كلمة وزير الأوقاف بمؤتمر كلية الإعلام بالجامعة الحديثة تحت عنوان : ” الإعلام الرشيد وبناء الوعي “
الإعلام صناعة وفن ورسالة , ولا ينكر دوره وأهميته إلا مغيب عن الواقع , فلا شك أن الإعلام الهادف الرشيد أحد أهم عوامل بناء الوعي و مكونات الشخصية السوية , ومما لا شك فيه –أيضا- أن الإعلام واحد من الأسلحة العصرية في المعارك والقضايا الفكرية والثقافية وتجييش الرأي العام أو تهيئته, وأن فقه المرحلة يحتاج إلى التوازن بين الإعلام الكاشف والإعلام الباني , فلا يمكن لأحد أن ينكر دور الإعلام الرشيد في بناء المجتمعات والدول بصفة عامة وبناء الفكر الرشيد بصفة خاصة , كما لا يمكن لأحد أن يتجاهل خطر استخدام بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل في العمل على هدم الدول أو إفشالها , وبخاصة الإعلام الممول من تلك المنظمات أو الدول الراعية للإرهاب .
الإعلام بصفة عامة جزء من الوطن ومن أهم مكوناته, والإعلاميون هم نخبة من أبنائه ومثقفيه ومستنيريه , فمن يبصّر بقضايا الوطن الحقيقية ويواجه مخططات أعدائه إن لم يكونوا هم في الطليعة من ذلك؟
الإعلام الرشيد جزء من الحل وليس جزءًا من المشكلة ولا يمكن أن يكون , كما أننا نؤمن بأن الإعلام ليس مجرد مصور فوتوغرافي للأحداث , فإن مهمة الإعلام أكبر من ذلك بكثير, فله إلى جانب مهامه في التوعية والبناء والتثقيف مهام رقابية كاشفة لا تقل أثرًا عن دور كثير من الجهات الرقابية التي تعمل على مواجهة الفساد بكل صوره وألوانه ماديًّا كان أو معنويًّا , وليس لأحد أن يعمل على تجريد الإعلام من اختصاصاته أو يعمل على تحويله عن طبيعته أو يصرفه عن مهامه ومساره الصحيح , إلا إذا كان لديه ما يخشى من المواجهة به , غير أن ثمة فرقًا كبيرًا وشاسعًا بين الإعلام الموضوعي البناء والإعلام الإثاري أو الهدَّام .
ونرى أن الإعلام الرشيد لا يمكن أن يقوم على مجرد تصيد الأخطاء أو حتى مجرد رصدها وينتهي دوره عند هذا الحد معتبرًا الإثارة غاية لا وسيلة.
الإعلام الرشيد هو ذلكم الإعلام الذي يسهم في اقتراح الحلول , ومعالجة المشكلات , ويهيئ الطريق وينيره أمام القائمين على شئون البلاد والعباد والمؤسسات , وهو الذي يذكر الإنجاز كما يبرز الإخفاق , والذي يشد على عضد المجتهدين كما ينعي باللائمة على المقصرين.
الإعلام الرشيد هو الذي يعي طبيعة كل مرحلة وما تقتضيه المصلحة الوطنية , واختيار الأوقات المناسبة لمعالجة القضايا .
الإعلام الرشيد يعني الموضوعية دون تهويل أو تهوين أو إفراط أو تفريط .
الإعلام الرشيد هو الذي يسمو صاحبه فوق الانطبــاعــات الشـخصيــة إلى درجـــة المعــالجـــة الموضوعية , وهو الذي ينصف المختلف معه عندما يحسن أو يكون الحق في جانبه , كما ينصف المتفق معه أو حتى الموالي له ولا سيما إن كانت الصحيفة حزبية أو خاصة .
الإعلام الرشيد هو الذي يحدد أهدافه ويعمل على تحقيقها , ويرتب أولوياته ويعمل على إنجازها, ويتخذ من كل ما يؤدي إلى البناء والتعمير ومواجهة الفساد والانحراف ومحاولات إفشال الدولة خطا ثابتًا .
ذلكم هو الإعلام الذي نفخر به عندما نطلق عليه مصطلح الإعلام الوطني أو الإعلام الرشيد أو الإعلام النبيل , أو الإعلام الهادف , أو الإعلام البناء , وذلكم هو الذي يبقى ويضمن لصاحبه أو لمؤسسته خلودًا حقيقيًّا لا زيف فيه , ويسهم في بناء الشخصية القويمة وتشكيل الهوية الوطنية المبهرة .
وحتى إعـلام المعـــارضة فهنـاك المعــارضة المنصفة الشريفة التي تقول لمن أحسن أحسنت ولمن قصر قصرت , لا إعلام التصيد والتنكر وقلب الحقائق الذي يعمل على قلب الحسنات إلى سيئات على نحو ما نرى من إعلام الجماعات الإرهابية , مما يجعلنا في حاجة ملحة إلى إعمال آلة إعلام البناء في مواجهة آلات إعــلام الـهــدم ومحــاولات إفشــال الـدول .
وعليه فإننا نحذر من الانسياق خلف إعلام الجماعات الإرهابية , وكتائبها الإلكترونية , وأبواقها الإعلامية , وكل من يسير في كنفها على طريق الهدم , والتشويه , والكذب والافتراء , وقلب الحقائق , بل إن واجبنا أن نتعاون على كشف هؤلاء المجرمين وفضحهم وبيان عمالتهم وخيانتهم , وأن نحذر بوضوح وشفافية من هؤلاء الخونة العملاء المأجورين ومن أبواقهم ومواقعهم المحرضة على الفتن, وهدم الأوطان , وخدمة مخططات الأعداء , قال تعالى : ” ﭐ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ” .
على أن مفهوم الإعلام العصري يتجاوز عالم الصحافة والتلفاز إلى آفاق أوسع وأرحب تشمل كل آليــات التـواصـل الحديثــة والعصـريـة مقـروءة ومسموعة ومرئية بشتى الآليات والأدوات والوسائل.
مع تأكيدنا على أهمية الإخلاص والتجرد والبعد عن الأهواء وتصفية الحسابات ، فإن الوقوع في آفات الهوى والميل وعدم الإنصاف طامة كبرى يجب الترفع عنها ، وذلك أن بعض النفوس المريضة لا تعرف سوى الهدم طريقا ، على حد ما قرره الإمام علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه “الوساطة بين المتنبى وخصومه” حيث ذكر أن أهل النقص فريقان، فريق يعمل على جبر نقيصته وستر عورته ، وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل على إصلاح حاله وشأنه ، أما الفريق الآخر من أهل النقص فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره ، أي ضعفه أو كسله ، فلم يجد شيئا أجبر لنقصه وأستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل ، ظنًّا أن ذلك قد يجرهم إلى مثل نقيصته أو ينزل بهم إلى مستوى درجته.
وقد امتهن بعض الناس حتى في العصور المتقدمة المدح والهجاء صنعة يتكسبون بهــا ، وإذا كان التكسب بالمديح والثناء أمرًا معروفًـا حتى لدى شعراء الجاهلية فيمن عرفوا بمدرسة الصنعة أو التكسب بالشعر كزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وغيرهما ، فإن هناك من عُرف بالتكسب بالهجاء حتى في عصر صدر الإسلام كالحطيئة الذي كان يبتز الناس بهجائه وتعرضه لهم ، حتى أن الخليفة عمر (رضي الله عنه) هدده تهديدًا شديدًا إن لم يكف عن أعراض الناس، فقال : إذن يموت عيالي يا أمير المؤمنين ، فاشترى منه عمر أعراض الناس بأربعين ألف درهم على ألا يتعرض لهجاء أحد ، فكف الحطيئة عن هجاء الناس طوال خلافة عمر ، ثم عاد إليه بعد وفاته .
وكل هذا لا يمكن أن يصنع حضارة حقيقية أو يقدم للمجتمع الكفاءات التي تستحق الثناء والتقدير الحقيقي، بل إن هذا النقد قد يسهم في الهدم ، أما النقد الحقيقي المتجرد الموضوعي المبني على أسس علمية وعلى الخبرة والدربة والممارسة وكثرة التحصيل وعلى الإنصاف ، بأن تقول لمن أحسن : أحسنت ، ولمن أساء – بأدب وموضوعية – : أسأت وقصرت ، وربما تضع يده على وجه الخلل وعلى طرق الإصلاح ، فهذا هو النقد الهادف الذي يبني ولا يهدم ، وينصف ويشجع ، وفي الوقت نفسه يبين ويحذر .
فإذا كانت القيادة مسئولية وأمانة ، فإن ممارسة النقد والتحليل أيضًا مسئولية وأمانة ، وكلنا مسئولون أمام الله (عز وجل) ، كل عن الأمانة التي ولاه الله إياها ، كما أننا مسئولون عن بناء وطننا ، والعمل على نهضته ورقيه من خلال سبل البناء والإصلاح لا الهدم والنقض ، ولا النفعية أو حب الظهور ، على أن الغالبية العظمى صارت تميز الغث من السمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : ” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.