تجربة القراءة والزمن وخطوة نحو غدٍ مشرق
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
لم أعد بعد التجربة الطويلة مع القراءة والبحث حاطب ليل يجمع ما يقع تحت يده أيا كانت جدوى جمعه أو اقتنائه ، بل إنني أقوم بين الحين والحين بمراجعة مكتبتي ، وإهداء ما لم يعد أصيلا فيها أو ذا قيمة خاصة لها أو لي ، حتى لو كان في غاية الأهمية والقيمة لبعض الطلاب والباحثين أو الناشئة في طلب العلم ، وهو ما أحث زملائي وكبار العلماء عليه ، تشجيعا لأبنائهم من الباحثين والدارسين وطلاب العلم ، أو حتى قيامهم بالإهداء إلى المكتبات العامة ، فلاشك أن العام النفع مقدم على الخاص النفع أو القاصر النفع.
وكذلك لا أقرأ كتابا قراءة متأنية إلا بعد نظرة إجمالية إلى عنوانه وكاتبه وخطته العامة ، فإما أن أكتفي بالنظرة الإجمالية تاركا الكتاب بعد ذلك لأحد الشباب المحيطين بي أو طلاب العلم ، وإما أن أقتني الكتاب وقد أعاود قراءته المرة تلو الأخرى ، لأنه تجربة خاصة ، أو قيمة خاصة في بابه.
وأنا لا أعد الكتاب قيمة خاصة إلا إذا كان فريدًا في بابه ، أو معبرًا عن تراكم خبرات خاصة ، أو عن تجربة إنسانية أو حياتية فريدة ، قد لا تتكرر في عالمها أو مجالها ، وحتى لو تكررت فستكون إضافة جديدة لها نمطها الخاص وطابعها المميز.
وبامتنان تلقيت إهداء كتابي الأستاذ الدكتور/ كمال الجنزوري رئيس الوزراء الأسبق: طريقي ، ومصر والتنمية ، بكل الاعتزاز كونهما من قامة وطنية جديرة بالاحترام ، وكونهما – أيضا – تراكم خبرات قد لا نصل إليها أو نحصل عليها من أي طريق آخر أو كتاب آخر ، وإذا كانوا يقولون : ليس من رأى كمن سمع ، فإننا نقول أيضا : ليس من صنع القرار بلحمه ودمه كمن راقبه أو حلله أو حتى أسهم في صنع بعض جوانبه، ومن هنا كانت عنايتي بقراءة هذين الكتابين.
ومع أن الوقت لما يسمح بمعاودة القراءة فيهما المرة تلو الأخرى ، مع أنهما جديران بذلك ، فإنني بعد القراءة الأولى أؤكد أنهما تجربة خاصة قدر خصوصية صاحبهما ، وأنها جديرة بالنظر والتأمل.
ومما أعجبني ابتداء ما أكده الكاتب من ضرورة التواصل بين الماضي والحاضر ، لا لننسخ الماضي أو نعيد إنتاجه ، فعلى اليقين الزمن لا يعود إلى الوراء ، ومن ظن أنه يمكن أن يقود مرحلة المستقبل بنفس عقلية الماضي وإعادة إنتاجه فيكون خارج الزمن ، لأن لكل مرحلة ظروفها وطبيعتها وخصائصها ، بل ورجالها.
وعلى الرغم من كل ذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن ننعزل عن الماضي أو نضرب بيننا وبينه سورًا حديديا أو غير حديدي ، فالحضارة أمر تراكمي ، والثقافة أمر تراكمي ، ولابد أن ندرس الماضي بإيجابياته لنفيد منها ، وسلبياته لنعمل على تلافيها ، دون جلد للذات قد يصل بنا إلى الإحباط أو درجة منه ، فعلينا أن نأخذ من الماضي ما ننطلق به في الحاضر ، ونبني عليه في المستقبل بأدوات الحاضر والمستقبل ، وبخاصة مع التطور العلمي والفكري والتكنولوجي المذهل.
وبما أنني أحترم التخصص إلى أقصى درجات الاحترام والتقدير ، فإنني لا أسمح لنفسي بتحليل الرؤى الاقتصادية والتعليق عليها ، فهذا شأن أهل الاختصاص ، غير أنني كمثقف مصري ومعنيّ إلى حد كبير بالفكر الاقتصادي العام ، مؤمن بأن العالم ينبغي أن يلم بأساسيات العلوم والفنون ، وأن الثقافة تقتضي معرفة كل شيء عن شيء أو السعي إلى ذلك على أقل تقدير ، ومعرفة شيء عن كل شيء ، ومن هذا المنطلق فإنني أسجل الآتي:
- باعتباري تخصصي اللغوي وعنايتي الشديدة باللغة فإنني أبدي إعجابي بقدرة الكاتب على التخفيف من حدة اللغة العلمية والرقمية في قالب سهل من جهة ورصين من جهة أخرى ، مع دقة شديدة في المراجعة اللغوية والطباعية التي تذكرنا بعناية المحققين الكبار في إخراج كتبهم ، وإن كانت هذه العناية لا تستغرب من علماء اللغة والشريعة فإنها عندما تأتي من رجل دولة واقتصاد فإنها تستحق الإشادة والتقدير ، إضافة إلى أسلوب السرد المتميز الذي خرج به الكتاب الأول “طريقي” مما يجعله مهيئا للتحول إلى عمل درامي بأقل جهد من أعمال “السينارست” المتخصصين المؤهلين لإخراج مثل هذا العمل بما يليق بالكاتب وتاريخه.
