بسم الله الرحمن الرحيم
يكون موضوع خطبة الجمعة القادمة 29 من شعبان 1435هـ – 27 من يونيو 2014م عن ” استقبال رمضان ” ، على أن يتم تناول موضوع ترشيد الاستهلاك في الخطبة الثانية .
كيف نستقبل شهر رمضان؟
أولًا – العناصر:
1- رمضان منحة ربانية للأمة الإسلامية.
2- رمضان مدرسة للأمة.
3- استعداد الصحابة والسلف الصالح لرمضان.
4- التوبة النصوح.
5- تطهير النفس من موانع الرحمة والمغفرة.
6- رمضان شهر عمل لا كسل.
7- منهج الإسلام في ترشيد الاستهلاك .
ثانيًا – الأدلة:
الأدلة من القرآن الكريم:
1- يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 183 – 186].
2- ويقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
3- ويقول تعالى: {…وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
4- ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
5- و يقول سبحانه وتعالى : ” وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ “ (الأعراف : 31) .
6- ويقول الحق سبحانه وتعالى : ” وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ” الإسراء ( 26- 27)
الأدلة من السنة والآثار:
1- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»[متفق عليه].
2- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا “، قَالَ: ” وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ – يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ – كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ” قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ” إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ – قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ -: إِلَّا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ ” قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا الْإِشْرَاكُ بِاللهِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا نَكْثُ الصَّفْقَةِ ؟ قَالَ: ” فَأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا ثُمَّ تُخَالِفَ إِلَيْهِ تُقَاتِلَهُ بِسَيْفِكَ، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ»[مسند أحمد].
3- و عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى دَرَجَةً: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الأُخْرَى فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ:”وَسَمِعْتُمُوهُ؟” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:”إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ الَسَلامَ) عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً، فَقَالَ: بَعُدَ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ” [المعجم الكبير للطبراني].
4- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[متفق عليه]، وعَنْه (رضي الله عنه) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ :«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[متفق عليه].
5- وعَنْ عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) عن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ»[صحيح البخاري].
6- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أنه قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ»[متفق عليه].
7- وقال ابنُ رجب رحمه الله : “ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم”[لطائف المعارف].
ثالثًا- الموضوع :
يوشك أن يدخل علينا هذا الضيف العزيز الذي يزورنا كل عام مرة ألا وهو شهر رمضان المبارك، شهر تتطلع إليه قلوب المؤمنين، وتتشوف لبلوغه أفئدة المتقين، نهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، تهبُّ فيه رياحُ الأنس بالله، وتجود الأنفسُ بما عندها نحو الله عز وجل، إنه منحة ربانية لهذه الأمة، فهو شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، وأَعْظمَ الثواب لصُوَّامه وقوَّامه، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور، فجعل أجرَ صائميه لا الحسنة بعشرٍ ولا بسبعِمائة، بل أَوْكلَ الأمر إلى نفسه، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ (رضى الله عنهما) قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ إِنَّ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِىَ اللَّهَ فَرِحَ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»[صحيح مسلم].
وشهر رمضان بمثابة سوق يُتيحُه الله عز وجعل لعباده كل عام مرة ليتاجروا فيه مع ربهم التجارة الرابحة، تضاعف فيه الحسنات، وتزداد فيه أسباب المغفرة، والجنة تتزين وتتهيأ لاستقبال الصائمين القائمين، تُفتَّح أبوابها ، والنار تغلق أبوابها، وتُسلسل الشياطين، ويتسابق العباد إلى الخيرات.
إن بلوغ شهر رمضان وصيامه وقيامه نعمة عظيمة ومِنّة جليلة، فكان الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) يستعدون لرمضان، ويتهيأون لاغتنام الفرصة ،كما نقل ابنُ رجب( رحمه الله): كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم، وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا، فكانوا طوال العام في رحاب رمضان، يستقبلونه بالدعاء والعبادة،ويودعونه بالقرآن وبالعبادة.
إن شهر رمضان مدرسة تتربى فيها الأمة الإسلامية، تتعلم الصبر وتتلقن دروسًا في تقوية الإرادة، فيجد المسلمون في نهاره ثمرة الصبر والانتصار على الشهوات، ويجدون في ليله لذة المناجاة والوقوف بين يدي ربهم، وتتجسد فيه ملامح التلاحم بين المسلمين عامتهم وخاصتهم، علمائهم وعامّتهم كبيرهم وصغيرهم، ليكون الجميع يدًا واحدةً، وبناءً متكاملاً، لدفع تيارات الفتن، وأمواج المحن.
فكيف نستقبل هذا الضيف الكريم؟ وكيف نستعد لاغتنام هذه الفرصة العظيمة؟
إن الذي يريد أن يزرع أرضًا لابد أن يعدها ويجهزها للزراعة، أو كما يقول العلماءالعاملون : التخلية قبل التحلية ،هكذا ينبغي على كل مسلم أن يعد نفسه ويجهز ها ويؤهلها لاستقبال النفحات والرحمات والخيرات، وأول شئ نستقبل به الشهر الكريم : التوبة النصوح ،ألا فلنستقبل هذا الشهر الكريم بتوبة نصوح تغسل ذنوبنا، وتطهر قلوبنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]، ولا يقبل الله إلا التوبة النصوح، فما هي ؟ إنها التوبة الخالصة الصادقة الجازمة التي تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات، يقول ابن كثير : ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هي أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه .
كما أن الواجب على من يستقبل رمضان بتوبة نصوح أن يقلع عن الذنب : أما المستغفر وهو لا يزال يعصي الله تعالى فهو كالمستهزئ بالله والعياذ بالله، إذ التائب لابد أن يعيش حالة التوبة فيشعر بالندم لأن الندم على فعل المعصية أساس التوبة فيحترق القلب ندمًا على ما فعله وأغضب به ربه وبَعُدَ عنه بسببه ، أما أن يتوب وحلاوة المعصية في نفسه فهذه لا تقبل أبدًا فلابد من ندم القلب حتى تقبل التوبة.
أما عزيمته ألا يعود إلى المعصية فهنا أمر لابد أن نلتفت إليه : إن كثيرًا من الناس سمعوا الأحاديث التي ترغب في التوبة فاغتروا وهانت عليهم المعاصي ، كحديث : «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» [صحيح مسلم] ، كيف نجمع بين هذا الحديث الشريف وبين اشتراط أن يعاهد التائب ربه ألا يعود إلى المعصية؟ بل أكثر من هذا حديث الصحيحين: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أنه قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ»، هل يعني هذا أن الله تعالى يفتح لنا أبواب المعاصي ؟ كلا كلا، إن التوبة المقبولة هي التي يقف صاحبها ساعة التوبة نادمًا عازمًا بصدق بينه وبين الله تعالى ألا يعصي الله تعالى أبداً – لابد من هذا وإلا لا تقبل التوبة؛ ثم ماذا يصنع العبد حين تضعف نفسه مرة أخرى وتغلبه على المعصية بعد أن عاهد الله ألا يفعلها ؟ هل ييأس من مغفرة الله تعالى له ؟ بل لابد أن يستأنف التوبة النصوح الصادقة التي يعاهد الله فيها مرة أخرى ألا يعصي ، ثم إن عاد إلى المعصية يعود إلى التوبة حتى يتغلب على الشيطان في هذه الحرب الدائرة بينه وبينه ، فالمطلوب أن يكون الإنسان ساعة التوبة عازمًا على ترك المعصية وعدم الرجوع إليها.
ولقد وصل الحال بالكثيرين أن يأمنوا عذاب الله تعالى لا يخافون من المعاصي ولا ينزجرون ؟ ما هكذا كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الصالحين : قال عمرو بن العاص (رضي الله عنه) عند موته : اللهم أمرتنا فعصينا، و نهيتنا فركبنا، و لا يسعنا إلا عفوك، لا إله إلا الله، ثم رددها حتى مات، و قال عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عند موته : أجلسوني، فأجلسوه فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت و نهيتني فعصيت، و لكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر، فقالوا : إنك تنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال : أتاني حضرة ما هم بإنس و لا جن، ثم قُبض (رحمه الله) و سمعوا تاليًا يتلو : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
فلنتب إلى الله تعالى في هذه الأيام المباركة توبة خالصة صادقة نصوحًا تغسلنا من الذنوب، وتطهر قلوبنا وتؤهلنا لاستقبال كل خير من ربنا سبحانه وتعالى في أيام الطاعات والنفحات .
