نُشر بصحيفة الأهرام بتاريخ 27 / 2 / 2015م
لاشك أن ثقافة المؤتمرات تعد أحد أهم مكونات الثقافة والتلاقي الفكري والعلمي والثقافي ، وأحد أهم الطرق نحو فكر عربي وإسلامي وإنساني مشترك , وأحد أهم روافد البحث العلمي , حيث يعمد المشاركون إلى بذل أقصى الجهد في تقديم نتاج علمي وفكري وثقافي متميز يرقى إلى مستوى الحدث والمشاركين والرعاة والجهات المنظمة , حيث تتحول هوامش المؤتمرات إلى صالونات ثقافية غزيرة الفكر , وتعد أحد أهم قنوات التواصل بين الأمم والشعوب , وأحد أهم سبل التقريب بين المذاهب والمؤسسات والهيئات الفكرية والعلمية والثقافية وحتى السياسية .
كما أنها تعد أحد أهم روافد السياحة العلمية والثقافية , وتغطي جانبًا كبيرًا مما فقدناه من أدب الرحلات , والوقوف على تجارب الأمم والشعوب المختلفة , ووسيلة للتعارف المشروع الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “.
كما أن هذه المؤتمرات تعمل على النقل التبادلي لخبرات الأمم والشعوب , والوقوف على التجارب الناجحة والجهود الدولية المبذولة في سائر المجالات لنتكامل معًا , أو لنبدأ من حيث انتهى الآخرون , بدل أن نبدأ من نقطة الصفر أو نعمل في الهواء الطلق على غير هدى , ففرق كبير بين السمع والمشاهدة , بين الرؤية والخبر , وكم أفدتُ من تجارب حياتية من جميع المؤتمرات التي شاركتُ فيها داخل الوطن أو خارجه , وأذكر من أهمها : ما تكوّن لديّ من تصور عن بعض أسرار تقدم الغرب أثناء حضوري لمؤتمر الحج إلى مكة الذي عُقد بمعهد العالم العربي بباريس , فقد كنت حريصًا على التقاط النافع والمفيد , وما يمكن أن نفيد منه في تطوير أنفسنا ونهضة ورقي أوطاننا , ومن ذلك :
1- تقديس العمل وقيمته ، فكل ما دعا إليه الإسلام من تقديس العمل والحث عليه تراه واقعًا ملموسًا في حياة الأمم الراقية والمتقدمة ، ولا مجال للمحاباة أو المجاملة في مجال العمل .
لكننا للأسف الشديد تجاهلنا قيمنا الإسلامية ، وأصبح متوسط إنتاج الفرد لدينا لا يقاس ولا يقارن بالمستويات العالمية ، وصدق الشيخ الإمام محمد عبده حين قال: ذهبت إلى أوربا فرأيت إسلامًا بلا مسلمين ، وجئت إلى بلادنا فرأيت مسلمين بلا إسلام.
2- تقديس قيمة الوقت ، لقد أعلى الإسلام من شأن الوقت وقيمته ومع ذلك لا نقدر للوقت قدره ولا نعرف له قيمته ، ولا نلتزم بدقة المواعيد التي أُمرنا بالالتزام بها ، ونتسامح في الفسحة فيها بلا حدود ، بل إن بعضنا لا يكاد يكترث بالمواعيد التي يحددها ولو راجعته أو ناقشته لضاق بك ذرعًا .
غير أن كل المعاني الراقية السامية التي أمرنا الإسلام أن نلتزم بها تراها واقعًا ملموسًا مطبقًا بمنتهى الدقة والحرفية لدى أكثر الغربيين ، كما أن تقديرهم للوقت الذي يحتاجونه لإنجاز أعمالهم صار مدروسًا ومحددًا بمنتهى الدقة والحرفية والمهنية التي تثير الدهشة والإعجاب لنا ، غير أن الذي يثير الدهشة لديهم هو ألا تكون كذلك ، فقد صار هذا الالتزام طبعًا فيهم .
3- احترام الآخر وثقافته وخصوصيته أيًّا كانت هذه الثقافة وتلك الخصوصية ، وتشعر أن هناك امتلاءً فكريًا وثقافيًا يحول بين الإنسان وبين الفضول أو التلصص على الآخرين أو محاولة اختراق خصوصياتهم أو الخوض في تفاصيل حياتهم أو حتى عموميتها ، وهذا هو منهجنا الإسلامي الذي غفلنا عنه ، ألم يقل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ” ، وقديمًا قالوا : من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه .
4-التخطيط والنظام واحترام سيادة القانون ، وهذه معانٍ لا غنى عنها لأي أمة تبحث عن سبل التقدم والرقي ، فالعدالة التي لا تعرف التفرقة بين الغني والفقير بين الناس جميعًا على اختلاف طبقاتهم السياسية والاجتماعية والوظيفية هي الضمانة الأولى لاستقرار المجتمعات ، فكما قال أحد السف : إن الله عزّ وجلّ ينصر الأمة العادلة ولو كانت كافرة ، ولا ينصر الأمة الظالمة ولو كانت مؤمنة .
كما أن التخطيط والنظام أمران لا بديل عنهما ، ويقولون : الحكيم قد يخطط في عام ، وينفذ في يوم أو أسبوع تنفيذًا دقيقًا محكمًا ، والأحمق لا يفكر ولا يخطط ، ويتخبط في التنفيذ طوال حياته .
وإنني لأؤمّل أن يكون مؤتمرنا الذي ينعقد غدًا السبت 28 / 2 / 2015م علامة مضيئة سواء بالفكر المستنير للمشاركين فيه من السادة الوزراء والعلماء والمفتين والمفكرين الذين يمثلون اتجاهات ومشارب عديدة , غير أنها تدور في رحاب الوسطية والاعتدال والفهم الثاقب لصحيح الإسلام , وهو ما أنتج مجلدين من البحوث الجادة , نرجو أن تكون خطوة جادة على طريق تجديد الفكر الديني , والتشكيل والبناء الفكري للشخصية العربية والإسلامية , وتكوين رؤية فكرية عربية وإسلامية قوية صلبة تصبح رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه في المحافل العلمية والثقافية والفكرية العالمية والإنسانية والحقوقية .