مخطئ من يظن أن خدمة الوطن تنحصر تحت قبة البرلمان وحدها دون سواها , وإلا فإذا كان ما بين خمسمائة أو ستمائة نائب لهم كل الاحترام والتقدير سيكونون تحت قبة البرلمان , فهل هؤلاء وحدهم من سيخدمون قضايا وطنهم ؟ أو أن غيرهم قد يكون شريكًا لهم في هذا الشرف ؟ فقد يكون هناك وطنيون آخرون أكثر همّة وحماسًا وقدرة وعطاء في خدمة وطنهم , فخدمة الوطن شرف على كل حال وفي كل موضع .
وإذا كان التنافس تنافسًا لخدمة الوطن فلن يكون صراعًا غير شريف أبدًا , فالغاية لدى الوطنيين لا يمكن أن تبرر الوسيلة , ومخطئ شديد الخطأ من يعتقد أن الوطنية تنحصر فيه دون سواه , أو أن خدمة الوطن تكون من منظوره وحده دون منظور غيره , فحمل الناس حملا على طريقة واحدة أو مذهب واحد في الحياة أمر غير ممكن , لاختلاف طبائع الناس , وسنة الله في التنوع , يقول الحق سبحانه : ” وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ” ( الحج : 40 ).
وليس ذلك مدعاة للتقاعس عن خدمة الوطن ولا لصرف أحد من الوطنيين عن نبل مقصده , وإنما هي دعوة للتنافس الشريف , وإلا فإن الفلاح في حقله , والعامل في مصنعه , والمحترف في حرفته , والمعلم في مدرسته أو معهده , والطبيب في مشفاه , والعالم في مجاله وميدانه , والإعلامي وآلته , قلمًا كانت أم آلة تصوير أم ريشة رسام أو جملة فنان , قد لا يكون واحدًا من هؤلاء أقل أثرًا , بل قد يكون أكثر تأثيرًا في عالم الوجود ودنيا الناس من أصحاب الاستجوابات وطلبات الإحاطة .
كما أن مجالات العمل الثقافي والتنويري والاجتماعي والإنتاجي لا تقل أثرًا ولا أهمية عن العمل السياسي بل تزيد , فنحن في حاجة إلى جهد كل عالم وعامل , وفي حاجة أشد أن يكون الناس جميعًا من العاملين المنتجين كل في ميدانه دون حاجة أن يكون المجتمع كله من محترفي السياسة , وإن كان الإلمام منها بطرفٍ أمرًا لا مفر منه .
وأخص بجانب أكبر من هذا الحديث العلماء والدعاة والمفكرين , وأؤكد أن حاجة المجتمع إلى علمهم وفكرهم وثقافتهم وقلمهم ولسانهم وبيانهم أكثر من حاجته إلى نيابتهم عنه تحت قبة البرلمان , وخاصة أن ما يعرف بتسييس الدين أو تجربة الإسلام السياسي كانت شديدة المرارة , بحيث لا يمكن أن يمحى أثرها المر بسرعة من الذاكرة المصرية أو العربية أو حتى العالمية بسهولة أو بهذه السرعة المتوقعة من بعض من يراهنون على فقدان الذاكرة العربية أو ضعفها .
ولا أظن أن فصيلا سياسيًا يمكن أن يفصل كيانه السياسي عن الدعوي أو يدَّعي أنه لن يوظف الدين لخدمة أغراضه السياسية , ويظن أن الناس ستصدقه بهذه السذاجة , بل عليه أن يثبت يقينًا أنه لن يكرر التجارب المرة في خداع العامة باسم الدين , وأنه لن يسوقها صراعًا جديدًا بين الإيمان والكفر , وأنه لن يكرر غزوة الصناديق , أو أن الصناديق قالت للدين نعم وقالت للكفر لا , وأنه لن يعمد إلى استخدام ما تحت يده من الدعوة استخدامًا انتخابيًا , وأنه لن يقسم المجتمع إلى فسطاطين من جديد , حتى وصل الصراع والانقسام إلى الأسرة الواحدة , فصار الأب في جانب والابن في جانب مقابل أو مضاد , وأحد الزوجين في معسكر الإيمان المزعوم والآخر محسوبًا على المعسكر المرمي بالكفر أو الفسق أو الخيانة .
إن الدلائل والعلامات ستكون فارقة بين من يبحث عن التمثيل والمشاركة وخدمة الوطن به أو بغيره , من داخل الحكومة أو من خارجها , من تحت القبة أو من أي موقع آخر , وبين من يبحث من جديد أو في ثوب جديد عن مغالبة دينية جديدة , وإن قنّعها بألف قناع وقناع , في ظل العودة من جديد إلى الحديث عن غلبة على الأرض , وأن الآخرين لا وزن لهم ولا ثقل , في استعلاء مقيت لم يعد الشعب المصري ولا العربي يتقبله أو يتحمله .
أما المشاركة فلا أحد ينكرها على أحد , وإلا لدخلنا في دوائر من الإقصاء والإقصاء المضاد , والصراع الذي لا ينتهي , غير أن محاولات التمترس بالأهل والعشير مرة أخرى من طوائف تنطلق في أي مجتمع من منطلق طائفي أو مذهبي أو أيدلوجي يتجاوز الأرضية الوطنية المحضة أو تحاول القفز فوقها , فإن عاقبته ستكون غير محمودة , وسترتد أول ما ترتد على من يتمترس بها ويظنها طوق نجاته , لكنها قد تفتح أبواب صراعات لا تحتمل , وترتد ببعض المجتمعات إلى نقطة الصفر , وإن كنا نعجب لأقوام كانوا يرون المشاركة في الانتخابات من المحرمات والممنوعات , ثم صاروا يرونها من أوجب الواجبات , والتخلف عنها خيانة للدين وتضييعًا له .
ومع ذلك نرى أهمية المشاركة وندعو إليها ونحث عليها ونراها حقًا للوطنيين جميعًا على أرضية وطنية مشتركة , ونحذر من المصارعة والطائفية المقيتة وتوظيف الدين من جديد لخدمة المصالح الانتخابية .
وأؤكد أن تقسيم أي مجتمع الآن على هويات دينية أو مذهبية أو طائفية أمر في غاية الخطورة , ولا يمكن أن يمحو هذه الخطورة بعض الإجراءات الشكلية لاستيفاء بعض الأمور الإدارية أو الإجرائية التي توهم بتحقيق التنوع لتمرير مشروعات لا يمكن لها أن تمر إلا باستيفاء هذه الشكليات , فيتم استيفاؤها من باب الضرورة وبفتوى أن الضرورات تبيح المحظورات , غير أننا نريد أن يكون الإيمان بالتنوع وقبول الآخر حقيقة لا شكلا , إيمانًا بالتنوع وليس احتيالا عليه, وصدق الحق سبحانه وتعالى إذ يقول : ” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ..” ( هود : 118، 119 ) .