فأهم ما ينبغي أن يُعنى به المؤمن الآن في استقبال رمضان تأهيل نفسه وقلبه لاستقبال النفحات الربانية في هذه الأيام الطيبة المباركة، وأهم ما في ذلك أن يزيل كل واحد منا موانع الرحمة والمغفرة، فهناك موانع تحجب الرحمة والمغفرة والنفحات الربانية، فلابد من تطهير النفس من هذه الموانع الآن قبل فوات الأوان، ولقد كان أحد المشايخ مع أناس يقيمون ليلة السابع والعشرين من رمضان في مسجد من المساجد فذكر لهم ما نقله ابن رجب (رحمه الله): “….. و قد جاء في ( حديث ابن عباس مرفوعا : إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) فيعفو عنهم و يرحمهم إلا أربعة : مدمنَ خمر و عاقًا و مشاحنًا و قاطعَ رحم )….”[لطائف المعارف]، فقال أحدهم للشيخ: بيني وبين أحد أقاربي شيء فهل أغادر المسجد الآن ونحن في جوف الليل وأصله وأفض ما بيني وبينه من القطيعة؟ فالتفت الجميع إلى أن الوقت قد فات وأن التهيؤ والاستعداد وإزالة هذه الموانع يحسن أن يكون قبل دخول رمضان.
إذن فموانع الرحمة والمغفرة والحجب التي تحجب النفحات والمنح الربانية في عموم الأيام وفي الأيام والليالي الفاضلة أيضًا: إدمان الخمر والمخدرات، وعقوق الوالدين، والمشاحنة، وقطيعة الرحم ، أما الخمر فيكفي أن شاربها ومن امتدت يده فيها ملعون مطرود من رحمة الله تعالى، فعن ابْنِ عُمَرَ(رضي الله عنهما) قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم) : ( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) ( رواه أبو داود)، إنها فرصة عظيمة سنحت لكل من يريد أن يتوب لعل الله تعالى يشمله برحمته ويُبَغِّضُ إليه هذه السموم، ويقيمه على طريق طاعته، فينال خيري الدنيا والآخرة.
وأما عاقّ الوالدين فهو محروم من رحمة الله وعفوه إذ إن الله لا يقبل منه شيئًا، فعمله محبط مردود، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلاَ عَدْلا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ» [السنة لابن أبي عاصم]، فالعاق من أهل الحرمان حتى في الأيام التي يعم فيها الخير ويشمل الله عباده بالعفو، إنه بعقوقه محروم من دخول الجنة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ ، وَلاَ عَاقٌّ ، وَلاَ مُدْمِنُ خَمْرٍ » [السنن الكبرى للنسائي]، فالوالدان طريقك إلى مرضاة الله تعالى أو سخطه والعياذ بالله، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ” رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ “[شعب الإيمان للبيهقي].
وأما المشاحن – وهو الذي بينه وبين أخيه شحناء وقطيعة وعداوة بسبب نفسه الأمارة بالسوء- فإنه محجوب عن عفو الله ومغفرته ورحمته كل وقت، حتى في الأوقات التي يعم فيها عفو الله جميع العباد، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»[صحيح مسلم]، فهل تُضَيِّعُ ثواب صيامك وقيامك وتفوت فرصة لا تدري أتدركها مرة أخرى أم لا من أجل بُغضك لفلان أو فلان؟! عامل الناس بأخلاقك أنت لا بأخلاقهم، فالأخلاق عندنا نحن المسلمين عبادة نتعبد بها لله عز وجل، فأحسِن إلى الناس تقربًا إلى الله تعالى، ولئن فعلتَ لَيُحَولنَّ الله لك قلوب العباد، يقول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34]، إن صلاح ذات البين جليل القدر عظيم الثواب، فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :« أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ »[سنن الترمذي].
وأما قطيعة الرحم فإنها حجاب غليظ بين الإنسان وبين رحمة الله تعالى، وقاطع الرحم محكوم عليه بالحرمان من دخول الجنة، فعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ»[صحيح مسلم]، فقاطع رحمه لن يجد في ولده بركة، ولن يجد في ماله بركة، ولن يجد نفسه موفقًا في أي شيء، ولن يهتدي إلى أي خير، وما ذلك إلا لأن بينه وبين الله تعالى قطيعة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَذَاكَ لَكِ»[متفق عليه]، إن قاطع الرحم مطرود من رحمة الله تعالى ملعون بنص كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد: 22، 23].
