لاشك أن كل مسلم غيور لدينه يريد أن يرى الأزهر قمة سامقة شامخة وراية خفاقة في سماء العالم كله, ذلك أن الأزهر هو صمام الأمان للفكر الإنساني المستنير المستقيم, أو هكذا ينبغي أن يكون على أقل تقدير.
لقد مر على مصر أزمان طويلة كان الأزهر فيها أحد أهم مفاتيح علاقاتها الخارجية, وبخاصة في آسيا وأفريقيا وكثير من دول العالم, فحيث ذكرت مصر ذكر الأزهر, وحيث ذكر الأزهر ذكرت مصر, فهما متلازمان شكلا ومضمونًا, اسما وسماحة, وحضارة وتاريخًا, فهو أحد أهم معالمها الفكرية والتاريخية, فلا أظن أن زائرًا في العالم قصد زيارة مصر دون أن يخطر بباله بصورة أو بأخرى أزهرها الشريف .
وهذا ما عبر عنه شاعر العربية الكبير أحمد شوقي, حيث يقول :
قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا |
وَانثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا |
وَاذكُــرهُ بَعدَ المَسجِدَينِ مُعَظِّمًا |
لِمَسـاجِــــدِ اللهِ الثَلاثَــــةِ مُكبِــرا |
وَاِخشَع مَلِيّاً وَاِقضِ حَــقَّ أَئِمَّـــةٍ |
طَلَعوا بِهِ زُهــراً وَماجـــوا أَبحُــرا |
لِمَساجِــدِ اللهِ الثَلاثَــــةِ مُكبِــــرا |
لِمَســــاجِدِ اللهِ الثَلاثَــــةِ مُكبِـــرا |
كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَــــةً |
وَأَعَــزَّ سُلطانًــا وَأَفخَــــمَ مَظهَـــرا |
زَمَنُ المَخاوِفِ كانَ فيهِ جَنابُهُمْ |
حَـــرَمَ الأَمانِ وَكانَ ظِلُّهُمُ الذَرا |
ويقول هاشم الرفاعي :
كانوا لمن ظُلموا حصون عدالةٍ |
كـانوا الشكيم لمن طغى وتجبَّرا |
ما قامروا بالدين في سبل الهوى |
كـــلا ولا تَخِذوا الشريعة متجـــرا |
عاشوا أئمــــة دينهــــم وحماتـــه |
لا يسمحـــون بأن يباع ويشتـرى |
ثم انطوت تلك الشموس وإنهـــا |
لأشد إيمانًــــا وأطهــــر مئـــــزرا |
تلك أيامه الشامخة الزاهرة ودياره العامرة على مر ما يزيد على ألف عام, لم يتغير خلالها ، ولم يَخُن عهدًا ولم يخذل أمة, ثم تغيرت الظروف وتغير الزمان وتغيرت الأحوال وجدد العالم نفسه تجديدًا متسارعًا كان مطلوبا من الأزهر فيه أن يكون على العهد في الإبداع والتجديد المستمر والقراءة العصرية الواعية لما كتب من حواشٍ وشروح في ظروف ناسبت عصرها وزمانها ومكانها وبيئتها, وأصبح عصرنا الحاضر يحتاج إعادة إنتاج وإخراج لهذا التراث الفكري الإنساني شكلا ومضمونا فيما يحتاج إلى إعادة النظر مع الحفاظ على الثوابت والنصوص المقدسة من كتاب الله (عز وجل) وصحيح سنة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وعدم إهدار ثروتنا المعرفية التراثية الهائلة, إنما النظر فيها تنقيحًا واختيارًا في ضوء ما يترتب عليه عمل لا ما يترتب عليه جدل, وما يتواءم ويتناسب مع المستجدات والقضايا العصرية في إطار إعمال العقل الذي أمرنا الله تعالى بإعماله مع رحابة صدر وسعة أفق تتسع للحوار الحضاري الهادف ولا تعمد إلى أي رفض مسبق للآخر والمختلف, أو الصد حتى عن سماعه فضلا عن مناقشته ومحاولة قبول النافع والمفيد منه والرد على ما يخالف الثوابت والعقل والمنطق بالحكمة والموعظة الحسنة, ومقارنة الحجة بالحجة والفكر بالفكر .
إن المصريين جميعًا ومعهم السواد الأسود الأعظم من العرب والمسلمين يتمنون أن يعود الأزهر إلى أيام مجده الشامخة, وهو عائد بإذن الله تعالى, ذلك أن الأزهر يسبق المصريين والعرب والمسلمين حيث سافروا وحيث حلوا بسماحته وحمله لواء حضارة الإسلام السمحة وقدرته على استيعاب الآخر, وتأصيله وترسيخه لفقه التعايش السلمي بين البشر جميعًا .
ولا شك أنه على الرغم من تباين وجهات النظر تجاه ما يحاول الأزهر القيام به من تجديد وإعادة بناء بما يراه البعض خطوات معقولة في اتجاه التجديد ويراه آخرون خطوات بطيئة لا تناسب الآمال المعلقة على الأزهر, فإن أكثر المنصفين يرون أن الأزهر الشريف مهما كان من شأنه فهو أنموذج فريد متفرد إذا ما قيس أمره بأمر المؤسسات الإسلامية في أكثر دول العالم الإسلامي ، وقد حدثني الأخ الزميل معالي الوزير / جابر عصفور حديثًا أخويًا على هامش اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد يوم الخميس 15 / 1 / 2015م أن الأزهر الشريف فيما نتفق فيه معه أو نختلف يظل أنموذجًا للسماحة والوسطية ، وبخاصة إذا ما قيس بما رأى وشاهد في بلدان إسلامية أخرى , وهو نقرره ونؤكده من الأزهر على الرغم من إيماننا بحاجته إلى بذل الجهد في التجديد والتطوير وتنقيح التراث وإعادة قراءته وتيسيره وإخراجه في صورة عصرية فكرًا ولغة وصياغة وطباعة فإنه يظل أبرز أنموذج للإسلام الوسطي السمح في العالم كله, وأنه يملك من الأدوات ما يؤهله لأن يسترد كامل مقوماته العلمية والفكرية التاريخية , وأن يعود أكثر وأفضل مما كان في أزهى عصوره التاريخية وبخاصة في ظل قيادة رئيس يمتلك رؤية دينية وعصرية واضحة سواء لضرورة تجديد الفكر الإسلامي أم لإعلاء شأن الأزهر وترسيخ مكانته وإعطائه ما يستحق أن يكون عليه من المكان والمكانة ليس في مصر وحدها وإنما في العالم كله, ثم في ظل قيادة إمام عالم مفكر مستنير هو الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف, فرئيسنا لديه الأمل في أن يكون الأزهر كسابق عهده أحد أهم مفاتيح سياستنا الخارجية, وأن يكون منارة للفكر الإسلامي الصحيح, وأن يؤدي الدور المنوط به والمنتظر منه في أن يحمل لواء السماحة والوسطية للعالم كله, وأن يصلح ما فسد على يد الجماعات المتشددة والتنظيمات الإرهابية الغاشمة من تشويه لصورة الإسلام والمسلمين .
وإني شخصيًا لأقدر للسيد الرئيس / عبد الفتاح السيسي تقديره لمؤسسة الأزهر وحرصه الشديد على تبوئه المكانة التي يستحقها في الداخل والخارج, وأن يأتي إصلاح الأزهر وتطويره من داخله على يد إمامه الأكبر وعلمائه الأجلاء, وأؤمل في ظل القيادة الحكيمة الهادئة العاقلة لشيخنا وإمامنا أ.د / أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أن أكون أنا وزملائي عند حسن ظن السيد الرئيس, وظن الإمام الأكبر بنا وأمل المجتمع المصري والأمة العربية والعالم الإسلامي وعقلاء العالم وحكمائه فينا, على أن ذلك يتطلب منا جميعًا صدق النية مع الله, ومد جسور التواصل مع المجتمع, ومسارعة الخطى, لأن تراكمات الزمن كبيرة, وسبق العالم لنا كان كبيرًا, وحجم المآسي والمشكلات في العالم الإسلامي لا تتحمل إضاعة أي جزء من الوقت أو تأخر في اتخاذ أي خطوة إلى الأمام .
إن إصلاح ما اعوج وما فسد وما حدث من تسميم لأفكار كثير من الشباب, وما يحدث في خريطة العالم الإسلامي من قتل وسفك للدماء وترويع للآمنين, وما نراه من موجات تكفير وتفجير, وميل إلى البطالة والكسل على عكس ما يأمرنا به الإسلام من العمل والإتقان, وما نراه من فاسد الأخلاق على عكس ما يأمرنا به الإسلام من التحلي بكريمها من الصدق الأمانة والوفاء بالعهد وأداء الحقوق والواجبات, والتحلي بالعفة في النظرة والكلمة, والحياء من الله ومن الناس, كل ذلك يجعل الأمانة جد ثقيلة، والمسئولية جد عظيمة, ومع إيماننا بأن الدعوة كالطفل أو كالنبات تنمو نموًا بطيئًا غير ملحوظ حتى تؤتى ثمرتها في الوقت المناسب والمرتقب, فإن المهم أن نبدأ وبأقصى طاقة, وألا نتأخر أو أن ندخر جهدًا أو وسعًا, حسبة لله, ووفاء بحق الدين والوطن, وما ذلك على الله بعزيز ولا مستبعد .