أ.د/ أحمد علي سليمان : وزارة الأوقاف في عصرها الذهبي تسعى لإيجاد بيئة إيمانية قرآنية تسودها العقيدة الإسلامية السمحة
وترتكز على المحبة والتعددية والسلام .
والمسابقة العالمية من مناقب مصرنا العظيمة
التي اختصها بأن ذكرها في القرآن الكريم تصريحًا وتلميحًا
أكد أ.د/ أحمد علي سليمان عضو المكتب الفني بقطاع التعليم الأزهري بهيئة جودة التعليم التابعة لرئاسة مجلس الوزراء – عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – عضو مكتب جامعة الأزهر للتميز الدولي في المسابقة العالمية للقرآن الكريم الخامسة والعشرين التي تنظمها وزارة الأوقاف المصرية خلال الفترة من 24 – 29 مارس 2018م بالقاهرة في كلمته التي ألقاها بندوة الأوقاف تحت عنوان: “آداب حامل القرآن الكريم” وبين فيها فلسفة المسابقات القرآنية ودورها التربوي في تكوين النشء الصالح , فقال :
الحمد لله الذي نزَّل الفرقانَ على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وقدوةً للعابدين، سيدنا محمد الذي جاءنا بالبينات والذكر الحكيم، وعلى آله وصحبه، ومَن سار على دربه إلى يوم الدين… وبعد.
أيها السيدات والسادة: لابد أن تغتسل الكلمات، وتتوضأ الحروف قبل ذكر الله، وقبل الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
في البداية وعملاً بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا يشكُرُ اللهَ مَن لا يشكُرُ النَّاسَ) (أخرجه ابن حبان)، فإنني أشكر السيد الرئيس/ عبد الفتاح السيسي على رعايته الكريمة لهذه المسابقة العالمية المباركة، والتي تعد من مناقب دولتنا العظيمة التي اختصها الله بأن ذكرها في القرآن الكريم تصريحا وتلميحا .. ووهبها الأزهر الشريف عطية الله لمصر والعالم.
والشكر موصول لحضرة صاحب الفضيلة أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف على تنظيمه لهذه المسابقة العالمية والجميل أنه جزاه الله خيرا قد طوّر عمل المسابقة العالمية للقرآن الكريم وحوّلها من مجرد مسابقة وامتحانات.. إلخ، إلى منتدى علميٍّ؛ لتعظيم الاستفادة من الحضور الكريم وتدارس قضايا مهمة بين أبناء الأمة الإسلامية الذين أتوا إلى مصر من شرق الأرض وغربها ومن شمالها وجنوبها.
ففي كل يوم يخرج على أمتنا بالجديد النافع، ويتحرك في خدمة الدعوة والوطن في كل اتجاه، وأعاد للوزارة هيبتها، ورسخ هيبة الدعاة ومكانتهم في المجتمع، حتى أصبحت الوزارة جزءا أصيلا من المعادلة المصرية فشكرا لجناب الوزير الهمام الذي حيَّر القلوب والأفهام من إتقانه وإحسانه، ومن بلاغة أقواله، وبلاغة أفعاله، وجزاه الله خيرا كثيرا.
وأسأل اللهَ تعالى أن يجزي كلَّ من أسهم في الإعداد والتنفيذ لهذه المسابقة، أوفرَ الجزاء، وأخص بالذكر رجال الوزارة ورجال المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وعلى رأسهم سماحة أ.د. أحمد علي عجيبة الأمين العام للمجلس.
وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المسابقة الإسلامَ والمسلمينَ وطلابَ العلمِ، وأن تكون فاتحةَ خيرٍ وعزٍ للمتسابقين وللمحكمين وللمنظمين إنه سميع قريب مجيب.
أيها الحفل الكريم:
علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الاجتماع يقررون بأن رؤية الإنسان لذاته ولدوره ورسالته في الحياة، ورؤيته للبيئة المحيطة، وكذلك رؤيته للكون والحياة، تتشكل من خلال مصدرين اثنين، هما: -العقيدة التي يعتقدها الإنسان ويدين بها – والثقافة التي تربى عليها، وتَكوَّن عقلُه ووجدانُه من خلالها.
لذلك تسعى وزارة الأوقاف في عصرها الذهبي لإيجاد بيئة إيمانية قرآنية، تسودها العقيدة الإسلامية الحنيفية السمحة، التي ترتكز على أسس التسامح والمحبة والتعددية والسلام، كثقافةٍ بانيةٍ للتعايش في ربوع المجتمع، ومن ثم تهيئة البنية المجتمعية للإقلاع الحضاري والتقدم والازدهار؛ وقد جاء القرار الوزاري رقم 61 بتاريخ 26 مارس 2018م الذي أصدره معالي وزير الأوقاف بإنشاء (المجلس العالمي لخدمة القرآن الكريم)، خير دليل على ذلك.
الحضور الكريم: خلقنا الله تعالى في هذه الدنيا، وحدد لنا ثلاثَ غاياتٍ من وجودنا، وهي: عبادة الرحمن، وعمارة الأكوان، ورعاية الإنسان، وأنزل الله تعالى لنا نورًا مبينًا، هو القرآن الكريم، وجعله دستورًا لنا… نتعبد بتلاوته، ونحكم به، ونتحاكم إليه في جميع شئوننا، ونتقرب إلى الله تعالى بتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار.قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) (فاطر: 29)
ومن فضل الله، ورحمته، وتمام نعمته ومنته ، أن جعل هذا القرآن الكريم محفوظاً بحفظ الله له، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) .
ومن وسائل حفظ الله لكتابه العزيز من التبديل، والتحريف، ومن الزيادة، والنقصان أن يسَّر اللهُ تلاوته، وحفظه في الصدور، فهو الكتاب الوحيد على وجه الأرض المحفوظ في الصدور تواترا، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت: 49)، وتأتي مثلُ هذه المسابقات التي أستطيع أن أقول: لعلها جند من جنود الله تعالى، لتأكيد حفظه في قلوبِ إُناسٍ شرفهم الله لحفظ كلامه وحفظ كتابه، فطوبى لهم وحسنُ مآب.
لماذا المسابقات؟
والمسابقات جمع مسابقة، وهي مشتقة من السبق، وهو التقدم في العَدو. وقد اُستخدم مصطلحُ المسابقاتِ في العصر الحاضر بشكل واسع للدلالة على التنافس الشريف في أي ميدان من ميادين الحياة.
ولقد ظهرت فكرة التسابق بين بني البشر منذ عصور قديمة، حيث ظهرت مسابقات متنوعة في شتى مناشط الإنسان، في العَدو والجري… وغيره.
ولقد تعددت مجالات المسابقات، وتنوعت أغراضها، ولا شك أن أجملَها وأشرفَها وأعظمَها، بل وأفضلها على الاطلاق هي المسابقات القرآنية؛ لأنها تتعلق بكلام الله الخالد، الذي جاء إلينا عن طريق الوحي المعصوم، والرسول المعصوم، لينير القلوب والبصائر، ويصلح الإنسان والكون والحياة.
وهذا القرآن الخالد اجتمعت له كلُّ أنواع الشرف العظيم، فهو أعظم كتاب، وأجمل كتاب، وأكمل كتاب، وأشرف كتاب، أنزله الله تعالى من أفضل مكان إلى أفضل مكان… أنزله الله إلى اللوح المحفوظ، ثم أنزله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزله من بيت العزة إلى أفضل نبي هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، عن طريق أفضل مَلَكٍ هو سيدنا جبريل عليه السلام، في أفضل ليلة هي ليلة القدر، في أفضل شهر هو شهر رمضان، في أفضل مكان هو مكة المكرمة، ومن ثم أحدثَ اللهُ تعالى رباطًا مقدسًا بين الأرض والسماء بالقرآن الكريم، الذي اجتمعت له كلُّ أنواع الشرف العظيم: الشرفُ الملائكي، الشرفُ البشري، الشرفُ الزماني، الشرفُ المكاني.. ولِمَ لا وهو كلام الله…
والمسابقات أيها السيدات والسادة ليست بِدعًا في الدين، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يطرح المسألهَ على أصحابه ؛ ليختبر ما عندهم من علوم وخبرات..
ومن ذلك ما رواه سيدُنا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ منَ الشَّجرِ شجرةً لا يَسقُطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلِمِ، فحدِّثوني ما هيَ؟) فوقعَ النَّاسُ في شجَرِ البَوادي، قالَ ابنُ عمر: ووقعَ في نفسي أنَّها النَّخلةُ، فاستحيَيتُ، ثمَّ قالوا: حدِّثنا ما هيَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ: (هيَ النَّخلَةُ) (أخرجه البخاري) .
لقد شبَّه النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) المسلمَ بالنخلةِ في كثرةِ خيرِها، ودوامِ ظِلِّها، وطِيب ثمرِها، وأنه يُتَّخَذُ منها منافعُ كثيرة، وهي كلُّها نفع وخيرٌ وجمال، والمؤمن خيرٌ كلُّه، مِن كثرةِ طاعاته، وعبادتِه، وصدقاتِه وعطاءاته، ومكارمِ أخلاقه، وكثرة ترتيلاته وتلاواته..
آداب حامل القرآن ، وحامل القرآن الكريم هو شخص مبارك، شرَّفه الله تعالى، وأعلى قدره ومقامه ومكانته، بأن جعله يحمل في قلبه كلامه الخالد، وأنارَ قلبَه بنور القرآن، وتحمل قلبُه هذا النور، الذي لم تطقه الجبال (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21) يقول ابن عباس (رضي الله عنهما): أي لو أني أنزلتُ هذا القرآنَ على جبل وحملتُه إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله.
فحامل القرآن إذن شخص مختار من الله الأعلى.
• إن حامل القرآن يجب عليه أن يستشعر هذه الكرامة، وتلك المكرمة التي اختصه الله تعالى بها، ومن ثم يجب عليه أن يكون متحليا بأخلاق النبي العظيم، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) خُلقه القرآن؛ بل كان قرآنا يمشي على الأرض.
• ومن آداب حامل القرآن أنه يجب عليه أن يكون موسوعةً علمية أخلاقيةً إنسانيةً إيمانيةً تمشي على الأرض..
• فقارئ القرآن قدوةٌ تربوية إيمانية للآخرين.. إذا قال كان قولُه غايةَ الصدق.. وإذا عمل كان عملُه منتهى الإتقان والإبداع… وإذا حكم بين الناس كان حكمُه تمامَ العدل..
• حامل القرآن وهو وريث النبوة، يجب أن يُعرَف من جوهره، ومن مظهره، ومن سلوكه في هذه الحياة، فيُشار إليه بالبنان.
• يجب على حامل القرآن أن يكون مصدرَ إسعادٍ للآخرين.
• وبالجملة يجب عليه أن يكون من أسباب تحقيق خيرية الأمة، ووسطية الأمة، ونهضة الأمة، وقوة الأمة، وتقدم الأمة، ولمَ لا وهو أحدُ كتائبِ النور في هذه الحيـــــــــــاة…
الدور التربوي للمسابقات تكتسب المسابقات أهمية خاصة حيث إنها:
1- تربط المتسابقين بكتاب الله العزيز، بما يُسهم في تقوية إيمانهم، وتهذيب أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وتربيتهم تربية روحية موصولة بالله، ومن ثم تَقْوَي مناعتُهم الفكرية والسلوكية ضد مظاهر الاختراق، ويعيش هؤلاء الحفاظ جادةَ الصواب، ووسطيةَ الإسلام، حيث لا تشدد ولا تسيب، أي لا إفراط ولا تفريط.
2- تسهم في شحذ الهمم واستنهاضها.
3- تنمي قدرات المتسابق ومواهبه ومهارته العقلية والعلمية، وتعطي الفرصة لاختيار ما يوافق قدراته ويشبع ميوله، واهتماماته، فينمو سويا ويحيا سويا.
4- تبني الثقة في نفس المتسابق، وتشجع على القراءة والحفظ والإجادة والاستنباط.
5- تعمق القيم الإسلامية في النفوس وتنمي الجوانب الأخلاقية والإنسانية الكريمة في نفسه.
6- تثري المعلومات لدى المتسابق في الجوانب المختلفة، وتُعَوِّده على الالتزام وترتيب أفكاره والجاهزية الدائمة.
7- تنمي لدى المتسابق فلسفةَ التعلم الذاتي، والتعلم المستمر، والتعلم التعاوني، وآداب الاستماع والحوار والمناقشة.
8-تُكسبُ المتعلمَ قوةَ العزيمةِ وتحمل المسؤولية وحسن الاختيار والسعي الحثيث لتحقيق أهدافه.
9- تُعَوِّد النشء على استثمار أوقات الفراغ بما هو مفيد ونافع.
10- أثبتت الدراسات الحديثة أن المسابقات القرآنية تعد من أفضل الوسائل لتشجيع النشء والشباب على الحفظ وتجاوز صعوبات تشابه الآيات القرآنية.
11- أن احتضان الناشئة منذ وقت مبكر، يجعل القرآن يتغلغل في أعماقهم، ويعيش في أفئدتهم، ويشرح صدورهم.
12- المسابقات من أدوات اكتشاف القدرات والمواهب الكامنة؛ للعمل على صَقْلِها، ورعايتِها؛ لتخريج جيل من المقرئين، والمجودين، والأئمة، والخطباء، والدعاة المتميزين، الذين يحملون مشاعل الدعوة إلى الله تعالى.
دور الأسرة
إن ثقافة المسابقات لابد أن تنتشر في مجتمعات النشء والشباب، فقد ثبت أن للمكافآت والجوائز دورًا مهما في التحفيز، وإذكاء روح المنافسة بينهم.
وهنا أيها السيدات والسادة نؤكد على دور الأسرة في إعانة النشء على حفظ القرآن الكريم، وتأهيلهم للمسابقات، فرغبةُ الطفل في حفظ القرآن الكريم لا تتشكلُ بصورة تلقائية عفوية؛ وإنما تحدث نتيجة لتوافر القدوة في الوالدين، والحرص على التربية الصحيحة التي تطبع في نفس الطفل حب القرآن واحترامه، والرغبة في حفظه والاجتهاد في ذلك، وتحفيزه على ذلك.
* * *
وفي نهاية كلمتي أشيد بمواقف بعض الدول التي اعتنت عناية خاصة بحملة القرآن وعلى رأسها جمهورية مصر العربية، والسعودية والجزائر والبحرين والأردن والكويت والإمارات وسلطنة عمان واليمن والسودان وليبيا والمغرب وإندونيسيا وماليزيا وبروناي وباكستان ونيجيريا وغيرها.
ونصيحتي للسادة المتسابقين أن يشكروا الله على أن اصطفاهم فجعلهم من أهله، وخاصته، وأن يتعلموه ويعملوا به، ويعلمونه لأهلهم، وأفراد مجتمعهم؛ حتى ينالوا بركة هذا القرآن الكريم، وصدق نبينا العظيم القائل: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) (أخرجه البخاري).