*:أخبار الأوقاف2المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

الناقد الكبير أ.د/ محمد عبد المطلب يشيد إشادة بالغة
بكتاب “الفكر النقدي بين التراث والمعاصرة ” لوزير الأوقاف

ويؤكد :
هذا الكتاب من أهم الكتب التي قرأتها قديمًا وحديثًا
وكم تمنيت أن أكون مؤلف هذا الكتاب
وعندما قرأته شعرت بأنني أسير مع معالي الوزير في طريق واحد

  خلال تنظيم وزارة الثقافة ندوة علمية كبرى بمعرض القاهرة الدولي للكتاب يوم الأحد ٢ / ٢ / ٢٠٢٠م لمناقشة أحدث إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب ” الفكر النقدي بين التراث والمعاصرة “نحو نظرية عربية معاصرة في النقد الأدبي لمعالي أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ، أشاد أ.د/ محمد عبد المطلب أستاذ النقد الأدبي والبلاغة بكلية الآداب بجامعة عين شمس بكتاب “الفكر النقدي بين التراث والمعاصرة” ، قائلاً: إن هذا الكتاب يعد من أهم الكتب التي قرأتها قديمًا وحديثًا، وكم تمنيت أن أكون مؤلف هذا الكتاب ، وعندما قرأته شعرت بأنني أسير مع معالي الوزير في طريق واحد، مؤكدا أن كتاب معالي الوزير من مدرسة النقد المنتج ، فالفكر النقدي ثلاث أنواع: النقد الفطري الذاتي، والنقد العلمي، والنقد المنتج، وهذا الكتاب من النقد المنتج.
من جانبه أثنى معالي وزير الأوقاف أ./د محمد مختار جمعة على المنهج العلمي والنقدي للناقد الكبير الأستاذ الدكتور/ محمد عبد المطلب مؤكدًا أنه شرف بالتلمذة على مؤلفاته البلاغية والنقدية وكانت عمدة ومرتكزا في كثير من دراساته النقدية .
وقد جاء في مقدمة الكتاب :
إن العلاقة بين التراث والمعاصرة في الفكر النقدي – شأن كثير من المتقابلات – ليست علاقة عداء أو قطيعة ، ولن تكون ، ولا ينبغي أن تكون ، وإن الوسطية التي نحملها منهجًا ثابتًا في كل مناحي حياتنا ، ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها ، إنما هي منهج ثابت ننطلق منه في كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية ، لا نحيد عن هذا المنهج قيد أنملة ، فقد قالوا : لكل شيء طرفان ووسط ، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر واختل توازنه ، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان ، ونحن مستمسكون بهذا الوسط وتلك الوسطية ، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير .
فنــحـن لا نتعصب للقديــم لمجــرد قدمــه ، ولا نسـلـم زمام عقلنـا للتقليد الأعمى دون أن نمعــن النظــر فيما ينقــل إلينــا أو يلقى علينــا ، فقـد ميز الله (عز وجل) الإنسان عن سائر الخلق بالعقل والفكر والتأمل والتدبر والتمييز ، ونعى على من أهملوا هذه النعم ولم يوفوها حقها ، فقال (سبحانه) : “أَفَلَا يَعْقِلُونَ” [يس: 68]، وقال تعالى: “أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ” [الأنعام: 5]. ويقول (سبحانه) : “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى” [طه: 54]، ويقول (عز وجل) : “وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ”” [العنكبوت: 43]، ولما نزل قوله تعالى : “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 190] قال نبينا )صلى الله عليه وسلم): “ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها” (رواه ابن حبان في صحيحه).
ولا يمكن أيضًا أن ننسلخ من هذا التراث العريق أو نقف منه موقف القطيعة ، ونعمل في الهواء الطلق ، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل ، بل علينا أن نأخذ من الماضي العريق النافع والمفيد الذي ننطلق به في الحاضر ونؤسس به للمستقبل .
وأؤكد أن في تراثنا النقدي من الفكر والثراء والتنوع ما يحتم علينا إعادة قراءة هذا التراث قراءة جديدة عصرية يمكن أن تشكل أساسًا قويًّا ومتينًا لبناء نظرية عربية في النقد الأدبي ، لا تنفصل عن تاريخها ولا عن هويتها ولا عن واقعها ، بل يمكن أن تكون حال نضجها أحد أهم ملامح هويتنا الواقية وخصوصيتنا الثقافية في زمن العولمة والتيارات النقدية والفكرية والثقافية الجارفة.
