بين التراث والحداثة
إن قضية الثقافة والعلوم والفنون قضية تراكمية أشبه ما تكون بحال الإنسان والنبات، وكما لا يستطيع الإنسان أن ينكر مراحل طفولته، وأنها إحدى أهم مراحل حياته التى ينعكس أثرها على كل ما يليها من مراحل الحياة، فإن أحدًا لا يستطيع أن يُنكر أثر الجذور والمنطلقات المؤسِّسة لكل علمٍ، ولا سيما فى مجال العلوم والفنون والآداب.
والعلاقة بين التراث والمعاصرة فى مختلف جوانبهما – شأن كثير من المتقابلات – ليست علاقة عداء أو قطيعة، ولن تكون، ولا ينبغى أن تكون، وإن الوسطية التى نحملها منهجًا ثابتًا فى كل مناحي حياتنا، ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها، إنما هى منهج ثابت ننطلق منه فى كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية .
فنحن لا نتعصب للقديم لمجرد قدمه، ولا نسلم زمام عقلنا للتقليد الأعمى دون أن نمعن النظر فيما يُنقل إلينا أو يُلقى علينا، ولا يمكن أيضًا أن ننسلخ من هذا التراث العريق أو نقف منه موقف القطيعة، ونعمل فى الهواء الطلق، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، بل علينا أن نأخذ من الماضي العريق النافع والمفيد الذى ننطلق به في الحاضر ونؤسس به للمستقبل .
وكما أننا لا يمكن أن نرفض القديم لقدمه، لا يمكن أيضًا أن نرفض الحديث لحداثته، أو لكونه ثقافة الآخر أو المختلفِ، أو كونه ثقافة وافدة على ثقافتنا، أو أن ندعو إلى الانكفاء على الذات والتمحور أو التقوقع حولها، فهذا عين الجمود والتحجر الذى نواجهه بكل قوة وحسم، فثقافة أخرى تعنى عقلًا آخر، وإضافةً جديدةً، ومادة جديرة بالاعتبار والتأمل والنظر، بل إننى لأدعو إلى إعمال الفكر وإمعان النظر فى كل ما هو عصري أو حديث أو جديد، فنأخذ منه النافع والمثمر والمفيد، وما يشكل إضافةً حقيقيةً لثقافتنا، ويتناسب مع قيمنا وأخلاقنا وحضارتنا، ونتجاوز ما لا يتسق مع هويتنا الثقافية وقيمنا الراسخة.
فنجمع بكل ما سبق بين محاسن كل من التراث والحداثة أو المعاصرة، ونطرح ما لا يتسق منهما مع ظروف عصرنا وبيئتنا وهويتنا الدينية والثقافية وواقعنا المعاصر .
على أننا نفرق بوضوح بين ما هو ثابت وما هو متغير، ونؤكد الآتى:
أولا: أن النص القرآني، وما صحت نسبته إلى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما ثبت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، كل ذلك من الثوابت الراسخة فى ديننا الحنيف.
ثانيا: أنه إذا كانت العقائد، والعبادات ــ فى جملتها ــ تدخلان فى نطاق الثابت، كونها علاقة تتصل بخاصة العبد فيما بينه وبين الله (عز وجل)، فإن الشريعة الإسلامية ومرونتها قد فتحت أبواب المرونة والسعة واسعة أمام معالجة المتغيرات فيما يتصل بمعاملات الناس بعضهم مع بعض بيعًا وشراءً، وإقامة مجتمع، ونظام حكم، بما يحقق المصلحة الشرعية المعتبرة، ولا يتجاوز الثوابت، شريطة أن يقوم بعملية الاجتهاد والتجديد أهل النظر من العلماء المتخصصين المستنيرين غير المنعزلين عن واقعهم.
ثالثا: لقد اعتد العلماء بالعادة والعُرف إلى حد كبير فى معالجة المتغيرات والمستجدات، يقول الإمام القرافي (رحمه الله): إن إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ فى الدّين، ويقول ابن القيم (رحمه الله): «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِى الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ».