وزير الأوقاف في خطبة الجمعة بمسجد عصمت السادات بمحافظة المنوفية: قضية تنظيم النسل من المتغيرات وليست من الثوابت وتدخل في عمق تجديد الخطاب الديني والفتوى فيها تختلف باختلاف أحوال الدول شريطة الوفاء بحق الطفل تنشئة وتربية ورعاية وحياة كريمة في كل حال وحكم تنظيم النسل في واقعنا المصري الراهن ضرورة شرعية وإن الحكم فيه يتجاوز القول بالحِل إلى درجة الضرورة الواجبة والأمر في تنظيم الإنجاب لا يقاس بقدرات الأفراد وحدهم منفصلة عن قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومسكن ومرافق ونحو ذلك والولد حجة لك أو عليك ومن قصَّر في حق ولده فهو آثم شرعًا
وإذا كانت القدرة على الإنفاق شرطا للزواج فهي من باب أولى شرط للإنجاب ويجب أن يُعطى الطفل حقه في الرعاية كاملا غير منقوص وولد واحد صالح خير من كثرة كغثاء السيل والأنبياء عندما طلبوا الولد إنما طلبوا الولد الصالح لا مطلق الولد والولد الفاسد عبء كبير على والديه في أمر دينهما ودنياهما والوفاء بحق الطفل في الرضاعة الطبيعية مطلب شرعي
في إطار دور وزارة الأوقاف التنويري والتثقيفي ، ومحاربة الأفكار المتطرفة ، وغرس القيم الإيمانية والوطنية الصحيحة ، ألقى معالي أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف اليوم الجمعة 19/ 2/ 2021 م خطبة الجمعة بمسجد “عصمت السادات” بقرية ميت أبو الكوم بمدينة تلا بمحافظة المنوفية ، تحت عنوان : “تنظيم النسل قضية أخذ بالأسباب الشرعية” ، بحضور السيد اللواء/ إبراهيم أبو ليمون محافظ المنوفية ، والسيد الأستاذ/ محمد إبراهيم موسى نائب محافظ المنوفية ، والسيد اللواء/ أحمد فاروق القرن، والسيد العميد أركان حرب/ أحمد أبو الغار ، والسيد النائب الدكتور/ عفت عصمت السادات، والسيد النائب/ عباس عصمت السادات ، والسيد النائب/ سامح أنور السادات ، والسيد النائب/ كريم طلعت السادات ، والشيخ/ زكريا الخطيب مدير مديرية أوقاف المنوفية ، والشيخ / أحمد عبد المؤمن مدير مديرية أوقاف المنوفية السابق ، وعدد من القيادات التنفيذية والدعوية والشعبية بالمحافظة .
وفي بداية خطبته أكد معاليه أن المال والولد امتحان واختبار ، حيث يقول الحق سبحانه: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ” ، فإن كان المال حلالًا وأديت حق الله فيه فيقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ” ، وإن كان المال من حرام أو لم تؤد حق الله فيه كان وبالًا ونقمة في الدنيا الآخرة ، وكذلك الولد حجة لك أو عليك ، ومن قصَّر في حق ولده فهو آثم شرعًا ، فإن كان الولد صالحًا وعنيت بتربيته وتهذيبه وتقويمه وأخذت بالأسباب فيقول الحق سبحانه : “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” ، وأما إذا كان الولد غير صالح ، فيقول سبحانه في قصة العبد الصالح : “وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا” ، وهذا نبي الله نوح (عليه السلام) وهو من أولي العزم من الرسل ، قال: “وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ” ، ولسنا أفضل من نوح (عليه السلام).
كما أكد معاليه أن الأنبياء (عليهم السلام) عندما طلبوا الولد إنما طلبوا الولد الصالح لا مطلق الولد ، فهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) يقول : “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ” ، وهذا سيدنا زكريا (عليه السلام) يقول : “رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ” ويقول أيضًا: “فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا” ، وأهل العلم لهم هنا وقفة يقولون: إن سيدنا زكريا (عليه السلام) لم يطلب الولد لأجل مصلحة دنيوية بل طلبه لأجل الدِّين فقال كما حكى عنه القرآن الكريم : “يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا” ، أي: يرث العلم والحكمة والنبوة والدعوة إلى الله تعالى ، ولم يقل عند طلبه (أولياء) بالجمع ، وإنما طلب وليًّا ، فليست العبرة بالكثرة وإنما بالصلاح ، وولد واحد صالح خير من كثرة كغثاء السيل ، وفي سورة مريم (عليها السلام) يقول الحق سبحانه : “فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا” ، وسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن لأبويه نسل غيره ، وهو سيد ولد آدم ، وعليك أن تسأل نفسك لماذا تطلب الولد؟ هل للمباهاة والعزوة ومجرد الكثرة؟ أم لينفعني عند الكبر؟ أما أمر الدنيا فأمره إلى الله ، فإن أراد الله إكرامك في الدنيا ، أكرمك وحفظ لك كرامتك بولد أو بدون ولد ، يقول الحق سبحانه : “يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ” ، قال أهل العلم : إن العقم نعمة من نعم الله لأنه جاء في معرض تعداد النعم ، وبعض الناس يكون الولد سبب سعادته وبعضهم يكون الولد سبب شقائه ، والولد الفاسد عبء كبير على والديه في أمر دينهما ودنياهما ، والخيرة فيما اختاره الله ، وقد يقول البعض إنني أحتاج للولد عند الكبر ، فقد لا يرزقك الله الولد ولكنه لا يحوجك إلى أحد من خلقه في حياتك أبدًا ، وإن احتجت جعل كل الناس كلهم أبناء لك ، أما إن اعتمدت على الولد فكما يقول العلماء: “من اعتمد على ماله قلّ ، ومن اعتمد على سلطانه ذلّ ، ومن اعتمد على عقله اختلّ ، ومن اعتمد على علمه ضلّ ، ومن اعتمد على الناس ملّ ، ومن اعتمد على الله فلا قلّ ، ولا ذلّ ، ولا ملّ ، ولا ضلّ ، ولا اختلّ” فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط.
كما أشار معاليه إلى أن الصلاح ليس في أمر الدين فقط ، بل الصلاح في أمر الدين والدنيا معًا ، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : ” الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ” ، والقوة هنا عامة ، تعني المؤمن القوى بدنيًّا وصحيًّا وعلميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا ، فهذه هي القوة المطلوبة ، أما الكثرة إذا كانت كغثاء السيل فغير مطلوبة ، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : “يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها . فقال قائلٌ : ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ” فإذا كانت تلك الكثرة ضعيفة صحيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا فهي لا تنفع صديقًا ولا تضر عدوًا.
كما أكد معاليه أن قضية تنظيم النسل من المتغيرات وليست من الثوابت ، وتدخل في عمق تجديد الخطاب الديني ، وأن الفتوى فيها تختلف باختلاف أحوال الدول شريطة الوفاء بحق الطفل تنشئة وتربية ورعاية وحياة كريمة في كل حال ، فإذا كانت الدولة تمتلك أرضًا شاسعة وثروات هائلة ، وفي قلة عددية من السكان هنا تكون الكثرة مطلوبة لعمارة الأرض والحفاظ على الثروات ، أما إذا كانت الدولة على العكس من ذلك فإن ذلك سيؤدي إلى كثرة كغثاء السيل ، فالحكم في هذه القضية ليس حكمًا ثابتًا بل هو من المتغيرات ، وحكم تنظيم النسل في واقعنا المصري الراهن ضرورة شرعية ، والحكم فيه يتجاوز القول بالحِل إلى درجة الضرورة الواجبة ، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) عندما قال : “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ” لم يقصد القدرة الجسمية فقط ، بل القدرة المالية والنفسية أيضًا والقدرة على الإنفاق على الأسرة ، لأنه لو أراد القوة الجسمانية فقط لقال: “مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ” وسكت ، ولكنه قال مخاطبًا الشباب القوى الفتي : “وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ” ، والأمر في تنظيم الإنجاب لا يقاس بقدرات الأفراد وحدهم منفصلة عن قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومسكن ومرافق ونحو ذلك ، ومن هنا بالقياس المنطقي والعقلي الأصولي والفقهي إذا كانت القدرة على الإنفاق شرطا للزواج فهي من باب أولى شرط للإنجاب ، لأنه ليس من العقل ولا من الدين ولا من الحكمة أن تنجب أولادًا ثم لا تفي بحقوقهم والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول : “كفى بالمرء إِثما أن يُضَيِّع مَن يقوتُ” ، أي يكفيه من الذنب ولم يكن له ذنب آخر إلا أنه يضيع أسرته وأبناءه لكفاه ذلك الذنب ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ” ، ويجب أن يُعطى الطفل حقه في الرعاية كاملا غير منقوص ، ثم إن للأبناء حقًا في الرضاعة الطبيعية والتربية الطبيعية والتعلم الحقيقي وفي الصحة الجيدة ، والوفاء بحق الطفل في الرضاعة الطبيعية مطلب شرعي ، يقول الحق سبحانه : “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” ، ويقول أهل الطب والعلم إن الحمل مع الإرضاع ، سماه بعض العلماء لبن الغيلة ، وكأن أحد الطفلين اغتال جزءًا من حق الآخر ، فالإنفاق على الأبناء واجب وتوفير الحياة الكريمة لهم دون أن تضيع أولادك مطلب شرعي.
وفي ختام خطبته أكد معاليه أن عملية تنظيم الإنجاب من المتغيرات ، وليست من الثوابت الدينية ، ولم يقل أحد على الإطلاق ممن يعتد برأيه بحرمة تنظيم الإنجاب ، بل أهل العلم على حلها ، ونقول إن الحكم فيه يتجاوز القول بالحِل إلى درجة الضرورة الشرعية الواجبة.