مصر تؤرخ لدور عالمي وليس إقليميا فحسب وتواجه بقوة وثبات وتضحية دعاة الإرهاب والتطرف لحماية الإنسانية جمعاء
قضت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية الدائرة الأولى بالبحيرة برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة أن الخطبة الموحدة من المصالح المعتبرة وضرورة لمواجهة الفكر المنحرف عن صحيح الدين وأن الخطبة لا تكون طويلة مملة أو قصيرة مخلة وتقصيرها علامة على فقه الخطيب فلا يطيل فينسى الناس بآخر كلامه أوله ، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه الراتبة وأن ثمة منظومة متكاملة بين الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف لخدمة الإسلام الوسطي المستنير , وأن المسجد لذكر لله وإرشاد الناس ووعظهم وليس مصدرا للتحزب والاختلاف الفكري والمذهبي وأن مصر تؤرخ لدور عالمي وليس إقليميًّا فحسب وتواجه بقوة وثبات وتضحية دعاة الإرهاب والتطرف لحماية الإنسانية جمعاء.
وقد انتهى الحكم إلى أن قرار وزير الأوقاف المنظم لأداء خطبة الجمعة , وأن يكون الموضوع المكتوب استرشاديًّا مع التزام الخطيب بما لا يحيد عن مضمون الموضوع المحدد والوقت المحدد كل ذلك يحقق مصلحة معتبرة شرعًا ويوافق صحيح الدستور والقانون.
وقضت المحكمة برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة وعضوية المستشارين صالح كشك ووائل المغاورى نائبي رئيس مجلس الدولة بتأييد قرار وزير الأوقاف رقم 215 لسنة 2016 بشأن القواعد المنظمة لأداء خطبة الجمعة بالمساجد والزوايا الخاضعة لإشراف وزارة الأوقاف الصادر بتاريخ 23/8/2016 فيما تضمنته كل من المادة الأولى من تشكيل لجنة مكونة من عشرة أعضاء تضم كافة تخصصات العلوم الشرعية وبعض المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع تكون مهمتها وضع خطة سنوية لخطب الجمع واختيار وإعداد خطبة الجمعة الموحدة والمادة الثانية من أن يكون موضوع الخطبة استرشاديا وطريقة أداء موضوع الخطبة شفاهة وارتجالا أو مكتوبة مقروءة أمرًا اختياريا للخطيب في ضوء ما يمكنه من أداء رسالته على الوجه الأكمل المنضبط وبما لا يخرج عن مضمون موضوع الخطبة المحدد ولا عن وقتها المحدد ما بين خمس عشرة إلى عشرين دقيقة على الأكثر ورفضت الدعوى المقامة من 80 مواطنا بمحافظة البحيرة وألزمتهم المصروفات .
قالت المحكمة عن الضابط الأول في قرار وزير الأوقاف المطعون فيه المتعلق بتوحيد موضوع خطبة الجمعة أن الواقع المصري كشف بعد ثورتى الشعب في 25 يناير 2011 و 30 يونيه 2013 أن بعض خطباء الجمعة استخدموا المنابر لتحقيق أهداف سياسية متخذين من الدين ستارا لهم بعيدا عن واقع المجتمع وجنوحهم نحو أحاديث لا تليق بخطيب الجمعة ، بل إنَّ بعض الخطباء حولوا موضوع خطبة الجمعة إلى تحقيق أغراض حزبية وسياسية , والسعي لأفكار حزبية وأخرى تحريضية وشق الصف عبر المنابر، بما يخدع البسطاء بقدسية المكان على الرغم من أنَّ الجمعة شرعت في الأصل لتكون جرعات إيمانية أسبوعية تعالج قضايا وهموم المجتمع , وتعطي للمسلم طوق النجاة من الوقوع في المعاصي والآثام , فأصبح توحيد موضوع الخطبة ضرورة لمواجهة المخاطر التي تواجه الأمة الإسلامية والعربية , كما أن توحيد موضوع الخطبة سيعزز الوحدة الوطنية وتستطيع الدولة أن ترسخ قيم المواطنة والإسلام الحقيقي والتسامح عبر الخطبة الموحدة مما يؤدى إلى الاستقرار , فيصبح المسجد ذكرا لله لتقرب العبد إلى ربه وليس مصدرا للتحزب والاختلاف الفكري والمذهبي .
