رسائل تصحيحية في فهم السيرة النبوية الرسالة الأولى
أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) في ملاقاة أعدائه
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
وبعــد :
فإن السيرة النبوية المشرفة هي التطبيق العملي لجوانب كثيرة من سنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) ، وهي نبراس مبين لنا إلى يوم الدين ، غير أن أكثر الجماعات المتطرفة في عصرنا الحاضر قد ركزت في قراءة السيرة النبوية وكتابتها وتدريسها على موضوع الغزوات كجانب تكاد تجعله وحيدًا أو الأبرز – على الأقل – في السيرة النبوية ، لأنها كانت تجيد استخدام هذا الجانب في تهييج مشاعر وإلهاب حماس عناصرها وكوادرها ، بل تتخذ من ذلك وسيلة لإثارة العامة أحيانًا كثيرة .
ولقد سمى القرآن الكريم الأسماء بمسمياتها الأدق ، فلم يرد في القرآن الكريم لفظ غزوة قط ، إنما عبر بلفظ يوم عما كان من نصر المسلمين يوم بدر الذي سماه الحق سبحانه وتعالى يوم الفرقان ، فقال سبحانه : ” وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” .
وهكذا أيضا تحدث القرآن الكريم عن يوم حنين ، حيث يقول الحق سبحانه : ” لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” ، فقد كانت حروب النبي (صلى الله عليه وسلم) دفاعية ، إما دفعا لعدوان ، أو ردا لاعتداء ، أو دفعا لخيانة أو تآمر ، أو لنقض الأعداء عهدهم معه (صلى الله عليه وسلم) ، ولَم يكن أي منها اعتداء على أحد ، فكان الأنسب والأدق التعبير عنها بلفظ يوم وليس بلفظ غزوة ، وهو ما نعتمده ونراه الأدق في التعبير ، وضعا للأمور في نصابها وتسميتها بمسمياتها التي سماها القرآن الكريم بها وآثرها على غيرها ، وهو ما عبر عنه بعض الكتاب والمؤرخين المدققين في مؤلفاتهم تحت عنوان : ” أيام العرب في الجاهلية والإسلام”.
وإننا لنؤكد أن الحرب ليست غاية ولا هدفًا لأي دولة رشيدة أو حكم رشيد , كما أنها ليست نزهة أو فسحة , وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول : (لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا).
غيـر أن الحـرب قد تكون ضـرورة للدفـاع عن النفس والعرض ، والمال , والديار والأوطان , وكيان الدول ووجودها , وحمايتها من الأخطار التي تتهددها.
إن الحرب في الإسلام إنما هي حرب دفاعية شُرعت لرد الظلم والعدوان, وهي محصورة في ردِّ الاعتداء ودفع الظلم ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، ويقول سبحانه: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ، ويقول سبحانه : { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} ، بل إن الإسلام قد دعانا إلى الإقساط إلى جميع المسالمين وبرِّهم وإجارتهم إن استجاروا بنا ، فقال سبحانه : {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وقال (عز وجل):{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.
وفي هذه النصوص ما يؤكـد أن الإسـلام لا يعرف الاعتـداء أو الظلم، إنما شرع القتال أصلاً لرد العدوان والاعتداء ، فأذن الحق سبحانه للذين يقاتَلـون ظلمًا بأن يهبُّوا للدفاع عن أنفسهم ، على ألا يعتدوا , وألا يغدروا ، وألا يسرفوا في الدماء ، أو يتوسعوا فيما أُذن لهم به من دفع العدوان.
وقد نهانا ديننا فقط عن ولاية من يقاتلوننا ويخرجوننا من ديارنا أو يعملون على ذلك ، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وحتى في الحرب التي هي ردّ للاعتداء نهى الإسلام نهيًا صريحًا عن تخريب العامر ، وهدم البنيان ، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يجهزون جيوشهم يوصون قادتها ألا يقطعوا شجرًا ، وألا يحرقوا زرعًا ، أو يخربوا عامرًا ، أو يهدموا بنيانًا ، إلا إذا تحصن العدو به واضطرهم إلى ذلك ولم يجدوا عنه بديلا ، وألا يتعرضوا للزرّاع في مزارعهم، ولا الرهبان في صوامعهم ، وألا يقتلوا امرأة ، ولا طفلا ، ولا شيخًا فانيًا ما داموا لم يشتركوا في القتال.
هذا ، وقد ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما يتحملون أذى المشركين دون أن يؤذن لهم بالقتال ولو دفاعا عن أنفسهم لأسباب من أهمها وفي مقدمتها : استنفاد سائر الوسائل السلمية في الدعوة المبنية على الحكمة والموعظة الحسنة، وتربية المؤمنين على أقصى درجات ضبط النفس وتحمل الأذى في سبيل الله , وإقامة الحجة على الخصم ، ومنها عدم التكافؤ في المواجهة آنذاك إذ كانت المواجهة بكل حسابات البشر محسومة لصالح المشـــركين ، مما ينــذر بخســائــر فادحة في صفوف المستضعفين من المسلمين حال التعجل في المواجهة ، والإسلام حريص على حفظ الدماء كل الدماء , فما بالك بدماء أبنائه المؤمنين به المدافعين عنه المستعدين للتضحية بأغلى ما يملكون وكل ما يملكون في سبيله ، ومنها لفت أنظارنا إلى أهمية الإعداد الجيد أفرادًا وتسليحًا وتخطيطًا قبل الدخول في أي مواجهة مالم تفرض علينا فرضًا ، ولم يكن ثمة بُدٌّ من الخروج لمواجهة العدو على نحو ما كان من النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في مواجهة المشركين في بدر وأحد والخندق وغيرها من أيامهم.
وفي التأكيد على هذا الإعداد الجيد والأخذ بأسباب القوة والمنعة ، يقول الحق سبحانه : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.
على أن الغـايـة هنـا والمـراد من هـذه الآية إنما هو ردع العـدُو مـن أن يعتـدي علينا ، فلو تحقق الـردع دون قتـال فإنها لأسمى غاية وأنبل هدف ، حيث يقول الحق سبحانه في شأن يوم الأحزاب:{ وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِـمْ لَـمْ يَنَالُـوا خَـيْرًا وَكَفَـى اللهُ الْمُـؤْمِنِـينَ الْقِتَـالَ وَكَانَ اللهُ قَـوِيًّا عَزِيزًا}، وفي شأن يوم الحديبية يقول سبحانه ممتنًّا على عباده المؤمنين بتجنيبهم القتل والقتال:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} ، فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام إلى المدينة ، وصار لهم بها دولة ووطن يدافعون عنهما , كان الإذن بالقتال الدفاعي في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
مع ضرورة الوقوف عند الآتي :
1- في قوله تعالى: {أُذِنَ} عبَّر في الإذن بالبناء للمجهول ولم يقل سبحانه : أذن الله ، ليكون العمل بالإذن على قدر الحاجة والضـرورة ، وألا يستخدم الإذن على إطـلاقـه , فيؤدي ذلك إلى الإسراف في القتال والدماء .
2 – في قـوله تعالى:{ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} لم يقل سبحانه : أذن للمـؤمنين , أو للمسلمين , أو حتى للمضطهدين , أو من أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، فلم يكن كل ذلك وحده مسوغًا لاستخدام هذا الإذن , وإنما هي علة واحدة أن يُقاتَلوا ، وأن تكون المبادرة والمبادأة من عدوهم بالقتال ، ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه الراشدون يوصون قادة جيوشهم ألا يبدأوا أحدًا بقتال حتى يكون العدو هو البادئ بالبغي والعدوان ، وألا يأخذوا أحدًا غدرًا أو خيانة حتى لو علموا بنيته فيهما ، حيث يقول الحق سبحانه:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي: فإن خفت من قوم غدرًا أو خيانة فاطرح إليهم عهدهم , ورده عليهم , وتحلل منه قبل الشروع في قتالهم.
