قراءة في فكر الإمام الأكبر ومواقفه
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
صدر لفضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر ثلاث إصدارات هي بمثابة ثلاثة كنوز علمية معرفية ، هي: التراث والتجديد ، وحديث في العلل والمقاصد ، ونظرات في فكر الإمام الأشعري ، وقد اعتزمتُ الكتابة عنها تباعا غير أن لقاء حضرته في رحاب مشيخة الأزهر كان لا يمكن أن أتجاوزه ، لما له من دلالات عظيمة على عمق فلسفة فضيلة الإمام ووطنيته وغيرته لدينه ووطنيته ، وهو لقاء فضيلته بالمبعوث الأوروبي لحقوق الإنسان يوم الثلاثاء 11/ 2/ 2014م ، حيث أسمع فضيلة الإمام الرجل كلاما ما كان ليسمعه من غيره ، ومن ذلك أن اختلاف الثقافات والحضارات والأعراف والتقاليد يولد بالطبع اختلافا في الحقوق والواجبات ، ولا يمكن لحقوق الإنسان في الغرب التي ترتبط بطبيعة المجتمعات فيه أن تستنسخ وتفرض قسرًا على الشرق ولا العكس قائم أيضا ، فمثلا إذا كانت بعض ثقافات الغرب تقنن وتقر حقوق المثليين في الزواج فإن ثقافة الشرق وحضارته تأبى ذلك ولا يمكن أن تتقبله ، وإذا كانت حقوق الإنسان في الغرب لا تسمح بالمساس بالسامية أو إنكار المحرقة المزعومة أو حتى مناقشة أمرها ، وتعد ذلك من الجرائم والمحرمات ، فإن ذلك لا يمكن أن يكون ملزما للشرق أو مفروضا عليه ، فإن هذه السامية المكذوبة أعطت اليهود من الحقوق والميزات ما يقوي مزاعمهم الفاسدة بأنهم شعب الله المختار .
كما نبه فضيلة الإمام أن الغرب الذي يتحدث عن حقوق الإنسان يمنح الكيان الصهيوني في إسرائيل من المال والسلاح ما يقتل به الشعب الفلسطيني ويدمر مقوماته الحياتية ، فأين هم من حقوق الإنسان في ذلك ؟ وأنهم هنا في مصر يبحثون عن حقوق جماعة أو أفراد ، ولا يبحثون عن حقوق شعب بأكمله يواجه إرهابا أعمى لا يراعي حرمة دين ولا وطن ، وأنهم يستقون معلوماتهم من الإعلام المضلل والمنحاز لفريق بعينه ، ولا يستقون معلوماتهم من واقع الشعب المصري الذي يرفض الإرهاب بكل صوره ، ويعاني من مرارته ومن تلك الجماعات الإرهابية والمتشددة.
وفي هذا أكد فضيلة الإمام على أمرين: الأول أن الأزهر مستعد لاستضافة أي فريق من حقوق الإنسان على نفقة الأزهر والتعاون معه شريطة الإنصاف ، وأن يستقوا معلوماتهم من واقع الشعب المصري وليس من الإعلام الخارجي أو الداعم لفصائل التشدد أو الإرهاب.
الأمر الآخر: لا بد أن يكون الغرب منصفا للشرق في قضية حقوق الإنسان ، وألا يسلك معه مسلك الإملاء أو الاستعلاء ، بل على كل من الشرق والغرب أن يحترم ثقافة الآخر وحضارته ، لنتعامل في ضوء تكامل الحضارات لا تصادمها ، فللغرب ثقافته وعاداته وتقاليده وحقوقه التي لا ينكرها عليه الشرق ، ولا يملي عليه غيرها ، وللشرق ثقافته وحضارته وتقاليده وحقوقه التي لا يقبل أن يتدخل الغرب في تغييرها قسرًا أو إملاء غيرها عليه تحت أي ذريعة أو مبرر ، وأن الدستور المصري قد أقر حقوق الإنسان كاملة في ضوء شرائعنا وعاداتنا وتقاليدنا التي لا تقبل شعوبنا أي إملاءات تتناقض معها أو تكون خارج إطارها.
وفي الحديث حول علاقة الشباب والشيوخ أكد فضيلة الإمام على أهمية التواصل بين الأجيال ، فالعلاقة بين الشباب والشيوخ هي علاقة تكامل لا علاقة صراع ولا إقصاء ، فلا غنى عن طاقات الشباب ولا عن خبرات الشيوخ ، وفي وضوح تام قال فضيلة الإمام للمبعوث الأوروبي ليس كل القيادات في أوروبا أو في الغرب من الرؤساء والوزراء والمسئولين من الشباب ، وفي معرض الحديث عن انحيازهم إلى جانب الإخوان المسلمين قال فضيلة الإمام للمبعوث الأوروبي لا نريد أن تبحثوا عن حقوق أشخاص أو جماعات على حساب شعب بأكمله ، وأكد أن الأزهر كان دائما يسعى للمصالحة ولم الشمل غير أن تعنت فصيل بعينه كان يحول دون إتمامها .
وأسجل الآتي:
1- أن المبعوث الأوروبي كان مندهشا من عمق فلسفة الإمام وصراحته وشجاعته ، ولم يستطع أن يخفي إعجابه بهذه الفلسفة العميقة في رؤية حقوق الإنسان ، وأكد أنها جديرة بالنظر والاحترام وأنه أفاد منها في رؤيته العامة لحقوق الإنسان ، وإن كان قد حاول الجدل في بعضها.
2- أن الطرف المتعنت الذي أشار إليه فضيلة الإمام في حديثه هو جماعة الإخوان المسلمين ، وبخاصة قياداتها العليا في مكتب الإرشاد التي كانت تتدخل في اللحظات الأخيرة بما يحول دون إتمام الوفاق أو المصالحة.
3- أن فضيلة الإمام الأكبر بقيادته الحكيمة للأزهر الشريف قد آثر الانحياز إلى جانب الدولة في مواجهة العبث والفوضى ، وتبنى بقوة ووضوح منهج السماحة والتيسير وفقه التعايش في مواجهة التشدد والتكفير ودعاة الطائفية.
أما الكتب الثلاثة التي أشرت إليها في صدر المقال فلا يمكن أن يفي بأي منها حديث موجز كهذا ، فسنجعلها مجالا لعقد عدد من الندوات حولها ، غير أني أشير فقط إلى رؤية فضيلته للعلاقة بين التراث والتجديد ، وهي تقف في منطقة وسط تدعو إلى الإفادة من التراث ، والتفرقة بين الثابت والمتغير فيه ، وإعادة قراءته قراءة جديدة واعية في ضوء معطيات ومكتسبات ومستجدات عصرنا الحاضر ، قراءة لا تقبل القطيعة مع الماضي ، ولا يمكن أن تتنكر له أو تنسلخ منه ، وهي في الوقت نفسه لا تنفصل عن واقعها ولا تنعزل عنه ، ولا تتنكر له أو ترفضه لمجرد حداثته أو كونه وافدا من ثقافة الآخر ، إنما تدعو إلى نظرة متوازنة تأخذ من الماضي ما تؤسس به للحاضر وتنطلق به في المستقبل ، وتأخذ من الحاضر والوافد أيضا كل ما هو نافع ومفيد ، وتؤمن بالتواصل الحضاري والانفتاح على الآخر علميا و ثقافيا بما لا يتعارض مع ثوابتنا الشرعية وقيمنا الحضارية ، لنصنع في النهاية بناء حضاريًا جديدًا ينطلق بنا إلى مصاف الدولة المتقدمة والراقية من جهة ، ويحفظ لنا هويتنا وخصوصيتنا الحضارية والثقافية من جهة أخرى.