وزير الأوقاف في ندوة ثقافية بالأكاديمية الوطنية : الدول تبنى بمجموع سواعد أبنائها وعقولها ونريد أن نتحول من الاستنارة والتميز الفردي إلى الاستنارة والتميز الجماعي
التحول من العقلية الحافظة ضرورة للتحول إلى العقلية المفكرة الواعية للنص
وفهم أسرار اللغة يسهم في بناء الشخصية الأدبية القادرة على فهم النص
في إطار مساهمة وزارة الأوقاف في الدور التوعوي الذي تقوم به ، وحماية الشباب من الفكر المتطرف واستقطاب الجماعات الإرهابية ، وإثراء الجانب الثقافي والمعرفي لديهم ، وبالتعاون مع الأكاديمية الوطنية للتدريب ألقى معالي وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة اليوم السبت ١٣ / ٧ / ٢٠١٩م محاضرة مهمة ودقيقة تحت عنوان : (نحو نظرية عصرية في النقد الأدبي) بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب ، وذلك في إطار اللقاء الثقافي والعلمي الذي نظمته الأكاديمية الوطنية للتدريب لطلابها الملتحقين بالتدريب من الجامعات المصرية ، بحضور الفاضلة الدكتورة / رشا راغب المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب ، وفضيلة الدكتور / أسامة الأزهري عضو المجلس الاستشاري التخصصي للسيد رئيس الجمهورية للتنمية المجتمعية والمشرف على البرنامج التدريبي للأئمة بالأكاديمية .
وفي بداية المحاضرة قدم لها فضيلة الدكتور / أسامة الأزهري عضو المجلس الاستشاري التخصصي للسيد رئيس الجمهورية للتنمية المجتمعية الذي عبر عن سعادته بحضور معالي وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة ، والذي تربطه به مودة وعلاقة طيبة ، مؤكدًا فضيلته أن هذه المحاضرة هي في تخصص دقيق وسوف نستفيد منه جميعًا .
وفي كلمته قدم معالي وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة التحية والتقدير لسيادة الدكتورة / رشا راغب المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب على حسن الاستقبال ، وعلى هذه الدعوة الكريمة من سيادتها ، و على الدور الوطني الذي تقوم به الأكاديمية ، وعلى جهودها في النهوض بمستوى الأئمة، والشكر موصول لفضيلة الدكتور / أسامة الأزهري عضو المجلس الاستشاري التخصصي للسيد رئيس الجمهورية للتنمية المجتمعية على جهوده في هذا الدورة التدريبية المستنيرة .
كما أكد معاليه على أهمية الدور التأهيلي والتدريبي الفعَّال الذي تقوم به الأكاديمية الوطنية ، وكذا أكاديمية الأوقاف الدولية لتدريب الأئمة والواعظات وإعداد المدربين ، موضحا أن الهدف منه التحول من الاستنارة والتميز الفردي إلى الاستنارة الموسعة والتميز الجماعي ؛ لأن الدول تبني بمجموع سواعد أبنائها ، إضافة إلى أن التأهيل الجيد ينبغي أن يتكامل مع المؤهلات العلمية ، موضحًا أننا نريد جيلا جديدا يعكف على قراءة جديدة وعصرية للتراث في شتى العلوم مع صياغتها في قالب عصري ، وأن الوزارة تتخذ هذا المنهج ومتواصلة فيه بقوة .
كما أكد معاليه أن العلاقة بين التراث والمعاصرة في الفكر النقدي – شأن كثير من المتقابلات – ليست علاقة عداء أو قطيعة ، ولن تكون ، ولا ينبغي أن تكون ، وإن الوسطية التي نحملها منهجًا ثابتًا في كل مناحي حياتنا ، ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها ، إنما هي منهج ثابت ننطلق منه في كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية ، لا نحيد عن هذا المنهج قيد أنملة ، فقد قالوا : لكل شيء طرفان ووسط ، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر واختل توازنه ، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان ، ونحن مستمسكون بهذا الوسط وتلك الوسطية، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير .
فنــحـن لا نتعصب للقديــم لمجــرد قدمــه ، ولا نسـلـم زمام عقلنـا للتقليد الأعمى دون أن نمعــن النظــر فيما ينقــل إلينــا أو يلقى علينــا ، فقـد ميز الله (عز وجل) الإنسان عن سائر الخلق بالعقل والفكر والتأمل والتدبر والتمييز ، ونعى على من أهملوا هذه النعم ولم يوفوها حقها .
ولا يمكن أيضًا أن ننسلخ من هذا التراث العريق أو نقف منه موقف القطيعة ، ونعمل في الهواء الطلق ، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل ، بل علينا أن نأخذ من الماضي العريق النافع والمفيد الذي ننطلق به في الحاضر ونؤسس به للمستقبل .
مؤكدًا أن في تراثنا النقدي من الفكر والثراء والتنوع ما يحتم علينا إعادة قراءة هذا التراث قراءة جديدة عصرية يمكن أن تشكل أساسًا قويًّا ومتينًا لبناء نظرية عربية في النقد الأدبي ، لا تنفصل عن تاريخها ولا عن هويتها ولا عن واقعها ، بل يمكن أن تكون حال نضجها أحد أهم ملامح هويتنا الواقية وخصوصيتنا الثقافية في زمن العولمة والتيارات النقدية والفكرية والثقافية الجارفة.
