:أخبار الأوقافأوقاف أونلاينمقالات

الخطاب الديني وثلاث معضلات كبرى

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

        لا شك أن الخطاب الديني قد صار حديث الساعة ، حديث المثقفين ، حديث العامة والخاصة ، ولا شك أن ذلك كله يأتي نتيجة لما أصاب هذا الخطاب في العقود الأخيرة من سطو وتسلّق عليه ، أو محاولات لاختطافه ، أو المتاجرة به ، وما تبع ذلك من استخدام الدين من قبل أدعيائه المتاجرين به غطاء لعمالتهم وأعمالهم المشبوهة ضد أوطانهم في أعمال عنف أو تخريب ، بل تجاوز الأمر ذلك إلى أعمال إجرامية تهدف بأسلوب مباشر وصريح وفج إلى إسقاط دولهم وأوطانهم ، وتفتيتها وتمزيقها ، وتحويلها إلى بؤر وجماعات متصارعة تصارعًا لا يرجى الخلاص منه في القريب العاجل إلا برحمة من الله (عزّ وجل) ، ويقظة منّا جميعًا ، أفرادًا ودولاً ، وإدراكًا لحجم المخططات والمؤامرات التي تستهدف أمتنا ومنطقتنا العربية على وجه الخصوص .

      ولا ينكر أحد أن حجم الإجرام والتخريب الذي يقوم به بعض المنتسبين إلى الجماعات والتيارات التي تتخذ من الدين ستارًا وشعارًا قد فاق كل التصورات ، وتجاوز كل معاني الإنسانية إلى درجة يوصف معها من يقوم بهذا الإفساد والتخريب بالخيانة للدين والوطن معًا ، مما جعل البعض يتجاوز باتهامه المخربين والمفسدين إلى الخطاب الديني نفسه.

*            *             *

معضلة الجمود :

     وأرى أن الخطاب الديني تكتنفه ثلاث معضلات كبرى ، الأولى : هي معضلة الجمود، من هؤلاء المنغلقين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أن باب الاجتهاد قد أغلق ، و أن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد ، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه ، متناسيين أو متجاهلين أن الله ( عز وجل ) لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم ، أو زمانًا دون زمان ، وأن الخير في أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة .

      ومما يتعلق بذلك الخلط في مفهوم المقدس , بتجاوز ما يجب تقديسه إلى محاولة إضفاء صفة القداسة على بعض ما لا يجب ولا يمكن تقديسه , على نحو ما نجد من المقحمين لأنفسهم على الخطاب الديني من غير المتخصصين وغير المؤهلين الذين ينزلون أقوال بعض الفقهاء والمفسرين والمؤرخين وما ورد بكتب الأنساب وكتب السير والملاحم منزلة النص المقدس حتى لو لم يتم تمحيصها وتحقيقها وتدقيقها , وحتى لو كانت هذه الأقوال قد ناسبت عصرها وظروفها وأصبح عصرنا بظروفه يتطلب اجتهادًا جديدًا يناسبه.

*            *             *

معضلة الإسلام فوبيا :

       المعضلة الثانية : معضلة الخوف من الإسلام ، أو ما يعرف بـ ” الإسلام فوبيا ” ، مما يجعل بعض هؤلاء المتخوفين يظن خطأ أن علاج التشدد إنما يكون بالذهاب إلى النقيض الآخر ، مما يعود بنا إلى عقود من الصراع حدث فيها خلط كبير بين مواجهة التطرف وأهمية التدين ، حيث توهم بعض المتخوفين من الإسلام أن محاربة التطرف تقتضي وتستلزم تجفيف منابع التدين ، فاصطدموا بالفطرة الإنسانية ، ” فطرة الله التي فطر الناس عليها ” ، ونسوا أن أفضل طريق لمواجهة التطرف هي نشر سماحة الأديان ، وتحصين الناس وبخاصة الناشئة والشباب بصحيح الدين ، وأنك لا تستطيع أن تقضي على التطرف من جذوره إلا إذا عملت بنفس القدر والنسبة على مواجهة التسيب والانحلال والإلحاد الذي صار موجهًا لخلخلة مجتمعاتنا شأن التشدد سواء بسواء.

       وفي هذا نؤكد أن المساس بثوابت العقيدة والتجرؤ عليها وإنكار ما استقر منها في وجدان الأمة لا يخدم سوى قوى التطرف والإرهاب وخاصة في ظل الظروف التي نمر بها ، لأن الجماعات المتطرفة تستغل مثل هذه السقطات لترويج شائعات التفريط في الثوابت مما ينبغي التنبه له والحذر منه ، فلكل فعل رد فعل مساو له في النسبة ومضاد له في الاتجاه.

*            *             *

الخوف من التجديد:

       المعضلة الثالثة : هي الخوف من التجديد أو التجاوز فيه ، فلا شك أن التجديد يحتاج إلى شجاعة وجرأة محسوبة ، وحسن تقدير للأمور في آن واحد ، كما أنه يحتاج من صاحبه إلى إخلاص النيّة لله (عز وجل) بما يعينه على حسن الفهم وعلى تحمل النقد والسهام اللاذعة .

من ضوابط التجديد:

    ولكي نقطع الطريق على أي مزايدات فإنني أؤكد على الثوابت والأمور التالية :

1-   أن ما ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة ، وما أجمعت عليه الأمة وصار معلومًا من الدين بالضرورة كأصول العقائد وفرائض الإسلام من وجوب الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، كل ذلك لا مجال للخلاف فيه ، فهي أمور توقيفية لا تتغير بتغيّر الزمان ولا المكان و الأحوال ، فمجال الاجتهاد هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي الثبوت والدلالة .