وأضافت المحكمة أنه ليس من حق الخطيب وهو المؤتمن أن يوجه الناس على ما يشتهي أو يصبو إليه ، ويملي عليهم قناعاته الشخصية في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فتشتد الخطورة من فوق منابر الجمعة بما يوهم عامة الناس أن هذا هو الحق المبين مما يؤدى إلى الاحتقان الشعبي في البلدان الإسلامية والعربية , لذا فإن توحيد موضوع الخطبة يؤدى إلى توحيد المجتمع المصري والعربي والإسلامي تجاه الأزمات التي تهدد استقراره ,وعلى ولى الأمر أن يوجه نظر المسلمين إلى طبيعة تلك الأزمات والمشكلات وكيفية علاجها في إطار المصالح المعتبرة فهو ليس تحكميا بل لصالح الأمة الإسلامية لمواجهة الأفكار المنحرفة مما لا مناص معه من جعل خطبة الجمعة والمنابر مكانا لإرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم توجيهاً رشيداً عن طريق توحيد الخطبة توحيدا موضوعيا وليس شكليًا , توحيدا للوعظ وللوعي الديني ليأتي الوعظ والإرشاد موحدا لكل انحاء البلاد لتشارك الامة العربية والإسلامية هذا التوحيد لمواجهة الفكر الإرهابي المنحرف عن صحيح الدين .
وذكرت المحكمة أنه على ضوء التجارب المريرة التي عاشها الوطن من جراء استخدام المساجد خاصة الزوايا في استغلال البسطاء والفقر والجهل لجذب المؤيدين بين التيارات الدينية المختلفة مما نجم عنه بث روح الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد التي أدت إلى التنابز اللفظي والعنف المادي مما تسبب في ضياع كثير من أرواح المواطنين وتخريب الممتلكات نتيجة لتطرف الفكر المتشدد , واستخدام منابر المساجد والزوايا لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية أو للدعاية الانتخابية , وهو ما يتعارض مع قدسية المسجد والإضرار بالمصالح العليا للبلاد , فاحترام حرمة المساجد – والزوايا في حكمها – أمر واجب , ولا يصح أن تكون بيوت الله محلا للزج بها في الخلافات التي تنشب بين التيارات الدينية المتصارعة على أمور لا ترقى إلى جلال المساجد ورسالتها المضيئة بما يؤدى إلى انقسام الأمة التي قال عنها القران الكريم ” كنتم خير أمة أخرجت للناس ” (الآية 110 من سورة آل عمران) أو بث روح البغضاء بين أبناء الوطن الواحد , فالمسجد له من السمو والقدسية لتجميع المسلمين لا تفريقهم ولم شمل الأمة بشعب الإيمان والفضائل لأداء حقوق الله واستلهام الرشد واستمداد العون منه جل شأنه ” وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ” ( الآية 18 من سورة الجن ), بما يجعله منزها عن كل دعوات التشدد أو الاستغلال السياسي باسم الدين , خاصة وأن المنبر هو طريق المؤمن إلى القبلة فيخلع نعليه وكل رداء دنيوي خارج المسجد ليقف خاشعا متضرعا يبتغى وجه الله الكريم, الأمر الذى يستلزم معه توحيد موضوع الخطبة لمواجهة تلك المخاطر التي تهدد الأمة المصرية والإسلامية والعربية .
وأشارت المحكمة أن المشرع الدستوري من ناحية أولى نص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية , ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وجعل من الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة , يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه , وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية , ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر و العالم , ومن ناحية ثانية أورد في وثيقة الدستور أن المرجع في تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية هو ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن – ولاريب أن وثيقة إعلان الدستور تأخذ حكم طبيعة النصوص الدستورية ذاتها وقوتها , بحسبانها تكون مع الأحكام التي ينتظمها كلا غير منقسم bloc de constitutionnalité أو نسيجا دستوريا واحدا على نحو ما سلف – ومن ناحية ثالثة عهد المشرع العادي إلى وزارة الأوقاف – باعتبارها جزءا من السلطة التنفيذية وهى الوزارة التي تمثل الجانب المادى الملموس في الحقل الديني الإسلامي لمرفق المساجد والزوايا التابعة لها – مهمة إدارة المساجد والزوايا والإشراف عليها بعد تسليمها وضمها إليها والتزام الخطباء بالخطة الدعوية لها وذلك ضماناً لقيام هذه المساجد برسالتها في نشر الدعوة الإسلامية على خير وجه, وهذا الإشراف على جميع المساجد والزوايا , يمثل احتراما لقدسية المنبر , وتطهيرا لأفكار الدعاة , وصونا لجوهر الدعوة .
واستطردت المحكمة أنه تسود المنظومة المتكاملة بين الأطراف الثلاثة المذكورة الأزهر الشريف باعتباره هيئة إسلامية علمية مستقلة تعد المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية والمحكمة الدستورية العليا المرجع في تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية , ووزارة الأوقاف السلطة الفعلية القائمة على إدارة المساجد والزوايا , والتزام الخطباء بالمكافأة أو المتطوعين بالعمل وفق خطة وزارة الأوقاف الدعوية واحتياجاتها , وتوزيعها للخطباء على المساجد , فكل في مجاله المرسوم له دستوريا وقانونيا في خدمة الإسلام الوسطى المستنير .
وأوضحت المحكمة أن ما نص عليه الدستور في مادته الثانية من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتمخض عن قيد يجب على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها أو قراراتها اللائحية فلا يجوز لنص تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلا. ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها. ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية، إذ هي إطارها العام، وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها وإلا اعتبر ذلك تشهيا وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيمًا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها ملتزما ضوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلا صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وأكدت المحكمة أن الشريعة الإسلامية شريعة مرنة تتناسب مع كل زمان ومكان , وفي مواجهة كل عصر , فإعمال حكم العقل فيما لا نص فيه يعد تطويرا لقواعد عملية تكون في مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التي تشرع الأحكام لتحقيقها وبما يلائمها , مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولا ولا مطلوبا، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها، قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها. فلا قداسة في الإسلام , فالآراء الاجتهادية في المسائل المختلف عليها ليس لها في ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعا ثابتا متقرراً لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى، وإنكارا لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد. بل إن من الصحابة من تردد في الفتيا تهيبًا. ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لآراء استقر عليها العمل حينا من الدهر , وتلك هي الشريعة الإسلامية في أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة للجمود، لا يتقيد الاجتهاد فيها – وفيما لا نص عليه – بغير ضوابطها الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها التي ينافيها أن يتقيد ولي الأمر في شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، لآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعا قد جاوزتها.
وأشارت المحكمة أنه لولي الأمر أن يُشَرع بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله، مستلهما في ذلك أن المصالح المعتبرة وتلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهي بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها، أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد – مضمونا ونطاقا – على ضوء أوضاعها المتغيرة. يؤيد ذلك أن الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، كثيراً ما قرروا أحكاما متوخين بها مطلق مصالح العباد، طلبا لنفعهم أو دفعا لضرر عنهم أو رفعا لحرجهم، باعتبار أن مصالحهم هذه تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم، وليس ثمة دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها وحيث أن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق خاصة المتصلة بممارسة الشعائر الدينية أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها وتكون تخوما لها لا يجوز اقتحام آفاقها أو تخطيها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها، عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها ولا يجوز بالتالي أن يكون تنظيم هذه الحقوق مناقضا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ومبرراً ومحافظا على المجتمع مما يهدد أمنه واستقراره .
وأضافت المحكمة من أفضل منن الله على المسلمين أن جعل لهم مواسم للخيرات ، يتلقوا فيها أعلى الدرجات ويكفر عنهم السيئات ، ومنها يوم الجمعة إعمالا لقوله تعالى : ” يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ أن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ” سورة الجمعة الآيات من 9-11 , وقد أجمع المفسرون على أن كلمة “فاسعوا إلى ذكر الله” ، ذكر الله الخطبة لأن الصلاة صلاة ، إلا أن الذي يطلب من المصلي يوم الجمعة أن يستمع إلى الخطبة ، لأن فيها آية ، أو حديثاً ، أو حكما فقهياً ، أو قصة ، أو موعظة حسنة ، أو تذكيراً ، أو وعظاً ، أو إرشاداً ، كما أنه في بيان فضل يوم الجمعة وعظيم شأنه قول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) : ” خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه الله إياه ” ( الترمذي ” الجمعة ” : 491 , النسائي : “الجمعة” 1430 , مالك ” النداء للصلاة ” 243 ) وقد رتب الله عز وجل على أدائها الأجر العظيم والثواب الجزيل ادراكا لفضلها واغتناما لأجرها ويتعين أن تكون خطبة الجمعة وفقا لمنهج الدعوة الإصلاحية والوسطية, ومن ثم فإنه من أعظم النعم التي لا تحصى على الدين الإسلامي خطبة الجمعة التي تعد موعظة أسبوعية عامة ، توقظ القلوب المتغافلة وتشحذ الهمم المتخاذلة وتصل النفوس الطاهرة بخالقها جل علاه ، لتعبد ربها بذكره عن علم وبصيرة حتى يأتيها اليقين ، ويساعد على بلوغ ذلك الأمر ما يقدمه الأئمة وخطباء المساجد كل جمعة من جرعات إيمانية مستقاه من الدين الحنيف وهو الأمر الذى يقتضى من أولي الأمر رسم منهجية لمواجهة المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي والأزمات التي يتخذها بعض المتشددين الذين يتخذون من الدين ستارا لتحقيق أهداف أعداء الإسلام , وضبطا للنشاط الدعوى المستنير ولتلافي حصول بعض النواقص والأخطاء من بعض الخطباء ،نتيجة عدم الإلمام ببعض الأحكام الفقهية للخطبة مما ارتأت معه وزارة الأوقاف توحيدها في موضوع محدد كل أسبوع لتصحيح مسار الدعوة مما كشفت الأحداث التي تلحق بالعالم من الفكر المنحرف عن صحيح الدين .
وأضافت المحكمة أن التحديات المعاصرة كشفت عن التشدد والتطرف والإرهاب نتيجة الانحراف عن مفاهيم الدين الصحيح والخلل الذى أصاب مسار الفكر الديني مما يتعين معه على الدول الإسلامية والعربية ومصر في قلبها النابض محاربة الفكر المتطرف لدعاة التشدد والغلو الذين يستخدمون الشباب وقودا لفكرهم المنحرف ونتيجة التقصير تجاه هؤلاء الشباب مما يجعلهم أداة نافذة بيد الانحراف الفكري , ويسهل استقطابهم على الرغم من أن الأمم تحيا بالقيم الدينية وتبلغ مراتب الحضارة والتقدم , والإسلام دين الوسطية والاعتدال في جميع مناحي الحياة الأمر الذى يستلزم تصحيح المسار وتطوير الخطاب الدعوى المعتدل عن طريق إعداد الدعاة وصقل تكوينهم وتوسيع مداركهم لبيان حقائق الإسلام السمحة ودحض الأباطيل والحث على مكارم الأخلاق في ضوء ما جاء به الإسلام من حفظ الضرورات الخمس : الدين والنفس والعقل والعرض والمال ليعيش المسلم في هذه الدنيا آمنا مطمئنا يعمل لدنياه وآخرته ويعيش المجتمع المسلم أمة واحدة متماسكة كالبنيان يشد بعضه بعضاً وهو ما يؤكد أن نظام الدين لا يقوم إلا بنظام الدنيا فإن لم تراع الضرورات الخمس فسوف ينعدم الأمن في المجتمع ويصاب النظام الاجتماعي بالخلل والانهيار الأمر الذى يستلزم كذلك مواكبة روح العصر من تقنيات وسائل الاتصال لتصل إلى عقل وقلب المتلقى وتوظيفها في خدمة الدعوة بالوسائل السليمة ومناهجها للتذكير بالخير وما يرقرق القلب بتلطف دون مخاشنة أو تعنيف إعمالا لقوله تعالى : ” ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ” سورة النحل الآية 125
وأوضحت المحكمة أن الدولة إدراكا منها لرسالتها في دعم التوجيه الديني في البلاد على وجه محكم , وتأكيدا لمسئولياتها في التعليم والارشاد وحماية للشباب من الفكر المتطرف الذى يستغله دعاة التشدد وما يتطلبه ذلك من وضع مبادئ عامة بتوحيد موضوع الخطبة لجميع المساجد والزوايا في المدن والقرى تستهدف نقاء المادة العلمية وسلامة الوجهة التي يعمل بها الخطباء ، بما يحفظ للتوجيه الديني أثره ، ويبقى للمساجد الثقة في رسالتها , وقد لوحظ أن عددا كبيراً من المساجد كان يسيطر عليها الارتجال ويترك شأنها للظروف ولا يوجد بها من يحمل مسئولية التعليم والإرشاد من المتخصصين في علوم الدين ، ولما كان بقاء هذا الحال قد ينقص من قيمة التوجيه الديني ويضعف الثقة برسالة المساجد , ويفسح الطريق لشتى البدع والخرافات التي تمس كيان الوطن واستقراره , خصوصاً وأن ما يقال فوق منابر المساجد إنما يقال باسم الله ، لذلك فإن الأمر يقتضى وضع نظام لتوحيد موضوع الخطبة على منابر المساجد بحيث يكفل تحقيق الأغراض العليا من التعليم الديني العام وتوجيه النشء وحمايتهم من كل تفكير دخيل أو جهيل ومن ثم فالقصد منه حماية النشء ممن أسلم نفسه للتشدد منجرفا أو عجز عن مقاومة التطرف فجاراه فصار في مجراه , لما يلقن به بمفاهيم مغلوطة عن صحيح الدين الإسلامي الوسطى , مما يمس كيان الوطن واستقراره , خاصة أن وثيقة الدستور المصري وضعت من بين غايات إصداره حماية الوطن من كل ما يهدده أو يهدد وحدته الوطنية , وهو ما يتفق مع المقاصد الشرعية والمصالح المرعية في صحيح مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية .
وذكرت المحكمة أن الأزمة المصيرية لشعوب العالم الإسلامي والعربي بسبب دعاة التشدد باسم الدين وقتلة الإنسانية وما يصاحبه من عنف وإرهاب من الجماعات المتطرفة التي تستبيح الدماء والأموال لتفسد في الأرض , يقتضى توحيد موضوع الخطبة خاصة وأن هاجس عدوى الإرهاب والتشدد لم يعد قاصرا على تلك الدول بل انتقل إلى دول أخرى حتى المتقدم منها والمستقر , ذلك أن الإرهاب لا دين له ولا وطن , مما يكون معه للنشاط الدعوى لوزارة الأوقاف في مصر تعاونا مع مثيلاتها بالبلاد العربية والإسلامية دورا جوهريا عالميا ليس في مصر فحسب بل في كافة أقطار العالم أجمع , لذا كان دورها مضاعفا ومسئوليتها كبرى إزاء المواجهة الفكرية لما يحدث من إرهاب نتيجة استقطاب الجهلاء بأحكام الدين , وإذ كانت مصر قد استوت على قمة العالمين العربي والإسلامي , ليس فقط بكثافة سكانها وموقعها المتميز ,وانما بحضارة تليدة وموروث ثقافة جعلت منها في ثورات العرب وحروبهم وبانتصاراتهم , الدولة القائدة , وفي ميدان السلام والتعاون العربي بين دول العالم الدولة الرائدة , فإن تعبير شعبها المعطاء – وقضاؤها جزء من هذا الشعب – عن مكنونه في مسألة مصيرية تتعلق بالمخاطر التي تحاك للأمة العربية والإسلامية والإرهاب الموجه لمصر والبلاد العربية والإسلامية بات أمرا لازما ليتشارك مع الموقف الرسمي للدولة في نبذ كل عدوان أو تهديد به , ينال مصر أو أحد الشعوب العربية , وهو موقف مسبوق من مصر العربية في قريب المشكلات العربية وبعيدها , غاية الأمر ولزومه أن التزاما قانونيا على وزارة الأوقاف بتوحيد موضوع الخطبة لمعالجة الفكر المنحرف , نتيجة استغلال الدين في غير مقاصده والمفاهيم المغلوطة لأعداء الدين , انحرافا عما فيه من سماحة وقيم ويسر ووسطية تكفل له الخلود , ومصر بذلك تؤرخ لدور عالمي وليس إقليميا لأنها تواجه بقوة وثبات وتضحية دعاة الإرهاب والتطرف لحماية الإنسانية جمعاء. وقيامها بذلك الدور إعمالا للمادة الأولى من الدستور المصري الذى نص على أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها ومصر جزء من العالم الإسلامي تنتمى إلى القارة الإفريقية وتعتز بامتدادها الأسيوي وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية وإذ تضمن قرار وزير الأوقاف المطعون فيه توحيد موضوع خطبة الجمعة القائم على إعدادها اللجنة العشرية التي تضم كافة تخصصات العلوم الشرعية وبعض المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع من المصالح المعتبرة التي تعالج قضايا واقع المجتمع المعاصر وتحقق المصالح العليا للوطن بما يحفظ للأمة العربية والإسلامية وجودها وهويتها وحمايتها من الفكر المتطرف الذى يناهض فكرة وجود الدولة وبما يشكل استراتيجية منهجية شاملة لنشر الفكر الإسلامي الصحيح المستنير في مختلف جوانبه الإيمانية والأخلاقية والإنسانية والواقعية فالخطبة في الإسلام جعلت لتكون معالجة لواقع المجتمع في زمانه وتناقش هموم الشعوب، وتتركز في التوعية ونشر الفكر ومعالجة آفات المجتمع مما يكون معه قرار وزير الأوقاف الطعين في شطره الأول مطابقا لحكم القانون .
وقالت المحكمة عن الضابط الثانى بقرار وزير الأوقاف المطعون فيه المتعلق بطريقة أداء موضوع الخطبة الموحدة بأن يكون موضوع الخطبة استرشاديا وطريقة أداء الخطبة شفاهة وارتجالا أو مكتوبة مقروءة أمرا اختياريا للخطيب في ضوء ما يمكنه من أداء رسالته على الوجه الأكمل المنضبط وبما لا يخرج عن مضمون موضوع الخطبة المحدد . فإن هذا الأمر من شأنه أن يترك لكل خطيب قدر من إبراز ملكاته ومواهبه في إيصال موضوع الخطبة الموحدة لجمهور المصلين بالأداء الذى يمكنه من الوصول على عقولهم وقلوبهم فطريقة أدائها ليست إلزامية على وجه معين على الخطيب بل إرشادية فمن شاء ألقاها شفاهه وارتجالا ومن شاء ألقاها مكتوبة مقروءة وفي الحالتين يلتزم بموضوع الخطبة الموحدة ذلك أن الارتجال الواعي لا يستطيعه كل خطيب ويظل لبعض اصحاب الموهبة من الخطباء القدرة على الإدراك والتجديد والإبداع والتأصيل في ذات موضوع الخطبة بما لا يحيد عنها , ومن ثم يكون القرار المطعون فيه في هذا الشطر الثاني قائما على السبب المبرر له ومحققا لمصلحة معتبرة .
