لقد تتابعت علينا وتتابع أحداث جد مؤسفة ، من حادث سيدني بأستراليا ، إلى حادث مدرسة أبناء الجنود العسكريين بباكستان ، إلى الهجوم الإرهابي الداعشي على مقر المجلة الفرنسية ، إلى ذبح داعش لأحد قادتها المدخنين ، إلى الاعتداء المتكرر على أبناء الجيش والشرطة الساهرين على أمن الوطن واستقراره ، المدافعين عن الدين والوطن والأرض والعرض وحمى الأمة كلها ، ممن وقعوا ضحايا الفكر الظلامي أيا كان مصدره ودين من يقوم به ، ومع أننا أكدنا مرارًا أن الإرهاب لا دين له ولا وطن له ، وأن محاولة ربط الإرهاب بالإسلام هي محاولة ظالمة وجائرة وغير منصفة على الإطلاق ، فإننا إنما نؤكد على موقف الإسلام الثابت الرافض لكل ألوان الإرهاب وسفك الدماء ، ونحاول أن نلقي الضوء على بعض الحلول التي يمكن أن تسهم في القضاء على الإرهاب الغاشم أو محاصرته والتضييق عليه مرحليا على أقل تقدير .
فنؤكد ابتداء أن الإسلام كان صريحا وواضحا في التأكيد على حرمة الدماء ، فقال الحق سبحانه : ” أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ” (المائدة : 32) ، وقال سبحانه : ” وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ” (البقرة : 204-205) ، وما شدد الإسلام على شيئ مثل تشديده على حرمة الدماء ، فلا يزال المرء في فسحة من دينه مالم يصيب دما حراما ، ويقول سبحانه ” وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ” (النساء : 93) ، ثم تكشف الآية التي تليها عن واقع كأنما تصور به واقعنا الذي نعيشه ، وكأنها أنزلت لأجله ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..” (النساء : 94) ، إذ تكشف الآية عن طبيعة من يتهمون غيرهم بالكفر ، لا لشيئ إلا ابتغاء تحقيق مصالح ومنافع دنيوية ، فيبدأون بتكفير خصومهم حتى يستحلوا قتلهم ودماءهم ، وعليه يعدون نساءهم سبايا وأموالهم غنائم ، وهو عين ما يفعله إرهابيو ذلك التنظيم الإرهابي المسمى ” داعش ” وأمثالهم ، حيث يكفرون من عاداهم ويعدونهم مرتدين يستبيحون دماءهم وأموالهم ويتخذون نساءهم سبايا يبيعونهن في سوق النخاسة والعبيد .
ولا شك أن هذا الفكر الظلامي قد نما وترعرع في بيئات متشددة غذته واحتضنته وربته اتخذت من تكفير المخالف منهجا ، حتى صار التكفير لها سمة بارزة ، وأهملت استخدام العقل ، فضلّ بها السبيل حين عطلته ، وأسلمت قيادة لأناس مأجورين أو عملاء أو خونة ، كما قال الشاعر العراقي محمد المهدي الجواهري :
ولقد رأى المستعمرون فرائسا |
منا وألفوا كلـب صيـــــد سائبـــا |
فتعهدوه فراح طوع بنانهــــــم |
يبـــــــرون أنيابـــــا له ومخالبــــا |
مستأجرين يخربون بيوتهـــــم |
ويكافأون على الخراب رواتبا |
وللقضاء على هذا الفكر الظلامي لا بد من أمور أهمها :
1- على مستوى التفكير واعمال العقل نؤكد على أهمية ثقافة التفكير في سائر جوانب الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والإدارية , والخروج من دائرة القوالب الجاهزة والأنماط الجامدة إلى رؤية تتسم بالفكر وإعمال العقل,وعلينا جميعًا أن نعمل على تحريك هذا الجمود من خلال العمل على نشر ثقافة التفكير من خلال الصالونات والمنتديات والحلقات النقاشية التي نعد صالون الأوقاف الثقافي واحدًا منها أو من بواكيرها وأهمها في المرحلة الراهنة .
فقد تبنى منهج الجمود والتكفير والتخوين والإخراج من الدين أناس لا علم لهم ولا فقه , ولا هم من المجتهدين ولا حتى من أهل الاختصاص أو دارسي العلوم الشرعية من مظانها المعتبرة إذ يسرفون في التكفير , غير مدركين لا فكرًا ولا شرعًا أن ما يحمل على الإيمان من وجه معتبر وعلى الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ينبغي أن نحمله على الإيمان لا على الكفر ما دام له وجه معتبر عند أهل العلم المعتبرين يدخل في الإيمان ويخرج من الكفر , وأنه لايخرج الإنسان من الإسلام إلا جحد ما أدخله فيه وهو النطق بالشهادتين ، وفي مناظرة بين الإمامين الجليلين الشافعي وأحمد حدثت مناظرة في شأن تارك الصلاة يكفر أو لايكفر , فقال الإمام أحمد: يكفر , وقال الشافعي : لا يكفر , وبعد طول نقاش قال الشافعي لأحمد : الكافر إذا أراد أن يسلم فماذا يصنع ؟ قال أحمد : يأتي بالشهادتين، فقال الشافعي : الرجل ملازم لهذا القول لم يفارقه منذ ولدته أمه , ويقول نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) : ” من قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا ارتد عليه ” (صحيح مسلم ) , فلنحذر من الإسراع في التكفير أو الوقوع فيه دون علم أو بينة وحجة قاطعة يحكم بها القاضي لا عامة الناس ولا آحادهم .
2- على المستوى الوطني ، لا بد من تضافر جهود سائر مؤسسات الدولة الدينية من الأزهر ، والأوقاف، ودار الإفتاء ، والكنيسة ، والمؤسسات الثقافية ، والشبابية ، والتعليمية ، والاجتماعية ، والحزبية ، والمدنية، كل في مجاله وميدانه ، مع العمل الجاد الدءوب للقضاء على البطالة والفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية ، واحتضان الشباب ، والأخذ بأيديهم إلى طريق الرشاد ، لأن النفس التي لا نشغلها بالحق تشغلنا بالباطل ، ومن لم يشغل بالنافع شغل بما يضر ، وقد تلقيتُ أمس دعوة أسعدتني من رئيس المجلس القومي للمرأة حول مؤتمر ” هي والإرهاب ” ، وتخصيص محور هام حول : ” تضافر جهود المجتمع لمواجهة الإرهاب ” ، مما يؤكد أن هبة مجتمعية قادمة لمواجهة التيارات الظلامية .
3- على المستوى القومي والعالمي لا بد من تضافر الجهود ، وتكوين جبهة عربية وإسلامية وعالمية صلبة قوية صادقة تضم أحرار العالم الحقيقيين وحكماءه ومنصفيه لمواجهة هذا الفكر الغاشم قبل أن يأكل الأخضر واليابس في هجمة عابرة للقارات متجاوزة للحدود لا تبقي ولا تذر .