بداية لا ننقب عن النيات , ولا نحكم على أشخاص بأعينهم ، فهذا ربما يكون في صلب عمل بعض الباحثين والدارسين المتخصصين في بعض المجالات والعلوم غير الدعوية ، لكننا نكتفي بتحليل الظواهر ونترك للمجتمع الواعي الفطن التمييز بين طوائف هؤلاء المنشقين .
وأستطيع ابتداء من خلال متابعتي الجيدة لما يكتبون ويعرضون ، ومن قراءتي للواقع وتقلبات الأحداث ، أن أصنف هؤلاء المنشقين إلى ثلاثة طوائف:
الطائفة الأولى – وأبدأ بحسن الظن دائمًا – هي التي سئمت الفكر المتطرف ، وأدركت مخاطره وسوء عاقبته، فكفرت به ، وتحولت عن قناعة إلى نقض هذا الفكر من أساسه بوازع من دين أو ضمير أو وطنية أو مصلحة ، وهؤلاء على الجملة هم الطائفة الأقل التي يصل أمرهم إلى حد الندرة ، مع أنهم في حاجة دائمًا إلى التعهد والاحتضان ، بل الحذر أحيانًا حتى لا ينجذبوا مرة أخرى إلى سيرتهم الأولى ، إذ يظل لديهم جانب من الاستعداد ولو للنزوع النسبي إلى هذا الماضي ، ولا سيما عند لقاء من احتفظوا لهم بصداقات ومودات هذا الماضي ، وكانوا من الذكاء الاجتماعي أن يحافظوا ولو على شعرة الخيط الدقيق تحسبًا لتقلبات الأيام والسنين وتداول الدول والأحوال ، وما أسرع ذلك في زماننا هذا ، حتى أن بعض أهل العلم اعتبروا سرعة التداول من علامات الساعة الصغرى .
الطائفة الثانية أو الفريق الثاني : المتلونون مع الزمن ، والآكلون على كل الموائد ، الذين قال الله عز وجل في أمثالهم : ” وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ” (التوبة : 58)، وقال في أمثالهم أيضًا : ” الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ” (النساء : 141) ، وقال في أمثالهم أيضًا :” وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ” ( التوبة : 56) .
وهؤلاء ما أسهل كشفهم وافتضاح أمرهم , فهم كما قال رب العزة (عز وجل) لنبيه (صلى الله عليه وسلم) عنهم : “فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ” ( محمد : 30) ، فأطماعهم ومطامعهم وتلونهم وسرعة تقلبهم كفيلة بكشفهم ، وهؤلاء أيضًا يمكن استيعابهم في المجتمع كمواطنين على علاَّتهم والتعامل معهم بحذر ، وعدم تمكينهم من مفاصل العقل أو الرأي أو تشكيل وجدان جيل أو تربية نـشء ، لأن طبيعتهم الفاسدة تنتقل انتقال الجرب , فإن خلائق السفهاء تُعدي.
أما الطائفة الثالثة : وهي الأكثر والأشد جرمًا ونفاقًا , ومكرًا ودهاء , والأخطر على المجتمع وعلى بناء الدولة ، فهي التي تعلن الانشقاق الظاهر من باب توزيع الأدوار في الفساد والإفساد , سواء أكان ذلك في شكل انشقاق حزب عن حزب , أو جماعة عن جماعة , أو جمعية عن جمعية , أو فرد أو أفراد عن حزب أو جماعة أو جمعية أو مؤسسة ، ولا بأس عندهم من تبادل بعض الاتهامات الظاهرة ، وربما أحيانًا الشتائم والسباب ، بل التقاضي والصراع ، وربما افتعال نوع ما من الصدام والاعتداء وقرارات الفصل التعسفي , والإبعاد والطرد من جنة الجماعة والاتهام بالردة أو الخيانة أو العمالة , وما إلى ذلك مما يحاولون به دفع توهم توزيع الأدوار ، وهؤلاء هم من مردوا على النفاق وتدربوا عليه وصار لهم طبعًا وسجية ينفثون سمومهم القاتلة على المجتمع وعلى مخالفيهم حتى في تظاهرهم بالنقد لجماعتهم ، وينتظرون الفرصة السانحة ليقفوا صفًا واحدًا على نحو ما شهدناه في العام الأسود الذي كشف طبيعة تلك الجماعات التي كانت تبدو متناحرة فيما بينها يكاد يكفر بعضها بعضًا ثم أكلت على مائدة واحدة هي : مائدة المرشد ، فكثير من هؤلاء يتمسحون بالدين ويتظاهرون بعمل الخير كأصحاب مسجد الضرار الذين قال الله عز وجل فيهم : ” وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” (التوبة : 107 – 110) ، ويقول في أمثالهم : ” وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ” ( المنافقون : 4 ) , وهم من حذر رب العزة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من أمثالهم عندما قال له : ” فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ” (التوبة : 83 ) , وهؤلاء لا خير فيهم , فهم كما قال رب العزة : ” لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ” ( التوبة : 47 ,48 ) .
والذي لا شك فيه أن الجماعات المتطرفة لا تألو على وطن ولا على دولة وطنية ، إنما دأبها العمالة والخيانة لصالح من يمولها ، أو يستخدمها أو حتى يقدم لها وعدًًا مكذوبًا بالتمكين ودولة الخلافة , خلافة الظواهري وأبي بكر البغدادي وأضرابهما في القتل والذبح والحرق والتمثيل وإراقة الدماء وإهلاك الحرث والنسل .