*:*الأخبارمقالات

الخلاف الفقهي والسياسي

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

       تحدثنا في مقالات متعددة عن العلاقة بين الدين والسياسة , وأكدنا مرارًا على أهمية ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية والبناء الوطني الصلب الذي يسع الجميع على أساس الحقوق والواجبات الوطنية المتبادلة , وعلى عدم المتاجرة بالدين أو استغلاله في المصالح السياسية أو الحزبية .

       والطبعيّ والمفترض والمنتظر أن يعمل العلماء على ما يبني لا ما يهدم , وما يجمع ولا يفرق , وأن يفرقوا بين ما هو ديني شرعي قطعي الثبوت والدلالة , وبين ما هو ظني الدلالة يحتمل الرأي والرأي الآخر , ويُعد الخلاف فيه سعة للأمة , وسعة عليها , وكما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) : ما يسرني أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يختلفوا , أي لم يختلفوا في الرأي وفهم النص , لأنهم لو لم يختلفوا لكان ذلك مشقة على الناس , إذ إن أكثر ما يتصل بالمعاملات وتنظيم شئون الناس ونظام حياتهم مما فيه متسع كبير , وقد تختلف الفتوى فيه باختلاف الزمان أو المكان أو الأحوال , فما كان راجحًا في عصر وفق ظروف هذا العصر قد يصبح مرجوحًا إذا تغير الزمان ، وما تكون الفتوى فيه راجحة في مكان ما نظرًا لطبيعة هذا المكان , فإنها قد تصبح مرجوحة إذا تغير المكان أو الحال واستدعى الأمر اجتهادًا جديدًا يجعل المرجوح راجحًا , والراجح مرجوحًا .

      والمنتظر من العلماء والفقهاء والمفكرين العقلاء في كل زمان ومكان أن يكونوا رجال فكر وعقل ، ودعاة أمن وسلام بحق وصدق وإخلاص ، مستحضرين منهج الإسلام في ترسيخ أسس التعايش السلمي بين البشر جميعًا ، مؤثرين المصالح العليا للإنسانية على مصالحهم الشخصية الضيقة ، ولنا في منهج النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي رسخه لأسس التعايش بين أهل المدينة جميعًا على اختلاف أديانهم وأعراقهم وقبائلهم أفضل الأسوة ، وذلك حين أعلن  (صلى الله عليه وسلم) أن المسلمين مع يهود المدينة الذين عددهم النبي (صلى الله عليه وسلم) قبيلة قبيلة ، أمة واحدة ، وجاء الإنصاف الكامل حين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، كما آخى  (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه على اختلاف أعراقهم وقبائلهم ، مع ما كان بين الأوس والخزرج من إحن وعداوات تاريخية ، وهو ما ذكره الحق سبحانه في قوله تعالى : ” وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” .

      فالأصل أن يقود العلماء التوافق لا أن يقودوا الخلاف ، ولا أن يُزكوا جذوة الشقاق ، ولكن شطط بعض العلماء والمفكرين في الذهاب إلى أقصى الطرف ، وبحث بعضهم عن الشاذ من الآراء ،وربما حب الظهور أحيانًا ، ومجاملته السلطات أحيانًا أخرى ، ومسابقة بعض المحسوبين على العلماء في إذكاء التطلعات التوسعية لبعض الدول وإلباسها ثوب الواجب الديني ، إنما يسهم في بث الفرقة ، وربما تأجيج الفتن على حساب جمع الشمل الذي لا غنى عنه للأمة ، وللمنطقة ، ولتحقيق أمن وسلام العالم ، إن كنا جادين في البحث عن هذا السلام والعمل على تحقيقه ، وتخليص الديني من السياسي ، والمذهبي من التوظيف السياسي للدين أو للمذهبية .

      فبدل أن يكون صوت العلماء هو صوت الحكمة والعقل ووحدة الصف ونبذ الشقاق دائما ، صار صوت بعض المذهبيين المتعصبين منهم غير المدركين لفقه الواقع صوت فرقة وشقاق في بعض الأمور ، وربما كانت الرغبة في إرضاء بعض الحكام ، أو الأهل والعشير ، أو االنصير والأتباع والمريدين ، وراء التشبث ببعض الآراء  أو الفتاوى ، دون النظر في العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على تبني الآراء الشاذة أو العصبية العمياء دون إعمال حقيقي للفكر والعقل والمنطق .

      علينا جميعًا أن ندرك أن القضاء على الآخر والمختلف ومحوه من الذاكرة الإنسانية يُعد أمرًا مستحيلا ومخالفا لسنن الله الكونية ، الذي خلق الناس مختلفين ، يقول سبحانه : ” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ” ، كما أن محاولة محو الآخر أو تقزيمه ستقابل بمحاولة مماثلة ، فيدخل العالم كله في صراعات دينية ومذهبية لا تبقي ولا تذر ، ولا تخلف سوى الخراب والدمار والهدم والإفساد .

       إن الطبيعي أن يكون العلماء أعلام استنارة ، وأعلام سلام ، وأعلام حوار ، وأعلام تقارب ، وأعلام وفاق لا عناوين شقاق ، يجمعون ولا يفرقون ، يبنون ولا يهدمون ، وهو ما يجب أن نسعى جميعًا إليه ، ونعمل على تحقيقه .

       ومن الجدير بالذكر ونسبة الفضل إلى أهله أن اجتماعًا هاما عقد بالرابطة العالمية لخريجي الأزهر برئاسة فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر تناول بعض قضايا الأمة ، وعرض فيه فضيلة  أ.د/ عبد الفضيل القوصي وزير الأوقاف الأسبق لحال العلماء ودورهم وما يجب أن يكون منهم لجمع الشمل، وهو ما ألهمني فكرة هذا المقال .

اظهر المزيد

منشور حديثّا

زر الذهاب إلى الأعلى