لا شك أن ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية والعمل على إعلاء قيمتها والتمسك الشديد بها في عالمنا العربي يشكل أملا كبيرًا ومحورًا هامًا لدى كل الوطنيين الشرفاء ، كما يشكل هاجسًا ومعوقًا رئيسيًا للأطماع الاستعمارية ، وصدمة كبرى للمستعمرين الجدد وأعوانهم وأذنابهم , وأن الإيمان بالأوطان وحسن الانتماء لها يمد الوطنيين الشرفاء بزاد لا نظير له في الدفاع عنها ، وعن أرضها وعرضها ، وسمائها وترابها ، وعزتها وكرامتها , وخيراتها ومقدراتها , ومقومات وجودها واستمرارها .
ولا شك أيضا أن أعداء الأمة والاستعماريين الجدد يبذلون أقصى ما في وسعهم لإضعاف الروح الوطنية وتمزيقها حتى يتمكنوا من تنفيذ مخططاتهم , ويسعون لاجتذاب الخونة والعملاء للوصول من خلالهم إلى تحقيق ما يريدون , وكما قال الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الملقب بـ ” متنبي القرن العشرين ” :
ولقد رأى المستعمِرونَ فرائساً |
منَّا ، وألفَوْا كلبَ صيـدٍ سائبـــــا |
فتعهَّدوهُ فراحَ طوعَ بَنانِهـــــــمْ |
يَبْـرُونَ أنيابـــــاً لــــــه ومَخالبــــا |
مستأجَرِينَ يُخرِّبونَ دِيارَهُــــــمْ |
ويُكافأونَ على الخرابِ رواتبـــــــا |
والذي لا خلاف عليه بين أهل العلم المعتبرين ممن يُعتد بعلمهم ورأيهم أن حب الوطن من الإيمان , وأن مصالح الأوطان لا تتعارض مع مصالح الأديان , لأن الأوطان هي وعاء الأديان , يقول الشاعر العماني أبو مسلم الرواحي المعروف بـ ” حسان عمان ” :
يا للرجال احفظوا أوطــــان ملتكـــم |
فما لكم بعد خذل الدين أوطان |
يا للرجال احفظوا أحساب مجدكم |
إن لم تكن فيكم للدين أشجــان |
وعندما أُخرج نبينا (صلى الله عليه وسلم) من مكة نظر إليها قائلا : ” والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلىّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ” , ولما أُمر بالتوجه في صلاته إلى بيت المقدس كان يحب أن يكون هذا الشرف العظيم لمكة المكرمة التي ولد ونشأ بها ، وتقلب في ربوعها وجبالها ووديانها , وتعلقت نفسه وروحه بها ، حيث بيت الله الحرام وحرمه الآمن ، وكان يقلب وجهه في السماء رجاء أن يرزق التحول إليها , حتى أكرمه الله (عز وجل) وكرمه بقوله تعالى : ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ..” (البقرة:144) , ولما دخلها فاتحًا منتصرًا جمع أهلها , وقال لهم : يا أهل مكة ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم ، وابن أخ كريم , فقال (صلى الله عليه وسلم) : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ (عليه السلام) : ” لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ” .
لكننا للأسف الشديد ابتلينا بأناس وجماعات تتاجر بدينها وأوطانها ومستعدة لأن تبيع أنفسها حتى للشيطان في سبيل خداع ووهم يرسمه لها المستعمرون الجدد , ويزينه لها جنهم وشياطينهم ، ” شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ..” ، فهم ما بين عميل خائن يبحث عن ثراء فاحش أو سلطة خاضعة خانعة ذليلة تابعة , ومنتفعين لا يرون سوى ما تحت أقدامهم وما يحقق شهواتهم وملذاتهم وإن باعوا في سبيل ذلك دينهم ووطنهم وعرضهم وكرامتهم .
والذي لا شك فيه أن جماعة الإخوان , ومن يدور في فلكها من الجماعات الإرهابية , وما انبثق عنها من تنظيمات إجرامية كداعش وأخواتها , ومن تضم هذه الجماعات من مرتزقة جاءوا من كل حدب وصوب تحت إغراء المال أو النساء أو وهم السلطة والثراء متسترين بعباءة الدين , كل هؤلاء ومن كان على شاكلتهم وبلا استثناء لا يؤمنون بوطن ولا دولة وطنية , إنما يوهمون أتباعهم أن الدين لا وطن له , وأن أرض الله كلها وطن واحد ينبغي أن يستظل بظل دولة الخلافة ، وأن لهم في تنظيمهم الدولي المأوى والملاذ الذي قد لا توفره لهم الأوطان , فيهدمون كل قوعد الوطنية الصحيحة , ويؤثرن مصالح التنظيم ومن يستأجرونهم أو يستخدمونهم أو يمولونهم على كل معاني الوطنية السامية , فهم مستعدون لأن يكونوا جواسيس لهذا التنظيم المزعوم المستخدم من قبل قوى الشر والظلام لتفتيت وتمزيق دولنا العربية والإسلامية من خلال هذه التنظيمات المريبة التي لا تؤمن بوطن .
ولا يختلف عن هؤلاء في عدائهم للدولة الوطنية كل التنظيمات العرقية والطائفية والمذهبية الموجهة المُسيّسة التي يكون ولاؤها خارج أوطانها , وكذلك الملحدون والماسونيون والبهائيون وسائر التنظيمات التي تُحركها قوى استعمارية أو إمبريالية عالمية .
ولا مخرج لمنطقتنا وأمتنا من هذه الوباءات والابتلاءات سوى الإيمان بالدولة الوطنية والعمل على إعلاء قيمتها , والتعامل على أساس من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطنين بعضهم وبعض وبين المواطنين والدولة , فيكون ولاء المصريين جميعًا لوطنهم , وولاء السودانيين جميعًا لوطنهم , وكذلك السعوديون ، والكويتيون , والإمارتيون , والبحرينيون , والمغاربة , واليمنيون , والأردنيون ، يكون ولاؤهم جميعا لأوطانهم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وطوائفهم وأيدولوجياتهم , يؤمنون جميعًا بقيمة الوطن الذي يظلهم , يحافظون على أرضهم وترابه , يعطونه بقدر ما يعطيهم أو ما ينتظرون أن يعطيهم , ثم تكون العلاقات بعد ذلك بين الدول في ضوء الاحترام المتبادل والعهود والمواثيق الدولية وعدم تدخل أي دولة في الشئون الداخلية للدول الأخرى , أو محاولة استقطاب حزب , أو فصيل , أو طائفة , أو جماعة منها , وإلا لدخلنا في دائرة من الاستقطاب والاستقطاب المضاد لا تنتهي إلا بإنهاك قوانا جميعًا , وهو عين ما يرمي إليه أعداؤنا لضرب بعضنا ببعض وإنهاك قوى كل منا بالآخر , ويبقى هو الرابح الوحيد دون خسائر بل بمكاسب بيع سلاحه وتجريبه فينا وفي بني جلدتنا وإخوتنا في الإسلام أو العروبة أو النسب أو الجوار , فلنستفق قبل فوات الأوان , حتى لا نندم حين لا ينفع الندم , على حد قول الشاعر :
ولقد نصحتهم بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد