لقد اخترت أن يكون العنوان صادمًا ليشكل معادلا موضوعيًا ولغويًا للواقع الصادم ، فمما لا شك فيه أن المال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة ، فإنما يكون نعمة على من اكتسبه من حلال وأنفقه فيما يجب أن ينفق فيه ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : ” إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ” (أخرجه الترمذي) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم ) ” نِعْمَ الْمالُ الصّالِحُ لِلرَّجُلِ الصّالِحِ ” (رواه أحمد) ، غير أن المال الحرام يكون نقمة ووبالا على صاحبه ومكتسبه في الدنيا والآخرة ،يقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ” كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ ” (أخرجه الترمذي) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم ) : “إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ” (رَوَاهُ البُخَارِيُّ) ، ويقول الحق سبحانه في كتابه العزيز : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا / وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا” (البقرة :195) ، ويقول الشاعر :
جمع الحرام إلى الحلال ليكثره دخل الحرام على الحلال فبعثره
غير أن هذا المال الحرام له صور متعددة من أكثرها سوءًا وخطورة ما نسميه المال القاتل والمال القذر ، هذا المال الذي يستخدم سواء من قبل بعض الأفراد أو الجماعات أو الدول في تمويل العمليات والجماعات الإرهابية ، فبه تسفك دماء الآدميين وتغتال أحلامهم ، وبه تدمر المنشآت والممتلكات وتخرب ، به تحرق الجامعات ، وبه تقطع الطرق ، وبه تشترى النفوس العميلة والخائنة والضعيفة ، وبه تجلب المخدرات، وبه تدمر العقول ، وبه تشترى أصوات الضعفاء في الانتخابات ، وبه تباع الذمم ، وبه يزوّر التاريخ، وبه تزيف الحقائق ، وبه يقدم الخامل ، وبه يؤخر المقدم ويقدم المؤخر .
لقد لعب سلاح المال عبر التاريخ أدوارًا إيجابية في بناء الدول وحفظ أمنها واستقرارها لدى المجتمعات الرشيدة العاقلة الواعية ذات الحضارة الراقية ، ولا شك أننا يجب أن نكون كذلك ،لأننا نملك إرثًا حضاريًا راقيًا ، فنحن أبناء حضارتين عظيمتين ، يمكن أن يصنعا معًا حضارة حديثة ذات طابع خاص بنا ، فنحن أبناء الحضارة الإسلامية برقيها وأخلاقها ويسرها وسماحتها ، وتحريمها لكل ألوان الغش والخداع والتدليس والتزييف ، وأبناء حضارة مصرية عريقة عظمت شأن القيم ، وعرفت بالإباء والترفع عن الدنايا ، وبالروح السمحة السهلة التي تلتقي في هذا الجانب بوضوح مع معطيات الحضارة الإسلامية ، ونؤكد أن ما أصاب وجه هذه الحضارة من رتوش أو خدوش فإنه إلى زوال ، لأن طبيعة هذا التكوين الحضاري تلفظه وتنفيه .
على الجانب الآخر لعب سلاح المال وظل يلعب وسيظل يلعب دورا مؤثرا في شراء أصحاب النفوس الضعيفة ممن لا دين لهم ولا خلق ، ونؤكد أن هؤلاء المارقين الذين يبيعون ذممهم وأنفسهم للشيطان بحفنة من هذا المال القذر شديد القذارة يمكن أن يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، يمكن أن يعيثوا في الأرض تخريبًا وفسادًا ” وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ” ( البقرة : 205) ، يمكن يكذبوا ، وأن يشهروا بالبريء ، وأن يشهدوا زورًا ، وأن يهدموا البنيان الشامخ ، بلا وازع أو ناه من دين أو ضمير إنساني حي .
إن هؤلاء لم ينسلخوا من قواهم الإيمانية فحسب ، هذا إن كان قد بقي له شيء من الإيمان أصلا ، بل إنهم قد انسلخوا من قيمهم ، من مجتمعهم ، من وطنيتهم ، من إنسانيتهم ، من آدميتهم ، والعجب العجاب أن يدعي بعضهم أنهم أهل الحق ، أو أنهم هم العالم الحر ، أو أنهم أنصار الحرية والحق والعدل وما سواهم يجب أن يكون العالم المستعبد .
على أنني أسوي في وصف المال القذر بين معطيه الذي يوجهه للفساد والإفساد ، والقتل والتدمير وسفك الدماء ، وشراء الذمم ، وقلب الحقائق ، وبين من يأخذه تحت أي مسمى كان ، حتى لو كان مسمى الحاجة ، فقد قالت العرب قديمًا : ” تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ” ، ويقول عنترة العبسي :
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
فما بالكم لو مزج هذا المال بالدم ، وبالسم الزعاف ، الذي يدمر الإنسان والأوطان ، ويهلك الحرث والنسل ، وينسف القيم والأخلاق والإنسانية ؟ !