مـا وراء «القِبـلـة»
«القِبلة» تعنى الجهة والمقصد الذى يتجه الناس إليه. وفى الاصطلاح هى الجهة التى يتجهون إليها فى صلاتهم، وقد كانت فى بداية فرض الصلاة تجاه بيت المقدس، حيث صلى نبينا (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه تجاه بيت المقدس نحو ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يدعو ويتمنى أن تكون وجهته فى الصلاة إلى بيت الله الحرام.
يقول الحق سبحانه مخاطبًا نبينا (صلى الله عليه وسلم): «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (البقرة: 144).
فلما جاء الإذن الإلهى بذلك كانت الاستجابة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قدر إيمانهم بالله ورسوله، فلما جاءهم الخبر وهم فى مسجد القبلتين فى صلاة العصر تحولوا فى الصلاة ذاتها تجاه قبلتهم الجديدة «بيت الله الحرام»، ولم ينتظروا أن يكملوا صلاتهم تجاه «بيت المقدس»، امتثالا للأمر الإلهى حيث أتي، ولإدراكهم معنى قوله تعالى :«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة : 177).
فالعِلة فى الاستجابة للأمر هى الامتثال له، تعالي، متى أمرنا، وحيث أمرنا، وكيف أمرنا، وليس فى ذات الشرق أو الغرب.. إذ يُقال للإنسان حدد وجهتك أى نيتك وقصدك.
يقول نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم): «فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ» (صحيح البخارى) .
فالقبلة الحقيقية حيث تتوجه بحركاتك وسكناتك إلى الحق سبحانه وتعالي: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».(الأنعام : 162 ، 163).
وكان من دعاء نبينا (صلى الله عليه وسلم) فى مفتتح صلاته (صلى الله عليه وسلم): «وَجَّهْتُ وَجْهى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وَما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِي، وَمَحْيَاى وَمَمَاتى لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وَبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ». (صحيح مسلم) .
فوراء الوجهة الحِسية ــ التى نحن مأمورون بها ــ هناك وجهة أخرى هى الوجهة المعنوية التى تتمثل فى حسن القصد وحسن التوجه إلى الله (عز وجل)، وهى ميزان الاستقامة الحقيقي، وهى الاستشعار الحقيقى لمعنى الخشية، وهى التحقيق العملى لقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ». (العنكبوت: 45).
فمن أدرك حقيقة الوقوف بين يدى الله (عز وجل) وحسن التوجه إليه خمس مرات فى كل يوم وليلة لا يمكن أن يكون كذابا ولا غشاشا ولا مخلفًا للوعد ولا خائنًا، فغاية العبادات ــ مع تحقيق مراد الله (عز وجل) منها، والاستجابة لأمره بها ــ ضبط سلوك وأخلاق وقيم صاحبها، فديننا دين المعاملة ومكارم الأخلاق، إذ يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ».