المنابر الإلكترونية
المنابر الإلكترونية
الكاتب الصحفي الدكتور محمد الباز
– يوضح مصطفى محمود خطر ما يقوم به الدعاة فبسبب ما يفعلونه تضيع عظمة الدين فى ظل النظرة الضيقة
– إننا نعانى حتى الآن من دعاة يعيشون فى الماضى ويتحدثون بلغة الماضى ويعالجون القضايا العصرية بعلاج الماضى
– لقد دعا مصطفى محمود فى مقاله إلى أن يختلط الدعاة بالعلوم العصرية
عندما خرجت من لقائى مع الدكتور أسامة الأزهرى كنت متفائلًا جدًا بما قاله.
يملك الأزهرى رؤية عصرية لما يجب أن يكون عليه الداعية.
يدرك خطورة الدور الذى يقوم به دعاة ووعاظ المساجد الذين يلتقون مع الناس وجهًا لوجه، ولذلك فإن الداعية التقليدى الذى نقابله فى مساجدنا لم يعد مناسبًا للمشاركة فى المهمة المقدسة بتجديد الفكر الدينى.
أعرف أن الدكتور أسامة لا يزال فى مرحلة بدر البذور فى الأرض، ويمتلك من الحكمة والصبر ما يجعله لا يتعجل الحصاد، بل ينتظر على ما يزرعه فى عقول وقلوب وأرواح رجاله فى المساجد، فلديه خطة تحويل الداعية من تقليدى يردد ما يقرأه فى الكتب، ما جد منها وما قدم، إلى مفكر يختلط بالمجتمع، يعرف مشاكله ويتعرف على أزماته ويحلل عثراته، ليخرج برؤية تشتبك مع هذه القضايا ولا ينعزل عنها.
التقطت من بين كلمات الدكتور أسامة تعبيره الدقيق جدًا والذى يصلح شعارًا للمرحلة المقبلة، فهو لا يسعى إلى تجديد الفكر الدينى، ولكنه يجتهد من أجل «تجديد الحياة».
«تجديد الحياة».
مهمة معقدة ومتشابكة تحتاج إلى مزيد من الجهد المخلص، ويستلزم أن نتصدى له بروح المفكرين وليس بروح الموظفين، وقد أدركت من اللحظة الأولى من جلوسى مع الدكتور أسامة أننى أمام وزير مفكر وليس وزيرًا موظفًا يؤدى مهمة إدارية تنتهى فور خروجه من مكتبه، فهو يحمل هموم الدعوة معه أينما حل أو رحل.
المشكلة التى يواجهها الدكتور أسامة الأزهرى ونواجهها معه، دون أن نقلل من خطرها، هى أن الدعاة الذين يتولون مهمة شرح الدين للناس لم يتم تأهيلهم التأهيل المناسب لما طرأ على الحياة من تغييرات، ولما لحق بالناس من تطور.
وستكون مفاجأة للدكتور الأزهرى عندما يقرأ معى ما كتبه الدكتور مصطفى محمود فى مجلة «صباح الخير» العدد الصادر فى ٢٠ سبتمبر سنة ١٩٧٢، أى منذ ٥٢ عامًا كاملة.
ببساطة صاغ الدكتور مصطفى محمود عنوان مقاله فكان «أسلوب خطبة الجمعة».
وببساطة أكثر صاغ أفكاره ووضعها أمام من يهمه أو يشغله الأمر.
يقول مصطفى محمود: فى هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، والأقمار الصناعية تدور فى الفضاء، والصواريخ تنطلق إلى الشمس، والصور تنتقل بالتلستار، والأخبار تطير بالتلكس، والأعمى يتحسس طريقه بعقل إلكترونى، والغواصة تشق ظلمة الأعماق بمحرك ذرى، وسط هذا الغمر الهائل من الوسائل العلمية والتحديات التى تبهر العقل نرى شيخ الجامع يخاطب الناس من على منبر القرون الخوالى، وكل ذخيرته فى الدعوة إلى الإسلام تهديد المؤمنين البسطاء الذين سعوا إليه بأن مصيرهم الحرق فى جهنم، وبأن من يلبس من زوجاتهم نصف كم سوف تشوى أذرعهن فى النار، ومن يتأخر فى صلاته ليؤديها قضاءً سوف يلقى به فى برميل من الزفت المغلى، ومن يدخر نقوده فى بنك سوف يرشق بالأسياخ المحمية، أما الذى ينظر إلى محرم فنصيبه أن تقلع عيناه وتوضع مكانهما جمرتان لا تنطفئان، ثم يؤيد كلامه بأحاديث نبوية مرعبة بإسناد طويل عن ابن عنبسة عن الهيثم بن عدى عن ابن أيوب الموصلى عن الكلبى عن التغلبى عن ابن إدريس عن ابن الحضرمى، وكل هؤلاء نعلم عنهم الآن أنهم كانوا وضاعين للحديث كذابين وأن أكوام الكتب الصفراء التى تركوها كانت زيفًا وتشويهًا، وأن نبينا وهو نبى الرحمة والشفاعة والمغفرة لم يقل شيئًا من تلك البشاعات.
ويوضح مصطفى محمود خطر ما يقوم به الدعاة، فبسبب ما يفعلونه تضيع عظمة الدين فى طوفان هذه النظرة الضيقة المتعصبة، بل قد يطلع علينا شيخ يشتم العلم ويشتتم كل من يفسر القرآن بالعلم، وينادى بالفصل بين الدين والعلم، ويقول بأن القرآن كتاب عقيدة وتشريعات أزلية ووصايا خلقية، ولا يصح ولا يجوز الربط بينه وبين معارف علمية زائلة فانية، بل قد نسمع من الشيوخ من يأمرنا بالتسليم الإيمانى فى قضايا الدين وينهانا عن الخوض بالجدل العقلى.
يضع مصطفى محمود القضية التى يسعى إلى تبنيها فى سياقها الصحيح، فمن يفعلون ذلك بالنسبة له ينسون أن جوهر ديننا هو العلم والعقل، وأن الله قال لنبيه: «وجادلهم بالتى هى أحسن»، وأن خواتيم أكثر الآيات.. «لعلهم يعقلون».. «لعلهم يفقهون».. «لعلهم يتدبرون»، وأن القرآن يشيد بـ«أولى العلم» و«أولى الألباب» الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض، وأن الله يأمرنا: «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».
وهو أمر صريح بالسير والنظر وجمع الشواهد والبينات بحثًا عن بداية الخلق وأصله، مع أن القرآن يقول بأن أصل الخلق من طين، وكان يمكن الاكتفاء بهذا دون بحث إذا كان مراد الله منا هو التسليم الإيمانى الأعمى.
يصحح مصطفى محمود الصورة كما يرى ويعتقد.
فالإسلام فى جوهره أبعد ما يكون عن التسليم الأعمى، وهو أكثر الأديان حضًا على العلم والتفكر.. وأول كلمة فيه «اقرأ».
«اقرأ باسم ربك الذى خلق».. أمر صريح بالقراءة والتعلم.
جاء هذا الأمر قبل الأمر بالصلاة والصوم والزكاة.
وهى إشارة خطيرة بأهمية العلم وبأن الله لا يُعبد إلا بالعلم.
وتتوالى الآيات التى تؤكد ذلك، يرصدها مصطفى محمود:
«وقل رب زدنى علما».
«قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون».
«شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم».
وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته فى القرآن ثمانمائة وخمسين مرة.
يخلص مصطفى محمود من ذلك إلى: هذا هو الإسلام، وهذه دعوته، وليست براميل الزفت والقطران ولا الشوى فى جهنم، وحينما كنا نفهمه على حقيقته خرج منا العلماء العظام أمثال ابن سينا فى الطب، وابن رشد فى الفلسفة، وابن الهيثم فى الرياضيات، وجابر بن حيان فى الكيمياء، وابن النفيس فى التشريع، وكان الإسلام عطاء ونورًا أفضناه على الدنيا.
شغلت مصطفى محمود قضية العقل إلى منتهاها.
يقول: الإسلام لا يخشى هجوم العقل بل يدعو إليه، وهذا يحتم على الدعوة العصرية للإسلام بأن ترد بالعقل والجدل والعلم، وليس بالشتم على المذاهب والتحديات الجديدة أمثال الفكر المادى والفكر الشيوعى، فديننا هو الدين الوحيد الذى حبب للمؤمن بالنص الصريح بأن يعمل على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته.
ويعود مصطفى محمود إلى الآيات القرآنية التى تؤكد ذلك:
«لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها»
«يسألونك ماذا ينفقون.. قل العفو».. والعفو هو ما زاد عن الحاجة.
وهو الذى قال بنص صريح إن الأموال لا يصح أن تكون دولة بين الأغنياء وحكرًا لطبقة يستمتعون بثمارها وإنما يجب أن تفيض ثمارها على الكل، و فى تشريعه الاقتصادى يأتى الإسلام أكثر تفوقًا وإنسانية من المذاهب المادية، لأنه استمد سلطانه من ضمير المؤمن وليس من قهر السلطة وإكراه القوى البوليسية، وجاءت نصوصه الصريحة تؤكد عدم تأليه الحاكم».
القرآن يخبرنا بذلك.
«إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر».
«ما أنت عليهم بجبار».
«لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله».
«إنما المؤمنون أخوة».
وينتقل مصطفى محمود إلى قضية أخرى مهمة وملحة، يقول: جعل الإسلام من حرية الفرد وكرامته وأمنه قيمًا تعدل فى وزنها وزن الإنسانية كلها، فقتل نفس واحدة بريئة هى فى القرآن مثل قتل الناس جميعًا لا يبررها مصانع تقام ولا إنجازات تنجز ولا صحارى تعمر.
«من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض.. فكأنما قتل الناس جميعًا».
وجاء ضد كل عنصرية.
وكان صهيب الرومى وسلمان الفارسى وبلال الحبشى هم الإخوة الأوائل فى الإسلام وقد تعلموا من القرآن أن الله خلقهم جميعًا من نفس واحدة.
«اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء».
«إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
لا تمايز إلا على أساس التقوى والخلق، فالكل أبناء أب واحد.
أما قضية الاجتهاد فيدخل إليها مصطفى محمود بجرأة وشجاعة، يقول: الاجتهاد فى فهم القرآن على ضوء المعارف الجديدة أمر واجب فى الدعوة العصرية، فالقرآن موسوعة وليس، كما زعم البعض، كتاب عقيدة وأخلاق وتشريع فقط، والقرآن تعرض للفلك والكونيات والطب وعلم الأجنة ونشأة الخليقة والسياسة وعلم النفس بآيات نصوص صريحة محددة تحتاج إلى اجتهاد رجل العلم ولا علاقة لها بأخلاقيات ولا بتشريع.
«يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث».
ويسأل مصطفى محمود: ما هو ذلك الخلق المتتابع.. وما هى الظلمات الثلاث.
ويجيب: هذه أمور لا يستطيع أن يفتى فيها إلا عالم أجنة.
ويقول: بالمثل ما جاء عن السماوات السبع.. وعن السماء ذات الحبك «أى ذات الممرات»، وعن دحو الأرض.. «والأرض بعد ذلك دحاها» والدحو فى القاموس يعنى البسط ويعنى التكوير معًا، وعن الليل «يكور الليل على النهار.. ويكور النهار على الليل».
وعن زوجية الأشياء.
«من كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون».
إشارة إلى سالب وموجب. ومادة ومادة مضادة، وإلى الاستقطاب فى قطبين، وإلى الجزىء اليمينى والجزىء اليسارى الذى عرفناه فى الكيمياء، إلى آخر ما تحكى لنا العلوم الحديثة عن زوجية الأشياء.
وعن مبدأ الخلق.
«وجعلنا من الماء كل شىء حى».
«خلق كل دابة من ماء».
«ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين».
وعن نشأة الجنس من النطفة المنوية.
« وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى».
لم يقل من نطفة الأنثى.. بل من نطفة الرجل.
وهذه حقيقة علمية.
وعن النجوم والكواكب فى السماء.
«كل فى فلك يسبحون».
«كل يجرى لأجل مسمى».
لا يوجد جرم فلكى فى حالة سكون وإنما الكل يتحرك، والكل يجرى لأجل، وله ميلاد وموت كما أن للإنسان ميلادًا وموتًا، وهذه كلها علوم ومعارف علمية على وجه التحديد ولا علاقة لها بوصايا خلقية أو تشريعات أزلية ومفتاحها فى اجتهاد الميكروسكوب والتلسكوب وكيمياء الجزىء والذرة وعلوم الحياة وبحث العقل فى أرجاء الكون.
ولأن مصطفى محمود كان يعرف أن هناك من سيتخوف مما يقوله ويطرحه فى مقاله، فإنه يقول: وهذا الاجتهاد المصرى مطلوب ولا خوف على القرآن من اختلاف التفاسير، فهناك أكثر من ألف تفسير مختلف، ولم يضر هذا الاختلاف القرآن شيئًا وإنما كشف لنا عن خصوبته، فهذه الفجوة المصطنعة المفتعلة بين الدين والعلم لا وجود لها فى الإسلام، فالإسلام دين علم يزدهر بالعلم والجدل ويزداد نضارة بهجوم العقل عليه، لأنه حق ولا خوف على الحق من جرأة المجترئين، وهذا الانفصام المرضى فى العقلية الشرقية بين معارف العلم ومعارف الدين هو انفصام مفتعل روج له الاستعمار ليعزل البلاد المتخلفة عن روح العصر، ويعزل الدين ويحنطه فى داخل الكتب الصفراء ليسهل بعد ذلك طعنه والقضاء عليه كشىء قديم متحفى مهلهل عفا عليه الزمن.
وينتقل مصطفى محمود إلى مساحة أعتقد أنها كانت- ولا تزال- مهمة.
يقول: ونأتى بعد ذلك إلى أهم جانب فى الدعوة العصرية وهو القدرة على مخاطبة الشباب بأسلوبه وأدواته، إن الشباب يذهب إلى السينما والمسرح ويجلس أمام الراديو والتليفزيون ويستمع إلى الأغنية، فالدعوة العصرية يجب أن تدخل إليه من كل تلك القنوات، وعلى الدعاة أن يختاروا لدعوتهم القوالب العصرية الجديدة فيضعوا أهدافهم فى أشكال فيلمية ومسرحية ومسلسلات تليفزيونية وبرامج ترفيهية.
ليس هذا وفقط، بل على الدعوة العصرية- كما يرى مصطفى محمود- أن تتجنب الديباجات الكلاسيكية القديمة والعبارات المكررة المحفوظة، وأن تستخدم العبارة البسيطة المختصرة والنظرة الموضوعية والأسلوب العلمى الذى يقنع العقل، وأن تعمد إلى الاستدلالات الحسية البليغة من واقع الحياة.
وقبل أن يعترض أحد على ما يقوله، يذهب مصطفى محمود إلى: «إن الله لا يستحى أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها».. فلماذا يستحى رجل الدين من استخدام السينما والتليفزيون والمسرح وقصص الحب ليقدم مفاهيمه؟ ولماذا يختار أمثلته وشواهده من عصر عثمان بن عفان ومعاوية وهو يعيش فى أكثر العصور خصوبة وثراءً؟ ولماذا يقتصر على منبر الجامع فى عصر تعددت فيه المنابر الإعلامية وأصبح فيه التليفزيون أخطر هذه المنابر جميعها؟ لماذا نترك هذا المنبر لأعدائنا يروجون فيه للإلحاد والانحلال ونسجن أنفسنا داخل قوقعة المسجد؟
ويوجه مصطفى محمود كلامه إلى الدعاة مباشرة، فعلى الدعاة العصريين أن يلموا إلمامًا تامًا بجميع الفلسفات الغربية والشرقية الإلحادية والمذاهب الاقتصادية والسياسية الجديدة وبوجوه قوتها وضعفها وبأساليب الرد عليها بالعلم والرأى الموضوعى، وليس بالسباب والشتم أو الدعاوى الإيمانية.
فهو يرى أن أسلوب خطبة الجمعة التقليدى لم يعد يجدى فى الدعوة فى عصر تيسرت فيه السبل والأدوات وتعددت المغريات التى تسابق رجل الدين إلى قلوب الشباب، وأعداء الدين أصبحوا حيتانًا بأسنان ذرية وعقول إلكترونية، وعلينا أن نتعلم السباحة فى مياههم ولا نسجن الدين فى درقة سلحفائية تنادى من على منبر مهجور وفى يدها سيف خشبى.
ويختم مصطفى محمود مقاله الذى أعتبره سابقًا لعصره بقوله: بل إن خطبة الجمعة ذاتها عليها أن تتزود بكل ما قلناه من علوم العصر وحيله وأساليبه لتستطيع أن تناقشه وتقوده، وبمثل ما يتكلم خطيب الجامع من ميكرفون، عليه بالمثل أن يتكلم مستخدمًا كل ما يهبه العصر من معارف وعلوم ودهاء.
انتهى مقال الدكتور مصطفى محمود الذى لا أتعامل معه هنا على أنه مجرد مقال منشور ضمن أرشيفنا الصحفى الزاخر بأفكار عصرية ما زلنا فى حاجة ملحة إليها، بل تعاملى معه يأتى على أنه رسالة موجهة من عمق التاريخ إلى الدكتور أسامة الأزهرى، وزير الأوقاف.
قبل أن أحدثكم أو أحدث وزير الأوقاف عن دلالات المقال، لا بد أن أثبت تحفظى على ما حاول مصطفى محمود تمريره عن تفسيره العلمى للقرآن بين سطور مقاله، فهذه مساحة لا أقره عليها، ولا يمكن الدفاع عنها، ولكنى ألتمس له العذر، لأنها قضية بنى عليها كثيرًا من شرعيته وأركان مجده.. فما يشغلنى هو فلسفته فى توجيه الدعاة، وهى فلسفة كانت ولا تزال مهمة.
وقد تسألنى لماذا جذب هذا المقال اهتمامى إلى درجة أن أعيد نشره مرة أخرى، وأضعه أمام الأزهرى وأطالبه بأن يقرأه جيدًا، وأن يتفاعل معه ويشتبك مع ما جاء معه من أفكار، بل إننى أطالبه أن يكتب لنا رؤيته حول ما قاله مصطفى محمود.
السبب أن الأفكار التى وردت فى المقال جميعها- إلا قليلًا- تناقشت فيها مع الدكتور أسامة – لم أكن قد قرأت المقال بعد- ووجدته متفاعلًا معها بدرجة كبيرة.
لقد لفت نظرى فيما قاله مصطفى محمود أنه يريد من الدعاة أن يستخدموا كل الأدوات الحديثة التى قدمتها الحضارة وأنعمت بها علينا التكنولوجيا فى توصيل الرسالة الدعوية، وساعتها كانت، كما حددها، المواد الفيلمية والمسلسلات التليفزيونية والبرامج الترفيهية.
يتحدث مصطفى محمود عن السينما والمسرح والتليفزيون والراديو، وهى الأدوات التكنولوجية المتاحة فى عصره، ولو كان يعيش بيننا، لطلب من الدعاة أن يستعينوا بمنصات السوشيال ميديا «الفيسبوك- التيك توك- الإنستجرام – اليوتيوب- وإكس» وغيرها من المنصات والتطبيقات، فالعبرة ليس بما نقول، ولكن العبرة الحقيقية هى بماذا وكيف نقول.
فلا قيمة على الإطلاق أن يستخدم الدعاة وسائط الاتصال الحديثة، ويكون المحتوى الذى يقدمونه تقليديًا، خارجًا من الكتب القديمة الصفراء التى لا تتصل ولا تتواصل مع العصر الذى نعيشه وقضاياه، بل لا بد أن يكون التجديد فى الخطاب والفكر قبل التجديد فى الأدوات التى يستخدمها الدعاة.
يمنح مصطفى محمود المساجد قيمتها وقدرها وتقديرها- كما أفعل ذلك، ويفعل الدكتور أسامة الأزهرى، ولكنه يرى، كما أرى الآن، ضرورة الخروج من ضيق المساجد إلى براح السوشيال ميديا، فهذا الفضاء الذى يمرح فيها كثيرون ويقولون ما لا يتفق مع روح الإسلام الحقيقية، لا بد أن يتم غزوه بشكل كامل.. والآن وليس غدًا.
لقد فتحت مع وزير الأوقاف ملف المنابر الإلكترونية.
التعبير خرجت به من سنوات، تحدثت عنه فى برامجى التليفزيونية وكتبت عنه فى مقالاتى، وطالبت بالانتباه لها، لأنها أكثر خطورة وتأثيرًا وانتشارًا وفاعلية.
لقد اجتهدت وزارة الأوقاف خلال السنوات الماضية عندما كان يتولى مسئوليتها الدكتور محمد مختار جمعة فى إحكام السيطرة على المنابر الخشبية فى المساجد، عملت على ألا يصعد إلى هذه المنابر من يحمل فكرًا يتعارض مع صحيح الإسلام ومصالح الدولة المصرية، وقد نجحت فى ذلك بدرجة كبيرة تجعلنا نشكر الدكتور مختار جمعة على جهوده.
هذه السيطرة الناجحة كان لها أثر جانبى لا يمكن أن نتجاهله أو نغض الطرف عنه، وهو أن كثيرين ممن تم إبعادهم عن المنابر الخشبية لجأوا إلى المنابر الإلكترونية وأصبح لهم ملايين المتابعين الذين يستمعون إليهم ويسيرون خلفهم، وهؤلاء لهم إتجاهاتهم وأجنداتهم وأولوياتهم التى لا يمكن أن نسلم بأنها بريئة مائة فى المائة أبدًا.
لا تشغلنى هذه القضية على المستوى النظرى فقط، فقد قمت بجولة خلال الأيام الماضية على «تيك توك» وهالنى ما رأيت، مئات الحسابات يتحدث من خلالها شباب مجهولون لا نعرف عنهم شيئًا فى الدين، يفسرون القرآن ويتحدثون فى قضايا فقهية ويقدمون فتاوى إلى المستمعين، فهل تعرف وزارة الأوقاف عن هؤلاء شيئًا… هل يتبعونها، أم أنهم لجأوا إلى هذه المنصة حتى يكونوا بعيدين عن حدود الوزارة وما تقوم به.
دعاة «التيك توك» لهم ملامحهم الخاصة فى الشكل والمضمون، شباب يرتدون الملابس العصرية، ويتحدثون بلغة قريبة من الناس، أحدهم يقدم أسلوبًا فى الدعوة يمكن أن نطلق عليه «الدعوة بالدعابة» أو «الدعوة بالفكاهة»، فالمعلومات والآراء الدينية التى يقدمها يضعها فى فاصل كوميدى يطعمه بكثير من القفشات والنكات، ويلقى إقبالًا كبيرًا على ما يقدمه.
لا أنكر إعجابى بطريقة هذا الداعية، وإن كنت لا أريد أن تتحول الدعوة إلى مجرد اسكتش فكاهى، لكن لا بد من الإشارة إلى ما يحدث ودراسته والاستفادة منه.
لقد حاولت مؤسسة الأزهر منذ سنوات تقديم جيل جديد من الدعاة.
