هذا المصطلح يمكن أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله ، فيكون الإهمال هو الخطر الداهم الذي يرهب الناس نفسيا ومعنويا ، بل إنه يتجاوز هذا الرعب النفسي إلى إراقة دمائهم وضياع أموالهم وممتلكاتهم وربما أعراضهم .
ويمكن بالجد والعمل والقانون أن نحول الفاعل إلى مفعول به ، بأن يكون المصطلح من باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، فنضع من القوانين الحاسمة ما نرهب به المهملين ، ونضطرهم اضطرارا إلى الخروج من عباءة الإهمال والتسيب إلى منطقة اليقظة والانتباه .
ولو أننا تمسكنا بحديث نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ” (البخاري) ، فالرجل راع في بيته وفي أهله ومسئول عن رعيته ، والمعلم راع في طلابه ومسئول عن رعيته ، ومدير المدرسة راع في مدرسته ومسئول عن رعيته ، ومدير الإدارة ، فالمديرية ، فالقطاع ، كل هؤلاء رعاة ومسئولون عن رعاياهم ، في مجال التربية والتعليم ، والصحة ، والنظافة ، والبيئة ، والزراعة ، وسائر مجالات الحياة ، لو تمسكنا بذلك لتحول الإهمال إلى إنجاز .
وكما أننا نطلب تضافر جهود كل المؤسسات الوطنية ، وسن القوانين الرادعة اللازمة لمواجهة الإرهاب ، فإننا نطلب الأمر نفسه وبحسم أشد لمقاومة الإهمال وردع المهملين ، فلو أننا قدرنا للنفس البشرية حرمتها ، وفهمنا ما تتطلبه هذه الحرمة ما سفكنا دما ولا اعتدينا عليه لا إهمالا ولا إرهابا ، ولو أننا علمنا أن المال مال الله ، وأن المال العام والخاص كليهما يجب الحفاظ عليه وصيانته ، وأنه أمانة في يد من يقوم عليه أو يصلحه أو يستخدمه أو يستثمره، وأننا مسئولون عن هذا المال ، وأنه لن تزول قدم عبد عن الصراط حتى يُسأل عنه لحافظنا عليه سواء أكان لنا أم لغيرنا ، وإذا كنا بحكم الشرع منهيين عن الإسراف والتبذير ، وقد وصف الله ( عز وجل ) المبذرين بأنهم إخوان الشياطين ، فقال سبحانه : ” إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ” (الإسراء : 27)، فمن باب أولى أن نبتعد عن التسيب والإهمال ، لأن العقاب فيهم أشد ، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن قيل وقال وإضاعة المال ، أي إضاعته في غير حقه إسرافا وتبذيرا أو تسيبا وإهمالا .
إننا نحتاج إلى تغيير ثقافة اللامبالاة ، سواء أكان ذلك بالتوعية وتحريك الوازع الديني والحس الوطني ، أم بسن القوانين الرادعة وتغليظ العقوبات بما يحقق الردع لكل من يفسد في الأرض ، فالإهمال فساد وقد يترتب عليه إفساد ” وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ” (البقرة : 205) .
وقد تكون هناك مظاهر يراها البعض يسيرة لكن في الواقع ذات بال ، وقد تسبب خطرًا داهمًا أو حادثًا جسيمًا ، فترك إضاءات الطرق التي كثيرا ما نراها في وضح النهار إهمال وإهدار للطاقة التي نحن أحوج ما نكون إليها ، وهي إهدار لمالٍ المجتمع في حاجة ماسة إليه .
كما أن الإسراف في الماء وترك تطهير المجاري المائية وعدم الالتفات إليها أو الانشغال عنها إهدار للثروة المائية ، وعدم الاهتمام بإصلاح أمور قد يكون إصلاحها يسيرًا وخطرها جسيمًا كأسلاك كهرباء غير محمية ، أو بيارات للصرف الصحي غير مغطاة ، أو عدم الاهتمام بما يجب القيام به تجاه مداومة الصيانة لإطارات السيارات أو فراملها ، أو مرايات الجانبين أو المرآة الأمامية إذ لا تغني واحدة منها عن غيرها ، أو ترك زجاج السيارة مشروخًا ، أو عدم اتخاذ وسائل الأمان الكافية في الآلات والصناعات ، كل ذلك قد يشكل خطرًا جسيمًا يمكن أن نتفاداه لو تخلصنا من التسيب والإهمال واللامبالاة .
وأشد ألوان الإهمال هو أن يغفل الإنسان عن المسئولية التي ولاه الله إليها ، فتحملها أمام الله والوطن ، فلم تعد المناصب القيادية والإدارية نزهة في وطن ومجتمع لا يمتلك الرفاهية لا في الوقت ولا في المال ، بل إن هذه الولايات أمانة ، وستكون يوم القيامة خزيًا وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها .
ويضاعف من أثر الإهمال ما ابتلينا به من ويلات المخدرات والمسكرات التي غيبت العقول ، وأنهكت الأجساد ، وأورثت لونا من الضعف والهذيان واللامبالاة ، فالمخدرات أم الخبائث ، لأن الإنسان إذا غاب عقله أو غُيّب ، وأدمن هذا الداء ، فإنه يبحث عن المال لشرائه بأي طريقة كانت حتى لو اعتدى على أقرب الناس إليه لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى القتل ، وقد نشرت بعض الصحف والمواقع قصة ذلك الذئب البشري الذي حاول انتهاك عرض أمه العجوز لغياب عقله .
إن هذا الخطر الداهم يتطلب وقوف المجتمع كله بحسم في مواجهة لا هوادة فيها في وجه الإهمال والمهملين ، وتجار المخدرات من أصغر موزع إلى أكبر فاسق مورد مخاطر بعقول أبنائنا ومستقبل وطننا ، على أن تؤدي المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية والإعلامية دورها في ذلك على الوجه الأكمل جنبا إلى جنب مع الجهات الأمنية والشرطية والرقابية والقضائية ، وأن ندرك أن من فقد عقله صار خطرًا على النفس ، وخطرًا على العرض ، وخطرًا على المال ، وأن الطبيب قد يضطر إلى بتر جزء أو عضو من الجسد حفاظًا على سلامة الجسد نفسه، وأن الإنسان قد يقسو على بعض أبنائه مع حبه لهم حفاظًا على بنائهم وتماسكهم وتكوينهم تكوينا صحيحا ، يقول الشاعر العربي :
وقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
فحق الوطن وحق المجتمع في أن يكون آمنا فوق كل اعتبار ، على أن هذا الأمن الذي ننشده لن يكون لطرف دون طرف ، إنما هو للمجتمع كله ، فلو حرص كل شخص على توفير الأمن للمجتمع فهناك آلاف بل ملايين سيوفرون له الأمن ، ولو عمل لصالح المجتمع فهناك ملايين يعملون لصالحه ، ولو أهمل هو وأهمل غيره في حقه لصار الإهمال طاقة مدمرة للجميع ، وقديما قالوا : عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، وقالوا : افعل ما شئت كما تدين تدان ، على أن من لا يعرف مصلحة نفسه ينبغي على المجتمع أن يرده إلى عقله وصوابه ، فإن الله (عز وجل) ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .