سيظل الحديث عن تجديد الخطاب الدينى مفتوحًا وفضفاضًا حتى نتمكن من وضع ضوابط تقرب على أقل تقدير مفاهيم التجديد ومساحته ومجالاته ورجاله وأهله ، وإن كان قد بدا يتبلور لدينا رؤية تتلخص فى أن التجديد إنما يكون فى مستجدات العصر من القضايا المستحدثة أو تلك التى يخضع الحكم فيها لظروف الزمان والمكان والأحوال ، وهذا التجديد ليس بدعًا فى الدين ، فقد أسس الإمام الشافعى رحمه الله لمذهبه فى العراق ، فلما انتقل إلى مصر ورأى بها ما رأى من تغيير طبائع الناس وظروف حياتهم عدل عن بعض آرائه الفقهية التى أفتى بها فى العراق إلى رؤية تتناسب والبيئة الجديدة التى وفد إليها ، فعرفت آراؤه الفقهية التى أفتى بها وبنى عليها أسس مذهبه فى العراق بالمذهب القديم ، وعرفت آراؤه الفقهية التى أفتى بها فى مصر واستكمل بها أصول مذهبه بالمذهب الجديد .
فماذا لو عاش الشافعى (رحمه الله) إلى يومنا هذا ورأى ما نرى من تغير الزمان والمكان والطبائع مع مستجدات العصر ومستحدثاته وتغير موازين القوى فيه ؟
ونؤكد أن هذا التجديد يعنى الخروج من دائرة الجمود وتقديس غير المقدس إلى آفاق أوسع وأرحب فى الفقه والثقافة والرؤى ، مع الحفاظ على ثوابت الدين وأصوله وقواعده الراسخة المستقرة فى وجدان الأمة مما تواتر عند أهل العلم والاختصاص وتلقته الأمة عبر تاريخها الطويل بالارتياح والقبول فصار معلومًا أو أشبه بالمعلوم من الدين بالضرورة مع توافر أدلته الشرعية الصحيحة الثابتة المعتمدة عند أهل العلم والاختصاص وصار الاعتداء عليه أو النيل منه اعتداء على عقيدة الأمة وتاريخها وحضارتها وكيانها المستقر مما يشكل خطرًا على تماسك بنيتها ونسيجها المجتمعي ، كتلك الدعوات المغرضة الآثمة الداعية إلى خلع الحجاب تارة ، وإلى اعتبار ممارسة الجنس قبل الزواج بدون ضابط شرعى ولا قانونى حرية شخصية مما يعد شذوذا فى الفكر والثقافة والطرح والتناول وخروجا على قيم المجتمع وأخلاقه وعاداته وتقاليده ، حتى وإن اختلف معتقدهم أو تنوعت مشاربهم العلمية والثقافية والفكرية والأيدولوجية ، لأن الشذوذ الإنسانى ترفضه الفطرة السوية ، ” فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ” (الروم: 30) .
وكأنموذج راق للتجديد فى الفكر والرؤية والطرح والتناول ومراعاة ظروف العصر وطبيعته ومستجداته، أطرح أنموذجًا هادئًا هادفًا بلا صخب أو ضجيج ، حيث التقيت أثناء سفرى إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة لحضور منتدى تعزيز السلم فى المجتمعات المسلمة بالأستاذ الدكتور/ محمد إبراهيم الحفناوى أستاذ الفقه بجامعة الأزهر الشريف وتناقشنا نقاشًا علميًا موسعًا حول بعض القضايا العصرية والمستجدات المتعلقة بقضية الحج ، ثم أهدانى فضيلته نسخة من كتابه ( زاد المسافر إلى الحج والعمرة ) ودفع إليّ معه ببعض قصاصات ورقية موثقة لما تناقشنا فيه حول قضية من أهم قضايا الحج التي يكثر الجدل فيها سنويا ، وهي قضية ترك المبيت بالمزدلفة والنزول إلى مكة لطواف الإفاضة ، فقد ذكر الدكتور الحفناوى نقلا عن هداية السالك إلى المذاهب الأربعة فى المناسك للإمام العلامة عز الدين بن جماعة المتوفى سنة 767 ه 1051 م ما يلى ” لو أفاض من عرفات إلى مكة وطاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر ففاته المبيت بمزدلفة لسبب الطواف لا شئ عليه كما قال الشافعية لأنه اشتغل بركن ” ، ثم يقول ابن جماعة فى كتابه هداية السالك ” ومن مر بمزدلفة ولم ينزل بها فعليه دم وإن نزل بها ثم دفع منها فى أول الليل أو فى وسطه أو فى آخره وترك الوقوف مع الإمام أجزأه ولا دم عليه ” .
ونقل الدكتور الحفناوى قول المالكية ” زمان الوقوف فى أى جزء من أجزاء الليل بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين وتناول شئ من الأكل والشرب ” فماذا لو عاش ابن جماعة ومن قال من المالكية بالرأي المذكور إلى زماننا هذا ورأوا ما نرى من الزحام والمشقة والتعب والنصب وقصور الهمم ، وعليه قال الشيخ الحفناوى إن المبيت بمزدلفة لا يوجد إجماع على أنه واجب ، حيث قال بعض الفقهاء إنه سنة ، وعليه من ترك المبيت بمزدلفة فلا شيء عليه ولا سيما إذا كان ذلك لمرض أو ضعف أو كبر سن .
ولايعنى ذلك على الإطلاق أننا أو أن أحدا من هؤلاء الفقهاء يدعو إلى ترك المبيت بمزدلفة ،غير أننا لا نريد أن نشق على الناس فى أمر عبادتهم ، والدين قام على دفع المشقة ورفع الحرج ، والأمر على السعة ، فمن قدر على المبيت بمزدلفة ثم انصرف بعد صلاة الصبح إلى المشعر الحرام ثم انطلق قبل طلوع الشمس إلى منى فقد أصاب السنة على وجهها الأكمل متى قوي على ذلك وتيسر له ، ومن أخذ برأي القائلين بأن الوجوب يتحقق بالبقاء فى المزدلفة على قدر صلاة العشاءين وتناول شيء من الطعام والشراب فلا حرج عليه ، وهو قول يتفق مع روح الشريعة المبنية على اليسر خاصة مع الأعداد الغفيرة للحجاج فى هذا العصر ، إذ لو لم يفت بهذا لشققنا على الناس كثيرًا ، لكن إن قلنا بجواز ارتحال الناس أفواجا من أول الليل إلى آخره يتبع بعضهم بعضًا فسنسهم فى رفع الحرج عنهم ونكون قد طبقنا قوله تعالى : ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ” ، وقوله تعالى : ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”.
وبالكتاب وفيما تناقشنا فيه نماذج أخرى لهذا الفكر المستنير مما قد يتسع له حديث آخر أو موقف آخر يتسع لتفصيلات علمية لا مجال لها فى مثل هذا المقال الذى أردنا أن نضرب من خلاله أنموذجًا تطبيقيًا يؤكد أن العقلية الأزهرية قادرة على استيعاب المستجدات وحمل لواء التجديد لا احتكاره .