والآخرة ، وشاركهم في ثوابهم أبواهم ، وكل معلم لهم ومؤدب ، وإن عُوّدوا الشر وأهملوا شقوا وهلكوا ، وكان الوزر في رقبة والديهم ، فقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }[ التحريم :6 ] ، وعن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) : قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) ( متفق عليه ) .

          إن نجاح الأسرة المسلمة يتحقق في المحافظة على فطرة الطفل السوية من الانحراف أو التشويه في أية مرحلة من مراحل نموه- مرحلة الولادة والرضاعة، مرورًا بمرحلة الحضانة والطفولة ، وهكذا ، ويؤكد هذا رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)حيث يشير إلى هذه المرحلة بقوله: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (رواه البخاري).

ومن ثمَّ فإن للأسرة دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد - منذ ولادتهم - وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- ( الصلاح من الله والأدب من الآباء) إن الأبناء يتمثلون بالآباء ويحملون عاداتهم السلوكية، وقديمًا قيل:

وينشأ ناشئ الفتيان منا     ***    على ما كان عوده أبوه

          فعلى الآباء  غرس القيم والفضائل الكريمة والآداب والأخلاقيات والعادات الاجتماعية التي تدعم حياة الفرد وتحثه على أداء دوره في الحياة وإشعاره بمسئوليته تجاه مجتمعه ووطنه وتجعله مواطنًا صالحاً في المجتمع مثل: الصدق والمحبة والتعاون والإخلاص وإتقان العمل. 

كما يجب على الآباء غرس مفاهيم حب الوطن والانتماء وترسيخ معاني الوطنية في أفئدة الأبناء. فالوطن امتداد لحياة الآباء والأجداد ، وبدونه لا يكون الإنسان شيئًا فهو تلك البقعة من الأرض التي ولدنا بها ونموت فيها ، ونستمتع بخيراتها ونعيش في دفء أمنها ورعايتها ، ويجب أن يعي الأب والأم أولاً معنى الوطنية والانتماء قبل أن ينقلوها إلى أبناءهم.

ولقد وجه الإسلام الآباء والمربين إلى أن يراقبوا أولادهم وخاصة في سن التمييز، كما وجههم إلى أن يختاروا لهم الرفقة الصالحة ليكتسبوا منهم كل خلق كريم وأدب رفيع وعادة فاضلة، كما وجههم أن يحذروهم من خلطاء الشر ورفقاء السوء حتى لا يقعوا في حبائل غيرهم  وشباك ضلالهم ، فالمرء على دين خليله ، فلينظر الإنسان إلى من يصاحب ، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67] .

وعن أَبِي مُوسَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :( إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ ) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِطُ) وَقَالَ مُؤَمَّلٌ: (مَنْ يُخَالِلُ)(مسند أحمد) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (سنن الترمذي).

فعلى المربين أن يأخذوا بهذه التوجيهات النبوية في تربية أولادهم  حتى تسعد الأسرة وبذلك يسعد المجتمع، فإن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه ، ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ)(السنن الكبرى للنسائي).

وإذا كان هذا دور الآباء نحو الأبناء فعلى الأبناء واجب نحو آبائهم أوكله الله إليهم، فقد أمرهم الله - عز وجل– ببرهم والإحسان إليهم في عدة مواضع من كتابه الكريم، جزاء تربيتهم ، والمعاناة من أجلهم فقال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان :14]

         ولن يستطيع الأبناء أن يحصوا ما لاقاه الأبوان من تعب ونصب وأذى ومشقة ، وسهر وقيام ، وقلة راحة وعدم اطمئنان من أجل راحتهم في سبيل رعايتهم ، والعناية بهم ، فسهر بالليل، ونصب بالنهار ، ورعاية واهتمام ، وتعهد وتحسس لما يؤلمهم ، فهما يقومان بعنايتهم ، ويراقبان تحركاتهم وسكناتهم ، وصحتهم ، ومرضهم ، يفرحان لفرحهم ، ويحزنان لحزنهم ، ويمرضان لمرضهم .

وإذا تتبعنا رحلة الأم مع ولدها وجدناها رحلة تعب ونصب لكن مع سرور وفرح ، فالأم تعاني في حملها ما تعاني من آلام ومرض ووهن وثقل ، فإذا آن وقت المخاض والولادة شاهدت الموت ، وقاست من الآلام ما الله به عليم ، فتارة تموت ، وتارة تنجو ، وياليت الألم والتعب ينتهي عند هذا الحد ، بل يكثر التعب والنصب ويشتد بعده ، فحملته كرهًا ووضعنه كرهًا .

         ففرح الأم وحزنها يتوقف على فرح ولدها وحزنه وكذلك في جميع حالاتها ، فتذبل الأم وتضعف لمرض وليدها وفلذة كبدها ، وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته ، وتذرف دموعها إذا اشتد به المرض ، وتحرم نفسها الطعام والشراب إن صام طفلها عن لبنها ، وتموت راضية إذا اشتد عوده وصَلُب ، ولو كان ذلك على حساب صحتها وقوتها وسعادتها ، فترى الحياة نورًا عندما ترى طفلها ووليدها وفلذة كبدها مع الصبيان يلعب ، أو إلى المدرسة يذهب هذه هي الأم التي أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات بها عندما سأله رجل في مَنْ يُِبّر ، فلها ثلاث أضعاف حق الوالد ، ولذلك جعل الله الجنة تحت قدميها ،  قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا  حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا  وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [ الأحقاف : 15] .

ومن هنا كان المسلم الملتزم أبر الناس بوالديه من أي إنسان آخر في الوجود .

وقد ارتفع الإسلام في تصوير مكانة الوالدين ، وعرض الأسلوب الراقي الذي ينبغي أن يمارسه في معاملة والديه ، وبخاصة إن طال بهما أو بأحدهما العمر ، وبلغا الشيخوخة ونال منهما العجز أو الضعف ما نال ؛ لأن هذه الأحوال مظنة وقوع ما يضجر منه الولد ، أو يستقذره من والديه ، قال الله تعالي :{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا *  وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء : 24،23] ، ولعل الجمع في هاتين الآيتين بين النهي عن التأفف من الوالدين وبين الأمر بخفض الجناح والدعاء لهما إشارة للأولاد ليتدبروا ويعلموا أن رحمتهم بوالديهم في الكبر وتذللهم لهما لا يكفي رد حقوقهم وإنما عليهم أن يدعوا الله تعالى أن يكافئهم عنهم ، بعطاء منه ورحمة حيث إن فضله عظيم ورحمته وسعت كل شئ ، ذلك لأن رحمة الوالدين بالولد في صغره ولا سيما الأم التي تتولى رعاية الصغير ونظافته إنما تكون مع اللذة والرغبة  والسعادة والسرور ، ولن تبلغ رحمة الولد هذا الحد إطلاقًا.

           وإن من يتتبع الأحاديث النبوية يجدها تتوالى لتؤكد فضل بر الوالدين وتحذر من عقوقهم أو الإساءة إليهما مهما تكن الأسباب والمبررات ، روى الشيخان عن أبن مسعود (رضي الله عنه ) قال: سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : (الصلاة على وقتها قال: ثم أي قال: ثم بر الوالدين قال: ثم أي قال: الجهاد في سبيل الله)( متفق عليه).

         وهكذا يتضح مدى ما أولاه الإسلام للوالدين من رعاية وحقوق تجمع معاني الاحترام ومظاهر التقدير وغض الصوت وخفض الجناح وإدخال السرور على قلبيهما ، مع امتداد هذا البر عليهما وعلى أصحابهما بعد وفاتهما ، وعلى هذه النشأة الكريمة ينبغي على الأسرة تربية أبنائها وتعريفهم بحقوق الوالدين .

جدير بالذكر أن الأمن والأسرة يوجد بينهما ترابط وثيق ،و يكمل أحدهما الآخر ، فلا حياة للأسرة إلا باستتباب الأمن ، ولا يمكن للأمن أن يتحقق إلا في بيئة أسرية مترابطة، وجو اجتماعي نظيف ، يسوده التعاطف والتآلف ، والعمل على حب الخير بين أفراده ، كل ذلك ضمن عقيدة إيمانية راسخة ، واتباع منهج نبوي سديد ، هذا الإيمان هو الكفيل بتحقيق الأمن الشامل والدائم ، الذي يحمي المجتمع من المخاوف ، ويبعده عن الانحراف ، وارتكاب الجرائم.

إن هذا الدور لا يتحقق إلا في ظل أسرة واعية تحقق في أبنائها الأمن النفسي ، والجسدي ، والغذائي ، والعقدي ، والاقتصادي ، والصحي بما يشبع حاجاتهم النفسية والتي ستنعكس بالرغبة الأكيدة في بث الطمأنينة في كيان المجتمع كله ، وهذا ما سيعود على الجميع بالخير الوفير

ويتحقق الأمن في الأسرة بأن يقوم كل واحد من أركانها بدوره المنوط به، والذي من أجل تحقيقه تكونت الأسرة، فالذكر والأنثى أوجد الله في كل منهما خصائص قبل الوظائف، فيحقق كل منهما وظيفته من خلال خصائصه، ويتحمل مسئولياته مع تعاون الجميع في أداء الواجبات .

لقد اعتبر الإسلام أن بناء الأسرة وسيلة فعّالة لتحقيق الأمن ، ولحماية الأفراد من الفساد، ووقاية المجتمع من الفوضى، لأن التربية الأمنية تبدأ في نطاق الأسرة أولا، ثم المدرسة، ثم المجتمع، فالأسرة هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل الحق والباطل، والخير والشر، ويكتسب تحمل المسئولية، وحرية الرأي، واتخاذ القرار، كل هذه القيم وغيرها يتلقاها الطفل في سنيه الأولى، دون مناقشة، حيث تتحدد عناصر شخصيته، وتتميز ملامح هويته ، وإذا لم تتهيأ الفرصة بشكل كاف داخل الأسرة لتعلم هذه القيم، فإنه يتعذر عليه بعد ذلك اكتسابها لكي تكون جزءا من سلوكه .

ومما لاشك فيه أن مسئولية أمن الوطن تقع على عاتق كل من يعيش على أرض الدولة من مواطنين ومقيمين ؛حيث إنهم هم الذين ينعمون بالراحة والطمأنينة فيه ، وبالطبع فإن المسئولية الأولى تقع على الأسرة ؛باعتبارها البوتقة التي يخرج منها المواطن الصالح ؛ لذا يجب على الأسرة أن تعي دورها تمامًا تجاه أمن المجتمع ، وأن تقوم بدورها من خلال تنشئة أولادها على حب الوطن وحفظ أمنه واستقراره.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

سماحة الإسلام ونبذه لكل مظاهر العنف

أولا : العناصر :

1-           الإسلام دين اليسر والسماحة.

2-           من مظاهر السماحة في الإسلام.

أ- سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله عز وجل.

ب-  سماحة الإسلام في يُسْر العبادات.

ج - سماحة الإسلام في المعاملات.

3-           سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين.

4-           أثر سماحة الإسلام في جوانب الحياة.

  ثانيًا : الأدلـة :

     الأدلة من القرآن الكريم :

1-     قال تعالى:{يرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [سورة النساء: 28].

2-     وقال تعالى:{ ...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...} [سورة البقرة : 185).

3-  وقال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159].

4-  وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].

5-     وقال تعالى:{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 43، 44 ].

6-     وقال تعالى:{لا يُكلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها مَا اكتَسَبَتْ...} [البقرة:286].

7-     وقال تعالى : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:280].

8-     وقال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...}[البقرة: 256].

 

الأدلـة من الســنة :

1-  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (رواه البخاري).

2-  وعَنْ أَنَسٍ بن مالك (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( يَسِّرُوا  وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا) (رواه البخاري ومسلم).

3-  وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَهُ وَمُعَاذًا (رضي الله عنهما) إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : ( يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا ) (رواه الشيخان).

4-  وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : َقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ...) (رواه أحمد).

5-  وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ). (رواه مسلم).

6-  وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) (رواه مسلم). 

7-  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ) (رواه مسلم).

8-  وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ :  (رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري).

9-  وعن أبي حُذَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): ( تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ ، قَالَ : قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ) ( رواه البخاري).

10-وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري) .

ثالثًا: المـــوضــــــوع:

          لما كان الدين الإسلامي هو خاتم الأديان فإن الله - عز وجل - حباه بخصائص تؤهله لأن يكون دينًا صالحًا لكل زمان ومكان ، ومن أبرز تلك الخصائص وأجلّها : السماحة واليسر في كل شأن من شئون الحياة. 

إنه دين عظيم بأحكامه وتعاليمه ، يتميز بالسماحة في تعاليمه وفى تعاملاته ، سماحة في عقيدته وعباداته ومعاملاته وآدابه وسائر تشريعاته ، سواء مع المسلمين أو غير المسمين ، فلم يجبر أحدًا على اعتناقه ، ولم ينتشر بحد السيف كما يقال هذه الأيام ، إنما انتشر بتعاليمه السمحة وأخلاقه الكريمة وقيمه النبيلة ، وانتشر بأخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من بعده ، مما يبرهن على أن الإسلام بريء من العنف والإرهاب والتطرف ، وأنه دين اليسر والسماحة والتلطف.   

ولم تعرف البشرية نظامًا ولا دينًا اشتملت مبادئه على السماحة واليسر كالإسلام ؛ لأن تعاليمه تتفق وطبيعة الإنسان ، لا حرج فيه ولا مشقة، ولا شدّة فيه ولا تعسير ، ومن ينظر في كتاب الله تعالى وفي سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) يجد أن اليسر والسماحة من خصائص هذا الدين ، يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {يرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } [النساء : 28 ] ، ذلك ما أراده الله تعالى لهذه الأمة اليسر والتخفيف، وتلك صفة الدين العامة ، قال تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة : 185].

ويؤكد الرسول (صلى الله عليه وسلم) على هذه المعاني في سنته الشريفة ، حيث أوصى باليسر والسماحة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (رواه البخاري). وعَنْ أَنَسٍ بن مالك (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( يَسِّرُوا  وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا) (رواه البخاري ومسلم).

وهكذا نجد أن تعاليم الإسلام التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمحة ميسرة لكل إنسان ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : َقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :     ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ... ) (رواه أحمد).

ومما لا شك فيه أن للسماحة والتيسير أهمية كبرى وأثرًا واضحًا في سرعة انتشار الإسلام وارتفاع رايته ودوام بقائه بين الأمم والشعوب التي اعتنقته ، فالتاريخ يشهد بأن سرَّ انتشار الإسلام واعتناق الناس له ، ودخولهم في دين الله أفواجًا  هو هذا المنهج الرباني المبني على السماحة واليسر ، وحسن المعاملة وعدم التعصب والتشدد ، أما صور التعصب الممقوت التي يساء فيها إلى الإسلام ، والتي تتجاوز أصل السماحة إلى الشدة والمشقة والعنت ، فإنها لا تدفع الناس إلى الدخول فيه ، بل تدفعهم إلى النفور منه ، أو التفريط في بعض تعاليمه.

وتفاديًا من الوقوع في هذا الجانب السلبي وصَّى النبي (صلى الله عليه وسلم)  معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري (رضي الله عنهما)حينما أرسلهما داعيَيْن إلى اليمن ، وقال لهما: ( يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا ) (متفق عليه).

بهذه النظرة الإنسانية وما فيها من محبة وتسامح ساد الإسلام وارتفعت رايته ؛ لأنه جاء بما يتوافق مع فطرة الإنسان وبما جبلت عليه العقول السليمة من حب الخير للناس أجمعين، وإذًا فليس في ثقافة الإسلام ولا تعاليمه ما يدعو إلى العنف والكراهية.

        وتتجلى سماحة الإسلام  في مظاهر كثيرة ، منها:

    السماحة في الدعوة إلى الله – عز وجل –: فالإسلام دين الناس قاطبة ، وبه بعث الله كل الأنبياء ليُبلغوه للناس ، فهو أصل رسالتهم ، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم ، فإنهم متفقون على أن الأصل الأول هو التوحيد.

ومن مظاهر سماحة الإسلام في الدعوة إلى التوحيد : أن الله تعالى امتنَّ على نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالشفقة واللين ، فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...}[آل عمران: 159].

ويتجلى هذا التسامح كذلك في مخاطبة أهل الكتاب بالأسلوب الراقي الجميل ، قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].

ويتضح هذا الأسلوب اللين السمح – أيضا- في أمر الله تعالى نبييه موسى وهارون (عليهما السلام) بإلانة القول لفرعون في دعوتهما له ، فقال تعالى : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]. ولذا قال الخليفة المأمون لما عنّفه واعظ : ( يا رجل ارفق؛ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق). 

وإلى هذا النهج رغَّب النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بقوله : ( إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ).. (رواه مسلم ) ، بل دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن رفق بأمته بقوله: ( اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ). (رواه مسلم ) . 

          كذلك تتجلى سماحة الإسلام ويسره في العبادات : حيث جاء بتنظيم العلاقة بين العبد وربه بالعبادات التي تزكي النفوس وتطهر القلوب ، والتي تمتازُ باليُسْرِ والسُّهولةِ ؛ لأنها مَشروطةٌ بالقُدْرة على أدائها ، مع مُراعاةِ الحالاتِ المُختلفةِ عند القصور أو العَجْزِ ، وهذا مِن تَجلِّياتِ السَّماحةِ التي لا يُجارَى فيها الإسلامُ ولا يُبارَى، ولعلَّ مِن أشهر القواعدِ الفقهيَّة التي بُنيتْ عليها الأحكامُ التَّشريعيَّةُ ( الضَّرُوراتُ تُبِيْحُ المَحْظُوراتِ ) ، و(لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ).

وقد حافظ الإسلامُ على وصف السَّماحة لأحكامِهِ ، وأقامها على التَّيسير ورَفْعِ الحَرَج ودَفْعِ الضَّرَر، مُنْتهِجًا فيها أُصولَ التدرُّج في التَّشريع، مُراعاةً للطَّبيعة البشريَّة ، مُشرِّعًا مِن التَّكاليف ما تَحتمِلُهُ طاقةُ المُكلَّف ، وذلك مِن سماحة الدِّين واعتِدالِهِ ووَسَطيَّتِهِ ، قال تعالى:{لا يُكلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها مَا اكتَسَبَتْ}[البقرة:286].

          وإذا كان هذا الحالُ في العباداتِ فالنَّاسُ في المُعاملاتِ أحوجُ إلى السَّماحةِ واليسر، لذا جاء الإسلام بتنظيم المعاملات بين البشر بعضهم لبعض ليعيش الناس في أمن وعدل ورخاء ، ومن سماحة الإسلام وتيسيره أنه جعل الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما دل عليه الدليل ، والمُعاملاتُ الماليّةُ لها صُوَرٌ كثيرةٌ ومُتعدِّدةٌ، منها مُعاملاتُ البيع والشِّراء والدَّيْنِ والقُرُوضِ وغيرِ ذلك.

           ففي البيع والشراء حث النبي (صلى الله عليه وسلم) على السماحة ، حيث قَالَ :

(رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري) ، ففي الحديث : حث على السماحة في المعاملة واستعمال مكارم الأخلاق وترك المشاحنة ، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم. فينبغي أن يكون المسلِمُ سَمْحًا في بيعه وشرائه.

ومن سماحة الإسلام: أنه راعى المصالح والظروف، ورفع المشقة والحرج عن الناس في البيوع ، إذ قد يقع البيع فجأة من غير تأمل ولا نظر، فيحتاج المتبايعان أو أحدهما، إلى التريث والتروِّي في أمره، من أجل ذلك أعطى الإسلام طرفي البيع فرصة ومهلة للنظر في مصلحتهما من تلك الصفقة ؛ فشرع لهما الخيار في البيع ، لاختيار ما يناسب كلاً منهما من إمضاء البيع أو فسخه ، فعن حكيم بن حزام (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ، أو قال:حتى يتفرقا ، فإن صدقا وبَيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ).(رواه البخاري) .

كما حثَّ الإسلام على السماحة في القرض وإنظار المعسر ، قال تعالى :{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]. وفي ذلك يقول (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ ).(رواه مسلم).

كذلك رغَّب النبي (صلى الله عليه وسلم)  في التجاوز عن المعسر ، فعن أبي حُذَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): ( تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ : قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ) (رواه البخاري) ، وفي صحيح مسلم ، عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأنصاري (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَكَانَ مُوسِرًا ، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ ، قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ ).

وكما راعى الإسلام السماحة بين المسلمين ، راعى السماحة في معاملة غير المسلمين ، فلم تقتصر سماحته على المسلمين فحسب، بل شملت غير المسلمين ، حتى في حالة الحرب، فنهى عن قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، فعن بريدة (رضي الله عنه) قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ،)(صحيح مسلم).

          ومن صور السماحة في الإسلام: أنه كفل الحرية لكل فرد، فلا إكراه لأحد في دخول الإسلام إلاّ بعد القناعة التامة بهدايته، قال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...}[البقرة: 256].

كذلك من صور سماحة الإسلام مع غير المسلمين: أنه حرّم التعرض بالأذى - بالقول أو الفعل - لكل معاهد أو مستأمن دخل ديار الإسلام ، ووعد وأغلظ في العقوبة لمن تعرض لهم بالأذى ، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ).

وكذلك من صور سماحة الإسلام مع غير المسلمين: أنه أوجب على المسلمين سلوك العدل في التعامل مع غيرهم ؛ ولم يجعل عدم دخولهم في الإسلام سببًا في ظلمهم أو خيانتهم ، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8].

ولو تتبعنا سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) لوجدنا فيها ضروبًا من التسامح والموادعة  فكان (صلى الله عليه وسلم) مثالاً للكمال البشري في حياته كلها ، مثالًا للكمال في علاقته بربه ، وفي علاقته بالناس كلهم بمختلف أجناسهم وأعمارهم وألوانهم ، مسلمين وغير مسلمين.

 وقد تجلّت روح التسامح عند النبي (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفَتْحِ حين قال: ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ). (مسلم). وما أروع قوله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح لمن ناصبوا له العداء وكانوا حربا على الدعوة  : (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .

وقد أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالقبط خيرًا ، حيث قال: (إِذَا فَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا) (رواه الطبراني في المعجم الكبير) . وفي صحيح مسلم عن أَبي ذَرٍّ (رضي الله عنه) قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ).

لم تكن هذه الأخلاقُ العظيمةُ في الإسلام شِعارًا فَضْفاضًا ، ولا قِيَمًا خالية مِن مَضامِينها الإنسانيَّةِ ، بل كانت حركةً نابضةً بالحياة جَسَّدَها الرَّسولُ الكريمُ (صلَّى الله عليه وسلَّمَ) في قٌدوَتِهِ لنا بصورةٍ مُضيئةٍ ، فقد آذته قريشٌ في معركة أُحُد ، وجمعت جهدَها لقتْلِهِ ووَأْدِ دعوتِهِ، وخرج من المعركة جريحًا وقد كُسِرت رَباعيَّتُهُ وشُجَّ وجهُهُ الكريمُ، فقيل له: يا رسولَ الله ادْعُ على المُشركين، فقال: ( إنِّي لم أُبْعَثْ لَعّانًا وإنَّما بُعِثْتُ رحمةً (رواه مسلم).

          إنَّ رحمتَهُ (صلَّى الله عليه وسلَّمَ) وشفقتَهُ العظيمةَ وسماحَتَهُ القلبيَّةَ هي التي تغلِبُ في المواقف العصيبةِ ، التي تبلغُ فيها المُعاناةُ أشدَّ مراحلِها ، وهذا ما بَرزَ واضحًا حين ذهب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف يدعو الناس إلى الإسلام ، إلا أنهم رموه بالحجارة وأدموا قدمه الشريفة، فرجع (صلى الله عليه وسلم) و هو مهموم ، فأرسل الله تعالى له جبريل (عليه السَّلامُ) ومعه ملك الجبال ، فقال له جبريلُ : ( إنَّ اللهَ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لكَ وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللهُ إليكَ مَلكَ الجِبالِ لتأمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فناداني ملك الجِبال فسَلَّمَ عليَّ، ثمَّ قال: يا مُحمَّدُ ! إنْ شِئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأَخشَبَيْنِ. فقال النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): (بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به شيئاً( (متفق عليه). هكذا نظر رسول الله إلى قومه بنور الإسلام وسماحته.

وعلى نهجه (صلى الله عليه وسلم) سار الصحابة (رضي الله عنهم ) ، فهذا أبو بَكرٍ الصِّدِّيقِ ( رَضِيَ اللهُ عَنهُ ) كَانَ يُنفِقُ عَلَى مِسطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنهُ وَفَقْرِهِ - فَلَمَّا وَقَعَ المُنَافِقُونَ في عِرضِ ابنَتِهِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنهَا ) وَكَانَ مِسطَحٌ فِيمَن وَقَعُوا- قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[النور:22] فَقَالَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ: (بَلَى وَاللهِ، إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا) (صحيح البخاري).

إِنَّ أَعظَمَ السَّمَاحَةِ وَأَعلَى دَرَجَاتِهَا، أَن يَتَسَامَحَ المَرءُ مَعَ مَن أَسَاءَ إِلَيهِ، أَو جَحَدَ فَضلَهُ وَنَسِيَ مَعرُوفَهُ.

تلك نماذج من صفحات التاريخ الإسلامي ، والتي تنمّ عن يسر الإسلام وسماحته، وكم لها من آثار في جميع الجوانب التي تؤدي إلى المحبة والتآلف ونبذ العنف والتنافر.

إننا بحاجة إلى خلق السماحة لنطهّر بها أنفسنا من الغلّ والشحناء ـ والمنازعة والبغضاء، ونرسم في مجتمعاتنا شعائر المحبّة والإخاء .حتّى إذا أصرّت فئة أو طائفة على خلاف ذلك وجدت في مجتمع المؤمنين رفضا عمليا لأخلاق الجفاء، واستنكارا جماعيا لموارد الهلكة والشحناء.

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

دعوة الأنبياء والرسل للإصلاح في ضوء القرآن الكريم

أولاً : العناصر:

1.     الإسلام دين الصلاح والإصلاح.

2.     نماذج من دعوات الأنبياء والمرسلين للإصلاح في القرآن الكريم.

3.     حاجتنا إلى إصلاح النفس أولاً.

4.     أثر الإصلاح على الفرد والمجتمع.

5.     أضرار ترك الإصلاح.

 

 

 

ثانياً :الأدلة :

الأدلة من القرآن الكريم :

1-       قال تعالى :{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأنعام : 48]. 

2-       وقال تعالى على لسان شعيب (عليه السلام):{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود : 88 ] . 

3-       وقال تعالى على لسان شعيب (عليه السلام):{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[الشعراء: 181- 183] .

4-       وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف : 56].

5-       وقال تعالى:{ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف :142].

6-       وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام: 151].

7-       وقال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود : 117] . 

8-       وقال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}[القصص: 59].

9-       وقال تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].

10-  وقال تعالى :{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 14].

11-  وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال :1].

الأدلة من السنة :

1-   عَنْ زَيْدِ بْنِ مِلْحَةَ (رَضِيَ اللهُ عنْهُ ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قال : (... إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفَسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي) (سنن الترمذي). ‍‍‍‍

2-   وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ (سنن الترمذي) ، وفي رواية قَالَ: (هِيَ الحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ).

3-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يَقُولُ: (اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) (صحيح مسلم).

4-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) (البخاري ومسلم).

5-   وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو أَيُّوبَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (يَا أَبَا أَيُّوبَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يُحِبُّهَا اللهُ وَرَسُولُهُ؟ تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَبَاغَضُوا، وتَفَاسَدُوا) (المعجم الكبير للطبراني).

6-   وعن أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال : قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَليغرسها) (رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد).

ثالثاً : الموضوع :

من القيم الإسلامية التي حث عليها ديننا الحنيف ونادى بها قيمة الصلاح والإصلاح ، فهو خلق عظيم تسعد به النفس البشرية وتميل إليه ، وهو قيمة إنسانية لابد منها لتحقيق عمارة الكون، وهو  أيضا مطلب شرعي يدور معناه حول إزالة أسباب الفساد والشقاق ، والسعي للتقارب بين الناس حتى تستقيم أحوالهم في الحياة.

ولا شك أن الصلاح والإصلاح هو الغاية المنشودة من العباد في أعمالهم وأقوالهم ، فبغير الصلاح لا يُقبَل العمل ، ومن ثمَّ فلا بد أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه وقوله وعمله ، مُصلحًا يحمل هموم الخلق ، ويعمل على إصلاحهم.

ومن يتدبر آيات القرآن الكريم يجد أنها عُنيت بهذه القيمة العظيمة ــ قيمة الإصلاح ــ عناية فائقة ، فقد ورد لفظ الإصلاح بمشتقاته في القرآن الكريم نحو مائة وسبعين مرة ، والإكثار من ذكر الشيء دليل على العناية به ، وعلى علو شرفه وعظم مكانته ، فوردت مادة (صلح) بمعاني متعددة تدل في مجملها على أن الإسلام يهدف إلى إصلاح الإنسان في اعتقاده وسلوكه وعباداته ومعاملاته وسائر حياته.

ولقد ربط القرآن الكريم بين الإيمان بالله (عز وجل) والإصلاح في مواضع متعددة وفي ذلك إشارة إلى أن الإصلاح من علامات الإيمان بالله (عز وجل) ، قال تعالى:{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأنعام:48]. وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال :1].

وكذلك ربط القرآن الكريم بين التقوى والإصلاح ، فقال تعالى:{فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأعراف:35]، وربط - أيضًا - بين التوبة والإصلاح ، فقال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا}[البقرة:160] ، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا}[النساء:16] ، وقال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5] ، فالإصلاح إذًا هو ثمرة الإيمان بالله (عز وجل) والتقوى والتوبة النصوح الخالصة لرب العالمين.

كما رغب القرآن الكريم في الإصلاح لما فيه من الأجر العظيم ، قال تعالى:{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء : 114].

وإذا تتبعنا أخبار الأنبياء والرسل مع أقوامهم وجدنا أنهم أرسلوا جميعًا ليصلحوا ما أفسده الناس في الأرض ، فكانت رسالة كل الأنبياء واحدة ، وهي إصلاح الكون من الفساد والمعاصي، ومن الأمراض التي تفشت فيهم ، جاء كل نبي ليصلح فسادًا قد انتشر في زمانه،  فأرسلهم الله (عز وجل) إلى خلقه مبشرين ومنذرين بعقيدة وشريعة وأخلاق تصلح النفوس وتجردها من دنس الشرك ، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء :25] ، وجاءت دعوتهم لتصلح عمل الإنسان في الدنيا لينال رضا ربه           في الآخرة.

فهذا نوح (عليه السلام) دعا قومه إلى إصلاح أنفسهم بدين الله فيعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ويتركوا عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع من يعبدها ، قال تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}[نوح :23،24] ، ورغبهم في الإصلاح بالاستغفار حتى يكثر الرزق ، وينعم الله عليهم بالمال والولد ، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح :10- 13].

وها هو خطيب الأنبياء شعيب (عليه السلام) يعالج الفساد العقدي وما ترتب عليه من فساد اقتصادي في قومه ، فيدعوهم إلى عدم التطفيف في الكيل والميزان ، وكان هذا الخلق المذموم منتشرًا بين قومه ، فجاء بدعوة الإصلاح التي تحفظ حق البائع والمشتري ، فقال تعالى  على لسان شعيب - عليه السلام-: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}[هود:٨4- 85] ، ثم بين لهم حقيقة دعوته وأن جوهرها هو الإصلاح ، فقال (عليه السلام) :{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: 88] ، وفي موضع آخر نجد عزمه (عليه السلام) على إصلاح ما أفسده قومه في الأرض من نقصان في الكيل والميزان ، فيقول لهم:{ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[الشعراء: 181- 183] .

ولنا أن نلحظ ملحظًا دقيقًا في قول سيدنا شعيب (عليه السلام) وهو ينادي بالإصلاح فيقول :{وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، فقد بين أن هناك مقصدًا عظيمًا لا بد وأن يراعى عند كل مصلح ، وهو استحضار قيمة الإخلاص في الإصلاح.

إنه إصلاح لا يريد من خلاله تحصيل مصالح ومآرب شخصية ، ولا ينطلق من بواعث ونوازع نفسية أو من صراع شخصي ، إنما هو إصلاح يعود بالنفع العام على سائر أفراد المجتمع.

وهذا نبي الله صالح (عليه السلام) ينادي قومه فيقول : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}[الشعراء:150-152].

          وعندما استخلف موسى (عليه السلام) أخاه هارون (عليه السلام) في قومه أوصاه بالإصلاح وعدم اتباع سبيل المفسدين ، قال تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[ الأعراف : 142].

وجاء نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) ليستكمل دعوة الإصلاح في جميع مناحي الحياة دينياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ، التي بدأها من سبقه من الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ، وبنظرة عميقة في حياته وسيرته نجد أنه (صلى الله عليه وسلم) بنى حضارة إسلامية مرتبطة بالقيم والأخلاق ، بعد أن كان المجتمع ملوثًا بمفاسد أخلاقية كثيرة ، كالزنا والسرقة ، والقتل والربا ، وأكل أموال الناس بالباطل وأكل مال اليتيم ، وغيرها من الفواحش والمنكرات ، لكن رسول الله قابل كل هذه المشكلات بالمنهج الإصلاحي ، فكانت دعوته (صلى الله عليه وسلم) هي دعوة حياة وإصلاح للفرد والمجتمع ، قال تعالى:{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[الأنفال: 24]. ففي الجانب الديني : جاءت دعوته (صلى الله عليه وسلم) لإصلاح النفس بالدين ، فبينت أن الله واحد لا شريك له ، وأقامت الأدلة على وحدانيته وصدق رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وفي جانب إصلاح السلوك دعا (صلى الله عليه وسلم) إلى حسن الخلق ، وبين أنه جوهر الدعوة ، فقد روى البيهقي في سننه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ ).

كما دعا (صلى الله عليه وسلم) إلى القيم والمبادئ الإنسانية التي يتحقق بها إصلاح المجتمع ، والحفاظ على وحدته وقوته وتماسكه وترابطه، لكي تعيش البشرية في سلام وصفاء ،    لا نزاع ولا شقاق ، ولا عنف ولا إرهاب ، بعكس ما نشاهده على الساحة من العنف ، والإفساد في الأرض بالقتل والتخريب . 

ومن هذه القيم التي أجمعت عليها الشرائع السماوية كلها في سبيل الإصلاح : العدل، والتسامح، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة ، والصدق في الأقوال والأفعال ، وبر الوالدين ، وحرمة مال اليتيم ، ومراعاة حق الجوار ، والكلمة الطيبة ، وذلك لأن مصدر التشريع السماوي واحد، ولهذا قال نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) (صحيح البخاري) ، فقد تختلف الشرائع في العبادات وطريقة أدائها وفق طبيعة الزمان والمكان ، لكن الأخلاق والقيم الإنسانية التي تكون أساساً للتعايش لم تختلف في أي شريعة من الشرائع، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فأي شريعة  من الشرائع أباحت قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أو أباحت عقوق الوالدين ، أو أكل السحت ، أو أكل مال اليتيم ، أو أكل حق العامل أو الأجير ؟.

وأي شريعة أباحت الكذب ، أو الغدر ، أو الخيانة ، أو خُلف العهد ، أو مقابلة الحسنة بالسيئة ؟، بل على العكس فإن جميع الشرائع السماوية قد اتفقت وأجمعت على هذه القيم الإنسانية السامية ، من خرج عليها فإنه لم يخرج على مقتضى الأديان فحسب ، وإنما يخرج على مقتضى الإنسانية وينسلخ من آدميته ومن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها .

ولهذا قال ابن عباس (رضي الله عنهما) عن قوله تعالى :{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151، 153] " هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وهى محرمات على بني آدم جميعاً، وهن أم الكتاب - أي أصله وأساسه - من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار" .

ومن هنا فإن كل دعوة للإصلاح تخالف دعوة الأنبياء ، وتبتعد عن طريق الشرع ، فهي في الحقيقة دعوة للإفساد في الأرض.

ولقد ضرب النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) المثل الأعلى في الصلاح والإصلاح ، قولا وعملا، فكان من دعائه (صلى الله عليه وسلم) طلب الإصلاح في كل الأمور ، ومن ذلك قوله : (اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ ) (صحيح مسلم) ، فكان يقوم بالصلح بين الناس بنفسه ، ويسعى إليه ترغيباً فيه ودرءًا للفتنة وإزالة للخلافات ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِذَلِكَ ، فَقَالَ: (اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) (رواه البخاري في صحيحه) .

إن الصلاح والإصلاح هما الحصن الحصين لبقاء المجتمع وتقدمه ، فنحن بحاجة إلى إصلاح النفس أولاً وتطهيرها إصلاحاً يشمل مجالات الحياة المتنوعة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا ، فإصلاح النفس مطلب شرعي وواجب ديني.

وإن من الإصلاح أن يعي الفرد ما له وما عليه ، فلا يعتدي على حقوق الآخرين ، وأن يدرك الفرد واجباته فيقوم بها خير قيام ، فإن استقامته وتزكية نفسه على المكارم والأخلاق الفاضلة ، وصرفه وانتهاءه عن الانحراف والإفساد في الأرض والظلم وامتلاء قلبه بالشحناء والبغضاء ، فهذا هو عين الإصلاح ، فكل إنسان يحقق استقامةً مع نفسه ومع ربه ومع بني جنسه ومع الكون فهو الإنسان المتحقق بالصلاح في نفسه ليكون صالحًا لغيره ، فكأن تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة هو وسيلة الإصلاح التي تمنع من الظلم والإثم والوقوع فيما نهى الله عنه ،  والعمل على تعمير الأرض واستخراج كنوزها وأسرارها التي تأتي بالنفع العام للمجتمع.

فبالإصلاح تكون الألفة لا الفرقة وهو عينه ما يدعو إليه القرآن الكريم. بالإصلاح تنعكس قيم الرحمة والتسامح والعفو على أفراد المجتمع ومن ثم الأمة كلها ، وبالإصلاح ننبذ بذور العنف والكراهية والحقد والبغض.

          ولا يتوقف الإصلاح على وقت معين ، بل لا بد وأن يسعى الإنسان للإصلاح حتى آخر نفس في حياته ، وإلى ذلك أشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه       أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إنْ قَامَت السَّاعةُ وَفِي يَد أَحَدِكُم فَسِيلةٌ  فَإنْ استَطاعَ أنْ لَا تَقُومَ حَتى يَغرِسَهَا فَليَغِرسْهَا) (رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد ).

جدير بالذكر أن الإصلاح لن يتحقق ولن يؤتي ثماره إلا إذا بدأ الإنسان بنفسه ثم بأسرته ثم بمجتمعه، فإصلاح المجتمع واجب لا بد منه لتستقيم الحياة وتنعم البلاد بالأمن والعمل والتقدم ، وتحل المودة والمحبة بين الناس ، والصالح المصلح- الذي يبذل جهده وماله ليصلح بين المتخاصمين- دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: ( إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفَسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي) (سنن الترمذي) .

إن للإصلاح أثارًا عظيمة على الفرد والمجتمع ، منها : تحقيق الحياة الطيّبة ، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97].

ومنها: النجاة من الهلاك والدمار ، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود:117].

 ومنها: وراثة الأرض ، فوراثة الأرض مشروطة بمهمة الإصلاح ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء: 105].    

ومنها تحقيق ولاية الله عز وجل ورعايته لعبده الذي أخذ بمبدأ الإصلاح ، وقام به على الوجه الأكمل ، قال تعالى :{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] .

          ومنها أيضا: حفظ الذرية ، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}[الكهف:82] ، فقصة بناء جدار اليتيمين في قصة موسى (عليه السّلام) مع العبد الصالح معروفة ، ولم تكن عملية بناء الجدار محض صدفة ، وإنما كانت أثراً لصَلاح أبيهما. عن ابن عباس (رضي الله عنهما) حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صَلاحاً .

          ومنها: أن الإصلاح يحقق الأمن من الفزع في الدنيا والآخرة ، قال تعالى:{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }[الأنعام:48 ]. وكذلك يجلب المغفرة والرحمة، قال تعالى :{ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [النساء: 129] .

          فالإصلاح إذا دخل على الشيء زينه وحسنه ، وهو خلق يحبه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، به تستقيم الحياة ، وتكون الأمة قوية متماسكة يعز فيها الضعيف ، وبه يتحد المسلمون وتجتمع كلمتهم ، وتسود بينهم المحبة والمودة ، وهو دليل أخوة الإيمان ، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات :10].

          وإذا ما فقدنا قيمة الإصلاح فسد المجتمع ، وانهدمت الأسر ، وعمت الفوضى ، واستشرى الفساد ، وانتهكت محارم الله ، واقتُرفت الشهوات بل انهدم المجتمع والدولة والحضارة ، فترك الإصلاح يؤدي إلى تعميم العذاب في الدنيا والهلاك المعنوي ،كالفقر والذلة والهوان.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

استثمار الطاقات والإمكانات المعطلة

أولا : العناصر:

1-  إعمار  الأرض مقصد شرعي.

2- أهمية استثمار الطاقات والمواهب المعطلة.

3- نماذج من القرآن الكريم  والسنة  المطهرة  لاستثمار الطاقات والإمكانات.

4-  من مظاهر تعطيل الطاقات والإمكانات.

5-  أثر استثمار الطاقات والإمكانات في نهضة الوطن .

   ثانيا : الأدلة

    الأدلة من القرآن الكريم:

1.  قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[الإسراء:70].

2.  وقال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود: 61].

3.  وقال تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15] .

4.  وقال تعالى :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف :55].

5.  وقال تعالى: {قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: ٩٤ – ٩٥].

6.  وقال تعالى:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: ٨٢].

7.  وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] .

8.  وقال تعالى :{ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ }[القصص:26] .

 الأدلة من السنة:

1.   عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ) (رواه مسلم).

2.  وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ ، فَقَالَ : (أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، قَالَ : ائْتِنِي بِهِمَا ، قَالَ : فَأَتَاهُ بِهِمَا ، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ ، قَالَ : مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثًا ، قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ ، فَأَتَاهُ بِهِ ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عُودًا بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ ، وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا ، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ) [رواه أبو داوود ] .

3.  وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ : ( هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ) ، فَقَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ:( إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) (صحيح مسلم ) .

4.  وعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) قال : ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَالَ: (يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ) (رواه أحمد).

ثالثا : الموضوع :

لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم وكرمه وفضله على سائر خلقه ، وهيأ الكون وسخر له ما فيه من شمس وقمر وبحار وأنهار  قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء:70 )، ومن مظاهر التكريم الإلهي للإنسان استخلافه في الأرض قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَة ً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة:30) ،  ومنحه من الإمكانات التي تعينه على هذا الاستخلاف .

وحدد ربنا للإنسان مهمة عظيمة على الأرض بجانب مهمة العبادة وهي مهمة إعمار هذا الكون ، واستخراج كنوزه وخاماته ، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(هود:61) ، أي : طلب منكم عمارتها وإصلاحها ، والنظر فيما أودع فيها من خيرات وما قدر فيها من أقوات وأمره بالسعي والأخذ بالأسباب وعدم الركون إلى الخمول والكسل، قال تعالى :{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك : 15] ، فالرزق نتيجة للسعي والعمل والكد ، كما أن الفقر نتيجة للبطالة والكسل.

ولقد وهب ربنا سبحانه كل إنسان بمجموعة من المواهب والإمكانات كي يحقق بها مراد الله عز وجل ، وبقدر إخلاص الفرد المسلم واستثماره لهذه  الإمكانات لصالح وطنه بقدر ما تكون الثمرة المرجوة خيرًا ورفاهية وسعادة للفرد وللمجتمع من حوله  ، وهذا يعتبر مقياسًا جيدًا يستطيع المسلم أن يقيس به مدى صدقه وإخلاصه وتفانيه لنصرة هذا الدين  ورفعة وطنه . 

وفي القرآن الكريم صور مضيئة ونماذج طيبة لمجموعة من البشر أنعم الله عز وجل عليهم ببعض النعم ، فاستغلوها لخدمة أممهم ، ولم يجعلوها قاصرة على ذواتهم ، ولم يعطلوها ،  فهذا نبي الله داود (عليه السلام ) ألان الله له الحديد ، فاستخدم النبي الكريم هذه الطاقة في صناعة الدروع وملابس الحرب والعتاد العسكري ليجاهد في سبيل الله عز وجل قال تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) [الأنبياء: 80 ].

وأعطى الله عز وجل سيلمان (عليه السلام ) نعمًا كثيرة  استطاع أن ينميها ويستثمرها في بناء حضارة لا زالت الدنيا تتحدث عنه محدثُا دمجًا بين كل الطاقات إلى نجاح مبهر تحدث عنه القرآن حين وقف (عليه السلام ) ينادي في الناس  متحدثًا بفضل الله عليه  :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: 16] ، سخر الله (عز وجل)  له الجن والطير والوحش ، فاستثمر هذه المواهب في مرضاة الله تعالى، واستثمر إمكانات الهدهد وهو أحد جنوده في إرسال الرسائل إلى ملكة سبأ ليدعوها إلى الحق ، واستثمر طاقة الجن في بناء الصرح الممرد من قوارير  الذي بهر عين ملكة سبأ فأسلمت لما علمت أن مُلكها لا يساوي شيئًا بجانب ملك سليمان المؤيد من عند الله  (عز وجل)  حتى الشياطين استثمر سليمان (عليه السلام) طاقتهم ومواهبهم ، قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [الأنبياء: ٨٢].

          وهذا ذو القرنين الذي طوى الله له الأرض فكان لا يمر على أمة من الأمم إلا دعاهم بدعوة الحق  قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ  فِى الاٌّ رْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً }[الكهف: 83ـ 84] .

ولما ورد على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس وإخلادهم إلى الكسل وتعطيل الفكر وتبديد الطاقة وأصبح حالهم الضعف والمسكنة لا حول لهم ولا قوة اشتكوا إليه من ظلم يأجوج ومأجوج ، وإغارتهم عليهم وإفسادهم لأموالهم وزروعهم وأنفسهم فماذا قالوا : { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف :94 ] ، فاكفنا شرهم يا ذا القرنين ولك الأجر والعطاء ، لكن المسلم الذي يندفع بروح الإسلام وقوة الإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى لا ينتظر الأجر من البشر إنما ينتظره من رب البشر سبحانه وتعالى ،  فذو القرنين الرجل الذكي الذي آتاه الله من القوة  والبصيرة  قدرًا كبيرًا سلك بهم طريقًا يستثمر من خلاله طاقاتهم المهدرة ومواهبهم المعطلة  وجعلهم يتعلمون كيف يعتمدون على أنفسهم ولا يعتمدون على غيرهم في قضاء مصالحهم فتحولوا بذلك أعوانًا له وليسوا عالة عليه .

