فقه الدولة وفقه الجماعة أول إصدارات سلسلة رؤية للفكر المستنير بالهيئة العامة للكتاب
في إطار التعاون والتنسيق المستمر بين وزارتي الأوقاف والثقافة لمواجهة الفكر المتطرف والعمل المشترك على تصحيح المفاهيم الخاطئة ، وتعرية الجماعات الإرهابية وبيان زيف وزيغ أفكارهم ، وعملا على إعلاء مفاهيم فقه بناء الدول ، أصدرت الهيئة العامة للكتاب كتاب (فقه الدولة وفقه الجماعة) للأستاذ الدكتور / محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ، في أول إصدارات سلسلتها الجديدة “رؤية للفكر المستنير” وجاء في مقدمته :
شتان بين فقه الدول ، والوعي بالتحديات التي تواجهها ، وسبل الحفاظ عليها ، وحتمية ومشروعية الدفاع عنها ، والذود عن حياضها ، والتضحية في سبيلها ، وبين نفعية الجماعة القائمة في الغالب الأعم على محاولات إضعاف الدولة ، قصد الإيقاع بنظامها وإحلال الجماعة محله ، حتى لو أدى ذلك إلى إسقاط الدولة أو محوها من خارطة العالم ، بتفكيكها إلى كيانات صغيرة لا تنفع ولا تضر ، أو حتى بشطبها نهائيًّا من عالم الوجود كدولة ، بتمزيق أوصالها وابتلاع دول أو قوى أخرى لها .
وتنظر الجماعات المتطرفة إلى كل ما يقوي الدولة على أنه في غير صالحها ، وإلى كل ما يضعف الدولة على أنه يصب بالطبع في مصلحتها ويقرب أمانيها ، إذ لا يمكن لأي جماعة من الجماعات المتطرفة أن تقفز على السلطة أو تجهز عليها إلا في الدول الضعيفة المنهارة المفككة المترهلة ، فهذه الجماعات تعمل وفق استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إحداث نوع من القطيعة بين الشعوب وحكامها ، أو قل إنها تعمل جاهدة على شيطنة أي نظام حاكم حتى لو كان على طريق ابن الخطاب نفسه ، وتزعم أنها حامية حمى الدين ، محرفة الكلم عن مواضعه ، لاوية أعناق النصوص ، وهو ما حذرنا منه نبينا (صلى الله عليه وسلم) ودعانا إلى مواجهته وبيان زيغه وزيفه ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : ” يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ” (رواه البيهقي).
على أن الشرع الحنيف قد حثنا على إكرام الحاكم العادل , والوقوف إلى جانبه , وإعانته , والالتفاف حوله , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ الله: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِل الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ” (سنن أبي داود) .
غير أن هذه الجماعات المتطرفة إضافة إلى تحريفها الكلم عن مواضعه قد أصيبت أفكار وعقول أكثر قياداتها بالشطط أو الجمود والتحجر , ناهيك عما أصاب عناصرها والمنتمين إليها من ضيق الأفق والجمود عند ظواهر بعض النصوص ، بل عند أقوال بعض المتقدمين من العلماء أو الفقهاء أو حتى الآراء والأقوال غير المدققة ، منزلين هذه الأقوال منزلة النص المقدس ، فهم ينزلون المستجدات والمتغيرات القابلة للاجتهاد والرأي والرأي الآخر منزلة الثابت المقدس ، ويرون ذلك الدين الخالص والمعدن النقي الصافي ، في جهالة وضلالة عمياوين ، ولا سيما أن لهم رءوسًا جهالًا يتكسبون بجهلهم وجمودهم ويدافعون عنه دفاعًا مستميتًا ، وهذا ما نبهنا إليه نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقوله : “إِنَّ الله لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ , وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ , حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا , اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا , فَسُئِلُوا , فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ , فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا” (رواه البخاري) .
لقد جر ظهور جماعات التطرف الديني على منطقتنا العربية وعلى كثير من الدول الإسلامية ويلاتٍ كثيرة ، وبخاصة بعد أن بدت ظاهرة التكسب بالدين أو المتاجرة به واضحة لدى كثير من الحركات والجماعات التي عملت على توظيف الدين لتشويه خصومها من جهة ، وتحقيق مطامعها السلطوية من جهة أخرى ، فصارت محاربة الإسلام تهمة الجماعات المتطرفة لكل خصومها السياسيين .
ناهيك عن تجاوز ذلك إلى تهم التخوين والتكفير والإخراج من جماعة المسلمين ، بل الحكم على المخالفين بأن أحدًا منهم لن يجد رائحة الجنة ، مع استباحة دمائهم وأموالهم وسبي نسائهم ، وبدا خلط الأوراق واضحًا جليًّا عن عمد لا عن غفلة لدى أكثر هذه الجماعات ، بل إن الأمر قد ذهب إلى أبعد من هذا عندما نصّبت هذه الأحزاب والحركات والجماعات نفسها وصيًّا على الدين ، مع فقدان كوادرها للتفقه الصحيح فيه ، أو حتى مجرد الإلمام بأصوله وأحكامه ، وخروج بعضهم علينا بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، اللهم إلا سلطان النفعية والهوى والسلطة وحب الظهور أحيانًا .
لقد أعطى هؤلاء المتسترون بالإسلام المنتسبون زورًا إليه الذرائع أكثر من مرة لأعداء الأمة للتدخل في شئونها تحت ذرائع متعددة ، المعلن منها مواجهة الإرهاب ، وغير المعلن هو إضعاف دولنا أو تفتيتها أو تفكيكها أو السيطرة على مقدراتها الاقتصادية أو الجغرافية أو القرار السياسي أو الوطني فيها ، ثم خرجت من عباءة هذه الجماعات والحركات والأحزاب جماعات بائسة يائسة أخذت تتبنى العنف والإرهاب والتكفير والتفجير والعمليات الانتحارية مسلكًا ومنهجًا ، ووجدت بعض قوى الاستعباد المسمى الاستعمار الجديد في هذه الجماعات اليائسة من التكفيريين والانتحاريين ضالتها ، فتعهدتها ونمتها وغذتها وأمدتها بالمال والسلاح ، لتحقيق مآربها في تفتيت كيان المنطقة العربية والاستيلاء على خيراتها ومقدراتها من جهة ، وتشويه صورة الإسلام وربطه بالإرهاب من جهة أخرى .
فبعد أن كان المسلمون هم رسل السلام إلى العالم أخذت صورتهم تُسوّق على أنها رديف الإرهاب والقتل والدمار , وتنامت ظاهرة “الإسلاموفوبيا” , والتقطتها جهات ومؤسسات حاقدة على الإسلام والمسلمين فغذتها ونمتها ، وكلما خمدت نارها نفخوا في رمادها لتظل مشتعلة سيفًا مسلطًا على رقابنا.
ولا يمكن لعاقل أو وطني أو فاهم لدينه فهمًا صحيحًا أن ينكر أن حصاد دعوة هذه الجماعات المتطرفة المتدثرة ظلمًا وزورًا وزيفًا بعباءة الدين كان حصادًا مرًّا شديد المرارة ، فقد زرعوا أشواكًا ، فجَنَينا حنظلًا وعلقمًا , وصار لزامًا علينا بذل أقصى الجهد لإصلاح ما أفسدته هذه الجماعات الضالة المارقة.
كما صار لزامًا وواجبًا متعينًا على أهل العلم المتخصصين الفاهمين الواعين الوطنيين أن يضاعفوا الجهد ، لنفي انتحال المبطلين ، وتحريف المغالين ، وتأويل الجاهلين ، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم .
وقد اجتهدت أن أصحح في ثنايا هذا الكتاب كثيرًا من المفاهيم الخاطئة حول بناء الدولة ، وأن ألقي الضوء على أهمية الحفاظ عليها ، مبينًا ومؤكدًا أن مصالح الأوطان لا تنفك عن مقاصد الأديان ، محذرًا من الكيانات الموازية داخل الدول التي تنازع الدولة سلطاتها والمؤسسات اختصاصاتها ، مفرقًا بين التعددية السياسية المطلوبة والكيانات الموازية الخطرة ، كما فرقت بين المصلحة في منظور الدولة وفوضى الجماعة ، ونبهت إلى خطورة السقوط الاقتصادي للدول ، وإلى ضرورة اهتمام الدول بحدودها ، وبوحدتها الوطنية وتحقيق المواطنة المتكافئة بين أبنائها دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو العرق .