في ظل ما ينتابنا من خوف على مياه النيل – وهي المصدر المائي الرئيس لنا في مصر- وفي ضوء المنهج الإسلامي السمح في الحفاظ على المياه وحرمة الإسراف فيها وخطورته انطلقت اليوم الجمعة 20 من صفر 1436ه ، 12 / 12 / 2014م _ برعاية كريمة من فضيلة الإمام الأكبر أ.د/أحمد الطيب شيخ الأزهر وإشراف معالي وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة عضو المكتب الفني لفضيلة شيخ الأزهر لشئون الدعوة_ قافلة دعوية مشتركة لعلماء الأزهر والأوقاف لأداء خطبة الجمعة بالمساجد الكبرى وسط التجمعات السكنية بمناطق المطرية وعين شمس الشرقية والغربية وغيرها من المناطق تحت عنوان: (نعمة الماء والحفاظ عليها) وهو الموضوع الموحد بجميع مساجد جمهورية مصر العربية اليوم، حيث أكد العلماء المشاركون في القافلة أن الماء نعمة كبرى، ومنة عظمى، عليه تقوم الحياة، وهو أساس الحضارة والرقي وعماد الاقتصاد، ومن أهم مصادر الرخاء وأصل النماء، وسبب البقاء، فالماء أغلى ما تمتلك الإنسانية، إنه الرزق النازل من السماء، يقول الله تعالى: {…وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فالمحافظة على المياه واجب شرعي ووطني وإلقاء القاذورات والمخلفات في النيل والترع ومجاري المياه إثم مبين، وأما الإسراف في استخدام المياه لغير حاجة ضرورية فدليل على انعدام التقوى ومراقبة الله تعالى.
فمن على منبر مسجد سيدنا “حمزة بن عبد المطلب” بشارع عزيز المصري بجسر السويس تحدث أ.د/ عبد الفتاح عبد الغني عميد كلية أصول الدين والدعوة بالقاهرة عن نعمة الماء ومكانتها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مبينا أن الله تعالى تارة يسمي النازل من السماء ماءً وتارة يسميه رزقًا ليعلم العباد أن هذا الماء النازل من السماء يحمل الخير والبركة والنماء والبهجة، فالأرض ميتة والماء حياتها، يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[النحل: 65]، والأرض هامدة يابسة مقحلة حتى إذا نزل عليها الماء تحركت بالنبات وصارت مبهجة، يقول الله تعالى: {…وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج: 5]، فالماء إذًا بهجة الحياة: {…وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[النمل: 60]، والماء اخضرار الأرض وجمالها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]، وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي ، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ».
كما بين أ.د/ عبد المنعم فؤاد عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين في خطبته بمسجد عيد بن معتق بشارع مصطفى حافظ جسر السويس أن الماء هو العنصر الأهم في حياة الأحياء، فالخلايا الإنسانية والحيوانية والنباتية تحتوي على كميات كبيرة من الماء ، وإن نقصان هذه الكمية إلى حدود حرجة يعني الجفاف والموت، فالماء يشكل 90% من وزن بعض الكائنات الحية، أما الإنسان فيشكل الماء حوالي 71% من وزنه، وهي تقريبًا نفس نسبة الماء في الكرة الأرضية، فسبحان من هذا خلقه ، إنه الماء جعله الله تعالى وسيلة لحسن الثواب في الدنيا فقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16]، كما جعله وسيلة عقاب على المكذبين والمذنبين فقال: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر: 11، 12]، بل جعله المولى جل وعلا من أعظم نعيم أهل الجنة فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى…} [محمد: 15]، ومما يدل على العناية الإلهية بالماء أنْ ذَكرَهُ الله تعالى في القرآن الكريم في مواضع كثيرة بلغت ثلاثة وستين موضعًا، فهل بعد هذا دليل على أهميته ووجوب الحفاظ عليه؟!.
ومن أعلى منبر مسجد التوحيد بشارع الزهراء عين شمس الشرقية أشار أ.د/ محمد عبد العاطي عباس عميد كلية الدراسات العربية والإسلامية للبنات بالمنصورة إلى أن الماء يساوي الحياة ولذا حث الإسلام على الحفاظ عليه وترشيد استهلاكه، ومن هنا حرص سلفنا الصالح على الماء حرصا شديدا، كما حرصوا على بقائه نقيًا طاهرا حتى يتمكنوا من شربه والتطهر به في صلاتهم وسائر عباداتهم التي تحتاج إلى طهارة، كما حرصوا على توفيره للجميع فلا يحرم منه أحد، بل إن الإسلام اعتبر الماء ثروة يمكن التصدق بها كالمال، وقد حث الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ذلك كما فعل في بئر رومة الذي كان تحت يد يهودي وكان يمنع المسلمين من مائه، فَعَنْ عُثْمَانَ (رضي الله عنه) قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ (رَضِيَ اللهُ)[صحيح البخاري].
وأكد أ.د/ محمد سالم أبو عاصي في خطبته بمسجد النور بالعباسية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شدد في النهي عن الإسراف في الماء واعتبره تعديًا وظلمًا، فهذا الصحابي الذي جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتعلم منه الوضوء فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: «هَذَا الْوُضُوءُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ ، أَوْ تَعَدَّى ، أَوْ ظَلَمَ»[سنن ابن ماجة]، فجعل الزيادة على قدر الحاجة تعديًا وظلمًا، وإساءة في استعمال النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، ويقول رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِى هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِى الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ ».
كما أوضح أ.د/ حمال فاروق الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف في خطبته بمسجد الحامدية الشاذلية أن كثيرا من الناس يخالفون هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يسرفون في استخدام الماء حتى في الوضوء أو الاغتسال مخالفة كبيرة، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بمُدّ، ويغتسل بصاع، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: “كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَغْسِلُ – أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ – بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ “، [والصاع أربعة أمداد والمُد ملء كفي الرجل المتوسط] وكَانَ عند جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رضي الله عنهما) قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ:”يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مَا يَكْفِينِي، فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا وَخَيْرٌ مِنْكَ”. وإنما كان هذا القدر القليل يكفي النبي (صلى الله عليه وسلم) لوضوئه أو اغتساله لشدة حرصه على الماء ، أما نحن فإن ذلك لا يكفي أحدنا لغسل يديه فقط، يا لنا من مسرفين !!! يجب علينا أن نقتدي برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحرص على هذه النعمة العظيمة فلا نضيع منها ما يصلح لاستخدامٍ – أيّ استخدام- فما لا يصلح للشرب قد يصلح للغسل، ومالا يصلح للغسل قد يصلح لإزالة القاذورات، ولا يفعل ذلك إلا مؤمن يخشى الله تعالى ويدرك أن الماء نعمة كبرى وأنه أغلى من المال، بل أغلى من الدم الذي يجري في العروق، فهلّا حافظنا عليه قبل فوات الأوان؟! ، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}[الملك 30]، هذا الماء الذي أنزله الله بقدرته لئن لم نتقِ الله فيه فماذا عسى ربنا أن يفعل بنا؟!{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}[الواقعة: 68 – 70].
كما وجه د/ محمد خليفة باحث الدعوة بوزارة الأوقاف في خطبته بمسجد التوحيد بشارع الأربعين بعرب الطوايلة جموع المصلين بقوله: إن الواجب علينا أن نتقي الله وأن نراعي هذه النعمة التي هي سبب الحياة وليتحمل كل منا مسئوليته أمام الله عز وجل في الحفاظ على ما أولانا من نهر عظيم وماء عذب ، فغيرنا في أمس الحاجة إلى قطرة ماء تروي ظمأه وتنبت كلأه .
ومن فوق منبر مسجد الصابرين بعين شمس الغربية اختتم د/ حسن خليل الباحث الشرعي بمشيخة الأزهر الشريف خطبته قائلا: ألا فلتكن هَبَّةٌ مجتمعيةٌ تستهدف الحفاظ على الحياة عن طريق الحفاظ على هذه النعمة التي تستمد منها حياة الإنسان، والحيوان، وكل كائن حي بإذن الله تعالى : {…وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}[طه: 53، 54].