إنهم كانوا في أمس الحاجة إلى من يملك إدارة استثمار مواردهم وطاقاتهم الموجودة بالفعل فيهم ، واستثمارها فيما ينفعهم ويصلحهم ويأخذ بأيديهم إلى المنعة والحصانة فضلًا عن التنمية والتقدم والرخاء.

       وفي السنة الشريفة أيضًا ما يدل على أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان يستثمر الطاقات والمواهب والإمكانات لنصرة الدين ولرفعة شأن الوطن وتحقيق  التنمية والرفاهية ،  فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَالَ: (يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ ) وفي رواية ) قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (تُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ إِنَّهَا تَأْتِينِي كُتُبٌ، قَالَ قُلْتُ: لَا ، قَالَ: (فَتَعَلَّمْهَا) فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا) ، وهكذا رأى النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ما يتمتع به هذا الغلام من الذكاء والفهم ما يستطيع من خلالهما خدمة دينه ووطنه ، فأمره أن يتعلم لغة اليهود قراءة وكتابة حتى يتمكن النبي (صلى الله عليه وسلم) من الرد على ما في كتبهم ورسائلهم.

وفي مجال القضاء على البطالة ومحاربة الكسل والدفع نحو العمل والإنتاج واستثمار المواهب والطاقات ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ، فَقَالَ : أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، قَالَ : ائْتِنِي بِهِمَا ، قَالَ : فَأَتَاهُ بِهِمَا ، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ ، قَالَ : مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثًا ، قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عُودًا بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ ، وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا ، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ.

فهذا يُعد من أروع الأمثلة لاستثمار الطاقات المعطلة ، فالسائل رجل من الأنصار تبدو عليه علامات الاستطاعة والقدرة على العمل ، ولهذا لم يبح له الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ) المسألة كما ذكر في آخر الحديث فهو ليس من الأصناف المذكورة التي يحل لها الصدقة،  والرجل لم يكن في بيته إلا حلس هو فراشه وغطاؤه معًا ، وكوب يشرب فيه الماء وهذان شيئان بلا شك ضروريان لكنهما إذا قيسا بالحاجة إلى الطعام كانت الحاجة إلى الطعام أولى ولهذا باعهما الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ليوفر له الأهم والأولى ،  وكأن رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)  يوجه رسالة إلى الأمة التي عطلت مواهبها وطاقاتها ، و يأمرها بالأخذ بكل وسائل القوة والعلم ويوجهها نحو الاستفادة المثلى من كل شيء يعود خيره ونفعه على الفرد والمجتمع .

وقد عقد النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) مجلس مزاد ليبيع ما يمتلكه الرجل ، وكان الثمن الفعلي للحلس والقعب درهم واحد ، وكان يكفي لطعامه لأن الرسول أعطاه درهمًا واحدًا لطعامه وطعام أهله والدرهم الثاني وهو يمثل دعم المجتمع المسلم لهذا الرجل لينشئ منه ثروة وطاقة تخدم المجتمع أو على الأقل يحسن تجنيدها والاستفادة منها. والدرهم الثاني ( والذي هو دعم من المجتمع للسائل) اشترى الرجل به القادوم وصار رأس مال هذا الذي جاء منذ قليل يسأل الناس ، فاستثمر طاقاته وأصبح فردا صاحب مال لا صاحب يد تمد وتسأل الناس.

فكل إنسان عنده من المواهب والطاقات ما يغنيه - لو استثمرها - عن ذل السؤال ،  قال تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }، و عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ )  ومن أجمل ما قاله الإمام مالك (رضي الله عنه) في المسألة وهو يرد على عبدالله بن عبدالعزيز العُمَرِي العابد حينما كتب إليه يحضه على الانفراد والعزلة ، قال الإمام مالك (رضي الله عنه ) : (إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد ،فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر).

إن الأمة اليوم لا ينقصها أعداد بشرية، ولا موارد مالية، ولا مساحات أرضية، ولا عقول فكرية، ولا إمكانات تكنولوجية، إنما ينقصها : استثمار الطاقات وترشيد الموارد ، والمحافظة عليها ، وهذا ما كان يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ويوجه الأمة إليه فيستثمر كل شيء فيه نفع يعود  بالخير  على صاحبه ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ). فَقَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ: ( إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ) (صحيح مسلم ) .

فحينما  ننظر في أحوال الأمة في هذه الأيام ندرك بعين البصر  أنَّ الأمة تعيش أزمة طاقات مهدرة، وجهود مبعثرة، وإن الحديث عن طاقات الأمة، وعما تمتلكه من إمكانات لهو غاية في الأهمية فإعادة الثقة هي الأساس في تشييد البناء ، كيف لا ؟! ونحن أمة العلم والعمل، والفقه والنضج، والتقدم والرقي، والحضارة فعلينا أن نستثمر ماضينا لبناء حاضرنا .

ولعل من أسباب إهدار الطاقات ضعف التربية  والبعد عن تعاليم الدين السمحة ، وإهمال المبدعين في كل المجالات . 

ومن مظاهر تعطيل الطاقات تجاهلها والغفلة عنها متمثلة في الثروة البشرية الهائلة والعقول العلمية والقوة الشبابية . ولكن: ما هو الطريق لاستثمار هذه الطاقات والإمكانات المعطلة ؛ لنحقق من خلالها الرخاء لوطننا الغالي مصر ولأمتنا ؟

          فعلينا الاهتمام  بالطاقات والكفاءات الموجودة في كافة التخصصات العلمية والاقتصادية والثقافية ووضع الطاقة المناسبة في موطنها المناسب  كما فعل يوسف (عليه السلام ) بمصر وقت القحط  لينجي أمته من هلاك محقق ، بعد أن أسند إليه ملك مصر إدارة هذه الأزمة لما رأى فيه من مواهب غير متحققة عند غيره ، {قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الاٌّرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55] .

وإننا لنؤكد على الاهتمام بما أودعه الله عز وجل في بلدنا من خيرات وموارد  فنقوم باستثمارها خير استثمار ؛ ليعود أثر ذلك خيرًا وبرًا ونماء ورخاء على بلدنا الحبيب ، وما مشروع قناة السويس الجديد عنا ببعيد الذي أثبت فيه المصريون بعد توفيق الله عز وجل أنهم قادرون على تخطي الصعاب والانطلاق نحو التقدم والازدهار  .

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

قيمة العمل بين بناة الأوطان ودعاة الهدم

أولًا  العناصر : 

1-  مفهوم العمل وقيمته في الإسلام  .

2-  إتقان العمل وسيلة لإصلاح المجتمع وتقدمه الحضاري.

3- دعوة القرآن الكريم إلى العمل .

4- مراعاة الحقوق والواجبات تقيم التوازن في حياة المسلم.

5- العمـل رسـالة . 

ثانيًا  :  الأدلة:

   الأدلة من القرآن الكريم :

1-       قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة : 9 ، 10].

2-       وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}   [الملك : 15] .

3-       وقال تعالى:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[ المزمل:20].

4-       وقال تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }[القصص: 77].

5-       وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 97].

6-        قال تعالى : {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[التوبة  : 105].

   الأدلة من الســنة : 

1-       عن المقدام (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) (أخرجه البخاري) .

2-       وعن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أَمْسَى كالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ).( المعجم الأوسط ).

3-       وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):( إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَليغرسها) (الأدب المفرد) .

4-       وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ) وفي رواية : ( إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن  ) (رواه البيهقي في الشعب).

5-       وكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (تفسير ابن كثير).

6-       وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَطْيَبِ الْكَسْبِ، فَقَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٌ) (رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير).

7-       وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا ، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ ، أَوْ إِنْسَانٌ ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ) (متفق عليه).

 

ثالثًا:  الموضـــــوع:

لقد نظر الإسلام إلى العمل نظرة توقير وتمجيد ، فرفع قدر العمل وقيمته وجعله سبيلا للرقي والتقدم، وجعله عبادة يثاب عليها ،وأصبح الكسلُ وترْكُ العمل نقصًا في حق الإنسان ، فقد حث القرآن الكريم من خلال آياته على السعي على المعاش و العمل، وجاء الأمرُ بالانتشار في الأرض طلبًا للرزق الحلال بعد الأمر بالصلاة يقول الله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة :10]، وكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15] .

وقد وردت في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة وستين آية تحدثت عن العمل، كما أن السنة النبوية المطهرة زاخرةٌ بنصوص الجدِّ والاجتهاد والحثِّ على العمل والبناء ، و ترك الخمول والكسل، وبينت أن العمل سبيل لحفظ ماء الوجه والرفعة والعزة، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه)، وكان سفيانُ الثوريّ (رحمه الله) يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟! قال: اطلُبوا من فضلِ الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.

          إنّ الحياة مزيج من الكفاح والتعب والعمل فلا مكان فيها للخاملين والمتخلفين عن ركب الحضارة الذين لا يبذلون من الجهد إلا القليل ثم ينتظرون أن تمنحهم الحياة نعيمها، وإذا أردنا الوصول إلى ذلك المستوى فلابد أن نبذل جهدًا مفيدًا من أجل الوصول إلى غاية هادفة، ومن يسعى على كسب معاشه ورزق أولاده من حلال فهو في درجة الشهيد أو المرابط في سبيل الله، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (المعجم الكبير للطبراني).

ومن القِيَم الخُلقيَّة المؤثرة في مجال العمل والإنتاج إتقان العمل ، ذلك أنَّ الإسلام يَحُضُّ على إحسان العمل وزِيادة الإنتاج والاجتهاد ، ويعدُّ ذلك أمانة ومسؤوليَّة في عنق العامل أو الموظف، فليس المطلوب في الإسلام القيام بالعمل فحسب ، بل لا بُدَّ من الإخلاص والإتقان  والإجادة فيه وأدائه بكل أمانة؛ فذلك سبب  للوصول إلى محبَّة الله  تعالى ، ومن أحبه الله هداه واجتباه،  وحفظه ووقاه وأسعده  في الدنيا والآخرة يقول النبي ( صلَّى الله عليه وسلَّم ) -: (إنَّ الله يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملاً أنْ يُتقِنه) (رواه البيهقي).

وبالعمل المتقن نتبوأ الصدارة بين الأمم، والله سبحانه وتعالى يحب اليد التي تعمل وتجدّ لتقدم الخير لنفسها ودينها ووطنها، وتقدم الأمة في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها الحصانة من الأعداء المتربصين بها ، والطامعين في ثرواتها وخيراتها، والناظر في آيات القرآن الكريم، وفي أحاديث رسولنا الكريم  (صلى الله عليه وسلم)، يرى العناية الكبيرة بكل ما يصلح حياة الإنسان  في دينه ودنياه ويصلح حياته ومماته .

والنجاح والإصلاح في الدنيا مرتبط بالعمل، فارتباط السعادة و الفوز بالعمل الصالح ليس مقصورًا على الآخرة وحدها ، فلا يخيب سعي  ساع ، ولا جهد مجتهد ، يقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا }[الكهف:30 ] ،  فمن عمل أُجر  ومن قعد حُرم. 

والإنسان هو أساس التنمية والتقدم والازدهار  بإتقان العمل،  فهو صانع التغيير والتطوير  بإذن الله تعالى، فلا تتحقق تنمية أو ازدهار إلا من خلال إنسان مبدع متقن فاعل منظَّم ، ولا يتحقق نمو  ورخاء  إلا عبر مجتمع ناهض، والأوطان لن تتجاوز تخلفها إلا إذا استثمر أبناء الوطن  قدراتهم في الإبداع والعمل والبناء ، فلا بد من تعزيز إرادة العمل  ببذل أقصى الطاقة والقدرة   من أجل بناء الوطن، وصناعة  المستقبل الأفضل والعيش الرغيد  .

وقد حثَّ الإسلام على الاحتراف والعمل والإنتاج ، ورغَّب فيه وشجّع عليه ، وصغَّر مِن شأن مَن يتهاون به، أو يحتقره ، ومما يدل على ذلك أن القرآن الكريم دعا إلى الصناعات التي هي من مقومات الحياة  كصناعة الحديد وما فيها من فوائد في الحياة  ، قال الله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[الحديد: 25]، فمن الحديد نصنع الدروع وهي مهنة داوود (عليه السلام) قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ‌فِي السَّرْ‌دِ}[سبأ:10 ، 11]، ومن الصناعات  التي لا يستغني عنها الإنسان صناعة الملابس والكساء: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}[النحل: 80] ، وقال تعالى في صناعة الكساء: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } [النحل:81]، وقال سبحانه في صناعة الجلود: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}[النحل: 80].  

وقال في حق نبي الله نوح ( عليه السلام ) في صناعة السفينة: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[المؤمنون: 27] ، وقال تعالى في البناء السكني: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا}[الأعراف: 74].

وقد حث الإسلام المسلم على أن يكون في حياته عاملا معطاء  ومعمرًا في  الأرض حتى يدركه الموت أو تأتيه الساعة قال (صلى الله عليه وسلم )  : ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)(مسند أحمد ).

وقد كان النبيُّ ( صلَّى الله عليه وسلَّم ) يعمل بنفسه، ويقوم على خدمة أهله  ، قالت عائشة (رضي الله عنها): )كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وسلَّم ) يَخصِفُ نعله، ويَخيط ثوبَه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدُكم في بيته)(أخرجه  أحمد والترمذي).

فالإسلام لم يدعُ إلى  العمل ، أي عمل فحسب ، وإنما يطلب الإجادة والإتقان ، وذلك مع ضرورة مراقبة الله عز وجل في السر والعلن ، فإنه من الصعب بل ربما كان من المستبعد أو المستحيل أن نجعل لكل إنسان حارساً يحرسه ، أو مراقباً يراقبه ، وحتى لو فعلنا ذلك ، فالحارس قد يحتاج إلى من يحرسه ،  والمراقب قد يحتاج إلى من يراقبه ، ولكن من السهل أن نربي في كل إنسانٍ ضميرًا حيًا ينبض بالحق ويدفع إلى الخير ، لأنه يراقب من لا تأخذه سنة ولا نوم ، وفي حديث جبريل الطويل حين سأل النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك )  (متفق عليه).

وللتأكيد على أهمية العمل دعانا الإسلام إلى أن نعمل الى آخر لحظة من حياتنا حتى لو لم ندرك ثمرة هذا العمل ، وما ذلك إلا  لبيان قيمة العمل وأهمية الإنتاج للأفراد والأمم ، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه ) قال:  قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَليغرسها )  (الأدب المفرد ) .

فإتقان العمل وإحسان أدائه من الواجبات الشرعية التي دعا إليها الإسلام  ، فعن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ) (رواه البيهقي في الشعب ).

ومن القِيَم التي ينبغي الالتِزام بها في العمل أو المهنة  الحرصُ على أداء الواجبات قبلَ المطالَبة بالحقوق، فهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه خُلُقُ المسلم ، سواء أكان عاملاً أم تاجرًا أم موظفًا أم زارعًا ، أم طبيبًا أم مهندسًا أم سائقًا فيؤدي ما عليه من واجبات، ثم يُطالِب بعد ذلك بحقوقه ، ذلك أنَّ  أداء الواجب هو في الحقيقة حقٌّ للطرف الآخر.

          ولا حق بدون واجب، ولا كسب بلا تعب وجهد ، فقد ربط الإسلام بين الحقوق والواجبات وبين المكاسب والتضحيات، وقد  حدد الإسلام ما  ينبغي على العامل أن يتحلي به من القيم الإيمانية والأخلاقية ، ومنها الإيمان بأن العمل عبادة وطاعة لله (سبحانه وتعالى)  وأن الله تعالى سوف يحاسبه يوم القيامة عن عمله قال الله تعالى :{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة: 91].

ومن هنا يتضح حرص الإسلام على السعي والاجتهاد ، شريطة أن يكون العمل في صالح البلاد والعباد، يقول الله تعالى للسيدة مريم حين جاءها المخاض وهي بجوار النخلة: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم 25]، فأمرها الله بالجد وبذل الجهد أولاً ، فيجب على  الإنسان ذكرًا كان أو أنثى  أن يسعى وينصب ؛ ليرزقه الله من فضله ونعمه  .

إن على أبناء المجتمع الواحد أن يعملوا متحدين ضد من يتهاون أو يهمل أو  يفسد أو يدمر أو يخرب  في بنيان مجتمعهم ، وأن يبحثوا عن الأعمال والمشروعات والحِرَف والصناعات التي تفتقد إليها بلادهم في كل مجال.

والعمل المفيد يٌجزى عليه صاحبه في الدنيا والآخرة ، فيصلح الله جميع أحواله ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ...) (رواه مسلم) ، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال – وكالقائم لا يَفتُر  وكالصائم لا يُفطِر ) (متفق عليه)  .

       فالعمل المفيد يريح النفس، ويسعد القلب ويُطيّب العيش، ويذهب الحزن والهم والقلق ؛ فالمسلم يجد فرحة ولذة  بعد إتمام  كل عمل صالح يعمله، وهذه السعادة لا تُباع ولا تُشترى، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[النحل: 97]  .

         ولا يستوي من يعمل صالحا ومن يعمل سيئًا أو يسيئ إلى غيره ، كما لا يستويان في الممات {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 21] .

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

الزكاة وأثرها في تحقيق التكافل الاجتماعي

أولا: العناصر:

1.     منزلة الزكاة وأهميتها في الشريعة الإسلامية.

2.     الحكمة من مشروعية الزكاة.

3.     الزكاة وتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي.  

4.     أثر التكافل في استقرار المجتمع.

 

ثانيا: الأدلة:

        الأدلة من القرآن الكريم:

1.     قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

2.     وقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

3.     وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة: 267].

4.     وقال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 274]. 

5.     وقال تعالى:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].

6.     وقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[سورة المائدة].

الأدلة من السنة النبوية:

1.   عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )(رواه مسلم).

2.  وعَنْ أَبِي مُوسَى (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :(إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ)(رواه البخاري).

3.  وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( بُنِيََ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)(متفق عليه).

4.    وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعث معاذًا (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إلى اليمن فقال له: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ  فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ) (مسند أحمد).

5.   وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِى سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِى حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِى حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِه ِ، فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ فُلاَنٌ، لِلاِسْمِ الَّذِى سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ، فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِى؟ فَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ صَوْتًا فِى السَّحَابِ الَّذِى هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ: أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)(رواه مسلم).

6.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْك)(رواه البخاري).

7.  وعن أبي هريرةَ (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( ما مِن يومٍ يصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان ، فيقول أحدُهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسكًا تلفًا)(متفق عليه).

8.  و عَنْ أَبِى ذَرٍّ (رضي الله عنه ) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( تَبَسُّمُكَ فِى وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِى أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِىءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِى دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ).(رواه الترمذي).

9.  وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: ( إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ، فَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا أَوْ جَهَدُوا فَبِمَنْعِ الْأَغْنِيَاءِ، فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ)(رواه البخاري).

ثالثا: الموضوع

إن الإنسان مدني بطبعه ، لا يستطيع أن يعيش وحده منقطعًا في صحراء ، أو منعزلاً     في كهف بل يعيش مع غيره في مجتمع واحد متماسك البنيان ، يتأثر به ويؤثر فيه، ويعطيه كما يأخذ منه، ولقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بالمجتمع الإنساني عامة ، من حيث تكريمه للإنسان وتحريره، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. وعناية الإسلام بالفرد هي في الأصل عناية بالمجتمع كله ، فالإسلام بمبادئه السامية وتشريعاته العادلة وأنظمته المحكمة وتوجيهاته الصادقة حقق للمجتمع أرقى صور التكافل بمفهومه الشامل.

وإذا كان الإسلام قد اعتنى بالمجتمع عمومًا ، فإنه أعطى عناية خاصة بالفئات الضعيفة فيه ، فأمر بالإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين وابن السبيل ، وحرص على أن تكون هذه الفئات سعيدة في حياتها ، مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة ، وأن حقوقها في العيش الكريم مضمونة ، ومن هنا فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة على عباده الأغنياء ، تؤخذ منهم وترد على فقرائهم.

إن الزكاة أحد أركان الإسلام ودعائمه ، فهي الركن الثالث من أركان الإسلام  ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ  ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ  : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (رواه البخاري).

وقد دل على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع ، قال تعالى :{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}[البقرة: 43].  وقال تعالى :{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأنعام: 141]. وقال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعث معاذًا (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إلى اليمن فقال له: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ  فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ) (مسند أحمد)، وعن أبي هريرةَ (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما مِن يومٍ يصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسكا تلفًا) (متفق عليه).

وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة: 34ــ35]. فكل مال لا تؤدى زكاته بعد وجوبها فيه فهو كنز يُعذَّبُ به صاحبه يوم القيامة.

ولأهمية الزكاة قرنها رب العزة (جل جلاله) بأعظم الفرائض وأجلها وأعلاها مكانة وهي الصلاة في القرآن الكريم في عشرات المواضع ، تعظيمًا لشأنها ، وتنويهًا بذكرها ، وترغيبًا    في أدائها ، وترهيبًا من منعها، أو التساهل فيها ، وتعدد ذكرها في القرآن الكريم بأكثر من لفظ ، تارةً بلفظ الإنفاق ، وتارةً بلفظ الزكاة ، وثالثةً بلفظ الصدقة ، ففي مطلع سورة البقرة يصف الله المتقين الذين ينتفعون بهدي كتابه فيقول :{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:3] .

          وفي موضع آخرَ من نفس السورة يقول سبحانه : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة: 110]. ويقول سبحانه لحبيبه ومصطفاه (صلى الله عليه وسلم ):{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة: 103].

وتمتاز فريضة الزكاة بمكانة رفيعة في الإسلام ، فمع أنها تُعد أحد أركان الدين ودعائمه فهي الفريضة التي تساعد في تحقيق التكافل الاجتماعي بين جميع أبناء المجتمع ، فهي لا تقدم طواعية من الأغنياء والقادرين ، بل تقدم على سبيل الإلزام من أجل تحقيق التكافل بين أفراد الأمة الواحدة ،  لقوله تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة: 103].

والحكمة من مشروعية الزكاة هي تطهير النفس المسلمة من رذيلة البخل والشح والشره والطمع ورفع الدرجات ومواساة الفقراء وسد حاجات المعوزين والبؤساء والمحرومين وطهرة للمال من الخبث وتنميته وحفظه من الآفات . فالزكاة المفروضة ليست في الإسلام نظام جباية ، بل لتحقيق مبدأ التكافل، وغرس مشاعر الحنان والرأفة وتوطيد العلاقات ، وتحقيق الألفة بين شتى الطبقات.

ولقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الحشر: 9]. وفي الحديث : عَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان).

وفي الجانب الآخر شرعت الزكاة طهارة لنفس الفقير من الحقد والحسد والضغينة، فتطهير النفس والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى، ومن أجل ذلك وسع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم ، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ ( رضي الله عنه ) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :( تَبَسُّمُكَ فِى وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِى أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِىءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِى دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ). (رواه الترمذي).

          فالزكاة تطهير للنفس البشرية ، وهي سبب لنماء المال وبركته ، وهذه حقيقة لا مرية فيها ، أكدها الكتاب العزيز ، والسنة النبوية المطهرة ، يقول تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] ، وفي الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال : ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عبدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ). (رواه مسلم في صحيحه). وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِى سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِى حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِى حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ فُلاَنٌ، لِلاِسْمِ الَّذِى سَمِعَ فِى السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِى؟ فَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ صَوْتًا فِى السَّحَابِ الَّذِى هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ: أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ) (رواه مسلم في صحيحه).

إن الزكاة لها فضائل مهمة ، وآثار اجتماعية عظيمة تتمثل في سدّ حاجة الفقراء ورفع الفقر عنهم ، ونشر المحبة بين أفراد المجتمع المسلم ، و تقوية أواصر المحبة والتراحم بينهم ، ومن ثمَّ رغَّب الله  في أدائها ، وأثنى على المزكِّين والمتصدقين بالفَلاَح والنجاح في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:1- 4]، ثمَّ  َوَعَدَهُم وِراثة الفِرْدَوس الأَعْلَى ، فقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10- 11].

          ولم تعرف الإنسانية نظامًا اهتم بالزكاة والصدقة مثلما اهتم بها الإسلام ، وفي كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) آياتٌ وحِكَمٌ تبين كيف يريد الإسلام تعميمَ الخير وإشاعةَ النعمة ، ومطاردةَ البأساء والضراء ، ورسم بسمة الرضا على كل وجه ، ومن هنا تأتي أهمية الزكاة من حيث شمولها لمعظم أفراد المجتمع ، وباعتبارها المنبع الأساسي الأوَّل لتغطية جانب التكافل والتعاون ، والترابط بين أفراد المجتمع الإسلامي ، تلك المعاني التي أمر بها القرآن الكريم ، قال تعالى :{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } قال الإمام القرطبي : هو أَمْرٌ لجميع الخَلْقِ بالتعاون على البِرِّ والتقوى ، أي لِيُعِن بعضكم بعضًا . وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبِرِّ وقَرَنَه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البرِّ رضا الناس، ومَنْ جَمَعَ بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمَّت سعادته وعمَّت نعمته.

وقال تعالى:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(البقرة: 177) ، فالنصوص السابقة تحث أصحاب الأموال وتذكرهم بأن لهم إخواناً من الأقارب واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب كل أولئك بحاجة ماسة إلى مدِّ يدِ العون لهم ليعيشوا حياة ناعمة في ظلال الإسلام الوارفة .

وتبين الآيات أن أصحاب الأموال إذا فعلوا ذلك فهم يحققون دعوة الإسلام التي جاء بها لتحقيق التكافل العام بين جميع أفراد الأمة وأبناء المجتمع ، ليعيش الجميع حياة آمنة هادئة ينعمون فيها بالأمن والرخاء ، والتعاون الصادق في ظل العقيدة الإسلامية السمحة

فشريعة الإسلام تفرض على أتباعها أن يَسُود بينهم التعاون والتكافل والتآزر في المشاعر والأحاسيس، فضلاً عن التكافل في الحاجات والمادِّيات ، حتى يكون المسلمون كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا كما أخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) فعن أَبِي مُوسَى (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ)(رواه البخاري). أو كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).

وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ (رضي الله عنه) قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ : فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):   ( مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ). قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ) (رواه مسلم).

هذه التوجيهات النبوية الصادقة التي تحث على التوادد والتراحم والتعاون وتؤكد على إعطاء فضل ما زاد عن ضرورات الإنسان المؤمن لهي أكبر دليل على حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على إيجاد مجتمع متكافل متوازن تسوده المحبة والإخاء ، ويهيمن عليه الإخلاص والوفاء ، ولقد تحقق للرسول (صلوات الله وسلامه عليه) ما أراد إذ تمثلت كل الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة في الرعيل الأول الذين تخرجوا من مدرسة النبوة وتربوا على يد هادي البشرية (صلى الله عليه وسلم).

والتكافل في الإسلام ليس مقصورًا على النفع المادِّي فحسب ، وإن كان ذلك ركنًا أساسيًّا فيه، بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع ، أفرادًا وجماعات ؛ مادِّيَّةً كانت تلك الحاجة أو معنوية أو فكرية، على أوسع مدى لهذه المفاهيم ؛ فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات داخل الأُمَّة.

إن تعاليم الإسلام كلها تؤكِّد التكافل بمفهومه الشامل بين المسلمين ؛ ولذلك تجد المجتمع الإسلامي لا يَعْرِف فردية أو أنانية أو سلبية، وإنما يعرف إخاءً صادقًا ، وعطاء كريمًا ، وتعاونًا على البِرِّ والتقوى دائمًا ، فالتكافل في الإسلام يثمر إيجاد مجتمع قوي متماسك متعاون ، يقوم على الحب والعطاء وفعل الخير للغير ، ومن ثم تستقيم العقيدة وتتجلى مكارم الأخلاق، أما إذا لم يطمئن الفرد في حياته ويشعر أن المجتمع الإسلامي يقف بجانبه ويؤمِّن له حاجاته الضرورية عند العجز أو الحاجة فلا تنتظر منه إلا الحقد والحسد والكراهية والبغضاء.

لقد أسس الإسلام مفهوم التكافل وفق منظومة رائعة جميلة تضمن الحياة الكريمة لكل فرد من المسلمين وليس هذا على حساب أحد دون أحد فالفائدة تعم الجميع في الدنيا والآخرة.

ومن ثم يتضح أثر الزكاة في دعم حياة المجتمع ، فهي تشيع فيه الأمن والاستقرار ، وتسهم في تحقيق رخاء الأوطان ، وتساعد على تحقيق التكافل الاجتماعي ، وتجسيد معاني التراحم بين أفراد المجتمع.

 

*    *      *

فهرس الموضوعات

 

الكلم الطيب وأدب الحوار

أولا: العناصر:

1.     قيمة الكلمة الطيبة وأثرها في استمالة النفوس.

2.     أهمية الحوار بالكلم الطيب في حياة الإنسان.

3.     آداب الحوار في الإسلام.

4.     نماذج من الحوار الإيجابي في القرآن.

5.     آفات وسلبيات تفسد الحوار.

    ثانيا: الأدلة:

           من القرآن الكريم:

1.     قال تعالى:{ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}[الروم: 22]. 

2.     وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

3.  وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

4.  وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }[إبراهيم : 24 ـ25 ].

5.     وقال تعالى:{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10]. 

6.  وقال تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل: 125]. 

7.  وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30].

8.     وقال تعالى:{قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود:32].

9.      وقال تعالى:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}[الكهف:37].

      

من السنة النبوية:

1.  عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ). (رواه البخاري).

2.  وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  عَنْ عَلِىٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  قَالَ : قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ فِى الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ). فَقَامَ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ ( لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) (رواه الترمذي).

3.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)(متفق عليه) .

4.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) (متفق عليه ).

5.  وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ) (رواه أبو داوود).

6.  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا) (رواه مسلم).  

7.  وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها ) أن النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) (رواه مسلم).  

ثالثا: الموضوع:

لقد خلق الله (عز وجل) الإنسان وصَوَّره في أحسن تقويم ، وكان من آيات الله (عز وجل) الباهرة في خلق الإنسان تنوع وظائف اللسان ، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}[الروم:22]. ونتج عن هذا التنوع في اختلاف الألسنة اختلاف في إدراك الكلام ــ مفهومه ومنطوقه ــ ، وهذا الاختلاف سنة من سنن الله (عز وجل) في خلقه ، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}{هود: 118 ــ 119}. فالخلاف بين الناس أمر طبيعي في حياة الناسِ ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، ولا يتمُّ إزالة هذا الاختلاف  إلا من خلالِ حوارِ هادفِ هادئ ، يقرِّبُ بين وجهاتِ النظرِ ، ويخاطب العقول بالكلم الطيب لتهتدي إلى طريق الخير والرشاد والصواب.

والكلم الطيب هو لغة الحوار الناجح ، لذلك ضرب الله (عز وجل) المثل به في القرآن الكريم بشجرة طيبة مثمرة ، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:24 ــ25]. وقال تعالى:{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر: 10]. وكان النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم) يحب الكلم الطيب بل ويشجع عليه ،  فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : (لاَ عَدْوَى ، وَلاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ:  كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ. ) (رواه البخاري). وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  عَنْ عَلِىٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)  قَالَ : قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّ فِى الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ). فَقَامَ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ) (رواه الترمذي).

وحسن القول وطيب الكلم من أهم أسباب التذكر والخشية وصلاح الأعمال ، ومغفرة الذنوب ، وبه تقطع أسباب الخصومة ، وتغلق أبواب الفتن ، وتشيع روح المودة والمحبة ، فالكلم الطيب جامع لكل خير في الدارين ، وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول الكلمة الطيبة لجميع الناس دون تفرقة  ، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...}[البقرة : 83] ، وقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء : 53]

فالكلمة عنوان الإنسان ، وبها تكاد تكونُ كلَّ شيء في حياة الإنسان ، فهي إما أن تبلغ بالإنسان أرقى الدرجات، أو تهوي به في أسفل الدركات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) .

والحوار  بالكلم الطيب يعد من أفضل الطرق التي تؤدي إلى إزالة المبهمات ، وهو وسيلة ضرورية للتواصل والتفاهم مع الآخرين ، ووسيلة من أعظم وسائل التعارف والتآلُف بين الناس ، ولا يخفى ما للكلمة من أثر  طيب في العلاقة بين الناس ، والحوار بالكلم الطيب هو أحد الطرق الموصلة إلى الرجوع إلى الحقّ ، وإضافة لكل ما سبق من أهمية الحوار فهو وسيلة لتهذيب النّفوس وتربيتها ، ولا غنى للناس عنه بأي حالٍ من الأحوال.

ومن أجل إعلاء قيمة الحوار وأهميته أدَّب الله (عز وجل) عباده في شخص رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم ) بما يكفل للحوار أن يؤتي ثمرته المرجوة من خلال هداية الخلق إلى الحق ، والمتدبر لآيات القرآنِ الكريمِ والسنة النبوية المطهرة يجد الكثير من النصوصِ التِي تُرشِدُ الأمة كلها إلَى أهميةِ الحوارِ بالكلم الطيب فِي حياةِ الناسِ ، وتُعلِّمُنَا أصول الحوار والمناظرة ، والأخذ بأسبابِ الإقناع ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، لأنَّ الهدف هو إقناعُ الآخر لعله يهتدي إلى الصواب وفْق آدابٍ وضوابطَ ينبغي مُراعاتها، ولا يكون ذلك إلا بالكلم الطيب ، يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، بل إن أهل الكتاب الذين يخالفوننا في أصول العقيدة وفروعها يأمرنا ربنا حين نحاورهم ونجادلهم أن يكون حوارنا بالحسنى والرفق واللين ولا يكون ذلك إلا بالكلم الطيب، فالرفق زينة الأشياء ، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أن النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ( إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ )(رواه مسلم)، ويقول (عز وجل):{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]،

وقَدْ ذكَرَ القرآنُ الكريمُ جانبًا من صور الحوار ، وخاصة حوار الله (عز وجل) مع الملائكة، ومن ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ  وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 30 ـــ 33].

ومن صور الحوار التي عرضها القرآن الكريم: حواره (سبحانه) مع عيسى (عليه السلام ): قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[المائدة: 116ــ 119].

ولقد سجل القرآن الكريم جانبًا كبيرًا من حوارات الرسل (عليهم السلام) مع أقوامهم ، والتي استعمل الأنبياء فيها كل الأساليب العقلية والنقلية كي يصل العباد إلى طريق الحق والرشاد.

ومن أروع صور الحوار بين الأنبياء وأقوامهم: ما سجله القرآن الكريم من حوار رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم ) مع مشركي مكة ، حين حاورهم بالحسنى وهم مصرون على أنهم على الحق وغيرهم على ضلال ،  قال تعالى : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24] ، ففي هذا الحوار استخدم الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ما يعبر عنه البلاغيون بأسلوب الإنصاف ( وإنا أو إياكم)، ولم يقل : ( إنا على هدى وأنتم على ضلال ) على الرغم من علو مكانته وشرف دعوته (صلى الله عليه وسلم) . وهذا أسمى وأبلغ وأفصح  تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار ، وعن احترام اختياره ، حتى ولو كان على خطأ ، بل وذهب الحوار المحمدي إلى أبعد من ذلك ، عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة للآية السابقة :{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[سبأ: 25]، فوصف (صلى الله عليه وسلم) اختياره للحق إجرام ـ من وجهة نظرهم السقيمة ـ ووصف اختيارهم للباطل عمل ، من أجل أن يستميل قلوبهم ، ثم فوض الأمر لله (عز وجل) ليحكم بينهم ، قال تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}[سبأ: 26].

كذلك من صور الحوار الهادف المثمر ما حدث بين سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوجه السيدة أم سلمة (رضوان الله عليها) يوم الحديبية ، فكان حوارا هادئا بين طرفين يريدان الوصول لنجاة الناس من الهلاك ، فكان من ثمرته أن امتثل الصحابة لكلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فبعد أن انتهى النبي (صلى الله عليه وسلم) من إبرام عهد الصلح بينه وبين أهل مكة قَالَ لأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا ) قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا) (رواه البخاري).

وفي هذا كله درْسٌ عظيمٌ ، وتربيةٌ ربانيةٌ ، نُدرِكُ مِنْ خلالِها أهميةَ الحوارِ فِي حياتِنَا ، ونتعلَّمُ أن حُسْنَ الإصغاءِ للآخرينَ ــ  ولَوْ كانُوا غيْرَ مُحِقِّينَ من وجهة نظرنا ــ ، فمجرد حسن الإصغاءِ إليهم ، يجعلنا نحتوي كلّ ما لديهِمْ من الحُجَجِ ، والأعذارِ والتأويلات ، للوقوفِ على سببِ الخلافِ وعلاجه ، ولكي يعلمَ الطرفُ الآخرُ الذي تحاوره أنكَ تُشارِكُهُ همومَهُ ، وأنكَ تسعى لإيصال الخير له.

ولكي يكون حوارنا مثمرًا هادفًا لابد وأن نراعي فيه عدة آداب ،منها:

·      الإخلاص لله ( عز وجل ): بمعنى أن يبتعد المحاور والمناظر عن الرياء والسمعة ،

ويجعل هدفه من حواره الحرص على طلب الحق لا التفوق على الآخرين ، والانتصار للنفس، وانتزاع الإعجاب والثناء ، قال الإمام الشافعي (رضي الله عنه): ( ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت لو أن الله أظهر الحق على لسانه).

·     التجرد للحق والانتصار له : فالمؤمن ضالته هي الحق فمتى وصل إليها فهي له ، ولن يصل إليها إلا إذا تجرد للحق .

·  العدل والإنصاف: فمن تمام الإنصاف قبول الحق من الخصم ، وقد ذكر القرآن نماذج للعدل والإنصاف ما ذكره الله - سبحانه - في وصف أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[آل عمران:113] .

·  ومنه ما ورد في حوار النملة مع بني جنسها حين أنصفت سليمان وجنوده ووصفتهم بأنهم لا يشعرون بالنمل ، وهذه حقيقة مؤكدة وقد سجل القرآن الكريم هذا الحوار المنصف ، فقال تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [النمل :18] .

·   الالتزام بالهدوء لإلزام الآخر بالحجة ، فكلما علا الصوت كان دليلا على ضعف حجة صاحبه ، ومما يذكر في هذا الأمر ما جاء من حوار حبر الأمة سيدنا عبدالله بن عباس ( رضي الله عنهما ) مع الخوارج ، تلك الفئة الضالة التي ابتليت بها الأمة ، فاستباحوا الدماء والأعراض لمجرد الهوى والجهل ، فلقد أوفد سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وكرم الله وجهه)  سيدنا عبدالله بن عباس (رضي الله عنهما) إلى الخوارج المعروفين بالحرورية ، فذهب إليهم ابن عباس (رضي الله عنه) وعليه حلة جميلة، فلما أقبل، قالوا له: يا ابن عباس، ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب التي عليك؟- فقال : أما الثياب التي عليَّ، فما تنقمون مني؟ فوالله ، لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات منَ الرِّزْق قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالصَةً يَوْمَ الْقيَامَةِ} [الأعراف:32].

- قالوا: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟

- قال: جئتكم من عند أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعني: - علي بن أبي طالب-، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم ، وأبلغهم عنكم، فأنا رسول- أي وسيط- بينكم وبينهم.

- قال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ، لا تخاصموه ، فإن الله تعالى يقول عن قريش: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، فلما خافوا من الهزيمة قالوا: اتركوا هذا، هذا جدل إنسان خَصِم! وقال بعضهم: بل نكلمه، ولننظر ماذا يقول؟

- قال ابن عباس (رضي الله عنهما): فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة ، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؟  قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور ، قال: هاتوا.

- قالوا: الأول: أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حكَّم الرجال في كتاب الله ، يعني: بعث حكمًا  منه ، وحكمًا  من معاوية (رضي الله عنه) ، وقصة التحكيم معروفة، والله تعالى يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ) [الأنعام:57]. - قال: هذه واحدة ، فما الثانية؟

- قالوا: الثانية : أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قاتل ولم يسْبِ - أي قاتلهم وما سبي نساءهم-، فلئن كانوا مسلمين فقتاله حرام ، ولئن كانوا كفارًا فلماذا لم يسبهم؟  قال: وهذه أخرى ، فما الثالثة؟

- قالوا : الثالثة: أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لمـَّا كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين؛ بل قال: علي بن أبي طالب. - قال: أوقد فرغتم؟  قالوا: نعم.

- قال: أما الأولى: فقولكم: حكَّم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنـزيل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95]، فذكر الله تعالى حكم ذَوَيْ عدل فيما قتله الإنسان من الصيد ، سألتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم ، أم التحكيم فيما قتله الإنسان من الصيد؟

- قالوا: لا ؛ بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم.

- قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، ناشدتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم ، أو التحكيم في بُضع امرأة؟

- قالوا: لا، التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.  قال: انتهت الأولى؟  قالوا: نعم، فالثانية؟

- قال: أما الثانية، فقولكم: قاتل ولم يسْبِ، هل تسْبون أمكم عائشة (رضي الله عنها )لأنها كانت في الطرف الآخر-، وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء، إن قلتم ذلك كفرتم، وإن قلتم ليست بأمِّنا كفرتم  -أيضًا-؛ لأنها أم المؤمنين، فاستحيوا من ذلك وخجلوا.

- قالوا: فالثالثة؟  قال: أما قولكم: خلع نفسه من إمارة المؤمنين، وإذا  لم يكن أميرًا للمؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية، قال: ( اكتب: هذا  ما صالح عليه محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب اسمك واسم أبيك ، فمحا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  الكتابة، وقال: ( اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم ، فقاتلهم علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

فانظر كيف أثَّر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرؤوس اليابسة ، حتى رجع منهم ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة في مجلس واحد ببركة الهدوء في الحوار.

·التواضع : فالتزام التواضع له دور كبير في إقناع الآخر، وقبوله للحق ، فكلما ظهر من أحد المتحاورين التواضع ، لا يملك الآخر إلا أن يبادله بمثله أو أحسن منه ،  ويلمس كلا المتحاورين خلقًا كريمًا، ويسمعان كلامًا طيبًا، وساعتها سيكون الحوار مثمرًا، وفي الحديث الصحيح: (وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله) (رواه مسلم) ، ومن التواضع أن تقبل الحق ممن جاء به حتى ولو كان أعدى الأعداء ، فالمؤمن ضالته المنشودة هي الحكمة ، فهو باحث عنها لذاتها ، أنىَّ وجدها كان أحق الناس بها.

·البعد عن المماراة والجدل الذي لا طائل تحته ولا فائدة من ورائه ، فبسببهما تتشتت الكثير من القلوب الكثيرة، ولا يُقصد منهما إلا إفحام الخصم أو التشهير به فقط، ولذا حثنا ورغبنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) في البعد عن المراء فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : ( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ). (رواه البخاري في صحيحه) ، وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ) (رواه أبو داوود).

فالمراء والجدل في الحوار يعدان من التنطع في الدين ، وقد حذر منه النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ( رضي الله عنه ) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا) ( رواه مسلم).

·  رد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) مصداقًا لقوله تعالى:{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(النساء: 59) ، شريطة أن نستنبط الأحكام بالطرق التي استنبط بها علماؤنا السابقون، وليس بالأهواء.

·الإصغاء وحسن الاستماع: فأكثرنا يجيد فن الحديث أكثر من فن الاستماع ، على الرغم من أن الله (عز وجل) جعل للإنسان لسانًا واحدًا ، وجعل له أُذنين حتى يسمع أكثر مما يتكلم ، ولكن : {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}(العنكبوت: 43) فلابد أن نستمع جيدًا، وأن تستوعب ما يقوله الآخرون.

والإصغاء إلى المتحدث هو دأب النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) فربما تحدَّث معه بعض المشركين كعتبة بن أبي ربيعة بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي (صلى الله عليه وسلم) ، حتى إذا انتهى الرجل وفرغ من كلامه قال له (صلى الله عليه وسلم): ( أوقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال : نعم، قال : (فاسمع مني) ، قال : أفعل، فقال(صلى الله عليه وسلم) : { بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}[فصلت: 1 : 5]. ثم مضى رسول الله فيها ، يقرؤها عليه،  فلما سمعها منه عتبة أنصت له ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما ، يسمع منه.

فبهذه الآداب والمبادئ نصل جميعًا إلى حوار بناء لا يفسد للود قضية ولا يؤدي إلى التنازع والشقاق ، غير أن هناك آفات في الحوار تجعل منه حوارًا عقيمًا دون جدوى أو فائدة، منها :

رفع الصوت بالكلام : وكأن المحاور يرى أن انتصاره في الحوار لن يكون إلا عن طريق مبالغته في رفع الصوت على خصمه ، والله تعالى يقول: { إِنَّ أَنْكَرَ الأََصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19].

تهويل مقالة الطرف الآخر وتحميلها ما لا تحتمل من المعاني ، بل يصل به الحال أن يصف كلام الآخر بالكفر، أو الفسق، أو الابتداع.

المبالغة في وصف الطرف الآخر بالصفات الذميمة التي تنال من شخصه واتهامه بالباطل، فيصفه بما لا يليق من الأوصاف.

إن أدب الحوار يحتاج إليه الإنسان حتى مع من يختلف معه  ليحفظ له حقه ، كما حفظ النبي (صلى الله عليه وسلم) حقوق الناس كلهم ، ويحتاج إليه العالم ليحفظ حقوق الطلاب ، ويعدل بينهم، ويفتح لهم صدره ، ويحتاج إليه الأب تحبُبًا إلى قلوب أولاده ، ولا يكون ذلك إلا بالكلم الطيب.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

آفات اللسان وضرورة حفظه

أولا: العناصر:

1.  نعمة اللسان وضرورة صيانته ، والتحذير من التساهل في أمره .

2.  خطر اللسان على بقية الجوارح.

3.  صور من آفات اللسان (الكذب - الغيبة - النميمة- السب والقذف).

4.  الطريق إلى كف اللسان عن المحرمات. 

5.  خطر القلم لا يقل عن خطر اللسان.

ثانيا الأدلة:

      الأدلة من القرآن الكريم:

1.     قال تعالى:{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد: 8 ــ 9] .

2.     وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18] .

3.     وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون: 3] .

4.  وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 70 ــ71] .

5.     وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 70 ــ71] .

6.  وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12] .

7.  وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور: 23] .

 

الأدلة من السنة النبوية:

1.  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ): ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ) (رواه البخاري).

