فقه الدعوة (2)
التفقه فى دين الله (عز وجل) وحسن فهمه منة ونعمة عظيمة، حيث يقولُ نبينا(صلى الله عليه وسلم): «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فى الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسِمٌ واللَّهُ يُعْطِي، ولَنْ تَزالَ هذِه الأُمَّةُ قائِمَةً علَى أمْرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خالَفَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ»، (صحيح البخارى).
والدعوة إلى الله (عز وجل) تتطلب الحكمة البالغة، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى:» ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِي أَحْسَنُ» (النحل: 125).
على أن هذه الحكمة والموعظة الحسنة تجعل موقف الداعي ممن يراه عاصيًا بمنزلة الطبيب وليس بمنزلة القاضي، ولا الجلاد، فدور العلماء هو البيان وليس الهداية ولا الحساب ولا المعاقبة، فالعقاب الدنيوي سبيله القانون ، والعقاب الأخروي أمره إلى الله (عز وجل)، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم):«كانَ رجلانِ فى بنى إسرائيلَ مُتواخيينِ فكانَ أحدُهما يذنِبُ والآخَرُ مجتهدٌ فى العبادةِ فكانَ لا يزالُ المُجتهدُ يرى الآخرَ على الذَّنبِ فيقولُ : أقصِر فوجدَهُ يومًا على ذنبٍ فقالَ لهُ: أقصِر فقالَ : خلِّنى وربِّى أبعثتَ عليَّ رقيبًا فقالَ: واللَّهِ لا يغفرُ اللَّهُ لكَ أو لا يدخلُكَ اللَّهُ الجنَّةَ فقبضَ أرواحَهما فاجتمعا عندَ ربِّ العالمينَ فقالَ لهذا المُجتهدِ: أكنتَ بى عالِمًا أو كنتَ على ما فى يدى قادِرًا، وقالَ للمذنبِ : اذهب فادخلِ الجنَّةَ برحمتى وقالَ للآخرِ: اذهبوا بهِ إلى النَّارِ قالَ أبو هريرةَ والَّذى نفسى بيدِهِ لَتكلَّمَ بكلمةٍ أوبَقت دنياهُ آخرتَهُ « (سنن أبى داود) .
والدعوة تحتاج إلى بصر وبصيرة، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان نبينا محمد(صلى الله عليه وسلم): «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف:108) .
والبصيرة فى الدعوة تتطلب الرفق بالمدعو كما علمنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) فى دعوته التطبيقية، فعن معاوية بن الحكم السلمى قال : بيْنَا أنَا أُصَلِّى مع رَسولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ) ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِى القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّى سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَ اللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ « (صحيح مسلم) .
غير أن هناك أناسًا لا علم لهم ولا فقه، ولا هُمْ من المجتهدين ولا حتى من أهل الاختصاص أو دارسي العلوم الشرعية من مظانها المعتبرة نصبوا أنفسهم قضاة أو جلادين فأسرعوا فى رمى المجتمــع بالتبديع، ثم التجهيل، فالتكفير، حتى وصــل الأمر بغلاتهم إلى التفجير واستباحة الدماء ؛ مما يتطلب حركة سريعة وقوية وغير هيّابة لمواجهة الجمود والفكر المتطرف معًا، حتى نخلِّص المجتمع والإنسانية من خطر التطرف الفكرى وما يتبعه من الإرهاب، وسفك الدماء، وترويع الآمنين، وهدم الأوطان، وتخريب العامر، فالله (عز وجل) لا يحب الفساد ولا المفسدين، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» (205) ، ويقول سبحانه:« إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (القصص:77)، فديننا دين البناء والتعمير، ودعوتنا يجب أن تكون كذلك، وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.