ثالث أيام التشريق
ثالث أيام التشريق
في ثالث أيام التشريق يكون الحجيج قد أتموا نسكهم ولم يبق لهم في الغالب سوى طواف الوداع لمن لم يقم به مغادرا إلى بلده أو إلى مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و عند الانتهاء من أداء مناسك الحج تبدأ رحلة عبادة جديدة تتعلق بعمارة الكون وصناعة الحياة والمداومة على الطاعة والعبادة بمفهومهما الأعم ، فالعبادات في الإسلام مقصودة لذاتها ولحكم أخرى ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكـر ، يقول سبحانه : {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(العنكبوت:45) ، ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(الجمعة : 9 ، 10) ، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له.
والعبادات إعداد وتأهيل لحمل الرسالة وعمارة الكون والحياة ، حيث يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}(المزمل:1 – 7) ، فإذا كان الإنسان في ليله في خلوة مع الخالق (عز وجل) فأمامه في النهار متسع طويل لعمارة الكون وصناعة الحضارة ، فالإسلام هو فن صناعة الحياة لا صناعة الموت ، ودورنا هو عمارة الدنيا بالدين لا تخريبها ولا تدميرها باسم الدين.
والحج مدرسة أخلاقية وتربوية عظيمة ، ولعل من أهم الدروس التي نتعلمها والتي ينبغي أن تستمر معنا من مدرسة الحج: قضية التسليم المطلق لله (عز وجل) ، وتفويض الأمر لله ، والوقوف عند حدود الله ، وتعظيم شعائره ، وحرماته ، حيث يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الحج: 32) ، ويقول سبحانه:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}(الحج: 30).
فمن كان يعظم حرمات الله (عز وجل) في عرفة ومنى والمزدلفة ، وفي المسجد الحرام وفي السعي والطواف ، فعليه أن يستحضر هذا التعظيم لشعائر الله ، فالأمر أشمل وأعم ، فمن حج ورجع إلى بلده ولم يعد وقَّافًا عند حدود الله فما فقه معنى الحج ولا معنى العبادة .
ومن علامات القبول الطاعة بعد الطاعة في حياته كلها ، فإذا عاد الحاج قانتًا مخبتًا منيبًا إلى الله تعالى ، يحب الخير للناس ، فذلك من علامات القبول ، أما إن عاد كما ذهب وعلى ما كان عليه من تقصير فأمره إلى الله وعليه مراجعة نفسه ، فعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قالت: “سَأَلْتُ رَسُولَ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنْ هَذِهِ الآيَةِ : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ }(المؤمنون:٦٠) ، قَالَتْ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ:” لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ”.
ونقول لحجاج بيت الله الحرام: أمامكم بعد عودتكم وتوفيق الله (عز وجل) لكم مهام عظيمة في خدمة دينكم وأوطـانكم لا تقل جلالًا ولا كمالًا ولا ثوابًا عن ثواب الحج والعمرة ، وهي كساء العاري ، ومداواة المريض ، وقضاء حوائج الناس ، وعمارة الكون، زراعة ، وتجارة ، وصناعة ، وإيجاد فرص العمل – وبخاصة أهل السعة واليسر منهم – ؛ لنعمر دنيانا بديننا ، فنربحهمـا جميعًا.
#دليل_الحاج