أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
إن تقدم الأمم لا يمكن أن يبنى على صعيد واحد أمني أو عسكري أو اقتصادي أو ثقافي أو تكنولوجي ، إنما هي منظومة تتحرك معًا في جوانب متعددة ، وفي آن واحد ، تتسابق في جميع المجالات لبناء ذاتها ، واستدراك ما فات ، ومحاولة اللحاق بما هو آت ، كل فيما يخصه ، إنها ثقافة التقدم والرقي تسري في دماء وعروق الوطن وأبنائه ، فتؤتي أكلها ولو في نمو غير منظور كنمو الطفل ، غير أن المتابع أو المراقب عن بعد والمعني بالتحليل ورصد التفاصيل يدرك تفاصيل كل مرحلة من مراحل هذا النمو مهما كانت دقتها ، لأنه معني بها ، مشغول بمفرداتها وجزئياتها ، عامل على نموها وتطورها ، والوصول بها إلى الدرجة المثلى لو وجد إلى ذلك سبيلا .
وكما قال الإمام علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) :
ليس الفتى من يقول كان أبي
لكن الفتى من يقول ها أنا ذا
وقال أحد الأدباء ليت أبي لم يكن فاضلا ، قيل له كيف ذلك ؟ قال لأن فضله صار نقصًا لي عندما قصّرت عن درجته ورتبته ، فذكر النقاد أن فضل الأب الفاضل يزيد من منقصة الولد الناقص حين يقصّر عن فضل آبائه وأجداده ، أما إذا أضاف الولد إلى رصيد آبائه وأجداده فهذا فضل يضاف إلى فضل ، وبناء يوضع على أساس متين ، على حد قول زهير بن أبي سلمى :
وما بك فضل أتوه فإنما توارثه آباء آبائهـــــم قبــــــل
وعلى أقل تقدير تكون عند حسن ظن القائل :
نبني كما كانت أوائلنا تبنى ونصنع كالذي صنعـوا
وقد زرت أول أمس الأربعاء 9 / 4 / 2014 مقر إجراء المسابقة العالمية الحادية والعشرين للقرآن الكريم التي يشارك في نحو 70 متسابقًا من 46 دولة , فتملكني شعوران متناقضان : أحدهما فخر واعتزاز , والآخر عتب وأسى , أما الفخر والاعتزاز , فهو لمستوى هذه المسابقة في الإتقان والإحكام والتنظيم وقدرة العقل المصري والشباب المصري علي الابتكار والإبداع والتعامل الراقي مع التكنولوجيا , ومستوى المُحكمين , حيث كان على المنصة خمسة مُحكمين من مصر , والبحرين ، والسودان , والسنغال ، وموريتانيا , إضافة إلى مستوى المتسابقين الذي يُشرح الصدر , ويؤكد أن الأمه لا تزال بخير , وستظل بخير إلي يوم القيامة إن شاء الله تعالى , وصدق الله العظيم حيث يقول : ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” (الحجر : 9 ) .
وتأتي لإقامة هذه المسابقة لتؤكد حرص مصر قيادة وشعبًا على خدمة كتاب الله وإكرام أهله، ويتضح ذلك من خلال استضافة هذه الكوكبة من أبناء الدول المشاركة من شتى بقاع العالم ، من السعودية ، والكويت ، والبحرين ، واليمن ، والأردن ، والسودان ، والسنغال ، وكينيا ، وبورندي ، وأوغندا ، وروسيا ، والصين ، وبنجلاديش ، والفلبين ، وباكستان ، وكازاخستان ، والنيجر ، والكونغو ، وغيرها من الدول ، على أنك تجد في المتسابقين جميعًا ما يسر نفسك من روح المحبة والمودة والتسامح الإنساني من جهة ، والإقبال على كتاب الله عز وجل حفظًا وتلاوة وإتقانًا من جهة أخرى .
أما الذي آلم نفسي ونال منها فأمران :
أولهما : أن بعض القنوات المتخصصة أو شبه المتخصصة التي كانت تعنى بشأن القرآن الكريم قد خرجت عن السياق عندما انحرفت عن رسالتها القرآنية التي كانت معلنة ، وانجرفت بعنف في التيارات السياسية ، فلم تصلح للسياسة ، ولم تبق للقرآن ، مما يزيدنا إيمانًا بأن تكون الدعوة للدعوة بعيدًا عن التحزب السياسي أو المذهبي ، وعدم خلط الدعوي بالسياسي .
الآخر : أن هذه المسابقة كانت في حاجة إلى تغطية إعلامية أوسع بما يتناسب ومستوى الحدث ، ويضيف إلى ريادة مصر الدينية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي ، بل يدعم مكانتها في شتى بقاع العالم كرمز للسماحة والوسطية وخدمة كتاب الله ( عز وجل ) ، وإن كنا لا ننكر أن بعض الوطنيين الشرفاء قد بذلوا في ذلك جهدًا يستحقون عليه شكرًا كبيرًا ، لكنها جهود فردية ، ولازال العقل الوطني الجمعي في حاجة إلى مزيد من الحركة والنمو .
إن ثقافة البناء التي نريدها هي التي تبني ولا تهدم ، هي التي لا تعرف التدمير ولا التخريب ، ولا العصبية العمياء ، ولا الدماء ولا الثأر ولا الانتقام ، هي التي لا تعرف سوى طريق واحد هو طريق البناء فقط ، هو طريق التعمير فقط ، هو طريق الضمير الوطني الذي يعمل لصالح الجماعة لا لصالح الفرد وحده ، هو الذي يؤثر المصلحة العليا للوطن على أي مصلحة شخصية أو فئوية أو حزبية ، هي الثقافة التي تتجاوز الشكل إلى المضمون ، والتجمل إلى الجمال ، والتصنع والتكلف إلى العطاء الحقيقي النابع من الإيمان بالوطن ، والرغبة في بنائه وتقدمه ورقيه .