2-  مع تقديرنا الكامل لآراء الأئمة المجتهدين فإننا ندرك أن بعض الفتاوى ناسبت عصرها وزمانها ، أو مكانها ، أو أحوال المستفتين ، وأن ما كان راجحًا في عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر قد يكون مرجوحًا في عصر آخر إذا تغير وجه المصلحة فيه ، وأن المفتى به في عصر معين ، وفي بيئة معينة، وفي ظل ظروف معينة ، قد يصبح غيره أولى منه في الإفتاء به إذا تغيّر العصر ، أو تغيّرت البيئة ، أو تغيّرت الظروف ، ما دام ذلك كله في ضوء الدليل الشرعي المعتبر، والمقاصد العامة للشريعة .

3-  أننا نؤمن بالرأي والرأي الآخر ، وبإمكانية تعدد الصواب في بعض القضايا الخلافيّة، في ضوء تعدد ظروف الفتوى وملابساتها ومقدماتها ، وإذا كان بعض سلفنا الصالح قد قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ، فإننا نذهب أبعد من ذلك فنقول : إن كلا الرأيين قد يكونان على صواب ، غير أن أحدهما راجح والآخر مرجوح ، فنأخذ بما نراه راجحًا مع عدم تخطئتنا لما نراه مرجوحًا ، ما دام صاحبه أهلا للاجتهاد ، ولرأيه حظ من النظر والدليل الشرعي المعتبر ، فالأقوال الراجحة ليست معصومة ، والأقوال المرجوحة ليست مهدرة ولا مهدومة .

4-  أن تسارع وتيرة الحياة العصرية في شتى الجوانب العلمية والاقتصادية والتكنولوجية، إضافة إلى التقلبات والتكتلات والتحالفات والمتغيّرات السياسية ، كل ذلك يحتم على العلماء والفقهاء إعادة النظر في ضوء كل هذه المتغيّرات ، ويعلم الجميع أن الإقدام على هذا الأمر ليس سهلا ولا يسيرًا ، ويحتاج إلى جهود ضخمة من الأفراد والمؤسسات ، غير أننا في النهاية لابد أن ننطلق إلى الأمام ، وأن نأخذ زمام المبادرة للخروج من دائرة الجمود .

5- أننا نؤمّل ألا يسلك العقلاء مسلك العامة في النقد العاطفي ، أو النقد الانفعالي ، أو تجاوز الموضوعية بالتسرع في الأحكام قبل القراءة الوافية المتأنية لما يراد الحكم أو التعليق عليه ، وأن نقدم المصلحة الشرعية والوطنية على أي اعتبارات أخرى ، وساعتئذ فلا حرج في النقد الموضوعي ، ولو ردّنا الحق عبيدًا لرددنا إليه صاغرين .

*            *             *

        ومما لا شك فيه أن الإقدام على التجديد في القضايا الفقهية ، والنظر في المستجدات العصرية ، وفي بعض القضايا القابلة للاجتهاد أمر ليس باليسير ويحتاج إلى جهود مضنية وبصيرة ثاقبة ، مع تأكيدنا الدائم على ضرورة التجديد في إطار الحفاظ على الثوابت الشرعية من جهة ومراعاة طبيعة الزمان والمكان والأحوال من جهة أخرى , وذلك كله في إطار عدم فرض أمور ناسبت زمانها ومكانها وعصرها وبيئتها فيما يقبل الاجتهاد والرأي والرأي الآخر على سائر الأزمنة والأمكنة والأحوال , وهو ما يعد عكس الفطرة الإنسانية والفهم الصحيح للإسلام.

      ومع التأكيد أيضًا على أن هذا التجديد ينبغي أن ينضبط بميزاني الشرع والعقل ، وألا يترك نهبًا لغير المؤهلين وغير المتخصصين أو المتطاولين الذين يريدون هدم الثوابت تحت دعوى التجديد، فالميزان دقيق ، والمرحلة في غاية الدقة والخطورة ، لما يكتنفها من تحديات في الداخل والخارج ، فالمتخصص المؤهل إذا اجتهد فأخطأ له أجر ، وإن اجتهد فأصاب فله أجران ، الأول لاجتهاده والآخر لإصابته ، أما من تجرأ على الفتوى بغير علم ، فإن أصاب فعليه وزر ، وإن أخطأ فعليه وزران ، الأول لاقتحامه ما ليس له بأهل ، والآخر لما يترتب على خطئه من آثارٍ المجتمع والدين معًا في غنى عنها ، في ظل أوقات تحتاج إلى من يبني لا من يهدم .

         ومن هنا تأتي أهمية ثقافة التفكير في سائر جوانب الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والإدارية , والخروج من دائرة القوالب الجاهزة والأنماط الجامدة إلى رؤية تتسم بالفكر وإعمال العقل, وعلينا جميعًا أن نعمل على تحريك ظاهرة الجمود وإنهائها من خلال العمل على نشر ثقافة التفكير من خلال الصالونات والمنتديات والحلقات النقاشية التي نعد صالون الأوقاف الثقافي واحدًا منها أو من أهمها في المرحلة الراهنة  , وقد افتتح موسمه الحالي بندوة عن واحد من أهم الموضوعات , وهو مخاطر زواج القاصرات , وسيواصل ندواته لمناقشة كل المستجدات دون إفراط أو تفريط , والله من وراء القصد , وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اظهر المزيد

منشور حديثّا

شاهد أيضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى