لهذا تقدم الغرب (2)
أ.د / محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
–
لا شك أن الحكمة هي ضالة المؤمن ، يبحث عنها ، ويجتهد في طلبها ، ويسند الفضل فيها إلى أهله ، وأننا لابد أن ننظر في تجارب الآخرين ، فنأخذ منها النافع والمفيد ، ونطرح ما سوى ذلك ، ولا ينبغي أن نكابر فنزعم بالقول دون العمل أننا خير الأمم وسادة البشر ، ناسين أو متناسين أن سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) قد حذرنا من كثرة كغثاء السيل لا غناء فيها ، وأن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول : من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ، وكان يقول في شأن العجم : والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد (صلى الله عليه وسلم) منا يوم القيامة .
وقد ذكرنا في مقالنا السابق ثلاثة أسباب لتقدم الغرب ، ونزيد في هذا المقال ثلاثة أسباب أخرى ، وهي:
1- وهذا هو الأهم إنهم يبنون ويعملون لأوطانهم .
فمن يتابع حركة المجتمع الغربي يجد أن الشخص يعمل لنفسه ولوطنه في آن واحد ، فهو جزء من منظومة تتحرك للمصلحة الوطنية ، وتعرف بدقّة طريقها ، وتحدد اتجاهاتها وأهدافها ، وتجتهد في الوصول إلى هذه الأهداف من أقصر الطرق ، وأقلها كلفة، وأكثرها فائدة ، مُدركين إدراكًا لا لبس فيه أن مصلحة الوطن ستنعكس بلا شك على أفراده ، وأنّ أحدًا لن ينجح وحده ، غير أنّ كثيرًا منا للأسف الشديد لا يكتفي بعدم البناء ، فصار بعضنا يهدم ، والأدهى والأمرّ أن يهدم بعض الناس باسم الدين ، بل باسم الإسلام ، محمّلين آثامهم وخطاياهم على الإسلام ، وهو منهم براء ، ولو نطق لتبرأ منهم ومن أفعالهم الآثمة الشنعاء ، وكما ذكر فضيلة الإمام الأكبر في كلمته أمام مؤتمر “خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية” الذي أقامه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية أواخر مارس الماضي ، حيث قال وللأسف الشديد فإن أعمال القتل والإرهاب وترويع الآمنين تُرتكب باسم الإسلام وتحت صيحات التكبير والتهليل ، على نحو ما نرى ونشاهد من تلك الأعمال الإجرامية التي تتخذ من التفجير والتدمير والإرهاب مسلكًا ، وحتى لو كان بعضنا يحاول البناء ، فإن يد الهدم أسرع ، وقديمًا قال شاعرنا العربي :
لو كل بانٍ خلفه هادم كفـJJـى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
وقال الآخر :
متى يبلغ البنيانُ يومًا تمامَـه إذا كنت تبنيه وغيرك يهـــدم
فلا بدّ أن نتعاون في الضرب بيد من حديد على أيدي المجرمين والمخربين والمدمرين ، ومن يقطعون الطرقات ، ويروّعون الآمنين ، ويُعطّلون مسيرة الأعمال والإنتاج، وألاّ نكون سلبيين ، بل نعمل على كفّ الظلم والعدوان ، والطيش والبغي ، يقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ، قالوا يا رسول الله : ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم) : تأخذ على يده ” أي تَكُفّه عن ظلمه (صحيح البخاري ) ، ويقول الحق سبحانه : ” وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ” ( إبراهيم : 42 ، 43) .
2- هم يُقدّسون حضارتهم ونحن نُشوّه حضارتنا ، إنهم يعملون على تعظيم ما لديهم من طاقات وإمكانات معرفية أو مادية أو حضارية، فلا يكُفّون عن الإشادة بها ، ويُحسنون عرضها وتسويقها ،وإبهار الآخرين بها ، وكثير منّا يتنّكر لحضارته، ويكاد يتبرّأ من كثير من معالمها، وقد جنحت فئةٌ لا تُحسن فهم دينها ، ولا تتخلق بأخلاقه الصحيحة، ولا تتأدّب بآدابها الراقية، جنحَت هذه الفئة إلى مسلك التشدد والعنف ، والتطرف والإرهاب ، وسوء الفهم، وسوء التفسير ، وسوء التأويل ، فشوّهت الوجه السمح الراقي الحضاري لحضارتنا الإسلامية ، فبعد أن كان الناس جميعًا يُسلّمون بسماحة الإسلام وسعة أفقه تسليمًا لا مجالَ للجدالِ فيه صِرنا مضطرين أن نبرهنَ وندلل على أن الإسلام بعيد كل البعد عن تلك الأفعال الإجرامية الإرهابية ، وأن الإسلام لا علاقةَ له بالإرهاب ، وأن الإرهاب لا دينَ له ، ولا لونَ له ، ولا جنس له ، ولا وطن له ، وكأننا مضطرون أن نصرخ قائلين : لسنا كذلك ، لسنا بهذه الصورة البشعة التي رسمتها الجماعات الحمقى المتطرفة للإسلام في أذهان كثير من الغربيين ، مما يحمّلنا عبئًا أكبر ويجعلنا مضطرين لبذل جهود مضنية في أن ننفي عن أنفسنا تُهمًا نحن منها براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب (عليه السلام ) .
3- التخطيط والنظام واحترام سيادة القانون .
وهذه معانٍ لا غنى عنها لأي أمة تبحث عن سبل التقدم والرقي ، فالعدالة التي لا تعرف التفرقة بين الغني والفقير بين الناس جميعًا على اختلاف طبقاتهم السياسية والاجتماعية والوظيفية هي الضمانة الأولى لاستقرار المجتمعات ، فكما قال أحد السف : إن الله عزّ وجلّ ينصر الأمة العادلة ولو كانت كافرة ، ولا ينصر الأمة الظالمة ولو كانت مؤمنة .
كما أن التخطيط والنظام أمران لا بديل عنهما ، ويقولون : الحكيم قد يخطط في عام ، وينفذ في يوم أو أسبوع تنفيذًا دقيقًا محكمًا ، والأحمق لا يفكر ولا يخطط ، ويتخبط في التنفيذ طوال حياته .