مصر التي لم تكتشف بعد
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
لقد اكتشفنا بلا شك الكثير من الآثار والمعالم الحضارية المصرية عبر تاريخها وحضارتها التي تضرب لأكثر من سبعة آلاف عام في أعماق التاريخ البشري..
وعلى الرغم من هذه الاكتشافات الأثرية الهامة فإن اكتشاف أبعادها العلمية والحضارية والإنسانية مازالت في حاجة إلى مزيد من البحث من جهة، وإلى تقريب ما تنضوي عليه هذه الحضارة من كنوز وأسرار إلى الناشئة والشباب من جهة أخرى، فلا شك أن ذلك كله يؤدي إلى تعميق الحس الوطني، وزيادة الإحساس بالانتماء والولاء للوطن .
إن التراكم الحضاري للثقافة المصرية بكل أبعادها العلمية والمعمارية والفنية والتشكيلية، والتاريخية قد بهر العالم كله، وكان مثار إعجاب العلماء والباحثين ومقصد السائحين من كل أرجاء العالم، أملا في التعرف على أبعاد هذه الحضارة من جهة، وعملا على الإفادة من معطياتها من جهة أخرى، بل إن الأمر تجاوز هذا القصد إلى إقامة متاحف ومعارض ومواقع للآثار المصرية في كثير من دول العالم التي تعرف للتاريخ قدره، ولمصر مكانتها، وللآثار قيمتها.
ولم يخف على هؤلاء، بل لم يستطيعوا إنكار الأبعاد العلمية والإنسانية والأخلاقية والروحية لحضارة الإنسان المصري، فقد صارت مفردات هذه الحضارة تغذي كثيرا من الروافد العلمية في مجالات متعددة منها علم الأخلاق، وعلم الاجتماع ، إضافة إلى الفنون الهندسية، والمعمارية، وفنون الكتابة ، والتحنيط، والفلك، والثروات المعدنية كمناجم الذهب التي استغلها المصريون القدماء، وبدت آثارها واضحة فيما عثر ويعثر عليه في مقابرهم وأهراماتهم.
أما مصر التي لم تكتشف أبعادها بعد، أو لم نحسن استغلال مواردها بعد، فهي كثيرة، فما زلنا في حاجة إلى مسح جغرافي وجولوجي شامل لخريطة مصر الجغرافية في ضوء دراسة تنموية شاملة، تعيد قراءة هذه الخريطة تعدينيا، وزراعيا، وسياحيا، فما زالت الثروات الضخمة لم تستغل بعد، أو لم تستغل الاستغلال الأمثل على أقل تقدير.
وفي عدة زيارات لأسوان ، والوادي الجديد، والبحر الأحمر، وسيناء، تأكد لي أن بلدنا مازال عامرا بالخيرات، ففي أسوان من المعالم السياحية ما يؤهلها لأن تكون في مقدمة المدن العالمية لو طورنا من بنيتها التحتية، وأعدنا النظر في الإفادة القصوى من هذه المعالم وتوظيفها توظيفا متميزا كمعالم حضارية وثقافية واستعنا في ذلك بمرشدين سياحيين متخصصين ومثقفين لديهم من الحس الوطني الكافي ما يجعل المصلحة العليا للوطن فوق أي اعتبار آخر.
وفي سيناء أرى أننا في حاجة إلى تنمية بشرية، وتهيئة المناخ المناسب للجذب السكاني، بحيث نزرع سيناء ونعمرها بالبشر، مع تسليط الضوء على ما بها من مقومات سياحية، بعضها علاجي، وبعضها طبيعي، وبعضها ثقافي، كما أنها لم تكتشف بعد تعدينيا، مع ضرورة وضع خريطة واضحة للمناطق القابلة للزراعة والاستصلاح بها.
وفي الوادي الجديد بمساحته المترامية الأطراف، وامتداده الطبيعي في الواحات البحرية بمحافظة الجيزة ما يسمح بإقامة دولة كبرى لامجرد مجتمعات إنتاجية أو عمرانية، وفي البحر الأحمر تجرى دراسة هامة حول مايعرف بالمثلث الذهبي القصير سفاجا قفط “قنا” لاستغلال ما فيه من ثروات تعدينية تهيئ لنهضة كبرى في مجال التعدين مع أراض خصبة قابلة للزراعة، ولا ينبغي أن ننسى أن مدينة الغردقة تصنف كأجمل مدينة شاطئية في العالم، إضافة إلى محور قناة السويس الذي تعمل الدولة بجدية على تنميته تنمية شاملة تدر المليارات لو أحسنا التخطيط والعمل، بل إنك لو نقبت في الكثير من محافظات مصر وفي الظهير الصحراوي لتأكد لك أننا لم نعط هذا البلد ما يجب أن نقوم به، فهو مؤهل لأن ينطلق هو بنا لو أننا استطعنا أن نتجاوز المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار، ولن يكون ذلك إلا بأن يقف الشعب كله وقفة رجل واحد في مواجهة الإرهابيين، والانتحاريين، والمخربين، والمدمرين، والمفسدين في الأرض.
أما البعد الغائب الحاضر الذي نكتشف على مر الزمن الكثير من جوانبه فهو الطبيعة الحضارية الصلبة معا للشعب المصري، ففي وقت الشدائد والأزمات تظهر المعادن الأصيلة لأبناء هذا الشعب، ففي مجال الأمن هناك واجب وطني تقوم به قواتنا المسلحة وأبناء وزارة الداخلية، يضحون بدمائهم في سبيل وطنهم، وهو ما يحتمه عليهم الواجب الوطني، غير أن هذا الواجب يحتم علينا أيضا ألا نتركهم وسبيلهم في مواجهة المخاطر وحدهم، بل علينا أن نكون إلى جانبهم مؤازرين ومعضدين، والأهم من ذلك أن يؤدي كل واحد منا دوره، إذ لايمكن لأي جهاز وطني مهما كان حجمه وهمته وقوته ووطنيته أن ينهض مستقلا بأعباء بلد كامل حتى لو حاول، إنما تنهض الأمم وترقى بمجموع ما يبذل من جهود المخلصين من أبنائها.
ولو انتظرت كل طائفة منا ما يجب أن يتوفر من مقومات وإمكانات مما يمكن أن يتوفر لها في الأوقات الطبيعية، أو ما يتوفر لمثيلاتها في الدول الأخرى التي لاتتشابه ظروفها الاقتصادية وإمكاناتها مع ظروفنا وإمكاناتنا لما تقدمنا خطوة واحدة إلى الأمام، إنما على كل فئة أو هيئة أو شخص أن تحاول النهوض بما تحت يدها في ضوء إمكاناتها المتاحة، ويقولون الحاجة أم الاختراع.
ولا شك أن الكفاية الوطنية الكلية التي تحدثنا عنها في الأسبوع الماضي لايمكن أن تتحقق إلا بتحقيق عناصرها ومقوماتها من الكفايات المهنية، كالطب، والصيدلة، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والتعليم، والثقافة، والحرف التي لاغنى لمجتمع عنها حتى لو كان بعض الناس ينظرون إلى أربابها نظرة تجعل الإقدام عليها أو ممارستها أمرا غير مرغوب فيه.
وإننا لنؤكد أن لكل مهنة متاعبها ومشكلاتها مهما كانت الميزات التي يتمتع بها أهلها، فالراحة المطلقة في هذه الدنيا لم تخلق، لأنها عكس الطبيعة التي خلق الله الحياة عليها، وهو القائل في كتابه العزيز:”لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ”، أي مشقة وتعب، ويقول الإمام جعفر الصادق ( رضي الله عنه): من طلب الراحة في الدنيا طلب ما لم يخلق ومات ولم يرزق، لأن الله عز وجل يقول:” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ” فالراحة أمر نسبي، قد تتحقق لبعض الوقت، لكن الأيام دول، والدنيا لاتدوم على حال، ومن سره زمن ساءته أزمان ، والدنيا لاتجمع من أطرافها، فهذا له صحة ومال ولا ولد، وهذا له مال وولد ولا صحة، وهذا له ولد وصحة ولا مال، والراحة لاتكون إلا في الرضا بما قسم الله، وإخلاص النية في العمل، في السر والعلن، حتى تكون البركة في الصحة والمال والولد، والراحة في النفس، والضمير والسكينة والاستقرار النفسي.
ولابد من ضريبة يدفعها الإنسان في سبيل نهضة وطنه ورقي مجتمعه، والحفاظ على أمنه العام أو الاجتماعي أو الغذائي أو الفكري، ومن هنا لكل واحد منا دوره، وعليه واجبه، وكما قال شوقي:
وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق
فعلى الأطباء أن يكفوا حاجة وطنهم في مجال الطب، والمعلمين في مجال التعليم، والصناع والعمال والزراع كل في مجاله عليه أن يؤدي دوره في تحقيق الكفاية المهنية في مجال اختصاصه وصولا إلى حد الكفاية الوطني الذي نسعى إليه، وساعتها سنملك كلمتنا، ونتبوأ المكانة العالمية التي تليق بمصر وأهلها.