التطرف والتطرف المضاد
من الخطر الخروج من التطرف إلى تطرف آخر , فكلا النقيضين – الإفراط والتفريط- ذميم , وقد قالوا : لكل شيء طرفان ووسط , فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر , وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان , ولكل فعل رد فعل مساو له في النسبة ومعاكس له في الاتجاه , فالإفراط في التسيب يؤدي إلى إفراط في التشدد والعكس بالعكس , يقول الإمام الأوزاعي (رحمه الله) : ما من أمرٍ أمرَ الله به إلاّ عارض الشَّيطان فيه بخصلتين ، لا يبالي أيّهما أصاب : الغلوّ ، أو التَّقصير.
ومع إيماننا بحرية الناس جميعا في اختياراتهم وأنه لا إكراه في الدين , ولا على الدين , فإذا كان الناس أحرارًا في اختيار دينهم لا يصرفون عنه ولا يحملون على غيره عنوة , حيث يقول الحق سبحانه : “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة : 256) , فمن باب أولى أنه لا إكراه في الالتزام بجزئياته ، ويقول الحق سبحانه : ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ” (يونس : 99) ، ويقول سبحانه : ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ” (هود : 118-119) غير أن هذه الحرية التي نؤمن بها ونعمل على ترسيخها في سبيل تحقيق المواطنة المتكافئة شيء ، والدعوة إلى الفوضى والتسيب الذي تنبذه الشرائع السماوية شيء آخر.
والحرية لا تعني الفوضى ولا الاعتداء على حريات الآخرين , وإذا كان من حق الإنسان أن يرتدي ما يشاء من اللباس ما دام مراعيًا الذوق العام أو العرف العام للمجتمع فإن عليه أيضًا أن يحترم اختيارات الآخرين ما داموا كذلك .
وإذا كان هناك من اخترن عدم ارتداء الحجاب ولا يتعرض لهن أحد بسوء ولا يحملهن أحد عليه عنوة فإن عليهن احترام حرية الأخريات في الاختيار وعدم النيل من قضية الحجاب أو الاستخفاف به أو السخرية منه , إذ إن الاستخفاف بذلك يولد تطرفًا مضادًّا.
فديننا دين الوسطية لا إفراط فيه ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير , وقد سئل سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قيل له : حب التناهي شطط خير الأمور الوسط , هل تجد هذا المعنى في كتاب الله (عز وجل) ؟ قال : نعم , في أربعة مواضع في قوله تعالى : ” وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا” (الإسراء : 29) , وفي قوله تعالى : ” وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا” (الفرقان : 67) , وقوله سبحانه : ” وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً” (الإسراء : 110) , وقوله سبحانه : ” قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ” (البقرة : 68) ، فلا ينبغي لعاقل أن يذهب إلى أحد طرفي النقيضين من الإفراط أو التفريط .