3 – ولم يكتف النص القرآني في قضية الإذن بأن يكون العدو هو البادئ بالقتال، بل جعل قتال المسلمين لأعدائهم لأجل ردِّ بغيهم وظلمهم وعدوانهم عنهم أو عليهم ، فجعل العلة الثانية والاشتراط الثاني للإذن ظلم عدوهم لهم ، حيث يقول الحق سبحانه:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا}، وهنا يأتي التأييد الإلهي حتى لو كانوا قلة مستضعفين {وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}, طالما أن العلة هي ردّ الظلم وحماية الدولة والوطن لا البغي ولا الطمع .
وعندما ننظر إلى سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الجانب نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما علم بمقدم قريش في يوم بدر جمع (صلى الله عليه وسلم) أصحابه وجعل يقول : (أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ)، فقام سيدنا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) فتكلم وأحسن ، ثم قام سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فتكلم وأحسن ، ثم قام سيدنا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو (رضي الله عنه) فقال: ” يا رسول الله ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ}، وَلَكِنْ نقول: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ ، فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ ، حَتَّى تَبْلُغَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِهِ.
وهؤلاء الصحـابة الثـلاثة كانـوا من المهـاجرين ، فأحب رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعرف رأي قادة الأنصار ، لأن نصوص بيعة العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة ، إذ كانوا قد بايعوا النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأعراضهم وأموالهم مادام معهم داخل المدينة , ولم تكن البيعة قد تعرضت لخروجهم معه خارج المدينة , فأحب (صلى الله عليه وسلم) أن يسمع رأيهم صراحة , فكلما تحدث واحد من المهاجرين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (أشيروا عليَّ أيها الناس) , وهو يريد أن يسمع رأي الأنصار , حتى فطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سيدنا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ (رضي الله عنه)، فقال: وَاللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ : أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك ، فوالّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا ، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ ، لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ ، فَسِـرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ ، فَسُـرَّ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِقَوْلِ سَعْدٍ ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: (سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنَّ اللهَ تَعَـالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَاللهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ).
ولهذا الموقف وغيره من المواقف العظيمة لسيدنا سعد بن معاذ (رضي الله عنه) كانت البشرى والمكافأة العظيمة من الله تعالى له عند وفاته , حيث قال (صلى الله عليه وسلم): (اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ).
أما يوم بني قينقاع فيرجع إلى ما كان من يهود بني قينقاع الذين كان قد ملأ الحقد نفوسهم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه بعد أن أعزهم الله بالنصر في بدر , فقالوا : ” يا محمد ، لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ ، كَانُوا أَغْمَارًا لاَ يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا ” ، وكشف جماعة منهم عورة امرأة مسلمة في السوق , فلما هبَّ أحد المسلمين لسترها والدفاع عنها اجتمعوا عليه وقتلوه , فكان لابد من التجهز لقتالهم ردعًا لبغيهم وخيانتهم فجهز النبي (صلى الله عليه وسلم) جيشًا لقتالهم وانتقل سريعًا إلى ديارهم وحصونهم ، وحاصرهم خمس عشرة ليلة ، حتى اضطـروا إلى الاستسلام والنزول على حكمه (صلى الله عليه وسلم) “.
وفي أُحد كانت قريش قد جاءت لتثأر لقتلاها في بدر ، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقائهم , ولم يبـدأ هـو ولا أصحـابه بالقتـال أو طلب قريش , إنما هي التي أتت بقَضِّها وقضيضها وخيلها وخيلائها باغية تريد استئصال دعوته (صلى الله عليه وسلم) والثأر لقتلاها في بدر .
