من صحيفة الاتحاد الإماراتية
وثيقة المواطَنة.. بوصلة العصر
تتكاثف الجهود، وتبرز للعالم جلياً، العاملة على هدم ومواجهة المحاولات التي تعمل على اختطاف الإسلام من خلال جماعات التوظيف المصلحي، وتجليات «الجماعات الخمس»، العابرة للقارات سواء أكانت «الإخوان»، أو «حزب التحرير»، أو«القاعدة»، أو«داعش»، أو «ولاية الفقيه»، كما لعبت هذه الجهات على «حبل العصب» الذي يغذي السلم والأمن والتعايش المجتمعي، لتنخر في ركائز المجتمعات وتشيب صفوها من خلال العبث في اختطاف الإسلام عنوةً، ديناً وحضارةً وثقافةً، واستغلال هذه العوامل مجموعةً لبلورة وقولبة الأهداف التي تخدمهم، وقد تمثل ذلك منذ بداية الثمانينيات، حين شهد العالم ما حاولت هذه الجماعات، من تحقيقه من خلال مشروعها الزائف تحت مسمى «أسلمة الدولة». التي تتناقض تماماً مع حقيقة تصرفات النبي، التي أوضحها الإمام القرافي بشكل لابد من اطلاعنا جميعاً عليه.
وصوناً لرسالة الإسلام السمحة، والمشعة بالحق والحقيقة، والتي بنيت على خمسة أركان، دون مزايدات جماعات الإسلام السياسي عليها، وتأصيلاً لحب الأوطان والولاء له، على اعتباره الأساس السليم والقويم لبنية الدول. الذي لا مكان فيه للخيانة والتواطؤ، فخيانة الأوطان هو تواطؤ غير واعي، وتجنيد لعقول أبنائنا الغضة مع الجماعات القائمة على منظومة تحقيق المصالح المبطنة، العابقة بالشعارات الرنانة.
وفي السياق ذاته فقد عكست «وثيقة القاهرة للمواطنة»، خلاصة جادة وإثبات حقيقي من طرف 500 شخصية، ضمت أكثر من 50 وزيراً ومفتياً ورئيساً للمجالس الإسلامية العليا، إضافة إلى نخبة من العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات والباحثين والإعلاميين والمثقفين والدعاة والواعظات من مصر، ذلك بمشاركة 57 دولة من مختلف دول العالم. وكانت قد أُطلقَت خلال المؤتمر الدولي الثلاثين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، المنعقد بالعاصمة المصرية القاهرة، يومي الأحد والاثنين، الذي وافق 15 – 16من الشهر الماضي حاملاً عنوان «فقه بناء الدول… رؤية فقهية عصرية».
كما شكلت هذه الوثيقة، فسيفساء «ناضجة» بعد ما قدم المؤتمر بهمة جهابذته من دراسات جادة، وممحصة متمثلةً بـ 43 بحثاً علمياً، يناقش محاور تتعدى المؤتمر ذاته، لتكون بوصلة توجيه واقعية وتنبيه للمؤسسات الفاعلة والعقول ذات الإرادة الحقيقية، من خلال محاور المؤتمر الثلاثة الأساسية، وصولاً لإصدار «إعلان القاهرة».
وتضم هذه البوصلة المرتكزة على محاورها مناقشة قضية الأحكام الفقهية المتعلقة ببناء الدول من منطلق الرؤية العصرية، ضامةً عدة فروع كالتوازن الفقهي بين المسؤوليات العامة والخاصة وأثره في بناء الدول ومفهوم الدولة وأركانها بين الماضي والحاضر، والأحكام الفقهية للمواطنة بين التأصيل والمعاصرة، وموقف الإسلام من نظم الحكم الحديثة والمعاصرة. لتضيف في ثاني محاورها قضية في غاية الأهمية تناقش حول فقه الدول وفقه الجماعات، ومحدداتهما وركائزهما، حاثةً على تعزيز خطاب القطيعة مع الدولة والجماعات الداعمة للتطرف، والانطلاق من دراسة أثر التشوهات الفكرية في بناء مفهوم الدولة لدى هذه الجماعات، ومسارات الدولة والأمة في التنظيم الدولي الحديث، وما يترتب على فقه الدول، من آثار إيجابية، ومدارسة ذلك بالتوازي مع الآثار السلبية لفقه الجماعات المصلحية. ونظرة القانون الدولي لهما.
إن الظرفية الزمانية والمكانية، تمثل دعوةً جادة لإبراز الهمم والروح الوطنية، التي يفخر بها كل شريف، وغيور على عِرضه وأرضه، حاثةً على تقديم الجهود الجادة والمثابرة، كالتي يتفانى في إبرازها الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري. ولذا فنؤكد ونشدد على أن المواطًنة عطاء، وانتماء واحترام لكل شعارات الدولة، التي تستلزم احترام القانون، والدستور، والنظام العام للدول ومؤسساتها، حاثةً على توطيد الثقة والاحترام، بين المواطن والدولة، أياً كانت ديانة الوطن الذي يتنفس على ثراه، ويقتات من ترابه.
نعم، إن فقه المواطنة، لم يكن يوماً حكراً على علاقات أصحاب الديانات، وإن كان توطيد وشائج ذلك من أهم مرتكزاتها، كما أن المواطَنة، سماء واسعة، تحتضن جوانب العدالة الشاملة، لتصون التعدديات وتحترم المكونات المجتمعية، وتعلي من قيم التكافل المادي والمعنوي بين أبناء الوطن جميعًا.
إن المواطنة الحقيقية هي السبيل الصريح، لترسيخ مبدأ الحق والواجب بين المواطنين والدولة وبين بعضهم وبعض، والمنبر الشاحذ لقيام كافة المؤسسات على اختلاف قطاعاتها، بالعمل الجاد على بيان مفهوم «المواطنة المتكافئة»، وضرورة صون الدولة، وتفنيد فتن الجماعات المتطرفة تجاهها، وتعاون هذه المؤسسات في تنفيذ ذلك وفق استراتيجية شاملة ومشتركة، يحملها ويتبناها، المخلصون من سفراء السلام في أنحاء العالم.
إذن، يجدر الالتفات الجاد والحريص على ما قدم المؤتمر من عوامل دافعة لبناء الدول، سواء أكانت العوامل السياسية، أو العوامل الدستورية والقانونية، أو العوامل الاقتصادية، أو العوامل الثقافية. لنخرج من هذا المؤتمر بخارطة طريق، وبوصلة نقية بعيدة عن خدمة الأفراد بعينهم، وعاملة على تحقيق مصالح الشعوب والمجتمعات كافةً، دون حصر، بيد أن قضية المواطنة المتكافئة، تمثل أهم عوامل استقرار الدول والحفاظ على أمنها، والسمو بأهدافها نحو التقدم والازدهار، بعيداً عن ثكنات الفتنة والحروب، وإبدال دخان الكراهية والعزلة، بأريج المحبة والتسامح والتعايش، «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ».