تناول معالي وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة في خطبته المكتوبة بتاريخ 15/ 7 / 2016م بمسجد عمرو بن العاص بعض الصور التي تشكل برنامجًا تأصيلياً لمواجهة الفساد المالي ، محذرًا من سوء عاقبة أكل الحرام وهذا لبابها:
لا يمكنُ لعاقل أن يجادلَ في أن المال الحرام سم قاتل، وأنه مدمر لصاحبه في الدنيا والآخرة ، وأنه نارٌ تحرق جوف من يأكله ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا”. وقد نهى الإسلام عن أكل الحرام بكل صوره وأشكاله نهيًا قاطعًا لا لبس فيه ، فقال سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا “. وآكل الحرام لا تستجاب له دعوة ، فقد ذكر نبينا (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَكْسَبُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له”. فأكل الحرام قتل للنفس وإهلاك وتدمير لها في الدنيا والآخرة ، فهو في الدنيا وبال على صاحبه في صحته ، في أولاده ، في عرضه ، في أمواله ، ” وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى “، وحتى لو تصدق به صاحبه فإنه لا يقبل ، لأن الله (عز وجل) طيب لا يقبل إلا طيبًا .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) أن سيدنا سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : “يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ جسده مِنَ سحت فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ” ، لذا كان بعض الصالحين يتركون بعض الحلال مخافة أن تكون فيه شبهة حرام .
ومن صور المال الحرام :
الأولى : هي أكل المال الناتج عن الغش سواء أكان غشًّا في الكم أم في النوع ، في الكم بتطفيف الكيل أو الميزان أو المقياس أو الكميات ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : “وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ” ، أم كان غاشًّا في النوع سواء أكان في الغذاء أم الدواء أم الأدوات أم الآلات الإنتاجية أو الاستهلاكية ، فمن يبيع طعامًا ضارًّا بالصحة أو لحمًا غير حلال على أنه لحم حلال ، أو يبيع طعامًا فاسدًا على أنه ما زال صالحًا للاستهلاك فهو فاسدٌ مفسدٌ غاشٌّ لنفسه وللمجتمع ، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول : “من غشنا فليس منا” وفي رواية “من غش فليس منا ” بحذف المفعول ليشمل كل غش وغشاش ، فعلى الإنسان أن يراقب الله (عز وجل) ، وليعلم أنه إن أفلت من عقاب الناس في الدنيا فلن يفلت من عقاب الله (عز وجل) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو ما فهمته ابنة بائعة اللبن في عهد سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما قالت لها أمها : قومي فاخلطي اللبن بالماء ، فقالت لها يا أماه : ألم ينه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن مزج اللبن بالماء ، فقالت لها : إن كان عمر قد نام فأين الذي لا تأخذه سنة ولا نوم حيث يقول الحق سبحانه ” اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ”، ويقول سبحانه على لسان لقمان عليه السلام” يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ” (لقمان).
الصورة الثانية : الرشوة والاختلاس وكل ألوان المحاباة والمجاملة وما يدخل في باب إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق ، فالفساد المالي لا يقف عند حدود قبول الرشوة أو الاختلاس، إنما يشمل استغلال النفوذ وتربيح الغير أو تنفيعه أو محاباته أو مجاملته أو إفادته بأي لون من ألوان النفع المادي أو المعنوي ، فكل ما يحدث من ذلك هو عين الفساد ، فإن استفاد القائم على أمر ما من وراء عمله أي استفادة مادية أو معنوية غير مشروعة فهو آكل للسحت ، وقد لعن نبينا (صلى الله عليه وسلم) الراشي والمرتشي والرائش أي الوسيط الذي يسعى بينهما.
ولنعلم أن الرشوة ما دخلت عملاً إلا أعاقته ، ولا مجتمعًا إلا أفسدته ، ولا بيتًا إلا خربته ، ولا جوف شخص إلا أهلكته .
الصورة الثالثة : أخذ الأجر على عمل لم يقم به الإنسان ولم يفِ بحقه ولم يتقنه ولم يعطه وقته ، فبعض الناس قد يظن أن احتياله على الغياب من عمله أو هروبه منه أو عدم الوفاء بحقه أمرًا سهلاً ، وهنا نؤكد أن العقد شريعة المتعاقدين ، فكما أن صاحب العمل إذا أكل حق العامل فإنه يدخل في دائرة غضب الله (عز وجل) ، وسخطه ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : ” ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ: رجُلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باعَ حُرّاً فأكَلَ ثمَنَهُ، ورجُلٌ استأْجَرَ أجيراً فاستوفى منهُ ولم يُعْطِهِ أجْرَهُ” ، ففي المقابل إذا استحل العامل الأجر ولم يؤد العمل كان ممن لا يكلمهم الله عز وجل ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة ، فالحق مقابل الواجب ، وإلا لاختل نظام الحياة وانفرط عقدها .
أقول قولي هذا واستغفر الله.
فنختم حديثنا بصورتين من صور المال الحرام :
الصورة الأولى : وهي الأشد حرمة ووبالا على صاحبها في الدنيا والآخرة هي الاعتداء على المال العام أو على أملاك الدولة أو أي من مرافقها بدون حق ، أو احتيال الإنسان على التهرب من التزاماته المالية تجاه الدولة بأي صورة من الصور ، كالتهرب الضريبي أو الجمركي ونحوه ، ذلك أن المال الخاص قد يتعلق بشخص أو بعدة أشخاص ، أما المال العام فيتعلق بملايين الأشخاص الذين يصعب على الإنسان أن تحلل من أكل حقوقهم أو إلحاق الضرر بهم يوم القيامة .
أما الصورة الثانية فلا تقل حرمة ووبالا عن الأولى وهي أكل المال الذي يحصل عليه صاحبه نتيجة العمالة أو الخيانة أو تنفيذ أو الإسهام أو تسهيل تنفيذ العمليات الإرهابية التي تفسد أو تخرب أو تقتل وتدمر .