وفي يوم حمراء الأسد كان أبو سفيان قد عزم إثر أُحُد على العودة إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين , فندب النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه إلى الخروج لملاقاتهم , وقال (صلى الله عليه وسلم): (لا يخرج معنا إلا من شهد أحدًا) , فخرج معه أصحابه وجراحهم تثغُب دمًا , وهنا خشي أبو سفيان ومن معه أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد جهز جيشًا جديدًا من أصحابه , ففضَّلوا الهرب والانصراف إلى مكة حتى لا يضيعوا ما أنجزوه في أُحد , وبقي النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه ثلاثة أيام في حمراء الأسد لم يمسسهم سوء , وفي شأن هذا اليوم نزل قول الله تعالى : {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
وفي يوم بني النضير كان يهود بني النضير هم الذين نقضوا العهد وحاولوا اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم).
وفي يوم دومة الجندل كانت قبائل المشركين بدومة الجندل تعد للإغارة على قوافل المسلمين بالمدينة ثم الإغارة عليها.
وفي يوم بني المصطلق كانت قبائلهم تعد للإغارة على المدينة فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم ردًّا لبغيهم وعدوانهم .
وفي يوم الخنــدق اجتمعـت الأحـزاب من كل حَدَب وصوب لحصار المدينة ، فكان القتال دفـاعًا عن النفس ، والوطن ، والديار ، والأرض ، والعـرض , وهو ما يصـوره الحـق سبحـانه وتعـالى في ســورة الأحــزاب فيقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بالله الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}.
ثم يصور سبحانه وتعالى حال المؤمنين الصادقين , فيقول : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}.
وفي يوم بني لحيان ، كان بنو لحيان هم الذين غدروا بعشرة من الصحابة بالرَّجيع ، وتسببوا في قتلهم واستشهادهم.
وفي يوم ذي قَرَد أو يوم الغابة كان جماعة من أعراب نَجْد من بني فزارة قد أغاروا على إبل للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وقتلوا حارسها واحتملوا امرأته مع الإبل وفروا نحو نَجْد ، فكان لا بد من ردعهم وتأديبهم .
وفي خيبر كان أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وحرضوا بني قريظة على الغدر والخيانة ، ثم أخذوا في الاتصال بالمنافقين وبقبائل غطفان وأعراب البادية لتأليبهم على المسلمين ، وكانوا هم أنفسهم يستعدون للقتال ، فكان لابد من مواجهتهم وكف شرهم .
أما يوم مؤتة فكانت ثأرًا لقتل الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي (رضي الله عنه) رسول النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي بعثه بكتابه إلى عظيم بُصْرَى ، فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قِبل قيصـر فأوثقه رباطًا ، ثم قدمه فضـرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل – ولا يزال – من أشنع الجرائم وأبشعها، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب ، فاشتد ذلك على النبي(صلى الله عليه وسلم)، فجهز جيشًا ووجهه إليهم .
وفي فتح مكة كانت قريش هي التي نقضت عهدها مع سيدنا رسـول الله (صلى الله عليه وسلم ) وساعدت حلفاءها من بني بكر على قتل خزاعة حلفاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , حيث بيَّتوهم وقتلوهم غدرًا عند ماء بالقرب من مكة يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ , فجاء عمرو بن سالم الخزاعي (رضي الله عنه) إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة مستغيثا بقوله :
يَـــا رَبّ إنّـــي نَـاشِـــــدٌ مُحَمّـــــــدًا
حِلْــــفَ أَبِينَـــــا وَأَبِيــــهِ الْأَتْلَــــــــدَا
قَــدْ كُنْـتُــمْ وُلْــــدًا وَكُنّــــا وَالِـــــــدَا
ثُمّـــتَ أَسْلَمْنَـــا فَلَـــمْ نَنْزِعْ يَــــــدَا
فَانْصُــرْ هَــدَاكَ اللهُ نَصْــرًا أَعْتَـــــدَا
وَادْعُ عِبَــــادَ اللهِ يَأْتُــــوا مَــــــــدَدَا
إنْ سِيــمَ خَسْــفًـا وَجْهُــــهُ تَرَبّـــــــدَا
فِيهِــمْ رَسُــــولُ اللهِ قَــدْ تَجَـــــــرّدَا
فِي فَيْلَــقٍ كَالْبَحْــرِ يَجْــرِي مُـزْبِـدًا
إنّ قُرَيْـشًــــا أَخْـلَــفُــــوك الْمَوْعِـــدَا
وَنَقَضُــــوا مِيـثَـاقَـــــــك الْمُـوَكّـــــدَا
وَجَعَلُـــوا لِــي فِــي كَــــدَاءٍ رُصّــدَا
وَزَعَمُـــوا أَنْ لَسْـــتُ أَدْعُـــو أَحَــدَا
وَهُــــــمْ أَذَلّ وَأَقَــــــــلّ عَــــــــــدَدَا
هُـمْ بَـيّـتُـونَــــــا بِالْوَتِيــــــرِ هُـجّـــدًا
وَقَـتَّـــلُونَـــــــا رُكّعًــــــــا وَسُــجّـــــــدَا
فقال (صلى الله عليه وسلم) : (نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ) فَمَا بَرِحَ حتَىَّ مَرَّتْ سحابة فِي السَّمَاءِ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (إنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ) .
ومع ذلك لما دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة فاتحًا منتصرًا أعلن العفو العام عن أهل مكة ، وقال قولته المشهورة : (يَا مَعْشَـرَ قُرَيْشٍ ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بكم؟) قَالُوا: خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، فقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَـاءُ). وقد ترتب على هـذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل.
ويوم حنين كانت قبائل هوازن وثقيف هي البادئة بالعداء ، وأعدت العدة للانقضاض على المسلمين ، وقد سار مالك بن عوف النّصـري على رأس جيش حتى وصل إلى القرب من مكة ، فكان لابد من مواجهتهم ورد بغيهم وعدوانهم .
وأما تبوك فكانت ردًّا لعدوان الرومان الذين كانوا يعملون على إنهاء قوة المسلمين آنذاك ، ذلك أنهم كانوا يرونها الخطر الحقيقي على سلطانهم ، فأخذوا يهددون ثغورهم ، ويعدون العدة للانقضاض عليهم ، فانتدب النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه للتجهز والخروج في ساعة العسرة ، ولم يكن من الحكمة أن ينتظرهم المسلمون حتى يداهموهم في مدينتهم ، وانتهت بفرار الروم وانسحابهم دون قتال ، وحرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على حفظ الدماء فلم يتتبعهم واكتفى ( صلى الله عليه وسلم) بالردع الذي تحقق لهم.
ومن يتتبع سائر أيام نبينا (صلى الله عليه وسلم) في ملاقاة أعدائه يجد أنها لا تخرج عن دائـرة ردِّ البغي ودفع العدوان وردع التآمر والكيد له (صلى الله عليه وسلم) ولدعوته ولأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
ومع ذلك فقد أصَّل ديننا الحنيف لأخلاق الفرسان في فلسفة القتال بأنه لا قتل للمدنيين أو لغير المقاتلين ، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي قـادة جيشه بقـوله : ( انْطَلِقُـوا بِاسْمِ اللهِ وَبالله وَعَلَى مِلَّـةِ رَسُـولِ اللهِ ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلَا طِفْلًا ، وَلَا صَغِيرًا ، وَلَا امْرَأَةً ، وَلَا تَغُلّوا) , وفي روايـة : (وَلَا تَغُلّـوا ، وَلَا تَغْـدِرُوا ، وَلَا تَمْثُلُـوا، وَلَا تَقْتُلُـوا وَلِيدًا)، وفي وصية أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) لأحد قادة جنده : ” وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً ، وَلَا صَبِيًّا ، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا ، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا ، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا ، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً ، وَلَا بَعِيرًا ، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ ، وَلَا تَغْلُلْ ، وَلَا تَجْبُنْ “.
وقد شدد النبي (صلى الله عليه وسلم) في النهي عن قتل الأطفال أو الـذريـة تشـديدًا كبـيرًا ، وبلغـه (صلى الله عليه وسلم) قتل بعض الأطفال فوقف يصيح في جنده : (مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَ بِهِمُ الْقَتْلُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ ، أَلاَ لاَ تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً ، أَلاَ لاَ تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً ).
وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن قتل جميع من لا يقاتل وخاصة النساء ، فلما رأى امرأة مقتولة ، وكان من حالها أنها لا تقوى على القتال استنكر (صلى الله عليه وسلم) ذلك بشدة ، وقال : (مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ) ، مما يؤكد أنه لا قتل على المعتقد قط , وأن القتل ليس مقابلًا للكفر ، إنما هو مقابل لدفع القتل ورد الاعتداء , حيث يقول الحق سبحانه : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ َقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
فالقتال في الإسلام مقصور على رد الاعتداء دون تجاوز ، حيث يقول الحق سبحانه : {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، ويقول سبحانه : {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَـعَ الْمُتَّقِينَ }.
ومما يؤكد أن الحرب في الإسلام إنما هي لرد الاعتداء ودفع العدوان دون أي تجاوز أو بغي أو إسراف في الدماء ، ما شرعه الإسلام في معاملة الأسرى من حسن معاملتهم والإحسان إليهم ؛ حيث يقول الحق سبحانه : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَـرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِــلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَـــا تَذْلِيلًا}.
وقـد دعا نبينـا (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفـق بالأســرى ، فقـال: (اسْتَوْصُوا بِالأسَارَى خَيْرًا) ، وقد أوصى أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الطعام ، وفي قصة “ثُمَـامَـةُبْنُ أُثَالٍ الحنفي” ما يؤكد كيف كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يتعامل مع أسراه , ذلك أنه عندما أسر ثمامة بن أثال ورَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، خَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ ، حَتَّى كَانَ الْغَـــدُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، يَامُحَمَّدُ ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَد أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ ، قَالَ قَـائِلٌ: صَبَوْتَ ، قَالَ: لاَ، وَلكِنْ أَسْلمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلاَ وَاللهِ لاَ يَأْتِيكُـمْ مِنَ الْيَمَامَـةِ حَبَّةُ حِنْطَـةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم).
وهذه الثقافة في معاملة الأسـرى عبر عنها الشاعر الأموي الكبير همام بن غالب التميمي المعروف بالفرزدق , فقال :
وَلا نَقتُــلُ الأسـرَى وَلكنْ نَفُكُّهــمْ
إذا أثْقَلَ الأعناقَ حَمْـلُ المَغــارِمِ
أما إذا فُرض علينا القتال فإننا لا يمكن أن نعطي الدنية في ديننا ولا أن نتخاذل عن الدفاع عن أوطاننا , إنما نفتديها بأنفسنا وشعارنا في ذلك : والله إنها لإحدى الحسنين إما النصر وإما الشهادة , حيث يقول الحق سبحانه مخاطبًا المسلمين في يوم بدر : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}, أي : ويقطع دابر الكافرين المعتدين عليكم المتربصين بكم الذين أخرجوكم من دياركم وأموالكم, لا ذنب لكم ولا جريرة إلا أنكم آمنتم بالله ورسوله , ويقول سبحانه : {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }, ويقول سبحانه:{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَـرْحٌ فَقَـدْ مَسَّ الْقَـوْمَ قَـرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، ويقول سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} , ويقول سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِـينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُـوبِهِـمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًــــا مَا أَلَّفْـتَ بَيْنَ قُلُوبِهِــمْ وَلَكِـنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وقد قلت حول هذه المعاني التي تؤكد أننا أهل سلام ما لم تفرض علينا الحرب , فإن فرضت علينا فنحن رجالها :
من رامهــــا سلمـــــــــــا فتلـك يــــــد
أو رامهـا حربًا فنحــن رجالهـــــــــــــا
لا نعتـدي أبدًا ولا نرضى الخنــــــــا
إن الرجــولة عنـــدنـا عنوانهـــــــــــــا
إحـــدى اثنتين ولا معقّب بعـــــــده
النصـرُ نصرٌ أو نُــرى شهــــــــــداءهـا
وإننا لعلى يقين تام في أن منزلة الشهيد من أعلى المنازل عند الله (عز وجل) ، فالشهيد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين, حيث يقول الحق سبحانه : {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ الله وَكَفَى بالله عَلِيمًا}, ويقول سبحانه : {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, ويقول سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}, ويقول سبحانه : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْـلِهِ وَيَسْتَبْشِـرُونَ بِالَّذِيـنَ لَمْ يَلْحَقُـوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِــمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }.
على أن الشهيد الحق هو من لقي الشهادة في ميدان القتال أو بسببه مدافعًا عن دينه ووطنه وعرضه وتراب وطنه مخلصًا لوجه الله لا لدنيا يصيبها أو لصالح جماعة متطرفة يتبعها ، كما تشمل الشهادة الحقيقية من استشهد في سبيل ذلك أثناء خدمته وأداء مهمته في إطار مؤسسات الدولة المعنية بذلك .
وقد أكدنا وما زلنا نؤكد أن إعلان حالة الحرب والسلم المعبر عنها في العصر الحديث بحالة التعبئة وعند الفقهاء بالجهاد القتالي ، ليست أمرًا متروكًا لعامة الناس ، وإنما هي سلطة الحاكم في ضوء ما يقرر قانون كل دولة ودستورها ، وأنه ليس لأحد أن يخرج للقتال من تلقاء نفسه في غير ما ينظمه القانون والدستور ، وإلا لصار الناس إلى أبواب من الفوضى لا تسد .
وعليه فإن من مات على فراشه أو في بيته أو أي مكان آخر غير ما ذكرنا فإن إطلاق الشهادة عليه لا يخرج عن أحد أمرين : إما أن يكون إطلاق الشهادة عليه من باب المجاز , بأن له منزلة من منازل الشهداء عند ربهم , وذلك لمن مات مبطونًا أو محروقًا أو غريقًا أو نحو ذلك مما وردت به السنة المشرفة ، كما في الحديث الشريف حيث يقول رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : ” الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ : المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ ، والغَرِيقُ ، وَصَاحبُ الهَدْم ، وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه”.
وإما أن يكون الأمر محصورًا بين التَّزيّد والادّعاء والكذب والمتاجرة بالدين ، كهؤلاء الذين اعتادوا الكذب واستحلوه ، فراحوا يكذبون ويزورون ويصفون من مات حتف أنفه على مرأى ومسمع من العالمين بالشهيد كذبًا وافتراء ومتاجرة بالدين .
على أنني أؤكد أن البشرية لو بذلت في سبيـل السـلام والبنـاء ، والنماء والتنمية , ورعاية الضعفاء والمحتاجين والمهمشين في العالم معشار ما تنفقـه على الحروب والتسليح ، وتخلى الأنانيون عن نفعيتهم وأنانيتهم , لانصلح حال البشرية جمعاء ، ولتغير وجه البسيطة , ولعاش العالم كله في سلام وأمان .
ويجب على كل عاقل رشيد مؤمن بالإنسانية محب للسلام أن يكون في جانب السلام والبناء والتعمير لا جانب الاحتراب والتدمير , فكل ما يدعو إلى السلام والبناء وعمارة الكون يتوافق وصحيح الأديان , وكل ما يدعو إلى القتل والتخريب والتدمير يتناقض مع سائر الأديان السماوية , بل يتناقض مع كل الأخلاق والقيم الإنسانية والأعراف والمواثيق الدولية , مما يتطلب منا جميعًا العمل معًا على ترسيخ وتأصيل كل معاني السلام والوقوف في وجه دعاة الحرب والدمار من أجل سعادة البشرية جمعاء وتحقيق أمنها وسلامها .
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،
أ.د/ محمد مختار جمعة مبروك
وزير الأوقاف
عضو مجمع البحوث الإسلامية
رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية