قضاء حوائج الناس أولى من حج النافلة
للأسف الشديد تقف الرؤية الفقهية عند بعض المتصدرين للعمل الدعوي أو المنتسبين إليه عند حدود فقه الأحكام على سبيل التلقين أو التلقي دون غوص أو إدراك لفقه المقاصد أو الأولويات أو الواقع أو المتاح … مما يجعل الغاية الأسمى لمقاصد التشريع غير واضحة عند بعضهم كما يجعل فريقاً آخر منفصلاً عن حاضره و واقعه والعالم الذي يعيش فيه و الظروف التي تحيط به.
أولاً : ـ حج الفريضة : ـ
لاشك أن الحج أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يكتمل إسلام المرء المستطيع بدنياً ومالياً إلا بها ، لقوله تعالى ” وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً ” ( آل عمران 97 ) ، وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ” بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ” ( رواه البخاري ومسلم ) ، فمن استطاع الحج ولم يحج حج الفريضة فليعجل .
غير أن رحمة الله عز وجل بعباده ربطت الحج بالاستطاعة البدنية والمالية ، فمن كانت نيته قائمة على الحج وقعد به عجزه البدني أو المالي بلّغه الله درجة الحجيج بنيته الصادقة ، وقد جعل الله للضعفاء وغير القادرين فى الذكر والصلاة والقيام وسائر القربات والنوافل ما يسمو بهم إلى درجة الحجيج وأسمى ، ما صدقت نياتهم وأخلصوا لله فيما ممكنهم منه .
وأن الله عز وجل جعل فريضة الحج مرة واحدة ، وعندما قال نبينا( صلى الله عليه وسلم )! أيها الناس إن الله عز وجل قد كتب عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله ؟ فلم يجبه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى كررها الرجل ثلاثاً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ، لَمْ تَقُومُوا بِهَا . . “.
وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون الحج آخر أركان الإسلام فرضاً على المسلمين، فحج أبو بكر بالناس في السنة التاسعة من الهجرة لأن يوم عرفة لم يكن في يومه الذي قدره الله فيه بسبب زيادة قريش في عدد أيام السنة ، حيث كانوا يجعلونها اثنى عشر شهراً و اثني عشر يوماً فكان الحج يقع في ذي الحجة و المحرم وصفر ورمضان وشوال وفق دورة السنين و الأيام .
وفى العام العاشر للهجرة كان يوم عرفة قد وافق اليوم الذي قدره الله فيه ، فقال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ):إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ” أى أن الزمان قد أخذ دورته وعاد إلى هيئته التي خلقه الله عليها ، فحج نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) حجة واحدة هي حجة الوداع .
وإذا كان بعض الناس يذكرنا بحديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ” تابعوا بين الحج و العمرة فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ” فإن ذلك مرتبط بحال الأمة ويسارها ووضع اقتصادها ، فإذا كان الاقتصاد الوطني قوياً متيناً ليس في أبناء الوطن جائع لا يجد ما يسد جوعته ، أو عار لا يجد ما يستر عورته ، أو مريض لا يجد ما يتداوى به ، فليحج الناس ما شاءوا أو ليعتمروا ما شاءوا ” .
ــ حج النافلة : ـ
ولكن إذا كان في الأمة أو الوطن فقير لا يكاد يجد قوت يومه إلا بمشقة شديدة ، ومريض لا يكاد يجد ما يتداوى به إلا بشق الأنفس ، وشاب لا يجد ما يعف به نفسه ، فنقول إن فقه الأولويات يقتضى أن نســد أولاً جوعــة كل جائع ، ونستر عــورة كـــل عارٍ، ونعالج كل مريض ، وأن نوفر ما يحقق للناس حياة آدمية كريمة من المطعم والملبس والمسكن والدواء والتعليم والبنية التحتية كالطرق والكباري ، والمياه ، والكهرباء، والصرف الصحي ، بما يحفظ لهم كرامتهم ويوفر لهم سبل الرقي والتقدم ، فكل ذلك مقدم على حج النافلة وعمرة النافلة .
فأمة لا تملك كامل قوتها ، أو كامل دوائها ، أو وسائل أمنها من سلاح وعتاد أولى بها أن تتوجه إلى سد هذه الجوانب قبل التفكير فى حج النافلة وعمرة النافلة .
كما أننا نلمس أثر الزحام الشديد فى الحج على راحة الحجاج وسلامتهم ، فالحكمة والفقه يقتضيان أن يترك من أدى الفريضة الفرصة لغيره ممن لم يؤدها ، فدرء المفسدة المتوقعة من كثرة الزحام مقدم على جلب المنفعة المترتبة على النوافل .
العمل المتعدى النافع مقدم على العمل القاصر النفع .
ولاشك أن نفع قضاء الحوائج متسع ومتعدد ، وقد يكون صدقة جارية فى إصلاح طريق أو بناء جسر أو مشفى أو مدرسة ، ونبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ” ويقول صلى الله عليه وسلم : ” إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم فى الخير وحبب الخير إليهم إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة ” ، ويقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ” من أدخل السرور على مسلم كان حقاً على الله عز وجل أن يرضيه يوم القيامة ، ويقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ” من فرج على مسلم كربة فرج الله عنه يوم القيامة ” ، ” ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته . فهذا كله نفع متعدد أوسع وأرحب من حج النافلة وعمرة النافلة .
ـ أمر إنسانى : ـ
ولاشك أن الفقير عندما يرى الغني يسرف فى الحج و العمرة ، ولا يمد يد العون لإخوانه الفقراء و المساكين ، ولا يسهم فى بناء مجتمعه ، قد ينظر إليه نظرة حقد وحسد وضغينة ، ويلمس جانباً كبيراً من الأنانية حتى لو كانت فى مجال الطاعة والعبادة ، ويرى أن هذا الغني قد التفت إلى إشباع عواطفه ، ولم ينظر إلى المقاصد الفقهية للتشريع نظرة متكاملة ، لأن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ” والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم ” .
ـ بين الحج النافلة وفروض الكفايات : ـ
وربما لايدرك بعض الناس من علم فروض الكفايات سوى صلاة الجنازة ، ورد السلام ، وتشميت العاطس …. ونحو ذلك .
غير أننا نوضح أن فروض الكفايات تشمل إطعام كل جائع ، وكساء كل عار ، ومداواة كل مريض . كما تشمل القيام بالمصالح الأساسية للمجتمع التي لا تستقر حياة الناس إلا بها ، و الإسلام علمنا التراحم و التكافل ، وقد قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” من كان عنده فضل زاد فليجد به على من لا زاد له ، ومن كان عنده فضل ماء فليجد به على من لا ماء له ، ومن كان عنده فضل ظهر ( أى دابة ) فليجد به على من لا ظهر له ، وظل ( صلى الله عليه وسلم ) يعدد أشياء ، فقال الراوي :” حتى ظننا أنه لا فضل لأحد فى شئ من كثرة ما ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولاشك أن الوفاء بهذه الاحتياجات واجب كفائي إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الجميع ، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع .. و الواجب الكفائي مقدم بلاشك على النوافل حتى يُقضى ، ثم إنه مسئولية تضامنية بين أبناء المجتمع جميعاً من القادرين على سد الثغرات ورفع الكروب عن الناس و الوطن .
ـ شكر النعمة : ـ
وهنا يبرز الدور الوطني للأغنياء في خدمة وطنهم ، والوفاء بحق النعمة التي منحهم الله إياها ، وهذا لا يكون إلا بالشكر، يقول الحق سبحانه : ” وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ” ، والشكر لا يكون بالكلام وتقبيل اليد ظاهراً وباطناً، إنما يكون بالعمل ” اعملوا آل داود شكرا ” وشكر النعمة يكون من جنسها ، فشكر المال يكون بإنفاقه في سبيل الله عز وجل ، وسائر وجوه البر وقضاء الحوائج .
وقد قيل لبشر الحافي إن فلاناً الغني مالاً كثر صومه وصلاته ، فقال : إنه لمسكين ، لقد ترك حاله ودخل في حال غيره ، إن واجبه إطعام الطعام وبناء الخيام ، فهذا أفضل من تجويعه لنفسه ، ومن جمعه للدنيا ومنعة للفقراء . وقد عاب الإمام أبو حامد الغزالي على بعض المتدينين من الأغنياء الذين يحرصون على إنفاق المال في الحج بعد الحج والعمرة بعد العمرة ولا يوفون بحق الفقراء وأصحاب الحاجات ، فربما تركوا جيرانهم جياعاً لا طعام لهم وذهبوا بنفقاتهم الواسعة لإشباع رغباتهم النفسية في كثرة الحج والعمرة غير فاهمين لمقاصد الإسلام الكبرى ، وروى أن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث ، وقال : قد عزمت على الحج فتأمرني بشئ ؟ فقال له : كم أعددت للنفقة ؟ فقال : ألفى درهم .
قال بشر : فأي شئ تبتغى بحجك ؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت وابتغاء مرضاة الله ؟
قال : ابتغاء مرضاة الله ، قال نعم :
قال بشر : فإن أصبت مرضاة الله تعالى ، وأنت في منزلك وتنفق ألفى درهم ، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى : أتفعل ذلك ؟
قال : نعم
قال : اذهب فأعطها لعشرة : مديون يقضى دينه ، وفقير يرم شعثه ، ومعيل يغنى عياله ، ومربى يتيم يفرحه ، وإن قوى قلبك تعطيها واحدا فأفعل ، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم ، وإغاثة اللهفان ، وكشف الضر ، وإعانة الضعيف … أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ! قم فأخرجها كما أمرناك ، وإلا فقل لنا ما في قلبك ؟
فقال : يا أبا نصر ! سفري أقوى في قلبي .
فتبسم بشر رحمه الله ، وأقبل عليه ، وقال له : المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضى به وطراً ، فأظهرت الأعمال الصالحات ، وقد آل الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين !
وزير الأوقاف
أ . د ./ محمد مختار جمعة