2.  و عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ( رضي الله عنه) قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) فِى سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ: ( لَقَدْ سَأَلْتَنِى عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ )، ثُمَّ قَالَ: ( أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ )، قَالَ ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ : ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ). قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ )، ثُمَّ قَالَ: ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟) قُلْتُ : بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ : ( كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ). فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ): ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (رواه الترمذي).

3.   وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ : ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (رواه البخاري).

4.  وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ) قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: ( ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ )، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ( إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) (رواه مسلم).

5.   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ): ( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ). (رواه مسلم).

6.  وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ): ( مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ) (رواه الترمذي).

7.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) (رواه البخاري).

 

 

ثالثا: الموضوع:

لقد خلق الله (عز وجل) الإنسان في أحسن تقويم ، وصوره في أبدع صورة وأبهى مظهر ، وأودع فيه من جمال الخلقة ما يبهر العقول ، فكل عضو في الإنسان آية من آيات الله ( عز وجل) دالة على كمال قدرته ، وعظمة حكمته ، ويأتي اللسان على رأس هذه الأعضاء التي امتن الله (عز وجل) بها على الإنسان ، فقال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد: 8 ــ 9] . فهو من أجل النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الإنسان ، فبه المنطق والبيان ، وبه تتضح الحجة والبرهان ، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:1- 4] ، فهو جزء صغير  لكنه في جُرمه أو صلاحه كبير ، إذ هو ترجمان القلوب والأفكار ، له في الخير مجال ، وله في الشر أيضا مجال.

فمن استخدمه في طاعة الله كقراءة القرآن ، والكلم الطيب النافع ، وقيده بلجام الشرع فلا يتحدث إلا بالخير ، ولا يتكلم إلا بما برضي الله (عز وجل) فقد أقر بالنعمة لصاحبها ، وكان هذا شكراً لله على هذه النعمة ، وحينئذ تحصل له السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 70 ــ71] ، وكان ذلك علامة على كمال إيمانه ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ): (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ) (رواه البخاري).

أما من أطلق لسانه وأهمله مرخي العنان ، واستخدمه في طاعة الشيطان ، والتفريق بين المسلمين، والكذب وقول الزور ، والغيبة والنميمة، وانتهاك أعراض المسلمين وغير ذلك مما حرمه الله ورسوله ، كان هذا كفراناً لهذه النعمة العظيمة ، وحينئذ يكون الهلاك والخسران مآله ، وجهنم عذابه ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رضي الله عنه) قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ: ( لَقَدْ سَأَلْتَنِى عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)، ثُمَّ قَالَ: ( أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ )، قَالَ ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ : ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ). قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ )، ثُمَّ قَالَ: ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ) قُلْتُ : بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَالَ:  فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: ( كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا). فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ): ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (رواه الترمذي).

ومن هنا فإنَّ اللسان إما أن يوصل صاحبه إلى عليين ، وإما أن ينزله إلى أسفل السافلين ، فرب كلمة ينطق بها الإنسان تكون سببا في نجاته ، ورب كلمة يتلفظ بها الإنسان لا يلقي لها بالا ، ولا يعرف لها قيمة تكون سببا في هلاكه ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ) قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) (رواه البخاري). فلا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع ، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.

ولقد بين الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم خطورة اللسان على الإنسان ، حيث جاء الأمر الإلهي بحفظ اللسان ، فقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16- 18].  وتشتد خطورة اللسان على جوارح الإنسان ، فكلها مرتبطة به في الاستقامة والاعوجاج ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ ( رضي الله عنه) ــ رَفَعَهُ ــ  قَالَ: « إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ».(رواه الترمذي) ،

ولقد فطن الصالحون لخطورة اللسان فضربوا أروع الأمثلة في حفظهم لألسنتهم ، وخوفهم من آفاته، فهذا سيدنا أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) يمسك بلسانه ويقول : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ،  وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ : رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ : " وَيْحَك قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ أَوْ اُسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ ، وَإِلا فَاعْلَمْ أَنَّك سَتَنْدَمُ " فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبَّاسٍ لِمَ تَقُولُ هَذَا ؟ قَالَ: " إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الإِنْسَانَ- أُرَاهُ قَالَ- لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدَّ حَنَقًا أَوْ غَيْظًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ إلا قَالَ بِهِ خَيْرًا أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرًا ".

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه): «اللّسان قوام البدن ، فإذا استقام اللّسان استقامت الجوارح ، وإذا اضطرب اللّسان لم تقم له جارحة».

اِحفَظ لسانَكَ أيُّهـا الإنسـانُ               لا يَلـدغَنَّـكَ إنَّـه ثُعبـانُ
كم في المقابِرِ من لديغِ لِسانِه             كانت تهـابُ نِزالَهُ الشُجعانُ

وهذا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) يقول: (وما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان). وَقَالَ الْحَسَنُ (رضي الله عنه) : اللِّسَانُ أَمِيرُ الْبَدَنِ إذَا جَنَى عَلَى الأَعْضَاءِ شَيْئًا جَنَتْ، وَإِذَا عَفَّ عَفَّتْ . ومن ثمَّ يتضح أن صيانة اللسان دليل على كمال الإيمان ، وحسن الإسلام ، وسبيل الوصول إلى الفردوس الأعلى ، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3] إلى أن قال:{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:10ــ11]. وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ)(صحيح البخاري).

وللسان آفات كثيرة وعظيمة حذرنا منها ديننا الحنيف ، منها :

* منها : الكذب ، وهو مخالفة الخبر للواقع ، فهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب ، وهو من الخصال الذميمة التي حذر منها الإسلام أشد تحذير ، حتى عدَّها النبي (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) خصلة من خصال النفاق ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (رواه البخاري). فالكذب علامة واضحة تشهد على صاحبها بالنفاق ، ومن ثمَّ فالكذب سبب للهلاك ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ): ( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ) (رواه مسلم).

إن الكذب جماع كل شر ، وأصل كل ذمٍّ ، لسوء عاقبته، وخبث نتائجه، لأنه ينتج النميمةَ، والنميمةُ تنتج البغضاءَ ، والبغضاءُ تؤول إلى العداوة ، وليس مع العداوة أمن ولا راحة ؛ ولذلك قيل: " من قلَّ صدقُه قلَّ صديقُه".

وأفحش أنواع الكذب ما كان على الله (عز وجل) ورسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) وخاصة فيما يتعلق بشرع الله وسنة حبيبه (صلى الله عليه وسلم) من خلال الكلام والفتيا بغير علم، وإطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم ، أو الاعتراض على النصوص الشرعية الثابتة والتي تلقتها الأمة بالقبول ، قال تعالى :{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل: 116، 117].

وكذا من أفحش أنواع الكذب ما أدى إلى فرقة المسلمين عن طريق نشر الأخبار الكاذبة والشائعات الباطلة ، وهذا عمل لا يجيده إلا كل منافق لا يحب دينه ولا وطنه ولا إخوانه ؛ لذا: كان حريٌّ بالمسلم أن يَحذر كل الحذر من القول على الله تعالى بغير علم حتى لا يقع تحت الوعيد الإلهي لمن يفعل ذلك ، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر: 60] . 

الكذبُ عار وخير القول أصدقه   *****   والحق ما مسهُ من باطلٍ زهقا

ويلحق بالكذب قول الزور وشهادة الزور ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) (صحيح البخاري).

         * ومن آفات اللسان المهلكة: السخرية والاستهزاء : فقد نهى الله تعالى  المسلم عن السخرية والاستهزاء بإخوانه ، والتحقير من شأنهم ، فقد يكون المستهزَأ به أكرم عند الله تعالى من المستهزئ ، فيكون قد ظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله (تعالى) وكرَّمه ، قال تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11] . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ تَنْبُو عَنْهُ أَعْيَنُ النَّاسِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) (المستدرك على الصحيحين للحاكم).

* ومن صور آفات اللسان : الغيبة : وهي ذكر المسلم أخاه بسوء في غيابه ؛ لذلك سميت بالغيبة ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ). قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ )، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ، قَالَ : ( إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) (رواه مسلم).

وقد ورد النهي عنها في القرآن الكريم ؛ لأنها تؤدي إلى تقطيع روابط الألفة والمحبة بين الناس، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}[الحجرات:12] ، فلقد مثّل الله (عز وجل) الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه ، وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : " إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس".

ومن هنا يجب على المسلم أن يمسك لسانه حتى لا يقع في أعراض الناس فيكون من الهالكين، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): ( لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ) (رواه أبو داود) . وليحذر المسلم من آفات اللسان ، ويحفظه إلا من القول الطيب ، فعَنْ عُقْبَة بْن عَامِرٍ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ: ( أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ) (مسند أحمد) .

وليعلم الإنسان أن انتقام الله تعالى من المغتاب يكون من جنس عمله وذنبه ، فمن اغتاب الناس قيض الله له من يغتابه ، ومن تتبع عورات الناس قيض الله له من يتتبع عوراته ، فعَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ (رضي الله عنه ) قَالَ:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ ) (رواه أبو داوود).

إضافة إلى أنه يأتي يوم القيامة ولا حسنة له ، لأن من اغتابهم أخذوا من حسناته حتى وصل لدرجة الإفلاس ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) (رواه مسلم).

* وكذلك من آفات اللسان أيضًا : النميمة ، وهي نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد بينهم ، الأمر الذي يؤدي إلى تقطيع الأواصر والعلاقة بين الناس ، وقد ورد النهي عنها في القرآن الكريم، قال تعالى :{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:10،11] ، وقد بين النبي (صلى الله عليه وسلم) أن النمام من شرار خلق الله (عز وجل) ، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: ( الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى ) ثُمَّ قَالَ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ ) (مسند أحمد).

* ومن آفات اللسان المهلكة: السب والقذف لأعراض الشرفاء ، وهو أمر يهدد بنيان المجتمع ويؤدي لانتشار الفوضى بين أبناء الوطن الواحد ، لذا جاء الأمر بالنهي عنه وإيجاب الحد على فاعله ، والوعيد الشديد باللعن له في الدنيا والآخرة ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور: 3 ] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:23 ـ 24 ـ 25].

وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن السبّ وجعله نوعًا من أنواع الفسوق ، فقَالَ: (سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) (صحيح البخاري) ، وكذلك جعل القذف أحد السبع المهلكات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ ) (رواه مسلم). فرمي الأبرياء بالباطل صناعة الجبناء لئام الطباع ، مرضى النفوس ، مروجها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة.

فاللسان نعمة ونقمة في آن واحد ، فإذا سخره الإنسان في طاعة الله (عز وجل) أوصله إلى رضوان الله تعالى ومرضاته ونعيمه المقيم، وإن سخره فيما لا يرضي الله تعالى كان ذلك سبباً في هلاكه وخسرانه في الدنيا والآخرة ، وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال : « المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (صحيح البخاري). وفي صحيح الإمام مسلم "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ).

فحري بالمسلم أن يضبط لسانه ، ويسأل نفسه قبل أن يتحدث عن جدوى الحديث وفائدته؟  فإن كان خيراً تكلم وإلا سكت والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها ، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث  قال: ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (رواه البخاري ومسلم).

وكما أن للسان زلات تدمر المجتمع ، كذلك أيضا للقلم آفات وزلات تدمر الأمة بأسرها ، حيث إن القلم الذي يعبر به صاحبه عن ما بداخله من أفكار هو ترجمان اللسان ، فقد يظن البعض أن اللسان فقط هو  طريق عبور الكلمة وما تحمله من معلومات ، والصواب أن القلم طريق ذلك أيضا، وكما قال الجاحظ: ( القلم أحد اللسانين ، والقلم أبقى أثراً ) ، بل هو أحدّ من السيف في قوته، ويصل إلى أبعد مما يصل إليه اللسان. 

فخطورة الكلمة بالقلم لا تقل عن خطورة الكلمة باللسان ، من هنا وجب  على كل صاحب قلم أن يعطي القلم حقه ويؤديه كما ينبغي ، ويحرص عليه من الوقوع في الزلل ، فهو يعكس خُلقه  وآراءه ، ويستعمله في مناصرة الحق،  والمناداة للفضيلة ، فالقلم أمانة يجب أن تٌصان.

أقسم الله تعالى به فقال:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1] ، وبه يكتب الملائكة أقوال المكلفين وأفعالهم ، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار:10ـــ11] ، وبه دُونت العلوم وبه حُفظت ، وبسببه ارتقى أقوام ٌ، وخُلد أعلام ، وفاز كرام ، وخسر لئام ، فكم من ضال اهتدى بأنواره ، وكم من عاقل ضاع بشطحاته ، فهو - القلم- في يد الأمناء وسيلة للخير وجمع كلمة المسلمين ، وفي يد السفهاء سبب لتفريق الكلمة.

ومن صور آفات القلم وزلاته : نشر الأخبار الكاذبة ، وتشويه الحقائق أو تدليسها ، والنيل من أعراض الشرفاء ، وكل ما يتصل بنشر ما يشيع الفاحشة .

إن الأمة في حاجة ماسة إلى كل قلم صادق أمين ، ينشر الحق ويدافع عنه ، ويرشد الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم ، وليعلم كل صاحب قلم أنه سيفنى ويبقى قلمه شاهدًا عليه، فليكتب ما يسره أن يراه في الآخرة.

ورحم الله الشاعر حين قال:

ما من كاتب إلا سيفنى             ويبقي الدهر ما كتبت يداه

                             فلا تكتب بكفك غير شيء        يسرك في القيامة أن تراه

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

يقظة الضمير الإنساني والوطني

أولا: العناصر:-

1-  لإسلام وإيقاظ الضمير الإنساني.

2-  محاسبة النفس إحياء للضمائر .    

3-  نماذج مشرقة في يقظة الضمير الإنساني والوطني.

4-  الطريق إلى نهضة مصر بالضمائر الحية.

ثانيًا: الأدلـــة.

      الأدلة من القرآن الكريم.

1-    قال تعالى:{وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }[الانفطار:10-12].

2-  وقال تعالى: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13-14]. 

3-  وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].

4-    وقال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89].

5-    وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] .

6-  وقال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].

7-    وقال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}[السجدة: 16].

الأدلة من السنة:

1-   عن أَبَي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ}(صحيح مسلم).

 

 

2-   وعن النعمان بن بشير ( رضي الله عنهما ) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)   قال : (....أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ ) (رواه البخاري) .

3-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) أَنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: الإِسْلاَمُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. (رواه البخاري) .

4-   وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا) (رواه البخاري) .

ثالثًا: الموضوع:

لقد اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بالضمير الإنساني وأعلى مكانته في نفوس المسلمين؛ لأنه هو المحرك الأساسي لجميع توجهاته وشتى واجباته ، فهو يؤدي إلى سلامة القلب من العلل ، وثبات وجهته على الخير ، وبالتالي يوصِّل إلى توفيق الله ورضوانه، فعن أَبَي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ}(صحيح مسلم).

إن الضمير الإنساني محله القلب الذي بصلاحه يصلح الجسد والروح والعمل ، وبفساده يفسد كل شيء ، وهذا ما وضحه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حيث قال : (....أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ ) (رواه البخاري) .

فالقلب الذي دل عليه الحديث ليس القلب الذي في صدر الإنسان والذي مهمته ضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ، بل هو الضمير اليقظ ، والرقيب الداخلي الذي يوجه الإنسان دينيًا وتربويًا وأخلاقيًا وسلوكيًا ، فإذا أقدم الإنسان على عملٍ مخالفٍ يَشعُر بالندم والألم والرفض الداخلي ، وإذا كان هذا العمل موافقا يَشعُر بالراحة والسعادة والطمأنينة . وصدق الشاعر حيث قال:

إذا ما خلــــوت الدهر يومًا فلا تقل          خلـــــوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ

ولا تحســبنَّ الله يغفـــــلُ ســــاعــــةً         ولا أنَّ ما يخـــفى عليه يغــيبُ

ألم تر أن اليوم أســـرعُ ذاهــبٍ              وأنَّ غــــدًا للنـــاظرين قـــريبُ

ولا يكون القلب سليمًا والضمير يقظًا إلا إذا تربى المسلم على الإيمان الصادق ، الذي يشعر به الإنسان أن الله معه ، يسمعه ويراه ، ويعلم ما يفعله ، ويحاسبه يوم القيامة على ما قدم ، فالإنسان عندما يعتقد أن الله معه يجتهد في مراقبته تعالى ، ويستحضر عظمته سبحانه في كل أقواله وأعماله ، وهذا ما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث جبريل (عليه السلام) عندما سُئِلَ عن الإحسان الذي هو أعلى درجات الدين واليقين ، قَالَ: " الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " (رواه البخاري) .

من هنا عني الإسلام عناية فائقة بتربية المسلم على يقظة الضمير والخوف من الله ومراقبته وطلب رضاه ، حتى إذا غابت رقابة البشر وهمَّت نفسه بالحرام والإفساد في الأرض تحرك ضميره الحي اليقظ ؛ فيصده عن كل ذلك ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ، و يحكم بين عباده بالعدل ويقتص لمن أساء وقصر ، قال سبحانه: {وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار:10-12] .. وقال تعالى: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13-14]. 

بهذا الضمير الإنساني يستطيع الإنسان تأدية العبادات على الوجه الأكمل ، فتجد صاحبه محافظاً على العبادات والطاعات والذكر وقراءة القرآن ، فإذا لم يكن موصولاً بالله فإنه سيأتي يومٌ ويموت ضمير هذا الإنسان ، وعندما يموت الضمير يختل الميزان وتضطرب الحياة ، ولا يستطيع صاحبه أن يعبد الله حق عبادته ، لأنه لا يبتغي من ورائها ثوابًا ولا يخاف عقابًا ، ولا يخشى من مساءلة يوم القيامة .

فبالضمير الحي اليقظ ينضبط السلوك والتصرفات ، وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات ؛ حتى وإن غابت رقابة البشر ، فتقوى الله ومراقبته والخوف منه والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء ، فصاحب الضمير الحي يدرك أن الله معه حيث كان في السفر أو الحضر ، في الخلوة أو في الجلوة ، لا يخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه سر ولا علانية ، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا

هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. وغير ذلك من عشرات الآيات التي تربي الضمائر على محاسبة النفس والاستعداد للقاء الحق سبحانه.

وصاحب الضمير الحي يجيد عمله ويؤدى واجبه ، سواء رآه الناس أم لم يروه ، وسواء أثنوا عليه أم لا ، فإنه يحسن عمله على أية حال ، وبالتالي فالإقبال على العمل والإحسان فيه يجب أن يكون بدوافع إيمانية وضمير يقظ ، استرضاء لله ، وإن جحد الخلق، يقول تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88،89] ، ومن ثم فإن إحياء الضمائر يأتي من محاسبة النفس ومراقبتها لله تعالى ، والخوف منه عز وجل.

ولقد ضرب القرآن الكريم لنا مثلا بيوسفَ - عليه السلامُ - في الطهر والعفاف حين حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى ، إذ أقبلت الدنيا بمتعها في شخصية امرأة العزيز تراوده عن نفسه فأبى ، ولاذ بدينه قائلا: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. لقد أحس بمراقبة الله عليه ، وأنه يراه في هذا المكان المغلق ، فاعتصم بدينه، وانتصر صوت الإيمان في قلبه على صوت الغريزة في بشريته ، فكانت يقظة الضمير أقوى حارس عليه.

إن المؤمن القوي في عقيدته ، القوي في يقظة ضميره ، القوي في محاسبة نفسه، هو السعيد في الدنيا ، والفائز في الآخرة برضوان الله ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] .

ولقد ربى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أتباعه على يقظة الضمير ومراقبة الله عز وجل ، فيأتي رجلان من المسلمين إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يختصمان في قطعة أرض ليس لأحدٍ منهما بينة وكل واحدٍ منهما يدعي أنها له وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال:   " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا" (رواه البخاري) ، عند ذلك تنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه ؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد حرك في نفوسهما الإيمان ، وارتفع بهما إلى مستوى عالٍ من التربية الوجدانية وبناء الضمير والتهذيب الخلقي ، فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً لهما عن الظلم والحرام ، وهو الدافع إلى كل خير.

ومن النماذج التي أحيا الإيمان في قلوبها يقظة الضمير ما ورد عن عبد أمَّنَهُ سيده على الغنم ، فضرب المثل الأعلى في العفة والنقاء ويقظة الضمير الإيماني ، يقول عبد الله بن دينار :

خرجت مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى مكة ، فعرضنا في بعض الطريق ، فانحدر بنا راعٍ من الجبل ، فقال له عمر (رضي الله عنه) : يا راعي ، بعني شاة من هذه الغنم ، فقال : إني مملوك وهذه الغنم لسيدي ، فقال عمر -اختبارا له- قل لسيدك أكلها الذئب ، فقال الراعي: إذا قلت لسيدي هذا ؟ فماذا أقول لربي يوم القيامة ؟ فبكى عمر بن الخطاب ، واشترى هذا العبد من سيده واعتقه ، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة ، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.   

ونحن نسير في ركب أصحاب الضمائر الحية الذي خلَّد الزمن ذكراهم ، نذكر تلك القصة التي سجلها التاريخ صورة رائعة فريدة مؤثرة ، تبين مدى يقظة الضمير الحي والحس الإيماني ، فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يعس المدينة ليلاً، ثم جلس تحت جدار ليسمع امرأة تقول لابنتها : قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء ، فقالت لها: يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم ? قالت: وما كان من عزمته يا بنية? قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء ، فقالت لها: يا بنية قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء ، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر ، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء ، كل ذلك وأمير المؤمنين يستمع، وقد سره أمانة الفتاة ، وضميرها الحي ، فاختارها زوجة لأعز أولاده ، وكان من ذريتها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه- (صفة الصفوة) .

وهاهو الإمام علي (رضي الله عنه) يفقد درعه ويجدها عند يهودي ، فأقبل إلى القاضي شريح يختصم إليه ، فقال علي للقاضي: هذه الدرع درعي ، ولم أبع ولم أهب ، فقال القاضي شريح لليهودي : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ، فقال اليهودي : الدرع درعي ، فالتفت القاضي شريح إلى علي (رضي الله عنه) وقال : يا أمير المؤمنين ألك بينة ؟ فابتسم علي وقال : أصاب شريح : مالي بينة ، فقضى بالدرع لليهودي ، فأخذها ومشى خطوات ثم رجع ، فقال : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين يخاصمني إلى قاضيه فيقضي عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ، الدرع والله درعك ، سقطت منك . فقال علي: أما إذا أسلمت فهي هدية مني.

إن القاضي عندما حكم على الخليفة كان ضميره هو الذي يحكم ، لأنه يحكم بالحق ، ويسير على المنهج السليم ، ويلتزم  بما رسم الله في كتابه ، وما حدده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في منهاجه ، من باب : ( البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر). فلما رأى اليهودي تلك اليقظة ، وعرف أن الهوى ليس له على نفس أحدهما سلطان أعلن إسلامه ودخل في زمرة الصالحين ، لأن الضمير هنا كان المسيطر على الحاكم وعلى القاضي ، إنها ضمائر متصلة بالله (عز وجل).

إن الأمة في أمس الحاجة إلى أصحاب الضمائر الحية والسرائر النقية حتى تنهض وترتقي وتسعد ، فإن سعادة المجتمع ورقيه في يقظة ضمير أبنائه وتقوية الوازع الديني     في نفوسهم ، لأنه هو المهيمن على شئونهم ، فإذا مات الضمير الإنساني والوطني نتج عن ذلك فساد في الأخلاق والمعاملات ، فما الذي يمنع الموظف أن يرتشي ؟! والكاتب أن يزور ؟! والجندي أن يخل في عمله ؟! والطبيب أن يهمل في علاج مريضه ؟! والمعلم أن يقصر في واجبه ؟! والقاضي أن يظلم في حكمه ؟! والتاجر أن يغش ويحتكر في تجارته ؟! ... وهكذا في كثير من جوانب الحياة.

إن الذي يمنع كل ذلك هو الضمير الإيماني والوطني اليقظ الذي يهذب الأخلاق ، ويقوم اعوجاج السلوك ، ويكون سبباً في إصلاح النيات ، وقبول الأعمال ، وكثرة العبادات والطاعات ، بل إنه يورث الخوف من الله والخشية من عذابه وسخطه ، قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}[السجدة: 16].

على أن الضمير الوطني اليقظ هو الذي يبني ولا يهدم ، ويعمر ولا يخرب ، ويسعى إلى صناعة الحياة لا إلى صناعة الموت.

إذا مات الضمير فإن الحياة تَفسُد ، ذلك أن الضمير الحيّ سرّ الحياة ، من غيره تموت الشعوب والأوطان ، وتنتهي الأمم والحضارات ، وتزول القيم والمبادئ ، ويُصبِح كل شيء مباحًا : كلام الزور ، والخيانة ، والسرقة ، والمال الحرام ، والقتل ، والسكوت عن الظلم والظالمين ، وتزييف الحقائق وغيرها من موبقات الحياة. 

لذا وجب علينا جميعاً أن نحيي ضمائرنا بتقوى الله ومراقبته ، والنظر إلى مصالح مجتمعنا ووطننا ، ولنحذر أن تكون أجسادنا بلا ضمائر حية متصلة بالحق والخير والمعروف ، حتى تتنزل علينا رحمة الله ومغفرته.

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

فضل العلم وأخلاق طلابه

أولاً : العناصر :

1.   فضل العلم ومكانة العلماء في الإسلام.

2.   الحث على طلب العلم والعمل به.

3.   بالعلم والأخلاق ترتقي الأمم.

4.   طلاب العلم يبنون ولا يهدمون.

  ثانيًا- الأدلة :

           الأدلة من القرآن :

1.       قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

2.       وقال تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

3.       وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].

4.       وقال تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

5.       وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 31 - 33] .

6.       وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1- 5].  

7.       وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر:35].

8.       وقال تعالى: :{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].

         

 

الأدلة من السنة والآثار:

1.       عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه)  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:        ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) ( سنن أبي داود).

2.       وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (رضي الله عنه)  قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ )(رواه الحاكم في المستدرك).

3.       وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ( فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ)(سنن الترمذي).

4.       وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ): (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَهُ ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ ). (أدب الدنيا والدين).

5.       وعَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ) قَالَ: (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الْأَجِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَقْوَامًا، وَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً، تُقْتَبَسُ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَأَنْعَامُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمِ، يَبْلُغُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَةَ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعُمَّالِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءَ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءِ) (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء).

 

ثالثًا : الموضوع: 

نستقبل في هذه الأيام عامًا دراسيًا جديدًا ، نسأل الله تعالى أن يكون عام فلاحٍ ونجاحٍ لكل طالب علم يخلص لله تبارك وتعالى في طلبه للعلم، وهذا يجعلنا نتحدث اليوم عن فضل العلم وأخلاق المتعلم ، فمما لا شك فيه أن للعلم مكانة عالية في الإسلام ، فهو حياة القلوب ونور الأبصار، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله ، وبه يعبد ، وبه يوحد، وبه يُمَجَّد وبه توصل الأرحام ، وبه ترفع الأمم أعلى الدرجات ، فالإسلام دين العلم، لا يُعرَفُ دينٌ مثلُه أشاد بالعلم وحثَّ عليه ، ورغب في طلبه ، ونوَّه بمكانة أهله ، وأعلى من قدرهم ، وبين فضل العلم وأثره في الدنيا والآخرة ، وحضَّ على التعلم والتعليم ، وحسبنا أن أول آيات نزلت من الوحي على قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  أشارت إلى فضل العلم ، حيث أمرت بالقراءة وهي مفتاح العلم ، ونوّهت بالقلم وهو أداة نقل العلم ، وذلك في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1- 5].

فهذه أول صيحة تنوِّه بقيمة العلم، وتعلن الحرب على الأُمِّيَّة الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل إنسان عظيم أن يقرأ وأن يتعلَّم ، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مكانة العلم في الإسلام لا تدانيها مكانة ، وقد دل على ذلك أنه المنحة الإلهية التي رفع الله بها مقام آدم على ما دونه من الملائكة (عليهم السلام) ، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 31 - 33] .

ولقد عني الإسلام بالعلم عناية فائقة ، وحث أتباعه على طلبه، والبحث والتفكير في كل ميدان من ميادين المعرفة، وكل مجال من مجالات الحياة ، والقرآن الكريم  به الكثير من الآيات التي تشير إلى هذا، قال تعالى  :{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].

إنّ العلم يثمر لصاحبه الخير والهداية، وفضله يزداد عند طالبه، وقد شرف الحق سبحانه وتعالى العالم وميزه عن غيره، وأخبر أنه لا يعقل آياته ويفهمها حق فهمها وينزلها المكانة اللائقة بها إلا العالمون،  فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9] ، فالعلم في ذاته غاية ؛ يدل على ذلك ما جاء عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) قَالَ: (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الْأَجِلَّاءِ..

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَهُ ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ ). (أدب الدنيا والدين).

فطبيعة الإسلام تفرض على الأمة المسلمة أن تكون أمة متعلمة ترتفع فيها نسبة المثقفين، وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين ، فإن قيمة العلم في الإسلام كقيمة الحياة بالنسبة للإنسان.

وكذلك أعلى القرآن الكريم من شأن العلم، فعبَّر عنه بالسلطان ، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } [غافر:35]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}[غافر:56]. ولله در سيدنا عليّ (رضي الله عنه) حين قال: ( العلم خيرٌ من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق).

فالعلم ضرورة مُلِحَّة، وحاجة ماسَّة ، عليها تتوقف سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان طلب العلم فريضةً ، كما روى ابن ماجة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ).

وأما عن فضل العلماء ومنزلتهم ؛ فقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم وشرفهم ، ورفع منازلهم وقدَّر جهودَهم ، وسما بدرجاتهم حتى قرَنَهم الحق سبحانه بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته، قال تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18]. وقال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]. وما ذلك إلا لأن العلماء أكثر الناس معرفة بربهم، وأحرص الناس على تبليغ كلام خالقهم ، بل هم أكثر الناس خشية لله بما أدركوا من آثار قُدرته وعظمته، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28].

ومن ثم فإن للعلماء مكانة عظيمة حفظها لهم الشرع الحنيف  لعظم قدرهم في الأمة، فهم ورثة الأنبياء وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): ( فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ)(سنن الترمذي). لذلك أمر سبحانه وتعالى بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم فيما يشكل ، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وأما عن الحث على طلب العلم والعمل به ، فإن طلب العلم والسعي في تحصيله واجب على كل مسلم ومسلمة ، ولقد أوضح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فضيلة طلبه في حديث يدفع كل من قرأه بتدبر إلى المسارعة في طلب العلم ، وإفناء العمر في سبيل تحصيله ، فقَالَ : ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) ( سنن أبي داود).

وقد جاء عن سلف الأمة الصالح (رضي الله عنهم وأرضاهم) عدة معان جديرة بالذكر والعناية؛ تبين حقيقة الطلب الشرعي للعلم والهمة التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم ، من ذلك: ما روي عن ابن مسعود (رضي الله عنه )قال: ليس العلم بكثرة الرواية؛ وإنما العلم الخشية، وكان الحسن البصري (رضي الله عنه) يقول: اعملوا ما شئتم أن تعملوا فو الله لا يؤجركم الله تعالى عليه حتى تعملوا؛ فإن السفهاء همتهم الرواية؛ وإن العلماء همتهم الرعاية. وَقَالَ مالك: العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب؛ وما أحد أمنّ عليّ من مالك .

ولقد كان في الأمة الإسلامية نماذج من العلماء الذين أثْرُوا الحياة بعلمهم وأخلاقهم ، وإعمال فكرهم، منهم على سبيل المثال: عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) حبر الأمة وترجمان القرآن، عُرِفَ بشيخ المفسرين ، وعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما ) من السبعة المكثرين لرواية الحديث، ومعاذ بن جبل (رضي الله عنه) حامل لواء العلماء يوم القيامة ، وأتى من بعدهم أئمة أعلام ملؤوا الأرض علمًا منهم : ابن النفيس الدمشقي الذي نبغ في الطب وأول من اكتشف الدورة الدموية ، وأبو بكر الرازي ، وابن سينا، وغيرهم كثير ممن أفادوا البشرية بعلمهم وكانوا مثلًا يحتذى بهم ، فالواجب على شباب الأمة أن يحذوا حذوهم وأن ينهلوا من العلم حتى ينهضوا بالأمة، على أن من الخطورة بمكان أن يتصدى الإنسان للفتوى بدون علم، فيضل الناس، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ)( صحيح مسلم ).

ومن هذا يتضح أن الإسلام يدعو إلى العلم ويُحرر العقل ، ويحثّ على النظر في الكون، ويُنشِئ العقلية العلمية التي تبدع وتبتكر، ويرفض العقلية الجاهلة المستسلمة لكل ما يتوارثه الناس، دون مناقشة له ، فالأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها ، هو الأساس لفلاحها أفرادًا وجماعات ، فالعلم مأمور به قبل العمل ، لأنه أساس له قال الله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19].

فالعلم يبني الأفراد وينهض بالمجتمعات؛ وبه تقوى الدول وتتقدم الأمم ؛ والواقع خير شاهد على أن الأمم والدول التي اعتمدت العلم سبيلاً لنهضتها ؛ صارت في مقدمة الأمم؛ وأن غيرها ممن تقاعست بقيت في ذيل الأمم. ومن ثم رأينا الحق حين ذكر العلوم جملة وتفصيلاً؛ قدم العلوم التجريبية على العلوم الدينية؛ لأن عمارة الأرض إنما تكون بتطبيق نظريات الكتاب على واقع الحياة والأحياء. قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر: 27 - 30] فلنعد إلى العلم؛ فالعلم ينبغي أن يكون أولاً؛ وثانياً،،،،،،، وعاشراً؛ على أن يتبعه العمل؛ باعتباره الترجمة الحرفية لقوانين العلم ونظرياته؛ ليتم بذلك التفاعل بين النظرية والتطبيق.

ولابد لطالب العلم من آداب يجب أن يتحلى بها، نتعلمها مما فعله سيدنا موسى كليم الله ( عليه السلام) – وهو نبي مرسل من أولي العزم من الرسل – مع عبدٍ من عباد الله يتعلم منه، كما حكى القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى : {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } (الكهف66 - 69)

كما أن على العالم أن يكون متزينًا بجميل الأخلاق، فالعلم إن لم يرافقه أخلاق وقيم لا وزن له ولا اعتبار، ولا أثر له في سلوك صاحبه ولا في تغيير الآخرين، وصدق الشاعر حين قال :

لا تَحْـسَبنَّ الـعِـلمَ يَـنـفعُ وَحــدَهُ   ***  مــا لَمْ يـُـتـَـوَّجْ ربـُّــهُ بِــخَـلاقِ

          فلابد إذًا للعالم ولطالب العلم أن يتحليا بكريم الأخلاق وأن يكون عملهما متفقًا مع قولهما حتى يؤثر ذلك في المجتمع، فعندما ربطت الأمة بين العلم والأخلاق ، عاشت في عزة ورفعة بين الأمم ، وحيث كان الخلق والعلم توأمين، كان الرقي ، وكان الازدهار، ولم يعرف في التاريخ مثل حضارة أمتنا العظيمة ، التي كان أساسها العلم والأخلاق الفاضلة المستقاة من الإسلام ، وصدق النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ)( رواه الحاكم في المستدرك).

والعلم النافع هو العلم الذي يقود صاحبه إلى الفضائل ، ويحمله على التحلي بالأخلاق العالية ، ويوجهها ويرشّدها ويحافظ عليها ، فمن ثمرات العلم النافع أنه يساعد على البناء والتعمير، وليس الهدم والتخريب ، يساعد في الإصلاح لا الإفساد ، فعلى كل طالب علم أن يتخلق بأخلاق الإسلام ، وأن يتأدب بآداب العلماء ، وأن يسخر العلم الذي تعلمه لخدمة البشرية وبناء القيم في النفوس ، حتى لا تنتشر الفوضى ويعم الفساد، فهِمَّةُ طالب العلم الابتكار والإبداع والتفوق، لا الهدم والتخريب والإفساد، فالعلم يدفع صاحبه إلى البناء لا الهدم، وإلى استخدام العقل لا إلى إهماله ولا إلى تعطيله.

إننا بحاجة إلى تذكير أبنائنا وبناتنا في المدارس والمعاهد والجامعات بفضل العلم؛ وحثهم على طلبه خدمة لأنفسهم ومجتمعاتهم ورفعة لأهليهم وأوطانهم. 

ويجدر بنا ونحن نتحدث عن فضل العلم وأخلاق المتعلم أن نتذكر هذه الأُسَرَ غير القادرة وما تتكبده في بداية الدراسة، وأن نقف إلى جوارهم فيمتد نهر العطاء إليهم والأخذ بأيدي أبنائهم إلى طريق التفوق والنجاح، فهؤلاء لَبِناتٌ قوية في صرح التنمية والتقدم، وأفضل أبواب النفقة تعليم الناس الخير.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

المشاركة الإيجابية والوفاء للوطن في حياة النبي

أولًا : العناصر:

1-     حب الوطن والوفاء له أمر غريزي وطبيعة طبع الله النفوس عليها.

2-     دعوة الإسلام إلى الإيجابية.

3-     الإيجابية صفة الأنبياء والمؤمنين.

4-     مواقف من الإيجابية في حياة النبي r .

5-     السلبية آفة خطيرة يعود ضررها على الفرد والمجتمع.

 

 

 ثانياَ : الأدلة:

                  الأدلة من القرآن :

1-    قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: 2].

2-  وقال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران: 110].

3-  وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 71].

4-  وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }[المدثر 1 : 7 ]0

5-    وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

6-  وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }[الأنفال: 24].

7-    وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[الرعد: 11].

 الأدلة من السنة :

1-    عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) (رواه الترمذي و ابن حبان). وفي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)  عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: (عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ).

2-    وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان) (رواه مسلم).

3-    وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِي نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ ) (مجمع الزوائد).

4-    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه)قَالَ: ذُكِرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)  فَقَالَ: (كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ. وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَنْ تُرَاعُوا) يَرُدُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لِلْفَرَسِ (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) أَوْ (إِنَّهُ لَبَحْرٌ) أي واسع الخطو سريعا (رواه ابن ماجه).

5-    وعَنْ عَلِيٍّ (رضي الله عنه) قَالَ: (كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنَّا أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ) (المستدرك للحاكم). وقال (رضي الله عنه) : (لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا)(مسند أحمد).

6-         وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

7-    وعَنِ ابْنِ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)(سنن ابن ماجه).

8-    وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تََقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) (الأدب المفرد).

9-    وعن أبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَا مِنْ ثَلاثَةِ نَفَرٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إلاَّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ) (المستدرك للحاكم).

ثالثًا: الموضوع .

فلقد جُبِل الإنسان بفطرته على حب الوطن والشعور بالانتماء إليه‏,‏ يشترك في هذا جميع الناس على تنوع أعراقهم واختلاف مشاربهم‏,‏ وعندما جاء الإسلام دين الفطرة والإنسانية لم يقف في وجه هذا الميل الطبيعي بل أقر ذلك ودعا إليه ‏,‏ وجعله سبيلا للعمل الصالح وفعل الخيرات وزيادة التماسك بين أبناء الوطن الواحد.

فمحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، وقد اقترن حب الوطن في القرآن الكريم بحب النفس، قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66].

ومن ثمَّ فليس غريباً أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته ، وليس غريباً أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر ، فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء.

إن الوطن الذي ينعم أبناؤه بالأمن والطمأنينة في أكنافه , وتنمو أعوادهم من خيراته وثمراته, ليحتم على كل فرد أن ينهض بواجباته ومسؤوليّاته نحوه, ومن أهم تلك الواجبات : محبّتُه وصيانتُه ، والدفاعُ عنه ، والمحافظة على مرافِقه ومواردِ الاقتصادِ فيه ، والحِرص على مكتسَباته وعوامِل بنائه ورخائِه ، والحذرُ من كلّ ما يؤدي إلى هدمه وتخريبه ، فَلِلْوَطَنِ فِي الإِسْلامِ شَأْنٌ عَظِيمٌ، والتَّفْرِيطُ فِي حَقِّهِ خَطَرٌ جَسِيمٌ . 

          إن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحُث الإنسان على حب وطنه ، ولعل خير دليلٍ على ذلك : ما أعلنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن حبِّه ووفائه لوطنه مكة، وهو يغادرها مهاجرًا إلى المدينة – كما في الحديث الصحيح – فقد روي عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) (رواه الترمذي و ابن حبان). وفي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْحَزْوَرَةِ - قرية إلى جنب المدينة -، فَقَالَ: (عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ).

ما أروعَها من كلمات! قالها الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّه العميق، وتعلُّقه الكبير بوطنه وبلده مكة المكرمة، لِمَا لها مِنْ مَكَانَةٍ فِي نَفْسِهِ، إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيه الأحباب والأصحاب ، فيه الآباء والأجداد.

ولولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُ إنسانٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه.

وحِينَ انْتَقَلَ (صلى الله عليه وسلم) مُهَاجِراً مُضْطَرّاً إِلى المَدِينَةِ ، سَأَلَ اللهَ أَنْ يُحبِّبَ إِلَيْهِ وَطَنَهُ الثَّانِي وَيُنْزِلَ عَليَهِ فِيهِ الرَّاحَةَ والسَّكِينَةَ، والأَمْنَ والطُّمَأنِينَةَ ، فَعَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا المَدِينَةَ، كَحُبِّنَا مَكَّةَ ، أَو أَشَدَّ) (رواه البخاري). هكذا كان مَثَلُنا وقدوتُنا (صلى الله عليه وسلم) يحمل في قلبِه الطاهر محبتَه الصادقة للوطنِ.

وحب الفرد لوطنه وبلده لا ينبغي أن يقف عند المشاعر والعواطف والأحاسيس؛ بل لابد أن يترجم إلى سلوك صالح نافع للفرد والمجتمع ، فإِنَّ لِحُبِّ الوَطَنِ والوَفَاءِ له صُوَرَاً مُتَعَدِّدةً، وأَشْكَالاً مُتَنَوِّعَةً، أهمها وأعلاها وأجملها : المشاركة الإيجابية في إصلاحه، والمُسَاهَمَةُ فِي النُّهُوضِ به ، وهذا ما دعا إليه الإسلام .

فإن الإسلام دعا المسلم إلى الإيجابية في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته، وأظهر هذه الدعوة في كثير من المواقف الفردية والجماعية طوال حياة الفرد منذ نعومة أظفاره حتى نهاية حياته . فالمسلم لا يقف من الأحداث موقف المتفرج ، بل يجب أن يكون إيجابياً ، يسعى إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الفساد والتسيب والانحراف والظلم، فما استحق المسلمون الخيرية إلا بذلك ، ولن يعود مجد المسلمين ولا عزتهم إلا إذا عادت لهم إيجابيتهم التي هي مصدر خيرتهم ، يقول تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران: 110].

ولقد حاول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبث هذه الإيجابية في حياة الناس، ويجهد في بنائها في نفوسهم ، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان)(رواه مسلم). فأكد (صلى الله عليه وسلم) على ضرورة أن يكون المسلم إيجابيًا في حياته ، فيسارع في تغيير المنكر والفساد لأنه واجب ، كما أن تغيير المنكر نفسه واجب آخر.

  إننا لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ الإيجابية هي الحياة أو هي الدين كله فالدين لم يقم في أرضه علي السلبية والخمول والتقاعس والكسل وإنما قام علي الإيجابية ، وإن شئت فقل الذاتية منذ أن خاطب الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) بقوله:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }[ سورة المدثر1: 7]0

والإيجابية تعني الاستجابة والتلبية, والطاعة والمسارعة إلى الخير، ولقد خاطب الله نبيه بمعني الإيجابية لكي يضمن لأمته صلاحيتها وبقائها إلي الأبد فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24]0 فالإيجابية صفة الأنبياء والمؤمنين في كل زمان ومكان ، قال تعالى:{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)المعلم الأول للإيجابية رغم كثرة الشدائد والمحن التي تعرض لها هو وأصحابه، وقد انطبعت كل أعماله وتصرفاته (صلى الله عليه وسلم) بنظرته الإيجابية ، فهو (صلى الله عليه وسلم) خير نموذج في الإيجابية – إذ في سلوكه (صلى الله عليه وسلم) التطبيق العملي للقرآن الكريم-، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس وأشجعهم، يعطي فقيرهم، ويغيث ملهوفهم، وينصر مظلومهم، حتى قال أَنَسُ بن مَالِكٍ (رضي الله عنه) : ( كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ. وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَنْ تُرَاعُوا) يَرُدُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لِلْفَرَسِ (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) أَوْ (إِنَّهُ لَبَحْرٌ) أي واسع الخطو سريعا ( رواه ابن ماجه).

وقال عَلِيٌّ (رضي الله عنه): (كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنَّا أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ) (المستدرك للحاكم). وقال (رضي الله عنه):( لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا) (مسند أحمد).

وقالت أم المؤمنين السيدة خديجة (رضي الله عنها): (أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) (متفق عليه(.

فإذا كنت محبًّا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكن إيجابيًّا عند كل أمر من شأنه تهديد أمن الوطن، وأمن المجتمع. ولا تنتظر من يأخذ بيدك، فليس هو أولى منك بالسبق.

فالإيجابية تعني: الشعور بالمسئولية والمشاركة الفاعلة في المجتمع بالتوجيه والإصلاح والارتقاء بالوطن والمواطنين، وهي صفة أصحاب الهمة العالية ، الساعين دوما إلى تقديم الخير ومقاومة الشر والفساد، فالمسلم لا يقف ساكتاً أمام المنكر، ولكنه يتخذ موقفاً إيجابياً فعًّالاً، يدعو الناس إلى الخير وينهاهم عن الشر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحب للمسلمين ما يحب لنفسه ، ويبغض للمسلمين ما يبغضه لنفسه ، وهكذا يكون إيجابياًّ في مجتمعه ، ومن ثم يتحقق فيه قول الله تعالى :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 71].

أما إذا كان المرء في وادٍ والمسلمون في واد آخر، إذا كان غافلاً عن أمور المسلمين وهمومهم ومشكلاتهم، لا هَمَّ له إلا نفسه، فاعلم أن هذه هي السلبية بعينها وذاتها، السلبية التي جعلت هذا الإنسان عبارة عن عضو مبتور ، لا صلة له بوطنه ولا بمجتمعه الذي يعيش فيه ؛ لأن الإيجابية، إنما تعني مشاركة الناس في حزنهم وفرحهم، والتفاعل معهم ، والإيجابية تعني: التفاعل مع أي حدث من الأحداث التي يمر بها الوطن ، فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِي نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ ) (مجمع الزوائد).

إن من أبرز سمات الإيجابية في الشخصية الإسلامية دعوتها لكي يتحمل صاحبها المسئولية، فلا يقف من الأحداث موقفاً سلبياً، فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه وعن مجتمعه ووطنه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:(كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

فمن مظاهر الإيجابية دعوة الإسلام إلى التعاون بين الناس على البر والتقوى؛ لقوله تعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2].

ومن مظاهر الإيجابية كذلك حرص الإسلام على الاختلاط بالناس وحضور جمعهم، وزيارة مريضهم ، وحضور جنائزهم، ومواساتهم في أحزانهم ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)(سنن ابن ماجه).

إن الإيجابية خلق دافع إلى الأمام، وإن الأمة اليوم وقد تناوشتها العداوات من كل جانب، فإنها أحوج ما تكون إلى أناس إيجابيين ليكشفوا عنها ما تعاني منه وتقاسي، سواء بالمال أم بالجهد أم بالوقت أم بالرأي، أما السلبية والتقاعس عن تلبية نداءات الواجب ، وعدم الاهتمام بشأن الغير والتخلص من التبعات ، والفرار من المسؤوليات ، والأنانية ، والأثرة ، والتواكل ، وإلقاء الأحمال بعيداً عن النفس والذات  كل ذلك ليس من أخلاق المسلمين.

كثير من الناس لا يشاركون في اختيار ممثليهم أو التعبير عن آراءهم بالموافقة أو بالرفض، إنهم بذلك يتخلون عن حق من حقوقهم الدستورية وعن مسئولية من مسئولياتهم الوطنية.

ويبين النبي (صلى الله عليه وسلم) أهمية هذه القيمة الإسلامية ، فيرشد أمته إلى الالتزام بالعمل الإيجابي والمشاركة الوطنية من جميع أبناء الوطن لأجل نهضته ورفعته، وتقدمه وازدهاره، حتى ولو كانت القيامة تلوح في الأفق، فيقول (صلى الله عليه وسلم):( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تََقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) (الأدب المفرد). إنها مبالغة في الحثّ على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى الدنيا عامرة إلى آخر أمدها المعلوم عند خالقها ، فالمسلم لابد وأن يكون إيجابيًا حتى قيام الساعة ، وحتى آخر رمق في حياته، وألا تشغله الأحداث عن المشاركة بيده حتى لو كانت أحداث القيامة ولحظاتها، وأن يبادر إلى غرس تلك الفسيلة قبل لحظات الساعة ، فليس المهم أن يستظل بظل هذه الشجرة، أو يأكل من ثمرها .. المهم أن يكون إيجابياً في لحظته التي يعيشها ولا تشغله الأحداث عن ذلك في شيء.

وفي المقابل حذر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوحدة والعزلة السلبيَّة، وبين أنها تجرّ على صاحبها كل عناء وبليَّة، فعن أبي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَا مِنْ ثَلاثَةِ نَفَرٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إلاَّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ) (المستدرك للحاكم).

ونحن في مثل هذه المناسبة العظيمة علينا أن نقتدي برسولنا (صلى الله عليه وسلم) في كل أحواله ، ونعمل جاهدين على أن نأصل الإيجابية والمشاركة الوطنية حتى نرتقي ببلدنا ووطننا ومجتمعنا ، وهذا لون من ألوان الاحتفال بميلاد رسولنا (صلى الله عليه وسلم) ، فإن إصلاح الأفراد والمجتمعات يحتاج إلى أن تأصيل قيمة الإيجابية فيما بيننا، وأن نفعِّلها حتى يتم التغيير :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد: 11].

فالإيجابية هي التي تبني الفرد بناءً سليمًا، وإذا شعر الفرد بمسئوليته تجاه مجتمعه أهمَّه     ما قد يجده من سلبيات فيه، فيعمل على تغييرها أو إزالتها بالتعاون مع مَن ينتهجون نفس المنهج وتجمعهم نفس التصورات.

فكم يحتاجُ وطنُنا اليوم إلى قلوبٍ سليمةٍ منفتحة على كلِّ أبوابِ الخير؛ واعية بحقِّ ربِّها عالمة بحقوقِ من حولها. وكم يحتاجُ وطنُنا اليوم إلى جموعٍ متآلفة متعاونة تقية، تتعاملُ بينها بإحسانٍ لتنشأ الأمَّةُ التي أرادنا اللهُ أن نحيا في رحابِها في أمانٍ واطمئنان، وطننا في حاجةٍ إلى تآلفِنا من أجل أن يستعيدَ قوَّتَه وقانونَه، في حاجةٍ إلينا أخوة متحابين آمنين مطمئنين.

 

*     *     *

 

فهرس الموضوعات

 

الحياء خير كله (خطبة أخرى في خلق الحياء)

أولا: العناصر:

1.     الحياء ومنزلته في الإسلام .

2.     مظاهر الحياء وأقسامه.

3.     فضائل الحياء وثمراته.

4.     أثر ضعف الحياء في سلوكيات الناس.

5.     أثر الحياء في الحفاظ على الأعراض.

6.     أثر الحياء على الفرد والمجتمع.

ثانيًا: الأدلة:

        الأدلة من القرآن الكريم:

1.   يقول الله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].

2.   ويقول تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 30، 31].

3.   ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } [الأحزاب: 53].

4.   ويقول تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. 

5.   ويقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

الأدلة من السنة:

1-   عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) (رواه مسلم).

2-   وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ لِلأَشَجِّ الْعَصرِيِّ: ( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْم ، وَالْحَيَاء) (سنن ابن ماجة).

3-   وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : ( إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ) (سنن ابن ماجة).

4-   وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قال : قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأولى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (صحيح البخاري).

5-   وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ :( كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ) (متفق عليه).

6-   وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ( الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ ) (سنن الترمذي).

7-   وعن عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ (رضي الله عنه) عَنِ النبي (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: (الْحَيَاءُ لاَ يأتي إِلاَّ بِخَيْرٍ ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً). فَقَالَ عِمْرَانُ : ( أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وتحدثني عَنْ صُحُفِكَ ) (متفق عليه).

8-    وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ) (سنن الترمذي).

9-   وعن سلمان (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وسلم): ( إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ يَدَيهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا صِفْرًا ) (سنن أبي داود).

10-   وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) (سنن الترمذي). 

ثالثًا: الموضوع:

إن للأخلاق منزلة عظيمة في الدين ، عني الإسلام بها عناية جليلة وفريدة ، لما لها من صلة وثيقة وقوية بعقيدة الأمة ومبادئها ، فكمال الأمة بكمال أخلاقها، وصلاح الأمة بصلاح آدابها وأخلاقها، وصدق الشاعر حيث قال :

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وإن من أفضل مكارم الأخلاق وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا خُلُقُ الحياء ، فبه يتم الدين ، وبه يكتمل الإيمان ، يقول (صلى الله عليه وسلم): ( الحياء شعبة من الإيمان ، ولا إيمان لمن لا حياء له) (الترغيب والترهيب). فإذا تخلق الإنسان بخلق الحياء ، كان ذلك دليلاً على حسن أدبه وسلوكه وصلاح ظاهره، ونقاء سريرته ، وكمال إيمانه.

والحياء معيار الأخلاق الحسنة وعلامتها ؛ بل هو رأس مكارم الأخلاق، فعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ): (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا ، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ) (سنن ابن ماجة). وعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها ) قالت : (رأس مكارم الأخلاق الحياء) (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا).

هذا الخلق النبيل والسلوك القويم هو رمز العفة والطهارة الذي تحلّى به النبي (صلى الله عليه وسلم) ولقد وصف بقدر من الحياء لم يوصف به غيره ، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) : كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) (متفق عليه). فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) حييًّا أعظم ما يكون الحياء ، لا يجابه أحدًا بما يكره ، وكان في هذا كما هو شأنه في كل شيء مضرب الأمثال ، وأسوة الأسوة ، مما جعله دائمًا مركز إشعاع وموئل هداية لا ينتهي عطاؤها، قال سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ...} [الأحزاب : 53 ].

إنه خلق يحبه الله (عز وجل) ويرضاه لعباده الصالحين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ) قَالَ لِلأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ : (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمَ، وَالْحَيَاءَ)، بل إن الحياء يرتبط بالإيمان، فإذا غاب الحياء غاب الإيمان ، ففي الحديث عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ) (المستدرك على الصحيحين للحاكم). فبينهما تفاعل مستمر وعطاء دائم ، يجتمعان ولا يفترقان ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر.

وإذا كان لكل دين علامة تميزه فإن الحياء خلق الإسلام وأداة تميزه ، بل يمثل منه الركن الركين  ، لأن الإيمان وعاء الحياء ، وفلكه الذي يدور فيه، ولا يتصور إلا به ، فهو شعبة من شعبه ، وفرع من فروعه ، وسبيل من سبله المفتوحة إلى رضوان الله تعالى ونعيمه ، يتجلّى ذلك فيما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الحياء شعبة من الإيمان ، فعن أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) (متفق عليه).

فالحياء جامع لكل خصال الخير ، يدفع الإنسان إلى فعل المحاسن ويبعده عن القبائح ، ما اتصف به مسلمٌ إلا حاز الخير الكثير، وابتعد به عن الشر المستطير ، ونال به الثواب العظيم ، فعن عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ : ( الْحَيَاءُ لاَ يأتي إِلاَّ بِخَيْرٍ) ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ( إِنَّهُ مَكْتُوبٌ في الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً ).

والحياء صفة جليلة اتصف بها الخالق سبحانه وتعالى ، فمن صفاته تعالى أنه حييٌّ ، ففي الحديث: ( إنَّ ربكُم حَييٌ كريمٌ يستحيي مِنْ عبدِه إذا رَفعَ يَدَيهِ إليه أن يَرُدَّهما صِفْرًا).

والحياء يكون من الله (تعالى) ومن النفس ، ومن الناس.

أما الحياء من الله تعالى : فهو أعلى درجات الحياء ، فيستحي العبد من ربه أن يجده حيث نهاه ، وهذا الحياء الذي بين العبد وربه قد بينه الحديث : ( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ: ( لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) (سنن الترمذي) .

ولهذا أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتَّسَتُّرِ ولو كنا في خلوة حياءً من الله تعالى، فعن بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ عَوْرَاتُنَا ، مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ: (احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ:( إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تُرِيَهَا أَحَدًا فَلاَ تُرِيَنَّهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ) (سنن أبي داود) .

فإذا كان هذا حال المؤمن في خلواته فما بال هؤلاء المتكشفين بإبداء العورات وإظهار القبائح أمام الخلائق!!! فالعبد إذا علم أن الله ناظر إليه ؛ أورثه ذلك حياءً منه تعالى، وإذا تيقن العبد أن الله مطلع عليه وسيسأله يوم القيامة عن كل ما اقترفت يداه ، فإنه سيخجل فيقبل على الفضيلة ويترك الرذيلة ، نجد ذلك واضحًا في بكاء الأسود بن يزيد (رحمه الله) عند احتضاره ، فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني؟! والله لو أتيت بالمغفرة من الله (عز وجل) لأهمّني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحيا منه.

وأما الحياء من الناس : فهو من مكارم الأخلاق كذلك ، فحياء الإنسان من الناسِ يمنعه من أن تقع أعينهم على ما يعيبونه عليه ، ويكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح ، رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) أَتَى الْجُمُعَةَ مُتَأخرًا َفوَجَدَ النَّاسَ قَدْ انْصَرَفُوا فَتَنكَبَّ الطَّرِيقَ (أي اجتنبه)  عَن النَّاسِ ، وَقَالَ : لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِيي مِنْ النَّاسِ.

فالواجب على العاقل أن يعوِّد نفسه لزوم الحياء من الناس ، فإن ذلك يقوده إلى التعوّد على فعل محمود الخصال ، والابتعاد عن سيئ الخِلال ورديء الكلام.

وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وهذا أكمل ما يكون من الحياء ، فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو أولى أن يستحيي من غيره .

أما عن مظاهر الحياء فمنها: أنْ يُطهِّر المسلم لسانه من الفحش والرذيلة فـ (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (صحيح البخاري). والحياء مستحبٌ في كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل. ومن الحياء التعفف عن قول ما لا يليق ، ولنا عبرة فيما كان يصنعه النبي (صلى الله عليه وسلم) حين يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) (شرح مشكل الآثار للطحاوي)، 

وكان يكني عن أشياء كثيرة ، فلْنتأسَ به (صلى الله عليه وسلم) ولنتخلق بأخلاق الإسلام حتى نعالج هذه السلبيات التي انتشرت في المجتمع ، فلقد صرنا نسمع قبيحًا من القول في الطرقات وفي المواصلات وفي الأماكن الخاصة والعامة ، وصرنا نرى من يجاهر بالمعاصي ويتظاهر بالقبائح في وضح النهار  وأمام الناس دون وازع من إيمان أو رادعٍ من حياء.

ومن مظاهر الحياء أيضًا : أن يتوقى الإنسان ويتحاشى كلّ ما يجلب له السوء من موارد الشبه ومواطن الشائعات ، فمن الحياء أن يحرص المسلم على سمعته ، فلا يقل أو يفعل ما يلوث سمعته ، ويعرضه للسخرية والأقاويل المغرضة ، قال الْأَصْمَعِيُّ (رحمه الله): سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: ( مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ) .

وكذلك من مظاهر الحياء : محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها ، ومراقبة ربها، وحفظها حقَ زوجها ، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة ، فحياء المرأة هو سياجها وحصنها ، وحماها الذي تحمي به شرفها ، وتصون به عرضها ، وتحفظ به سمعتها ، لذا دعا الإسلام إلى رعايته وتنميته ، وجعله من أَجَلِّ النعم التي تنعم بها المؤمنات المقربات ، وتتحلى به عَقيلات الأسر ، وعريقات الأصول ، يلتزمنه ويتخذنه سننًا وطريقًا يمشين عليه ، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].

إن الحياء من أجمل ما تتزين به المرأة ، ومن حياء المرأة غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة لغير المحارم ، وهذا ما أمر به القرآن الكريم حيث قال:{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31]. ففي هذه الآية الكريمة جماع العفة والطهارة والنقاء والحياء والعفاف للمرأة المسلمة.

ومن تمام حياء المرأة المسلمة : عدم خضوعها في القول حتى لا يطمع فيها أصحاب القلوب المريضة ، وأن تلتزم في حديثها بالقول المعروف الذي يؤدي الغرض المطلوب ، قولا جميلا حسنا معروفا في الخير ،كما أمر الله نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمهات المؤمنين في قوله تعالى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا  }[ الأحزاب : 32] .

وإنَّ من أعظم فضائل الحياء أنه يفضي بأصحابه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ) (سنن ابن ماجه). والبذاء ضد الحياء ، فهو جرأة في فُحشٍ، والجفاء ضد البر.

كذلك من فضائل الحياء أنه يفتح أبواب الخير ، ويمنع أبواب الشر ، فالحياء يدل على كمال عقل صاحبه ، فمتى وجد في الإنسان الحياء وجد فيه الخير كله ، ومتى فارقه الحياء قادته نفسه وشيطانه إلى الهلاك المحتوم ، وأرداه ذلك موارد الفساد.

إذا قل ماء الوجه قل حياؤه  ***  فلا خير في وجه إذا قل ماؤه

حياؤك فاحفظه عليك فإنما  ***  يدل على وجه الكريم حياؤه

ومن يتدبر أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم): في الحياء ، حيث قال: (الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرِ ) (رواه البخاري عن عمران بن حصين) ، وقال: (والْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ، أَوْ قَالَ: الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ) (رواه مسلم عن عمران بن حصين) يجدها تعطينا خلقًا كريمًا وسلوكًا حضاريًّا تنعم خلاله المجتمعات بالأمن والاستقرار ، وينعم تحت ظلاله الشعوب بالطمأنينة والأمن النفسي الذي يحملهم على أن يكونوا من حملة راية التنمية والتقدم والازدهار لهذا الوطن .

ومما يثمره الحياء على مستوى الفرد والمجتمع:

·  أنه يمنع من الفواحش ، ويحمل على البر والخير ، فمن استحيا من الناس أن يروه يفعل قبحًا، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد ، فلا يهمل فرضًا ولا يعمل ذنبًا.

·  أنّه مما يعين على التخلص من سلطان الشيطان وكيده : قال الإمام الغزالي-رحمه الله: (فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلى القلب حتى يُظلم وتنطفئ منه أنواره ، فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان، ويسعى في تحصيل مراد الشيطان) ، كما أنه سببُ كل خيرٍ ، وعمدةُ كلِّ فضيلة: فقد قال علي (رضي الله عنه): ( والحياء سببٌ إلى كلِّ جميل).

·  أنه سببٌ لهجر المعاصي: ويكون ذلك خجلاً من الله سبحانه وتعالى ؛ لأن الترك من ثمرات الحياء؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه.

·  أنه سبب لمحبة الله عز وجل: فصاحبه يُعد من المحبوبين من الله ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): ( إن الله -عز وجل- حييٌّ ستير ، يحب الحياء والستر) (رواه أبو داود).

·   فلذلك صار الحياء خلقا للإسلام ووعاء للدين ، يحمل على الاستقامة على الطاعة ، وعلى ترك المعصية ونبذ طريقها .

أما ضعف الحياء في نفوس الناس فيؤدي إلى انتهاك الحرمات ، والخوض في أعراض الناس وأنسابهم ، فكم من كلمة أوقعت صاحبها في الإثم  ؟! وكم من نظرة محرمة أردت صاحبها؟! ، وهي مقدمة لفعل الفواحش ، من أجل ذلك سد الإسلام الباب المؤدي إلى الزنا ، فقال تعالى : {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32 ] .

إن الحياء خلق رفيع يمنع الإنسان عن الاتصاف بالأخلاق الوضيعة، وعن السمعة المشينة، وعن الأقوال الفاحشة، وعن كل ما لا يرضاه الطبع السوي. فإنَّ المرء إذا فقده فعل ما شاء من معاصٍ أو آثام أو سوء خلق، ولم يخشَ في ذلك لوم لائم.

والذي هبط بالناس إلى هذا المستوى المذموم هو ذهاب الحياء من الله عز وجل ، كما في صحيح البخاري من حديث أبي مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ). فمن لم يستحِ صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ انغمس في الفواحش والمنكرات. والمرء حينما يفقد حياءه يتدرج  في المعاصي من سيئ إلى أسوأ ، ومن رذيلة إلى أرذل ، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.

إن منزوعَ الحياء لا تراه إلا على قبيح الخصال، ولا تسمع منه إلا رديء الكلام ، كأصحاب الدعوات الإباحية والشاذة الهدامة الخارجة على حدود اللياقة والحياء ، وعلى قيمنا الدينية والأخلاقية ، وعاداتنا وتقاليدنا المصرية الأصيلة ، وهي دعوات يرفضها الشعب المصري كله ، لأنه تربى على العفة والطهارة . كما أن هذه الدعوات تعد أكبر وأهم وقود للتطرف والإرهاب ، وتعطيه ذريعة لوصف المجتمع بما ليس فيه ولا يمكن أن يقره ولا يرتضيه .

 إن الإنسان المستقيم صاحب الحياء لا يرضى لأمه ولا لبنته مثل هذه الأمور ، فقد جاء شاب يستأذن النبي (صلى الله عليه وسلم ) في الزنا  كما جاء في حديث أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ : فَجَلَسَ قَالَ :) أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ) ؟ قَالَ : لاَ  وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : ( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ )، قَالَ : (أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ) ؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : (وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ) ، قَالَ: ( أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ )؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ :( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ) ، قَالَ : ( أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ )؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ :( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ). قَالَ : (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ) ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : ( وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ) . قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:( اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ) (مسند أحمد).

 

*     *     *

فهرس الموضوعات

 

نعمة الماء وضرورة الحفاظ عليها (خطبة أخرى في نعمة الماء)

أولا : العناصر :      

1.     نعمة الماء ومكانتها في القرآن والسنة.

2.     منهج الإسلام في الحفاظ على المياه.

3.     حرمة الإسراف في الماء وخطورته.

4.     تلويث الماء عصيان لله وعقوق للوطن.

5.     المسئولية الفردية والجماعية تجاه الحفاظ على الموارد المائية.

ثانيا : الأدلـــة :

               الأدلة من القرآن:

1.     قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء: 30].

2.     وقال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[النور: 45].

3.     وقال تعالى:{... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، وقال تعالى:{ ....... وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5].

4.     وقال تعالى:{وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65].

5.     وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:18].

6.     وقال تعالى:{...وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[االنمل:60].

7.     وقال تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}[الواقعة : 68ــ70].

                 الأدلة من السنة والآثار:

1.     عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ: (كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ) قَالَ: قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنْ أَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: (أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) (مسند الإمام أحمد والمستدرك للحاكم وصححه الذهبي).

2.     وعن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَسَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ أَسَاءَ، أَوْ تَعَدَّى، أَوْ ظَلَمَ) (سنن ابن ماجه).

3.     وعَنْ أَنَسِ (رضي الله عنه) قَالَ كَانَ النَّبِىُّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ ) (متفق عليه).

4.     وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ هُوَ وَأَبُوهُ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ ، عَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ يَكْفِيكَ صَاعٌ ، فَقَالَ رَجُلٌ : مَا يَكْفِينِي ، فَقَالَ جَابِرٌ : كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا وَخَيْرٌ مِنْكَ ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ) (صحيح البخاري).

5.     وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: (مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ ) فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) (صحيح البخاري).

6.     و عَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) (أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ) (صحيح مسلم).

7.     وعَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ (رضي الله عنه) سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَعُذْ بِهِ مِنْ النَّارِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ) (سنن أبي داود).

8.     وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) (سنن ابن ماجة).

9.     وعَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ ـ وهو تابعي جليل (رحمه الله) أنه قَالَ : كَانَ يُقَالُ فِى كُلِّ شَىْءٍ إِسْرَافٌ حَتَّى فِى الطَّهُورِ وَإِنْ كَانَ عَلَى شَاطِئِ النَّهَرِ (السنن الكبرى للبيهقي).

ثالثا : الموضوع:

الماء نعمة كبرى ومنة عظمى ، عليه تقوم الحياة ، وهو أساس الحضارة والرقي  وعماد الاقتصاد ، ومن أهم مصادر الرخاء وأصل النماء وسبب البقاء ، فالماء أغلى ما تمتلك الإنسانية ، إنه الرزق النازل من السماء ، قال تعالى: { ..... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ويقول تعالى: {....... وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5]. فتارة يسمي النازل من السماء ماء وتارة يسميه رزقا ليعلم العباد أن هذا الماء النازل من السماء يحمل الخير والبركة والنماء والبهجة ، فالأرض ميتة والماء حياتها ، يقول الله تعالى: {وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[النحل:65] ، والأرض هامدة يابسة مقحلة حتى إذا نزل عليها الماء تحركت بالنبات وصارت مبهجة ، يقول الله تعالى: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج: 5] ، فالماء إذا بهجة الحياة {...وأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النَّمْلِ: 60] ، والماء اخضرار الأرض وجمالها {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً...} [الْحَجِّ: 63].

ورؤية الماء ترطب النفوس ، وهو بإذن الله حياة الروح والبدن {......وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الْأَنْبِيَاءِ: 30] ، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النُّورِ: 45] . وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: (كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ) (صحيح ابن حبان) ، فالماء هو العنصر الأهم في حياة الأحياء ، فالخلايا الإنسانية والحيوانية والنباتية تحتوي على كميات كبيرة من الماء ، وإن نقصان هذه الكمية إلى حدود حرجة يعني الجفاف والموت ،فالماء يشكل 90% من وزن بعض الكائنات الحية ، أما الإنسان فيشكل الماء حوالي 71%من وزنه ، وهي تقريبا نفس نسبة الماء في الكرة الأرضية ، فسبحان من هذا خلقه ، إنه الماء جعله الله وسيلة لحسن الثواب في الدنيا ، فقال:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن:16] ، كما جعله وسيلة عقاب على المكذبين والمذنبين فقال: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[الْقَمَرِ:11 -12] . بل جعله المولى جل وعلا من أعظم نعيم أهل الجنة فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى...} [محمد: 15] ، ومما يدل على العناية الإلهية بالماء أن ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في مواضع كثيرة بلغت ثلاثة وستين موضعا ، فهل بعد هذا دليل على أهميته ووجوب الحفاظ عليه.

ولما كان للماء هذه المكانة التي تساوي الحياة حث الإسلام على الحفاظ عليه وترشيد استهلاكه ، ولذا حرص سلفنا الصالح على الماء حرصًا شديدًا ،  كما حرصوا على بقائه طاهرًا حتى يتمكنوا من شربه والتطهر به في صلاتهم وسائر عباداتهم التي تحتاج إلى طهارة ، كما حرصوا على توفيره للجميع فلا يحرم منه أحد ، بل إن الإسلام اعتبر الماء ثروة يمكن التصدق بها كالمال ، وقد حث الرسول (صلى الله عليه وسلم ) على ذلك كما فعل في بئر رومة الذي كان تحت يد يهودي وكان يمنع المسلمين من مائه ، فعن عثمان (ر َضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ )فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ ، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).(صحيح البخاري ) ـ

ومن الحفاظ على الماء الاعتدال في استعماله وعدم الإسراف فيه ، فالإسراف فيه حرام حرمه الله تعالى في كتابه حيث يقول: {......وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31] فالمسرفون يكرههم الله تعالى فهم مبعدون ومن نوره وهدايته محرومون.

إن أخوة تجمع بين المبذر وبين الشيطان لهي أشدُ دليل على قبح الإسراف والتبذير ، يقول تعالى: {...وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء: 26 ، 27] فإذا كان الإسراف حرامًا على العموم فكيف به في نعمة عظيمة كنعمة الماء بها تكون حياة كل حي ، ولكننا نتساءل : هل نتعامل مع الماء فعلاً على أنه نعمة؟ هل نقدر لهذه النعمة العظيمة قدرها؟ الماء الذي نهدره في الحقول وفي البيوت وفي المدارس وفي الشوارع ولا ندري أن الله تعالى سيحاسبنا على كل نقطة منه نهدرها.

إن النبي (صلى الله عليه وسلم) شدد في النهي عن الإسراف في الماء واعتبره تعديا وظلمًا ، فهذا الصحابي الذي جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) ليتعلم منه الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: (هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ أَسَاءَ، أَوْ تَعَدَّى، أَوْ ظَلَمَ): (سنن ابن ماجه) فجعل الزيادة على قدر الحاجة تعديًا وظلمًا وإساءة في استعمال النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا ، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ) .

إننا نخالف سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك مخالفة كبيرة ،  فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بمُد ويغتسل بصاع ، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغسلُ ـ أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمُد) ، (والصاع أربعة أمداد والمُد ملء كفي الرجل المتوسط) ، وكان عند جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاع ، فقال رجل: ما يكفيني ، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرا وخيرا منك . وإنما كان هذا القدر القليل يكفي النبي (صلى الله عليه وسلم) لوضوئه أو اغتساله من شدة حرصه على الماء ، أما نحن فإن ذلك لا يكفي أحدنا لغسل يديه فقط، يا لنا من مسرفين !!!

فيجب علينا أن نقتدي برسولنا (صلى الله عليه وسلم) في الحرص على هذه النعمة العظيمة فلا نضيع منها ما يصلح لاستخدام – أي استخدام – ، فما لا يصلح للشرب قد يصلح للغسل ، ومالا يصلح للغسل قد يصلح لإزالة القاذورات ، ولا يفعل ذلك إلا مؤمن يخشى الله تعالى ويدرك أن الماء نعمة كبرى وأنه أغنى من المال، بل أغلى من الدم الذي يجري في العروق ، فهلا حافظنا عليه قبل فوات الأوان؟! ، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الْمُلْكِ:30] ، هذا الماء الذي أنزله الله بقدرته لئن لم نتقِ الله فيه فماذا عسى ربنا أن يفعل بنا ؟! {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 68-70] .

إن الإسراف في الماء- كما هو الإسراف في غيره- حرام وإن كان الماء كثيرًا ، إذ إنه معصية في حد ذاته ، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن الإسراف في الماء ولو كان في عبادة الوضوء ! ولو كنت على نهر جار!! ، فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) مرَّ بسعد - وهو ابن أبي وقاص (رضي الله عنه ) - وهو يتوضأ، فقال: (ما هذا السَّرَفُ يا سعد؟ )، قال: أفي الوضوء سرفٌ؟، قال: نعم، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ) وكذا ورد عن هلال بن يساف – وهو تابعي جليل رحمه الله – أنه قال:  كان يقال في كل شيء إسراف حتى في الطهور وإن كان على شاطئ النهر.

لقد امتن الله تعالى علينا في كتابه الكريم بأن رزقنا ماء فراتًا – أي صافيًا نقيًا – فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً

فُرَاتًا}[المرسلات: 25-27]. فما بال كثير من الناس يغيرون خلق الله تعالى ويبدلون نعمته ويلوثون ماء أنزله سبحانه صافيًا؟! .

إن إلقاء القاذورات والمخلفات في النيل وفي الترع ومجاري المياه دليل على انعدام التقوى ومراقبة الله تعالى ، وكذا إلقاء المواد السامة وكل ما يسبب ضررًا ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ) فلا يجوز لمسلم أن يفعل ما يضر غيره ، ومثل ذلك – أو أشد – ما يفعله بعضهم من إطلاق الصرف الصحي في مجاري المياه الصالحة للاستخدام ، كيف يفعلون ذلك وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن البول في الماء الراكد ، وما النهي عن ذلك إلا محافظة على صحة الناس ؛ إذ إن التبول في الماء من الوسائل التي تنقل العدوى وتؤدي إلى انتشار الأمراض.

إن الذي يلوث الماء بأي شيء ضار يأثم بكل كبد فسد بسبب هذا الضرر ، ويأثم بكل كُليَةٍ فشلت وبكل داء أصيب به إنسان من قِبل هذا الماء الملوث، فكيف نلوث ماء أنزله الله تعالى طهورًا؟! يقول تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] .

ومن عناية النبي (صلى الله عليه وسلم) بالحفاظ على الماء أن وجه المسلمين إلى تغطية أواني الماء لحمايته من الملوثات التي قد تنتقل إليه من الهواء أو الحشرات الناقلة للجراثيم والطفيليات كالصراصير والفئران والنمل والبعوض ، فعن جابر (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ( غَطُّوا الإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ وَأَغْلِقُوا الْبَابَ وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَحُلُّ سِقَاءً وَلاَ يَفْتَحُ بَابًا وَلاَ يَكْشِفُ إِنَاءً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ ). وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ فِى حَدِيثِهِ ( وَأَغْلِقُوا الْبَابَ ).( صحيح مسلم). وأوكوا السقاء أي: اربطوا فوهات أواني الماء لحمايتها من التلوث والأوبئة .

بل إن حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على طهارة الماء وسلامته بلغت حدًا أكبر من ذلك ، إذ نهى عن النفخ في الشراب ؛ ليحميه من نفس شاربه ورائحة فمه كي لا   يتلوث ؛ لأن الشارب الأول قد لا يشرب الماء كله ، وقد يحتاج بقيته شخص آخر ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما ) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يُتنفسَ في الإناء أو يُنفخَ فيه (سنن أبي داود) ، وبالمثل نهى (صلى الله عليه وسلم) عن الشرب من فم السقاء مباشرة ، وقد ذكروا لذلك سببين : الأول : عدم تلوث ماء السقاء برائحة فم الشارب ، والثاني: حماية الشارب مما قد يكون في السقاء من شيء مختلط بالماء ، فإذا وضع الماء في كأس علم ما به.

إننا في ظل ما ينتابنا من خوف على مياه النيل – وهي المصدر المائي الرئيسي لنا في مصر – لا خلاص لنا إلا بأن نتقي الله تعالى فيما بين أيدينا من نعمة الماء ، إذ إن التقوى هي سبيل النجاة والخلاص من الأزمات، يقول الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلَاقِ:2، 3] . فلنحافظ على الماء بألا نلوثه ولا نسرف في استعماله حتى يؤمننا الله تعالى ؛ فإن الأمر بيد الله تعالى وحده ، عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل شهر بؤونة من أشهر العجم (القبطية) فقالوا:( أيها الأمير إن لنيلنا سُنة لا يجري إلا بها ، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبل ، فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري لا قليلًا ولا كثيرًا ، وفي رواية: فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى وهو لا يجري حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بذلك فكتب إليه عمر : إنك قد أصبت بالذي فعلت وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل ، فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد( فإن كنت تجري من قِبلك فلا تجرِ ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك ، فألقى عمر البطاقة في النيل فأصبح يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة) (البداية والنهاية لابن كثير).

لقد وعد الله تعالى من يؤدي حق النعمة ويشكر ربه عليها بالزيادة ، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 7] . فأعظم وسيلة لضمان الإمدادات الإلهية من الماء هو شكر النعمة والحفاظ عليها.

إن الماء أنزله الله في الأرض بقدر وبنظام محكم دقيق ، يقول الله تعالى: {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] يقول ابن كثير – رحمه الله - : فِي إِنْزَالِهِ القَطْر مِنَ السَّمَاءِ {بِقَدَرٍ} أَيْ: بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ الْأَرْضَ وَالْعُمْرَانَ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يَكْفِي الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، بَلْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ السَّقْيِ وَالشُّرْبِ وَالِانتِفَاعِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ} أَيْ: جَعَلَنَا الْمَاءَ إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ يَخْلُدُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَنَا فِي الْأَرْضِ قابليَّة لَهُ، تَشْرَبُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى.[تفسير ابن كثير]. إذًا ففي جوف الأرض خزانات للمياه بقدرة الخلاق العليم سبحانه ، وعندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود إلى ملايين السنين! فسبحان القائل: {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ ......} (عن كتاب: دورة المياه بين العلم والإيمان لعبد الدايم كحيل).

فالماء أنزله الله بقَدَر فهو محدد  كالرزق ، لكن الله تعالى أراد أن ينزل في بلاد وينتفع به أهل بلاد أخرى تمامًا كالمال في أيدي الأغنياء ، يقول سيدنا عليٌّ (رضي الله عنه):قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ ، وَلَنْ تُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِذَا جَاعُوا وَعَرُوا إِلَّا بِمَا يُضَيِّعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابًا شَدِيدًا ، ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (المعجم الصغير للطبراني).

إن الواجب علينا أن نتقي الله وأن نراعي هذه النعمة التي هي سبب الحياة وليتحمل كل منا مسئوليته أمام الله عز وجل في الحفاظ على ما أولانا من نهر عظيم وماء عذب ، فغيرنا في أمس الحاجة إلى قطرة ماء تروي ظمأه وتنبت كلأه.

ألا فلتكن هبةً مجتمعية تستهدف الحفاظ على الحياة عن طريق الحفاظ على هذه النعمة التي تستمد منها حياة الإنسان والحيوان ، وكل كائن حي بإذن الله تعالى: {...وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى} [طه: 53، 54].

 

*      *       *

فهرس الموضوعات

وقفة مع النفس

 (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)

أولا: العناصر:

1-  محاسبة النفس قبل أن تحاسب.

2-  استحضار عظمة الوقوف بين يدي الله عز وجل.

3-  لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

4-  ما أعده الله عز وجل لعباده المؤمنين وما أعده للضالين المفسدين.

     ثانيًا: الأدلة من القرآن والسنة:

      الأدلة من القرآن الكريم:

1-      قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . 

2-      وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].

3-      وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33].

4-      وقال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء: 88 -91].  

5-      وقال تعالى:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17] .

6-      وقال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: 13- 15].

7-      وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}[المدثر: 38، 39] .

8-      وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18].

9-      وقال تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت30-32].

10-            وقال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7، 8]. 

11-            وقال تعالى:{وُجُوهٌ يَّوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:22- 25]. 

الأدلة من السنة:

1-   عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (رواه الترمذي وَقالَ:  حديث حسن) ، ودَانَ نَفْسَهُ ، أي: حَاسَبَها.

2-   وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ). 

3-   وعَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيدِيِّ قَالَ - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه) فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ، قَالَ: قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْي عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): « وَمَا ذَاكَ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ ،  يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.(صحيح مسلم).

4-   وعَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ». (رواه الترمذي وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

5-   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): قَالَ اللَّهُ : (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] (رواه البخاري).

6-   وعن أبي سعيد وأبي هريرة (رضي الله عنهما): أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ : إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا ، فَلاَ تَمُوتُوا أَبَداً ، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا ، فلا تَسْقَمُوا أبداً ، وإنَّ لَكمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً ، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا ، فَلاَ تَبْأسُوا أَبَداً) (رواه مسلم).  

ومن أقوال السلف الصالح:

1-قال عُمَر بْن الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ - أَوْ قَالَ: أَيْسَرُ - لِحِسَابِكُمْ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ :{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة: 18]) (الزهد والرقائق لابن المبارك ). وفي سنن الترمذي: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا).  

2-وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ) (مصنف ابن أبي شيبة).

3-وعن ميمون بن مهران قال: (لَا يَكُونُ العَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ) (سنن الترمذي).

ثالثًا: الموضوع:

من فضل الله (عز وجل) على الإنسان أن وهبه عقلا فطنًا يميز به بين الخير والشر، ويفرق به بين الحق والباطل ، ويزن به الأمور حتى يعيش سعيدًا في دنياه وأخراه. ولما كانت النفس البشرية بطبيعتها كثيرة التقلب ، ما بين ذكر وغفلة ، وطاعة ومعصية ، وفرح وحزن ، ورضى ويأس، تميل إلى الشر تارة وإلى الخير تارة ، وتأمر صاحبها بالسوء ، وترغبه فيه.

 فعلى كل عاقل أن يقف مع نفسه وقفات ليحاسبها على ما بدر منها ، ويلجمها بتقوى الله (عز وجل) ومراقبته في كل قول وعمل ، فتزكية النفس وتطهيرها مدار فلاح العبد ونجاته يوم القيامة ، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * و َقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10].

فالعاقل من الناس هو الذي ينظر في أيامه ولياليه ، فإن كانت عامرة بالأقوال الطيبة والأعمال الصالحة سأل الله - تعالى- المزيد ، وإن وجد غير ذلك تاب إلى الله (عز وجل) توبة صادقة خالصة نصوحًا ، فمن فضل الله - تعالى- ورحمته بعباده أنه يقبل توبة التائبين، بل إنه سبحانه أخبرنا في كتابه الكريم بأن المسلم عندما يتوب إلى الله توبة صادقة تتحول سيئاته إلى حسنات ، يقول تعالى:{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:70] . 

ولقد حثَّ الله- تعالى- عباده المؤمنين على محاسبة نفوسهم ومعاتبتها على تقصيرها وتفريطها في حق الله عز وجل ، والتأمل فيما قدموه لآخرتهم ، فقال سبحانه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18]. وعَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ». (رواه الترمذي وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

فلينظر الإنسان فيما يقدمه من أعمال ، أهي من الصالحة التي تنجيه ، أم من السيئات التي توبقه؟ فإن ذلك علامة من علامات التقوى لله رب العالمين ، لذا صدرت بها الآية الكريمة ، يقول مَيْمُون بْن مِهْرَان: ( لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ) ، وذلك بمحاسبة نفسه قبل العرض على الله (عز وجل) ، وأن يزن أعماله قبل أن توزن ، وأن يهيئها للعرض على الله (عز وجل) ، فالحق سبحانه عالم بجميع الأعمال والأحوال ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. يقول الماوردي (رحمه الله) في معنى محاسبة النفس: " أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل" [أدب الدنيا والدين]. 

ومن ثم وجب على كل إنسان أن يقف مع نفسه للحظات ، ليسأل نفسه ماذا قدم للقاء ربه؟ وماذا قدم لوطنه ؟ وما آخر الطريق الذي يريد الوصول إليه ؟ وماذا عن راحة ضميره في كل ما قدم ويقدم ؟ لقد سأل رجل النبي (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟ فقال له (صلى الله عليه وسلم): (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟) فقال الرجل: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) (متفق عليه).

وإذا كان من الحقائق المؤكدة أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، فيمكن لكل عاقل أن يثوب إلى طريق الرشاد بلا تردد أو توجس ما دام يوقن أنه سبيل الرشاد ، فاليوم سبيل العمل، وغدًا يوم الحساب ، حيث يقال : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافات :24]، ومن هنا تتضح أهمية محاسبة النفس ، وخطورة إهمالها من غير محاسبة ولا معاتبة ، لأن إهمالها هو شأن الغافلين الضالين.

إن محاسبة النفس هي أعظم طريق إلى الله (عز وجل) ، وخير زاد للمؤمنين في حياتهم وآخرتهم ، وسبب سعادة الفائزين المفلحين في دنياهم ومعادهم ، فما نجا من نجا يوم القيامة إلا بمحاسبة النفس ومخالفة الهوى ، فمَن حاسب نفسه قبل أن يُحاسب خفَّ يوم القيامة حسابه ، قال عُمَر بْن الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ - أَوْ قَالَ: أَيْسَرُ - لِحِسَابِكُمْ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ :{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة: 18]). وفي رواية: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا). فالمحاسبة للنفس في دار الدنيا أهون من محاسبة الله للعبد في يوم تشيب فيه رؤوس الولدان ، فالمحاسِب هو الله ، وكفى بالله حسيبا.

جدير بالذكر أن محاسبة النفس علامة على قوة إيمان العبد بربه ، وذلك لأنه يستحضر عظمة الوقوف بين يدي الله (عز وجل) يوم القيامة وما فيه من أهوال وأحوال يشيب لها الولدان، قال تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم: 39-40] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان : 33] ، وفي ذلك يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (رواه الترمذي) ، وَدَانَ نَفْسَهُ ، أي: حَاسَبَها. وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

ويصف الْحَسَن البصري (رضي الله عنه) المؤمن بقوله: (الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ). ويقول أيضًا : ( لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ) ( الزهد والرقائق لابن المبارك)، فالمؤمن دائمًا يعاتب نفسه والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتبها.

          ومن عظيم رحمة الله (عز وجل) بالعبد ساعة الحساب أنه يحاسبه بالفضل لا بالعدل ، فكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا ، قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ...} [البقرة: 286] [رواه مسلم].

ولقد ضرب لنا الصحابة الكرام (رضي الله تعالى عنهم) أروع الأمثلة في المحاسبة ، واضعين نصب أعينهم قول الله (عز وجل):{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]. ولسان حال الواحد منهم ما قاله ربنا سبحانه على لسان الخليل إبراهيم (عليه السلام): {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء: 87 -91].

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال : سمعتُ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار : عمر أمير المؤمنين  بخٍ بخٍ ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [الزهد للإمام أحمد].

ولا نزال مع عمر (رضي الله عنه) : فقد كَتَبَ (رضي الله عنه) إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ كتابا ، فَكَانَ فِي آخِرِه: " أَنْ حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ ، فَإِنَّهُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى الرِّضَا وَالْغِبْطَةِ ، وَمَنْ أَلْهَتْهُ حَيَاتُهُ وَشُغْلُهُ بِهَوَاهُ عَادَ مَرْجِعُهُ إِلَى النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ ، فَتَذَكَّرْ مَا تُوعَظُ بِهِ لِكَيْ تَنْتَهِيَ عَمَّا يُنْتَهَى عَنْهُ" (شعب الإيمان للبيهقي).  

وجاء عن ابن الصّمة : (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ وقال: يا ويلتى ! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت ! ! فسمعوا قائلاً يقول : يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى). 

ومن الأمور التي تعين العبد على محاسبة النفس: النظر فيما أعده الله (عز وجل) لعباده المؤمنين، وما أعده الله للعصاة الضالين المفسدين. فالخلق جميعًا بين فريقين لا ثالث لهما {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ}[الأعراف:30] ، يذكرنا القرآن الكريم بحال كلا الفريقين ، فيقول الحق سبحانه :{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصلت30-32]، فالملائكة هنا لا تتنزل على الأنبياء والمرسلين فحسب ، إنما تتنزل على عباد الله الصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، لكن متى تتنزل ؟ وكيف تتنزل ؟

أما الكيفية فعلمها مفوض إلى رب السموات والأرض رب العرش العظيم ، ولكن متى تتنزل؟ فأكثر أهل العلم على أنها تنزل على المؤمن ساعة الاحتضار لتطمئنه قائلة : لا تخف يا عبد الله ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد ،{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت :31] .

أما يوم المحشر فكما تحدث القرآن الكريم في أواخر سورة الأنبياء :{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }[الأنبياء :103] ، وأما في الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد :24] ،{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ }[الحاقة :24] ، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت :31]، {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة :25] ، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}[الإنسان :19-20] .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): قَالَ اللَّهُ (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}) [السجدة: 17] (رواه البخاري). وعن أبي هريرة (رضي الله عنهما): أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ : إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا ، فَلاَ تَمُوتُوا أَبَداً ، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا ، فلا تَسْقَمُوا أبداً ، وإنَّ لَكمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً ، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا ، فَلاَ تَبْأسُوا أَبَداً) (رواه مسلم) ، ونزع الله (عز وجل) من بينهم الغل والحسد فقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر :47].

أما على الجانب الآخر والعياذ بالله فهناك من شُغل عن الله (عز وجل) بماله ، أو بجاهه ، أو بسلطانه ، أو بتجارته ، أو بجماعته ، وفصيله ، وهناك { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس : 34-37] ، {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء 88 – 89] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان : 33] يومها يندم الخاسرون حيث لا ينفع الندم ، يقول كل من يأخذ كتابه بشماله:{يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة :25-32] . 

فالنظر إلى مآل أهل الجنة ومآل أهل النار من أهم الأمور التي تعين على محاسبة النفس ، قال إبراهيم التيمي: مَثَّلْتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مَثَّلْتُ نفسي في النار: آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي[الزهد للإمام أحمد].

فالآخرة تحتاج إلى سعي هو سعيها الموصول إلى مرضاة الله فيها ، سعي المؤمن بها المعد لها ، وهذا هو السعي المشكور ، أما الفريق الآخر فحتفه جهنم يلقاها مذمومًا مدحورًا ، يقول سبحانه : {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل: 5-10] ، فالعاقل من يعمل لدنياه كأنما يعيش أبدًا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا ، من منطلق قوله تعالى :{... وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ...}[القصص :77]. 

ما أحوج الأمة اليوم ـ كبيرها وصغيرها ، رجالها ونساءها ـ شبابها وشيوخها ، أغنياءها وفقراءها ، إلى وقفة  لمحاسبة النفس ، وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية.

إن أغلب ما تعانيه الأمة اليوم من مشكلات وتجارة بالمبادئ والقيم وتفشي الظواهر السلبية يرجع في كثير من جوانبه إلى غياب مبدأ محاسبة النفس ، ولو تحقق هذا المبدأ الأصيل من مبادئ الإسلام ما رأينا هذه الظواهر السلبية التي تهدد وحدة الأمة وتفرق كلمتها وتشتت شملها.

 

*     *     *