وقالت المحكمة عن الضابط الثالث بقرار وزير الأوقاف المطعون فيه من وضع قيد زمنى لموضوع الخطبة وبما لا يخرج عن وقتها المحدد ما بين خمس عشرة إلى عشرين دقيقة على الأكثر , فإنه يجب ألا تكون الخطبة طويلة مملة أو قصيرة مخلة حيث تسبق أنوارهم أقوالهم فتنجذب القلوب وتؤهلها للسماع المطلوب فكل كلام يبرز وعليه كسوة من نور القلب الذى خرج منه , ولا مرية في أن تقصير خطبة الجمعة علامة على فقه الخطيب ، حيث يستطيع جمع المعاني الكثيرة في كلمات يسيرة ، ولا يطيل فينسى الناس بآخر كلامه أوله ، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه الراتبة ، بل هو أمرُه ، وهو أكمل هدي ، كما كانت مواعظه قليلة ؛ ليُحفظ عنه يا يعظ به الناس ، فخطبة الجمعة قصيرة ، والمواعظ قليلة .قَالَ أَبُو وَائِلٍ : خَطَبَنَا عَمَّارٌ – أي : ابن ياسر – فَأَوْجَزَ ، وَأَبْلَغَ ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا : يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ – أي : أطلتَ – ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( أن طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً ) . رواه مسلم ( 869.( والتخفيف فيها مطلوب شرعاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير، والكبير، والضعيف…” متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله في موعظة أشد غضباً منه يومئذ؛ ثم قال: “إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة”و في تقصير الخطبة فائدتين : الأولى إلا يحصل الملل للمستمعين ؛ لأن الخطبة إذا طالت – سيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب ، ولا يبعث الهمم – : فإن الناس يملُّون ، ويتعبون .ومنهم الكبير والمريض والثانية أن ذلك أوعى للسامع ، أي : أحفظ للسامع ؛ لأنها إذا طالت : أضاع آخرها أولها ، وإذا قصرت : أمكن وعيها ، وحفظها , فترك المصلين راغبين خير من تركهم زاهدين , وبهذه المثابة يكون قرار وزير الأوقاف في الشطر الثالث منه قائما على سببه الصحيح المبرر له محققا مصلحة معتبرة .
واستطردت المحكمة أن الإطالة أو الإطناب في وقت الخطبة يفقد التركيز عند المصلين وينفرهم من طول زمنها , فجاء في حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال :«كنت أُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» وفي رواية :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يوم الْجُمُعَةِ إنما هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ». رواه مسلم 866 ونُقل عن الشافعي في القديم: أن أقل الخطبة كأقصر سورة في القرآن، وذكر الماوردي: إن حَمِد الله تعالى و صلى على نبيه ووعظ أجزأه، ونُقِل عن ابن العربي أن أقلَّها: حمد الله والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير وقرآن ” يراجع الحاوي الكبير: 443/2 ” وقال البغوي رحمه الله تعالى : «وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله. هذه الثلاث فرض في الخطبتين جميعاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية ، فلو ترك واحدًا من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي رحمه الله ” شرح السنة 364/4″ وعامة الفقهاء على استحباب ما جاءت به الأحاديث من إقصار الخطبة وعدم إطالتها ” انظر: بدائع الصنائع: 263/1، شرح الخرشي على مختصر خليل: 82/2 والأوسط لابن المنذر: 60/4، والكافي لابن قدامة: 222/1، والمغني: 78/2. حتى قال القرافي رحمه الله تعالى :« واتفق الجميع على استحسان قصر الخطبة» انظر الذخيرة 345/2 وساق الشوكاني جملة من الأحاديث في ذلك ثم قال:« وأحاديث الباب فيها مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك ” نيل الأوطار 345/2 وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :«وأما قصر الخطبة فسنة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله» انظر الاستذكار 363/2 وقال أيضًا :«وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضاً لطوله، ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة» انظر الاستذكار 364/2 .
واختتمت المحكمة أنه على هدى مما تقدم , ووفقا لما تقدم بيانه , يكون قرار وزير الأوقاف المطعون فيه بجميع ضوابطه الثلاثة محققا لمصلحة معتبرة متفقاَ وحكم الدستور والقانون .