وكما أننا لا يمكن أن نرفض القديم لقدمه, لا يمكن أيضًا أن نرفض الحديث لحداثته, أو لكونه ثقافة الآخر أو المختلف , أو كونه ثقافة وافدة على ثقافتنا , أو أن ندعو إلى الانكفاء على الذات والتمحور أو التقوقع حولها, فهذا عين الجمود والتحجر الذي نواجهه بكل قوة وحسم , فثقافة أخرى تعني عقلاً آخر , وإضافة جديدة , ومادة جديرة بالاعتبار والتأمل والنظر , بل إنني لأدعو إلى إعمال الفكر وإمعان النظر في كل ما هو عصري أو حديث أو جديد , فنأخذ منه النافع والمثمر والمفيد , وما يشكل إضافة حقيقية لثقافتنا , ويتناسب مع قيمنا وأخلاقنا وحضارتنا , ونتجاوز ما لا يتسق مع هويتنا الثقافية وقيمنا الراسخة.
كما يجب أيضًا ألا نتخلف عن الركب , فنتشبث بآراء ونظريات ثبت عدم جدواها عند الغربيين أنفسهم , فدعا نقادهم إلى ضرورة مراجعتها , أو تخلوا هم عنها وبحثوا عن نظريات أو رؤى أخرى جديدة رأوها أكثر دقةً وملاءمةً ونفعًا , أو وجدوا فيها خيط نجاة جديد يخلصهم من تعقيدات وفلسفات بعض النظريات التي خرجت بالنقد الأدبي عن لبابه إلى معالجات انحرفت بالنص الأدبي عن مساره الطبيعي إلى مسارات أخرى ربما كان من الأجدى تطبيقها على علوم وفنون أخرى غير النص الأدبي، إذ تبقى عظمة وخصوصية النص الأدبي والنقدي في كون كل منهما نصًّا ينطق أدبًا ويفيض أدبًا ويشع أدبًا قبل أي شيء آخر ، مستشهدًا معاليه ببعض النماذج ، ومنها :
- النموذج الأول : كما في قوله تعالى : ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ” ، لو تأملنا هذه الآية جيدًا ، ونظرنا في موقع كلمة ” إِصْلَاحٌ ” ، ثم فكرنا في بدائلها اللغوية ومشتقاتها وما يرادفها ، وحاولنا أن نضع بديلا لغويا لوجدنا أن العربية على عمقها واتساعها عاجزة عن أن توافينا أو تمدنا بكلمة يمكن أن تقوم مقام كلمة ” إِصْلَاحٌ ” في هذا الموضع ، فالإصلاح أمر جامع لما يحتاج إليه اليتيم ، فقد يحتاج إلى المال ، أو يحتاج إلى من يتاجر له في ماله فيكون الإصلاح برًّا وعطاءً ماديًّا ، وقد لا يحتاج اليتيم إلى المال ، إنما يحتاج إلى التقويم والتربية ، فيكون الإصلاح هنا رعاية وتربية وتهذيبًا ، وقد لا ينقصه هذا ولا ذاك ، إنما تكون حاجته أشد ما تكون إلى العطف والحنو والرحمة وما يعوضه عن فقدان الأب ، لذا يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “مَنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ حَسَنَةً ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ أَوْ يَتِيمَةٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَنَصَبَ إِصْبَعَيْنِ وَقَرَنَهُمَا”، فكلمة ” إصلاح” هي المناخ اللغوي الأمثل الذي لا يمكن لكلمة أن تقوم مقامها.
- أما النموذج الثاني : قوله تعالى على لسان زكريا ( عليه السلام ) : ” قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ” (آل عمران:41 ) ، وفي الآية العاشرة من سورة مريم : ” قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً” ، ذلك أن أيام العرب وشهورهم وسنيهم قمرية، فالليل في حسابهم يسبق النهار ، وسورة مريم التي جاء فيها ذكر الليالي مكية ، وسورة ( آل عمران) مدنية ، وسورة مريم سابقة في نزولها لسورة آل عمران ، فجعل السابق للسابق واللاحق للاحق .
كما أكد معاليه على أهمية اختيار الكلمة ودقتها وأن تكون منهج حياة ، وأن دلالة السياق ، وفهم أسرار اللغة يسهم في بناء الشخصية الأدبية القادرة على فهم النص ، وأن التحول من العقلية الحافظة ضرورة للتحول إلى العقلية المفكرة الواعية للنص ، مستدلاً ببعض النماذج منها قوله تعالى : ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ” حيث إن المراد هو الرؤية الحقيقية ؛ لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين ، واخضرار النبات على الأرض مرئي ، والخطاب موجه للرؤية والتفكير في الآيات الكونية ، وقد جاءت كلمة “فتصبح” بالرفع ، فالفعل المضارع بعد فاء السببية يأتي منصوبًا ، ولكنه جاء في هذه الآية بالرفع ، ولو جاءت الكلمة بالنصب لترتب اخضرار الأرض على الرؤية ؛ وإنما جاءت بالرفع لترتب اخضرار الأرض على إنزال الماء من السماء .
واختتم اللقاء بتوجيه كل من : الدكتورة / رشا راغب المدير التفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب وفضيلة الدكتور / أسامة الأزهري عضو المجلس الاستشاري التخصصي للسيد رئيس الجمهورية للتنمية المجتمعية الشكر لمعالي الوزير .