وكما أننا لا يمكن أن نرفض القديم لقدمه, لا يمكن أيضًا أن نرفض الحديث لحداثته, أو لكونه ثقافة الآخر أو المختلف , أو كونه ثقافة وافدة على ثقافتنا , أو أن ندعو إلى الانكفاء على الذات والتمحور أو التقوقع حولها, فهذا عين الجمود والتحجر الذي نواجهه بكل قوة وحسم , فثقافة أخرى تعني عقلاً آخر , وإضافة جديدة , ومادة جديرة بالاعتبار والتأمل والنظر , بل إنني لأدعو إلى إعمال الفكر وإمعان النظر في كل ما هو عصري أو حديث أو جديد , فنأخذ منه النافع والمثمر والمفيد , وما يشكل إضافة حقيقية لثقافتنا , ويتناسب مع قيمنا وأخلاقنا وحضارتنا , ونتجاوز ما لا يتسق مع هويتنا الثقافية وقيمنا الراسخة.
كما يجب أيضًا ألا نتخلف عن الركب , فنتشبث بآراء ونظريات ثبت عدم جدواها عند الغربيين أنفسهم , فدعا نقادهم إلى ضرورة مراجعتها , أو تخلوا هم عنها وبحثوا عن نظريات أو رؤى أخرى جديدة رأوها أكثر دقةً وملاءمةً ونفعًا , أو وجدوا فيها خيط نجاة جديد يخلصهم من تعقيدات وفلسفات بعض النظريات التي خرجت بالنقد الأدبي عن لبابه إلى معالجات انحرفت بالنص الأدبي عن مساره الطبيعي إلى مسارات أخرى ربما كان من الأجدى تطبيقها على علوم وفنون أخرى غير النص الأدبي، إذ تبقى عظمة وخصوصية النص الأدبي والنقدي في كون كل منهما نصًّا ينطق أدبًا ويفيض أدبًا ويشع أدبًا قبل أي شيء آخر.
وقد حاولت في هذا الكتاب “الفكر النقدى بين التراث والمعاصرة” أن أقف عند بعض القضايا النقدية المعاصرة ذات الجذور التراثية , وبعض القضايا التراثية فأعيد قراءتها في ضوء معطيات النقد الحديث , لأؤكد من خلال تناولي لهذا وذاك أن العلاقة بين القديم والحديث يمكن أن تكون علاقة تكاملية , وليس شرطًا أن تكون علاقة إقصاء أو صراع، وأنه يمكننا أن ننسج من هذا و ذاك نظرية عربية عصرية متكاملة في النقد الأدبي.
ويضم هذا الكتاب خمسة أبحاث تتكامل في تحقيق هذا الهدف ، ونؤمل أن تسهم في إنتاج النظرية التي نهدف إليها ، وقد جعلته في خمسة فصول على النحو التالي :
• الفصل الأول : المعادل اللغوي .. دراسة تطبيقية في ضوء النص القرآني .
• الفصل الثاني : دلالة السياق وأثرها في النص الأدبي .. دراسة نقدية .
• الفصل الثالث : العدول بين القدماء والمحدثين .. دراسة نقدية .
• الفصل الرابع : جدلية الحضور والغياب بين القدماء والمحدثين .. دراسة أسلوبية نقدية .
• الفصل الخامس : الفكر النقدي في المثل السائر في ضوء النقد الحديث .
وإني لأرجو أن أكون قد وفقت فيما قصدت ، والله من وراء القصد ، وهو الموفق والمستعان .
وتضمنت خاتمته النتائج التالية :
1) أننا لو أعدنا قراءة تراثنا النقدي قراءة واعية منصفة لوقفنا على كثير من كنوزه ونفائسه ، واتضح لنا – بما لا يدع مجالاً للشك – أن الحياة الأدبية العربية في عصرها الذهبي كانت تموج بتيارات وحركات نقدية لا تقل حيوية وأهمية عن حركة الحياة الأدبية والنقدية في القرنين العشرين والحادي والعشرين سواء في أوروبا أم في عالمنا العربي ، وأن القضايا التي تناولها النقاد العرب القدماء لم تمت بموتهم، فإن الكثير منها ما زال حاضرًا بقوة في ثقافتنا الأدبية والنقدية ، وما زال قادرًا على تشكيل منطلق قوي ومتين لنظرية عربية حديثة في النقد الأدبي تنظر بعين الاعتبار إلى الماضي والحاضر معًا، بحيث لا تنكفئ على القديم ولا تنسلخ منه، ولا تنعزل عن الحاضر والآخر الثقافي ، ولا تذوب في هذا الآخر ذوبانًا يفقدها خصوصيتها وتميزها, بل تنتقي من هـذا وذاك النافع والمفيد ، الذي يتناسب مع حضارتنا وقيمنا وثقافتنا العربية والإسلامية ، بحيث تصبح هذه النظرية – عند نضجها – هويتنا الواقية في مواجهة تيارات العولمة الجارفة العاتية.
