كلمة وزير الأوقاف في مؤتمر قيم الاعتدال والوسطية الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
وفيها أكد : نحن في حاجة ملحة إلى قراءة تراثنا الفكري قراءة واعية فاحصة في ضوء الحفاظ على الثوابت . ولابد للدين من دولة تحمله وتحميه والجماعات المتطرفة خطر على الدين والدولة . و الوسطية تعني البعد عن الإفراط والتفريط ، والفهم الصحيح الثاقب لمقاصد الشرع الشريف .
وهذا نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
وبعد :
فألخص حديثي في ثلاث نقاط : الأولى تتعلق بمفهوم الوسطية وبيان أنها فاصل دقيق بين الإفراط والتفريط , فباسم الأحوط ذهب كثيرون في اتجاه التشدد , وباسم التيسير ذهب آخرون في اتجاه التسيب , يقول الإمام الأوزاعي (رحمه الله) : ما من أمرٍ أمرَ الله (عز وجل) به إلاّ عارض الشَّيطان فيه بخصلتين ، لا يبالي أيّهما أصاب : الغلوّ ، أو التَّقصير.
الأمر الثاني : يتعلق بفقه الدولة وفقه الجماعة , ففقه بناء الدول يتسم بالسعة والمرونة , وفقه الجماعات في الغالب الأعم فقه نفعي مغلق , مصلحة التنظيم فيه فوق الدولة , ومصلحة الجماعة فوق مصلحة الأمة.
وقد حاولت الجماعات المتطرفة إحداث حالة من الانفصام والشقاق بين الشعوب وحكامها , فأخذت تسوق أنفسها على أنها حامية حمى الدين , وبما أنها في عداء دائم أو شبه دائم مع الأنظمة الحاكمة , فإنها تصور الأنظمة على أنها ضد الدين , فمن كان مع النظام أو الدولة حتى لو كان النظام في عدل عمر (رضي الله عنه) فهو ضدها , وضد الدين , وهذه دعوات مشبوهة تفكك الدول من داخلها , وتحقق أهداف أعدائها المتربصين ، بها فهذه الجماعات المتطرفة ترى أن كل ما يقوي الدولة يضعف الجماعة, وكل ما يضعف الدولة يقوي الجماعة , فهي لا تقوم ولا تتغذى إلا على أنقاض الدول .
على أن الإسلام قد أوجب للحاكم العادل حق الطاعة بل الإعانة والتقدير , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ ” , ودعوة الإمام العادل لا ترد , وهو في مقدمة السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله , وبهذا تبنى الدول لا تهدم، مما يتطلب منا جهدا وشجاعة لتصحيح المفاهيم الخاطئة .
الأمر الثالث : هو حاجتنا الملحة لاستخدام المنهج النقدي العقلي في إعادة قراءة المتغير من تراثنا مع حفاظنا على ثوابتنا الشرعية فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثوابت , وإنزال المتغير منزلة الثابت عين الجمود والتحجر.
واسمحوا لي أن أعرض هذا الأنموذج من أحد كتب عيون التراث تفسير القرطبي – مع تقديرنا الكبير للكتاب وصاحبه – , في تفسير آية الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب صفحة 312 طبعة دار عالم الكتب ، — لنوضح أن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم — نقرأ هذا النص من الموضع المذكور : “قال علي (رضي الله عنه) لنوف البكالي : يا نوف ، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأيد نقية ، فإني لا أستجيب لأحد منهم ، ما دام لأحد من خلقي مظلمة. يا نوف ، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا ، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها ، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا ، أو صاحب عرطبة ، وهي الطنبور ، أو صاحب كوبة ، وهي الطبل” .
وبالبحث وجدنا أن في سنده كلا من : سهل بن شعيب (مجهول الحال) , وأبو علي بن الصقيل (مجهول الحال) , وعبد الأعلى بن عامر الكوفي (وهو ضعيف الحديث) , مما يؤكد أننا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة جديدة بروح عصرية ناقدة ثاقبة وواعية، لتنفي عن ديننا انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين ، وهي مهمة ليست يسيرة ، بل إنها تحتاج إلى التشمير عن ساعدة الجد .