- تواضع الكاتب المستمد من هدوئه وصمته من جهة ، ومن تجربته السياسية العميقة من جهة أخرى.
- لفت نظري ما ذكره في كتابه ” طريقي” من أن الأولوية في الموارد المحدودة ينبغي أن تكون لما يلبي احتياجات المواطن والأمن القومي للدولة ، وأن الخطة التي لا تأخذ في اعتبارها توفير المتطلبات الأساسية للشعب تغفل مهامها الرئيسية.
وفي هذا ما يعني الاهتمام بالطبقات الكادحة والأشد فقرًا ، ويدفع في اتجاه تحقيق جانب هام من جوانب العدالة الاجتماعية ، بإعطاء الأولوية لسد الجوعة ، وستر العورة سواء الملبس أم المسكن ، مع العناية بالمقومات الأساسية للحياة الاجتماعية كالصحة والتعليم وهو ما صار ضروريا وحتميا كالماء والهواء.
- ومن الأفكار التي لفتت نظري ، وهي محل اهتمامي ، الفصل الخامس من الكتاب الثاني “مصر والتنمية” والذي جاء تحت عنوان: “المكان من الضيق والمحدودية إلى الفسحة والسعة” فمع ما يحمله عنوان هذا الفصل من دلالات أدبية ولغوية راقية ، فإنه يتضمن أفقا اقتصاديا واستثماريا واسعا ، وهو ما لمسته واقعا ، وعايشت جانبا منه في مجال التطبيق سواء من خلال جولاتي بمحافظات مصر أم بمتابعتي لاستثمارات هيئة الأوقاف المصرية باعتباري ناظرًا للوقف بحكم موقعي الوظيفي ، حتى أنني ذكرت وأكدت في أكثر من مقال صحفي وحديث إعلامي أن مصر لم تكتشف بعد ، وأنها غنية بمواردها الطبيعية التي يمكن إذا أحسنا استثمارها وتوفرت الإرادة السياسية والوطنية أن تحدث نقلة اقتصادية كبيرة في مصر لا تخرج بها من أزماتها فحسب ، إنما يمكن أن تنتقل بها إلى مصاف الدول المتقدمة ، وأن صعيد مصر الذي قد ينظر إليه بعض قصار النظر على أنه عبء على التنمية يمكن أن يكون هو أحد أهم محاور التنمية في مصر ، فمازالت به بعض مناطق الثروات البكر منها على سبيل المثال المثلث الذهبي (القصير – سفاجا – قفط) ، وتوشكى ، وشرق العوينات ، والوادي الجديد بكل موارده الطبيعية ، وجبال الجرانيت والرخام بأسوان ، والمساحات الهائلة التي يمكن أن تزرع بنباتات الوقود الحيوي مثل نبات الجتروفا والجوجوبا ، الأول يستخدم وقودًا حيويا والآخر يستخدم وقودًا حيويا ويدخل في صناعة بعض المستحضرات الطبية، أما سيناء بشمالها وجنوبها ، ومواردها الطبيعية ، وما يمكن أن ينشأ فيها من مدن وأماكن سياحية ، بعضها سياحة علاجية ، وبعضها سياحة دينية ، وبعضها سياحة ثقافية ، وبعضها سياحة صحراوية ، وبعضها سياحة شاطئية، ناهيك عن قصة الرمال السوداء والرمال البيضاء.
ويكفي أن نعلم أننا في محافظة البحر الأحمر نمتلك مدينة مصنفة على أنها المدينة الشاطئية الأولى والأفضل في العالم ، وهي مدينة الغردقة ، بما حباها الله من جمال الطبيعة ، ويبقى دورنا في التحول بها من أفضل مدينة شاطئية إلى أفضل مدينة سياحية، على أننا في مصر لم نستغل السياحة الدينية ولا السياحة الثقافية ، ولا الكثير من مواردنا الطبيعية وثرواتنا المعدنية الاستغلال الأمثل ، فتحية للكاتب، تحية لسجله الوطني ، تحية لكتابته المميزة.
نقطة ضوء ولمسة أمل :
وفي ضوء لمسة الأمل هذه ولمسة الأمل التي شهدناها بالمشاركة الإيجابية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، وإقدام جموع الشعب في روح جديدة وثابة ، فإننا نؤمل في غد مشرق لجميع المصريين إن شاء الله تعالى .