لابد أن نزيل هذه الحجب التي تحجب عنا رحمة الله تعالى ونتخلص من هذه الموانع التي تمنع عنا فضل الله عز وجل ونحن مقبلون على هذا الشهر الكريم قبل أن نكون من أهل الحرمان في وقت يتقلب فيه العباد في فضل الله سبحانه، فالمحروم حقًا من يحرم فضل الله تعالى في هذا الشهر الكريم، فعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى دَرَجَةً: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الأُخْرَى فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ:”وَسَمِعْتُمُوهُ؟” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:”إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ الَسَلامَ) عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً، فَقَالَ: بَعُدَ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ” .
ونُذّكر -ونحن نستقبل هذا الشهر المبار ك- بأن أعظم ما يتقرب به الصائم أن يؤدي كلٌ منا عمله المنوط به على أكمل وجه متقنًا له كأحسن ما يكون الإتقان مراقبًا لله تعالى، ويتعامل مع من يتعامل معه بكل حب واحترام وتقدير ولا يتأفف ولا يتكاسل ولا يضجر بحجة أنه صائم.
ومن أهم ما يجب أن يُعنى به المؤمن وهو يستعد لاستقبال هذا الشهر الكريم تحسين النية وتوجيه القصد إلى الله تعالى وحده فإن الصيام المقبول الذي تُغفر به الذنوب وترفع به الدرجات هو ما كان إيمانًا واحتسابًا، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه ) أََنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، يقول ابن حجر رحمه الله: ” أي مؤمنًا محتسبًا، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى، وقال الخطابي: احتسابًا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه”[فتح الباري]، فالصيام إيمانًا يعني أن يكون الباعث على الصيام وتحمل الجوع والعطش لا مجرد التعود ولا حياءً من الناس ولا تقليدًا لمن حوله بل أن يكون الباعث له على الصيام اعتقاده فرضية الصيام والتقرب به إلى الله تعالى.
والصائم المحتسب هو الذي يهون عنده الجوع والعطش في سبيل إرضاء الله تعالى ورجائه في عظيم ثوابه، فحاله وحال غير المحتسب كرجلين يعملان في عمل ما، رجع أحدهما آخر النهار متعبًا مُجهدًا لا يكاد يقيم صلبه من شدة التعب لكنه رجع بأجر وفير ومال كثير ، والثاني رجع مرتاحًا غير مجهود ولا متعب لكنه لم يرجع إلا بالقليل من المال الذي لا يكفي شيئًا ولا يسد حاجة، فالأول يكون مسرورًا بأجره طيب النفس على الرغم مما يشعر به من التعب والإرهاق والعناء، والثاني يكون حزينًا مكتئبًا لا تنفعه راحته بعد فوات الأجر.
وكذلك القائم المحتسب هو الذي يهون عليه السهر وطول القيام وقراءة القرآن ما دام هذا سبيلًا لمرضاة الله تعالى ومغفرة ما تقدم من ذنبه.
إن شهر رمضان شهر اجتهاد وجد وعمل، لا كسل وخمول، فما أكثر ما حققه المسلمون على مر تاريخهم الطويل وهم صُوَّم في هذا الشهر الكريم، ليتعلم المؤمنون في كل زمان أنه شهر بذل وعطاء ودفع لمسيرة الأمة نحو التقدم والإنتاج.
اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا، واشملنا فيه يا مولانا بنفحة من فيض جودك لا نشقى بعدها أبدًا.
تنويه بشأن الخطبة الثانية :
تستقبل الأمة العربية والإسلامية شهر رمضان المعظم وهي مفعمة بالأمل، سائلة الله تعالى أن يكون عام يمن وخير وبركة علينا جميعا، وأن يكون عام أمن وسلام للبشرية جمعاء.
وبما أن شهر رمضان شهر صيام وعبادة وتربية وقوة إرادة ، وهذه الإرادة المكتسبة ينبغي أن تتعدى إلى ضبط السلوك الاستهلاكي للفرد والأسرة بالتعقل والاتزان والحكمة والترشيد ، ومن ثم فلنتخذ من الصيام مجالا لإرادة حقيقية لمزيد من العمل والإنتاج من جهة وترشيد الاستهلاك من جهة أخرى ، حتى نرضي الله (عزّ وجلّ) بسلوكنا المنضبط بضوابط الشرع في شهر رمضان شهر الخير والبر والإحسان ، وليكن شعارنا التكافل والترشيد ، يقول سبحانه وتعالى : ” وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ “ (الأعراف : 31) . ويقول الحق سبحانه وتعالى : ” وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ” الإسراء ( 26-27) .