درست ظاهرة الدعاة الجدد جيدًا، عرفت مواطن قوتهم، ودفعت بمجموعة من الشباب الذين يرتدون ملابس عصرية، ويتحدثون بلغة الشباب، ومنحتهم الفرصة للظهور فى البرامج الفضائية، بل إن المؤسسة الكبيرة كانت تعمد إلى فرض هؤلاء الشباب فرضًا على بعض البرامج، لكنهم فى النهاية لم ينجحوا ولم يقدموا شيئًا له قيمة إلى الدعوة، بل لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الشباب، والسبب أن ما كانوا يقدمونه من محتوى لم يكن عصريًا فى معظمه، فقد ارتدوا زى العصر لكنهم تحدثوا بلسان عصور أخرى.
لقد دعا مصطفى محمود فى مقاله إلى أن يختلط الدعاة بالعلوم العصرية، كان يتحدث عن ذلك منذ أكثر من خمسين عامًا، وأعتقد أن أحدًا من وزراء الأوقاف السابقين لم يلتفت لا إلى مقاله ولا إلى دعوته، وأعتقد أننا لا نزال فى حاجة إلى فكرته.
فما الذى يعرفه الدعاة عن السياسة والاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والعلاقات الدولية وعلوم الاتصال والطب والديانات الأخرى والمذاهب الفكرية المختلفة؟
بل ما الذى يعرفونه عن أصحاب الديانات الأخرى الذين يعيشون بيننا؟ وهل لديهم فكرة عن طريقة التعامل معهم والحديث عنهم؟ أم أنهم لا يزالون أسرى لما فعله دعاة سابقون، كانوا يستخدمون الدين لأغراض السياسة، وأورثونا كراهية متبادلة لا مكان لها فى صحيح الأديان جميعها، فالله محبة.. والدين محبة.
إننى ارى أهمية كبرى فى أن يخرج الدعاة من ضيق العلوم الشرعية إلى براح العلوم الإنسانية الأخرى قبل أن نطالبهم باستخدام وسائط التواصل الحديثة، فالتجديد لابد أن يبدأ بالروح والعقل والفكر قبل أن يجلس أحدهم ليتحدث فى فيديو يتم رفعه بعد ذلك على منصة من منصات السوشيال ميديا.
إننا نعانى حتى الآن من دعاة يعيشون فى الماضى، ويتحدثون بلغة الماضى، ويعالجون القضايا العصرية بعلاج الماضى، يعتقدون أنهم بذلك يخدمون الإسلام، رغم أنهم يلحقون به أكبر الضرر.
حتى الآن يصعد المنابر الخشبية من يروجون للخرافات ومن يستحضرون الماضى متجاهلين الحاضر وقضاياه، وهم مصدر نفور كبير، فكثيرون لا يذهبون إلى المساجد يوم الجمعة إلا لتأدية الصلاة فقط، يشعرون أن الاستماع إلى خطبة الجمعة ليس إلا تضييعًا للوقت وإهدارًا للعقل، وهو ما لابد من معالجته بشكل عاجل وسريع.
أما مشروع المنابر الإلكترونية فلا بد أن تكون هناك خطة لها بعدان.
البعد الأول على المدى القصير تقوم فيه الوزارة بالدفع بمن يملكون استعدادًا وتأهيلًا لاحتلال الفضاء الإلكترونى لمحاصرة المحتوى المتهافت الذى يقدمه دعاة المنصات المجهولون.
والبعد الثانى على المدى البعيد، حيث يجب أن تقوم الوزارة بإعداد أكبر عدد من الدعاة المؤهلين للتعامل من خلال المنابر الإلكترونية، فهى تحد كبير، وأعتقد أن الدكتور أسامة الأزهرى على قدر هذا التحدى، بل لديه من الأفكار والروح والعزيمة والإرادة والإدارة لينجزه.
لا نملك إلا الانتظار.. وتقديم ما نقدر عليه من دعم لإنجاح هذه التجربة التى أعتقد أنها ستكون إنقاذًا كاملًا للدعوة التى لا تزال فى حاجة إلى جهود مكثفة.
اللهم قد بلغت… اللهم فاشهد.