فرض الكفاية الوطني
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
ينقسم الواجب عند أهل العلم إلى عيني وكفائي ، فالعيني هو ما يجب وجوباً عينياً لازماً على كل فرض من آحاد الأمة ، لا يقوم غيره فيه مقامه ، ويمثل له علماء الشريعة بإقام الصلاة وصيام رمضان، ونحو ذلك ، حيث لا يجزي صيام الأمة كلها عن إفطار من أفطر ، ولا يغنى عنه صيامها من الله شيئاً .
والواجب الكفائي إذا قام به بعض الناس سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثموا جميعاً ، وكان الفقهاء يمثلون له باتباع الجنائز ، ورد السلام ، وتشميت العاطس ، ونحو ذلك . . .
غير أن فهم بعض الناشئة وطلاب العلم قد توقف أو جمُد عند هذه الحدود ، فلم يدركوا إدراكاً كافياً أن الواجب الكفائي يتعدى ذلك كله إلى كل ما تقوم به حياة الفرد والمجتمع أو تتوقف عليه .
وعندما نحاول تطبيق الواجب العيني والكفائي في حق الوطن بنظرة وطنية نجد أن الواجب العيني يتمثل في أداء كل شخص للمهمة الوطنية الموكلة إليه بأعلى قدر من الأمانة والكفاءة والإخلاص للوطن دون النظر إلى أداء الآخرين إلا إذا كان هذا النظر على سبيل المنافسة والمسابقة في الخيرات ، وهذا من هدي ديننا الحنيف ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) ” لا يكن أحدكم إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا ” سنن الترمذي – فالطبيب ، والمعلم ، والمهندس ، والصانع ، والعامل كل يؤدي واجبه الوظيفي والمهني على الوجه الأكمل حتى ولو لم يكن الأجر هو الأجر الأنسب أو المكافئ ، فحال الوطن الاقتصادي ينبغي أن يراعى ، وهذا أيضاً ما حث عليه الإسلام حينما اشتكى بعض الناس للنبي (صلى الله عليه وسلم) أنهم يعملون عملاً ولا يتقاضون أجراً يكافئه فقال (صلى الله عليه وسلم) : أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم ” .
غير أن ذلك لا يعني أن نبخس العامل حقه أو الأجير أجره ، ففي الحديث النبوي الشريف الذي رواه أحمد والبخاري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ” ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره ” وإنما يعنى شيئاً من الصبر وطول النفس مراعاة للظروف التي يمر بها الوطن .
أما فرض الكفاية الوطني فيتمثل فيما يأتي :-
أولاً : – اجتثاث الإرهاب الأسود من جذروه ، والتعاون في استئصاله ، فأي شريعة تلك التي تبيح قتل النفس بغير حق ، لقد اجتمعت الشرائع السماوية على حرمة قتل النفس التي حرم الله ( عز وجل ) إلا بالحق ، بل إن القرآن الكريم قد أكد أنه من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ، يقول سبحانه : ” مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ” وعندما كان النبي يطوف بالكعبة قال : ” ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً ” رواه ابن ماجه – بل أبعد من هذا ، فإنه (صلى الله عليه وسلم) قال : ” لنقض الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله ( عز وجل ) من إراقة دم امرئ بغير حق ” ، بل أبعد من هذا عندما قال (صلى الله عليه وسلم) دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ” رواه البخاري ومسلم – فإذا كان هذا جزاء من أهملت أمر هرة وغفلت عنها ، ولم تعمد إلى قتلها ، فما بالكم بمن يقتل النفس التي حرم الله بلا وازع من دين أو ضمير ؟ ! أنه لا جزاء له إلا ما قاله رب العزة في كتابه العزيز : “وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ” أما من يعيثون في الأرض فساداً ويروعون الآمنين وينتهكون الحرمات ، ويسفكون الدماء بغير حق من الإرهابيين التكفيريين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ولا يعرفون للوطن ولا المجتمع حقاً فجزاؤهم في قوله تعالى : ” إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” .
فالواجب الكفائي أن تتضافر كل قوى المجتمع في مواجهة تلك القوى الظلامية الغاشمة حتى تستأصل الإرهاب الأسود من جذوره .
ثانياً :- يأتي دور العلماء والمفكرين والمثقفين والإعلاميين والأكاديميين في مواجهة الفكر التكفيري وبيان خطورته على الفرد والمجتمع فهو الرافد الفكري للعمليات الإجرامية الإرهابية ، ونبين للناس أن الإسلام أبعد ما يكون عن منهج التكفير والتخوين والتنقيب عن القلوب بلا بينة ولا دليل ، وأن نبينا (صلى الله عليه وسلم) قال: “إذا قال الرجل لأخيه ، يا كافر ، أو أنت كافر ، فقد باء بها أحدهما ، فإن كان كما قال ، وإلا رجعت إلى الأول “، وقال (صلى الله عليه وسلم) كان رجلان متواخيين من بنى إسرائيل فكان أحدهما لا يزال يطيع الله عز وجل والآخر لا يزال يقصر ، فكلما لقي الطائع العاصي قال له أما آن لك أن تقلع فيقول دعني وشأني ، حتى ضاق به مرة فقال له والله لن يغفر الله لك ، وفى رواية لن يدخلك الله الجنة ، فأمر الله عز وجل بقبض أرواحهما ، فقال لهذا الذي كان لا يزال يقصر ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر أكنت بي عالما أم كنت على ما في يدي قادرًا خذوه إلى النار ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) ” لقد تكلم بكلمة أوبقت ( أي أهلكت ) دنياه وآخرته ” .
ثالثاً : يأتي الواجب الكفائي في تفكير كل منا في كيفية الخروج بالوطن من أزماته السياسية ، والاقتصادية ، والعلمية ، والعمل على تحقيق الاكتفاء في مجال الغذاء ، والدواء ، والكساء ، والسلام ، والعتاد ، والصناعات الثقيلة .
رابعاً : على أهل كل مهنة العمل على تحقيق الكفاية لوطنهم كل في مجاله ، فأهل الطب يتعاونون في تحقيق الكفاية لوطنهم ، وكذلك رجال القانون ، والهندسة ، والزراعة ، والتعليم ، وسائر التخصصات والصناعات وذلك بتنمية روح البذل والعطاء والتطوع ، والبعد عن الأثرة والأنانية وحب الذات ، رجاء أن نمضي مجتمعين ، لا أن نسقط فرادى أو مجتمعين ، فكما قال السابق : ” أكلت يوم أكل الثور الأبيض ” .