2) أن طريقة التعبير عن الأفكار أو العواطف أو الأحاسيس إذا جاءت في أعلى درجات المشاكلة وإصابة المحزّ في التوافق والمواءمة بين اللفظ والمعنى، سواء تضمنت رمزًا أو قناعًا أم لم تتضمن شيئًا من ذلك – فإننا يمكن أن نطلق عليها مصطلح “المعادل التعبيري” وهو المصطلح الأعم .
3) أن هذه الطريقة إذا تضمنت رمزًا أو قناعًا أو خلق موقف أو سلسلة من المواقف تعادل العواطف والمشاعر والأفكار – فإننا يمكن أن نطلق عليها مصطلح “المعادل الموضوعي” فتكون العلاقة بينه وبين “المعادل التعبيري” علاقة عموم وخصوص مطلق ، فكل معادل موضوعي هو معادل تعبيري ولا عكس .
4) أن طريقة التعبير اللغوي إذا لم تتضمن رمزًا ولا قناعًا ، وكانت في قمة المشاكلة بين الألفاظ ومعانيها – فإننا يمكن أن نطلق عليها مصطلح “المعادل اللغوي” وتكون العلاقة بينه وبين “المعادل التعبيري” علاقة عموم وخصوص مطلق- أيضًا – ، فكل معادل لغوي هو معادل تعبيري ولا عكس.
5) أن المعادل اللغوي إذا قصد به قمة المشاكلة بين اللفظ ومعناه فإننا يمكن أن نطلق عليه مصطلح “المعادل اللفظي” ، وإذا قصد به قمة المشاكلة بين الجملة أو العبارة وما تعبر عنه من عواطف ومشاعر وأفكار فإننا يمكن أن نطلق عليه مصطلح “المعادل الأسلوبي” .
6) أن قضية المعادل اللغوي وإن لم يتناولها نقادنا القدماء كمصطلح نقدي فإنها ضاربة بجذور راسخة في تنظيرهم لقضية المواءمة والمشاكلة بين الألفاظ ومعانيها، وفي تطبيقاتهم لهذه القضية.
7) أنني اخترت التطبيق على بعض جوانب النص القرآني، لأن القرآن الكريم هو – جملة وتفصيلاً – في أعلى درجات البلاغة والبيان، وعلى ذروة سنام قمة المشاكلة بين الألفاظ ومعانيها ، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام رب العالمين ، ومعجزة الإسلام الكبرى ؟ لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالو ا : “إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا” ، وما أن سمع أحد الأعراب قوله تعالى: “وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” ، حتى انطلق لسانه قائلاً : أشهد أن هذا كلام رب العالمين لا يشبه كلام المخلوقين وإلا فمن هذا الذي يستطيع أن يأمر الأرض أن تبلع ماءها فتبلع ؟ ويأمر السماء أن تكف عن إنزال الماء فتقلع؟!
ولعل هذه البلاغة العالية التي لا تدانيها بلاغة هي التي دفعت كاتبًا كطه حسين إلى أن يقو ل: الكلام شعر ونثر وقرآن، ذلك لأن القرآن الكريم وإن كان من جنس كلامهم وحروفهم إلا أنه نسيج وحده في الفصاحة والبلاغة والبيان ، إذ لا تكاد ألفاظه تصل إلى الأسماع حتى تكون معانيه قد وصلت إلى القلوب، فيهجم عليك الحسن منه دفعة واحدة، فلا تدري أجاءك من جهة لفظه أم من جهة معناه، وصدق الحق سبحانه وتعالى إذ يقول : “..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ”.
«««
8) أن أدباءنا ونقادنا القدماء كانوا على وعي كبير بالسياق وأثره في بنية النص، وإن لم يطلقوا عليه هذا الاسم ، أو يعرفوه بحد أو رسم ، فقد راعوا ما يقتضيه السياق سواء في إشاراتهم إلى ضرورة مراعاة الحال والمقام ، أم في حديثهم عن النظم ، أم في ثنايا دراساتهم التطبيقية .
9) أن ما كتبه البلاغيون والنقاد القدماء حول السياق يعد أساسًا قويًّا للدراسات الأسلوبية والسياقية الحديثة والعصرية ، وبخاصة كتابات عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، وكتابات ابن الأثير في المثل السائر، وأن كثيرًا من الكتاب المعاصرين المنصفين يعدون الإمام عبد القاهر الأب الروحي للدراسات الأسلوبية والسياقية ، ويعدون دراسته للنظم منطلقًا قويًّا لكثير من قضايا النسق الحداثي .
10) أن النقاد المحدثين والمعاصرين فصلوا ما أجمله النقاد القدماء وحاولوا تقنينه، فبعد أن كان الأمر – في جملته – يدور حول النظم ومقتضى الحال والمقام وما شابه ذلك صار عند النقاد المعاصرين أكثر تفصيلاً ، فتحدثوا عن سياق النص بما يشمله من بنى صوتية وتصريفية ومعجمية وتركيبية ، وعن سياق الموقف وسياق الثقافة .
11) أن الفارق بين رؤية القدماء والمعاصرين للسياق هو أن القدماء قد انصبت عنايتهم على دراسة الكلمة وموقعها من الجملة ، أو دراسة الجملة وموقعها من النص ، وما يعتريها من تقديمٍ أو تأخيرٍ ، أو حذفٍ أو ذكرٍ ، أو فصلٍ أو وصلٍ ، ونحو ذلك ، في حين تطلب المحدثون والمعاصرون تجاوز هذه النظرة الجزئية إلى دراسة سياقية تنظر بعين الاعتبار إلى النص برمته ، وتعمد إلى ربط السياقات المختلفة بعضها ببعض ، ولا تقتصر على مجرد الربط بين هذه السياقات ، بل تخرج من هذا الربط بسمات وخصائص متميزة، غير أن دراساتهم التطبيقية وإن حاول بعضها مقاربة بعض النصوص بصفة شمولية فإن أكثرها لا يكاد يخرج في مقاربته التحليلية أو النقدية عن تناول القدماء لنصوصهم .
12) من خلال رؤيتنا للدراسات الأسلوبية ، والنصية ، والبنيوية ، والتفكيكية ، وغيرها ، نؤكد أن نظرية السياق من أهم النظريات في دراسة وتحليل النصوص ، لأنها وإن كانت تعنى بالنص من داخله ، وتركز على دراسة بناه ولبناته الصوتية والمعجمية والدلالية والبلاغية والجمالية فإنها لا تلغي المعطيات والمؤثرات الخارجية التي يمكن أن تضيء بعض جوانبه ، بل لا يمكن أحيانًا فهم بعض جوانب أو أسرار النص إلا بالوقوف على هذه المعطيات .
13) أن الوعي بالسياق ودراسته يفيد إفادة بالغة في دراسة النص القرآني سواء في تفسيره تفسيرًا تحليليًّا أم في تفسيره تفسيرًا موضوعيًّا ينظر إلى الآيات في ضوء سياقها الأكبر ومقاصدها التشريعية العامة ، كما أنه يفيد الأصوليين والفقهاء في بناء قواعدهم الكلية واستنباط أحكامهم التفصيلية ، كما أنه لا غنى عن دراسته للأديب المبدع والأديب الناقد على حد سواء .
14) أن مصطلح ” العدول ” يعني الخروج عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى أو عن أسلوب إلى أسلوب آخر ، لخصوصية يقتضيها المقام أو السياق .
15) أن العدول بهذا المفهوم ضارب بجذور راسخة في أعماق تراثنا الأدبي والنقدي ، وأن أدباءنا ونقادنا القدماء كانوا على وعي كبير بمفهوم العدول ، وأنهم أفادوا منه في كثير من تطبيقاتهم النقدية والبلاغية ، وأن تناولهم له كان في ضوء ما يقتضيه السياق دون تكلف أو اعتساف .
16) أن تناول المحدثين المنصفين للعدول لا يخرج عن تناول القدماء له إلا في بعض التفصيلات وشيء يسير من التنظير الذي تقتضيه طبيعة العصر .
17) أن فهم هذا المصطلح يشكل منطلقًا رئيسًا لفهم اللغة الأدبية والبنى الأسلوبية التي يعد الخروج على النمط المثالي المألوف من أهم خصائصها ، ويسهم – إلى حد كبير – في فك شفرات هذه اللغة وتلك البنى .
18) أن كثيرًا من تخريجات البلاغيين على خلاف الأصل أو خلاف مقتضى الظاهر لا تكاد تفهم فهمًا دقيقًا إلا في ضوء الوعي النقدي لمفهوم العدول .
19) أن مفهوم العدول جاء واضحًا جليًّا عند من استخدمه من النقاد القدماء أو المحدثين المنصفين غير المتحاملين على تراثهم ، في حين أدى تفنن بعض النقاد والكتاب الحداثيين وما بعد الحداثيين في اختيار مصطلحات بديلة ولجوء بعضهم إلى نقل مصطلح غربي بديل إلى ارتباك وفوضى في فهم هذا المصطلح ، فجاء محمَّلاً بما ينبئ عن رؤيتهم الحانقة – أو المتوجسة على أقل تقدير – تجاه تراثنا اللغوي والأدبي ، فكانت مصطلحات عدة ، مثل : الانحراف ، الانزياح ، الانتهاك ، الشناعة ، العصيان ، الإطاحة ، خرق السنن ، وغير ذلك من المصطلحات التي تحمل معنى الثورة والتمرد تارة ، والهدم والتدمير تارة أخرى ، وهو ما صرح به بعض كتاب هذه الحداثة .
20) أن فهم الأسرار الكامنة وراء علاقات الحضور والغياب يمكن أن يسهم في تشكيل رؤية ناضجة لدى كل من المبدع والناقد بأهمية إعمال الفكر في سلسلة البدائل التي يمكن أن ترقى بالنص إلى مستوى أفضل ، وتجنب المبدع أو المنشئ كثيرًا من الملاحظات النقدية التي يمكن أن يتعرض لها عمله إذا جاء عفو الخاطر دون إعمال العقل في هذه البدائل ، أو دون مراعاة الدقة في اختيار أنسبها وأقربها إلى بنية النص وسياقه .
وتبلغ الدقة ذروتها حين يبحـث الناقد في سلسلة البدائل المتاحة فيعود بعد جهدٍ ولأيٍ إلى البنية التي اختارها المبدع ، حيث لا يصلح في موضعها غيرها ، ولا يقوم مقامها بنية سواها .
كما أن فهم هذه الأسرار فهمًا دقيقًا يسهم – إلى حد كبير – في تصور ما يحمله الحاضر من دلالة على الغائب ، أو تشرّب لمعناه ، ويساعد على ردم الفجوة بين الحاضر والغائب ، بين المتجلي والخفي ، بين المذكور والمسكوت عنه ، وفق تعبيرات الحداثيين المتعددة .
21) أن نقادنا القدماء كانوا على وعي كبير بمفهوم كثيرٍ من المصطلحات النقدية الحديثة ، وإن لم يخوضوا في تعريفها ، أو يقفوا عند تحديدها ذلك التحديد العلمي الدقيق الذي اقتضته طبيعة الدراسات النقدية الحديثة وسُنّة التطور العلمي .
فعلاقــات الحضـور والغيـاب كانت ماثـلة بوضــوح في أذهانهم ، وقـد أفـادوا منـهـا في تحليل كثيرٍ من النماذج الأدبية لاستخلاص ما فيها من ألوان الجمال أو رصد ما فيها من مظاهر الركاكة والضعف .
وبعبارة أخرى : كانت هذه الخاصية من أهم مظاهر تقييم العمل الأدبي عندهم ، وهو ما يؤكده بعض النقاد المحدثين والمعاصرين.
على أن المصطلح المتكرر في وصف العلاقات الأفقية أو المحور التتابعي/التعاقبي عند نقادنا القدماء – هو ( الجوار ) أحيانًا و ( الضم ) أحيانًا أخرى .
والمصطلح المتكرر في وصف العلاقة الرأسية أو محور الاستبدال – عندهم – هو ( الاختيار ) ، وهو ما يؤدي المعنى الحديث بالكامل وفق تعبير بعض النقاد الحداثيين .
22) أن بعض البنى اللغوية أو الأسلوبية إنما يبرز دورها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها ، فما من بنيةٍ لغويةٍ أو أسلوبيةٍ حذفت في الموضع الذي ينبغي أن تحذف فيه إلا كان حذفها هناك أحسن وأبلغ من ذكرها ، وكان إضمارها في النفس أولى وآنس من النطق بها .
23) أن نقادنا القدماء لم ينظروا إلى موضوع الحضور أو الذكر بمعزل عن الغياب أو الحذف ، إنما نظروا إلى كلٍّ من طرفي هذه الثنائية في ضوء علاقته بالآخر واستدعائه له أو تطلبه إياه ، أو ما يحمله من إشارة إليه أو دلالة عليه ، دون تكلفٍ أو اعتساف .
24) أن تناول النقاد المحدثين لعلاقات الحضور والغياب دار – في جملته – في فلك القدماء ، واقتفي أثرهم في كثيرٍ من المواضع ، وبخاصة عبد القاهر الجرجاني الذي كان محل إشادةٍ وتقديرٍ من أكثر النقاد المحدثين والمعاصرين الذين تحدثوا عن هذه القضية .
على أن بعضهم قد مال إلى مصطلحي الجوار والاختيار اللذين استخدمهما القدماء ، في حين آثر بعضهم التعبير الحداثي (الحضور والغياب) ، وحاول وضع تصور نقدي وأساس تنظيري لفهم هذه العلاقات ، وطبيعة العلاقة الجدلية بينها ، ودور كل منها وأثره في بنية النص وسياقه .
25) أن كتاب “المثل السائر” لابن الأثير يعد أنموذجًا جيدًا للمصادر الأدبية والنقدية التي ينبغي إعادة قراءتها في حضور خلفية نقدية عصرية، وأن هناك مصادر أخرى : كـ “الوساطة” للقاضي الجرجاني، و “الموازنة” للآمدي، و”الصناعتين” لأبي هلال العسكري، و”العمدة” لابن رشيق، وغيرها، في حاجة ملحة إلى مثل هذه القراءة.
26) نظر ابن الأثير إلى المفردة على أنها جزء لا يتجزأ من النظم، واعترف بقيمة وجمال الطرفين معًا.
فأول الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها الأدب عنده إنما هي الألفاظ المفردة، وحكمها حكم اللآلئ المبددة، فإنها تُتخيّر وتُنتقى قبل النظم، وللمفردة محاسن تضاف إلى محاسن النظم، ولجرس الألفاظ وقع إيجابي كثيرًا ما يعين الكاتب أو الشاعر على استنفاد إحساسه.
على أن اهتمام ابن الأثير باللفظة المفردة لا يأتي على حساب التركيب أو السياق، فاختيار المفردة ما هو إلا مقدمة لنظمها مع أختها المشاكلة لها، ووضعها في الموضع الذي يتطلبه الموقف والسياق، مع تأكيده أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها، لأن التركيب أعسر وأشق.
وهذه النظرة الشاملة للفظة والسياق معًا قد تبناها كثير من النقاد المحدثين والمعاصرين .
27) درس ابن الأثير الجملة في إطار النص، ولم يكن تقليديًّا في دراسته، فعندما درس سياق التقديم والتأخير لم يقف عند النظرة الجزئية التي تتعلق بقضايا الإسناد أو التعلق، كتقديم الخبر على المبتدأ ، أو تقديم بعض متعلقات الفعل، إنما تجاوز هذه النظرة إلى رؤى سياقية أوسع، كتقديم السبب على المسبب، والكثير على القليل، والأعجب على العجيب.
وقد أثنى بعض النقاد المعاصرين على دراسته للجملة في إطار النص، وعلى نظرته الشاملة لبعض القضايا الأسلوبية، كدراسته لسياق الحذف في إطار سياق أكبر هو سياق الإيجاز، وسياق الذكر في إطار سياق أعم هو سياق الإطناب، وعدّوا ذلك محاولة جادة يمكن تنميتها في مجال البحث البلاغي الحديث، وربطه بالدراسة الأسلوبية، بحيث يصبح الكل له الأهمية الأولى أو المرتبة الأولى بالنسبة للأجزاء، وإن كانت هذه الأولوية لا تلغي الجزء، ولا توقف تأثيره في السياق.
28) يحسب لابن الأثير في مثله السائر كثرة شواهده وتطبيقاته التي تدل على سعة علمه، واطلاعه على منظوم الكلام ومنثوره، وتمكنه من أدوات فنه، مما أسهم في نشاط النقد التطبيقي.

اظهر المزيد

منشور حديثّا

زر الذهاب إلى الأعلى