:مقالات

الاجتهاد والتجديد (2)

الاجتهاد والتجديد (2)

الاجتهاد ضرورة العصر، فقد عانينا فى مجتمعاتنا المسلمة وعانى العالم كله الفتاوى الشاذة والمؤدلجة على حد السواء، كما عانينا افتئات غير المؤهلين وغير المتخصصين وتجرؤهم على الإفتاء والذهاب إلى أقصى الطرف تشددًا وتطرفًا يمينيًّا، أو انحرافًا وتطرفًا يساريًّا ، فإذا أضيف إلى هؤلاء وأولئك مهاويس الشهرة وحب الظهور من اللاهثين خلف كل شاذ أو غريب من الآراء، محاولة منهم لجذب الأنظار ولفت الانتباه، تأكد لدينا أننا فى حاجة إلى إرساء وترسيخ قواعد الاجتهاد وضوابطه، وهو ما دفعنا إلى تحديد «الاجتهاد ضرورة العصر»  ليكون موضوع مؤتمرنا الدولي القادم للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بحيث يتناول ضوابط الاجتهاد، وقواعده، وأصوله، وصوره، وأنماطه، ومدى الحاجة إليه، وبخاصة الاجتهاد الجماعي فى القضايا التي لا يمكن البناء فيها على الأقوال الفردية، والتى تتطلب الفتوى فيها خبرات متعددة ومتكاملة، ولا سيما فى القضايا الاقتصادية والطبية والبيطرية وشئون الهندسة الزراعية وغير ذلك من مفردات حياتنا ومستجدات عصرنا.

ومما لا شك فيه أن الإقدام على التجديد فى القضايا الفقهية، والنظر فى المستجدات العصرية، وفى بعض القضايا القابلة للاجتهاد ، يحتاج إلى رؤية ودراية وفهم عميق وشجاعة وجرأة محسوبة ، وحسن تقدير للأمور في آن واحد.

كما أنه يحتاج من صاحبه إلى إخلاص النيّة لله (عز وجل) بما يعينه على حسن الفهم وعلى تحمل النقد والسهام اللاذعة، ممن أغلقوا باب الاجتهاد ، وأقسموا جهد أيمانهم أن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد ، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه ، متناسين أو متجاهلين أن الله

(عز وجل ) لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم، أو زمانًا دون زمان، وأن الخير فى أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة .

وأؤكد أن تسارع وتيرة الحياة العصرية الراهنة فى شتى المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية، وكثرة تشابكاتها وتعقيداتها وتداخل مخرجاتها، تقتضى وتحتم على العلماء المتخصصين والفقهاء المجتهدين إعادة النظر فى مستجدات عصرنا، والتعامل معها بأدوات هذا العصر، وليس بأدوات غيره، مع الحفاظ على ثوابت الشرع الشريف، وذلك فى إطار ما قرره العلماء والفقهاء والأصوليون من أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، وأن ما كان راجحًا فى عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر قد يكون مرجوحًا فى عصر آخر إذا تغير وجه المصلحة فيه، وأن المفتي به في عصر معين ، وفى بيئة معينة، وفى ظل ظروف معينة، قد يصبح غيره أولى منه فى الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة، أو تغيّرت الظروف، ما دام ذلك كله فى ضوء الدليل الشرعي المعتبر، والمقاصد العامة للشريعة .

كما أننا نؤمن بالرأي والرأي الآخر، وبإمكانية تعدد الصواب فى بعض القضايا الخلافيّة، فى ضوء تعدد ظروف الفتوى وملابساتها ومقدماتها، وإذا كان بعض سلفنا الصالح قد قال : رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب، فإننا نذهب أبعد من ذلك فنقول: إن كلا الرأيين قد يكونان على صواب، غير أن أحدهما راجح والآخر مرجوح، فنأخذ بما نراه راجحًا مع عدم تخطئتنا لما نراه مرجوحًا، ما دام صاحبه أهلا للاجتهاد ، ولرأيه حظ من النظر والدليل الشرعي المعتبر ، فالأقوال الراجحة ليست معصومة، والأقوال المرجوحة ليست مهدرة ولا مهدومة.

اظهر المزيد

منشور حديثّا

شاهد أيضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى