أ.د / محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى، وآيته المبهرة إلى يوم الدين،(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِن خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41،42)، فمعجزة القرآن الكريم قد عمت الثقلين، ولزوم الحجة بها قائم إلى يوم الدين، يقول سبحانه: (وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ) (البقرة:23).
وهذه بعض ووجوه الإعجاز البيانى فى قصة إبراهيم عليه السلام:
(أ) – فى قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:78-82).
جاء التراكيب التالية (الَّذِى خَلَقَنِى)، (الَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ) (الَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى) بدون ضمير الفصل «هو» فى حين جاءت التراكيب: (فَهُوَ يَهْدِينِ)، و (هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ)، (فَهُوَ يَشْفِينِ) مشتملة على ضمير الفصل «هو»، وذلك لأن الأفعال الأولى المتمثلة فى الخلق والإماتة والإحياء ومغفرة الذنوب لا يجادل فيها أحد، بل إن أكثر الناس على التسليم المطلق فيها لله عز وجل، أما فيما يتصل بالرزق المعبر عنه بالإطعام والسقيا، والشفاء، والهداية إلى الصراط المستقيم، فمما يغفل فيه كثير من الخلق عن الاعتماد على خالقهم، وتهتز عند بعضهم قضية التسليم المطلق فيه، فتجد منهم من يخادع أو ينافق أو يغش ظنا منه أن ذلك قد يجلب له نفعا فى الرزق، ناسيا أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أجلها ورزقها، كما أن بعض الناس قد يذهب فى مسألة التداوى إلى بعض الدجالين والعرافين والمشعوذين، فلما كان الحال عند بعض الناس فى هذه الأمور ينقصه اليقين المطلق فى الله عز وجل جاءت هذه الأفعال مؤكدة بضمير الفصل ليقول النص القرآنى: إن رب الخلق، والإحياء والإماتة، هو رب الهداية والإطعام والسقيا والشفاء، فكما أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أجلها ورزقها، فليس من الإيمان واليقين أن تفوض الأمر إليه هنا ولا تفوضه إليه هناك، فهو وحده القادر على كل ذلك، والأمر كله له (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس:82).
(ب) فى قوله تعالى: (قَالَ بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسْأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) (الأنبياء:63).
أ- قال: (فَاسْأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) ولم يقل فاسألوهم إن كانوا يسمعون، لأن المعاند هنا يمكن أن يجادل فى قضية السماع، فيقول لك إن هذه الآلهة تسمع بل ترى لكنها لا تريد أن تجيب الآن، لكنه لا يستطيع أن يحاجك فيقول إنها تنطق، ومن هنا طلب منهم إبراهيم دليلاً لا سبيل إلى وصولهم إليه، وهو نطق هذه الآلهة إن كانت تنفع أو تضر، وبما أنها لا تستطيع أن تنطق، ولا يستطيع أحد أن يمارى فى ذلك، فإن عجزها صار بينا وصار حمقهم فى عبادتها أبين منه.
ب- فى قوله تعالى: (قَالَ بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم) يقف الكسائى على (فَعَلَهُ)، ويجعل الفاعل مقدرًا أى فعله من فعله، وعليه يكون المعنى فعله من فعله فلا تنشغلوا بالفاعل إنما عليكم أن تفكروا فى عجز أصنامكم التى لم تستطع أن تدفع عن نفسها، ثم استأنف فقال: (كَبِيرُهُم هَذَا فَاسْأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ).
وقال بعض المفسرين إنما علّق النص القرآنى فعل كبيرهم على نطقهم أى فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم وجعل جملة (فَاسْأَلُوهُم) جملة اعتراضية.
وقال بعض المفسرين إن إبراهيم عليه السلام سلك فى هذا الآية مسلكاً تعريفيا يؤدى إلى مقصده الذى هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه، بإسناد الفعل إلى كبيرهم إن كان ينطق، لينتهى من هذه المحاجة إلى تسليمهم بعجز آلهتهم (لَقَد عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ) (الأنبياء:65).
(ج) فى قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (الشعراء:69-71).
فى جوابهم على قوله: (مَا تَعْبُدُونَ) كان يكفى أن يقولوا (نَعْبُدُ أَصْنَاماً) لكنهم أطنبوا فى الحديث فزادوا (فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) وهذا دليل على تبجحهم فى ضلالهم، فهم لا يعبدون فقط هذه الأصنام، إنما يعكفون على عبادتها، وكان ذلك إمعانا منهم فى التعنت وإشعارا لإبراهيم عليه السلام بعدم نيتهم الاستجابة له أو الانصراف عن عبادة هذه الأصنام.