أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
الأزهر الشريف ليس سلطة , ولن يكون , ولا يريد , ومن أهم الدلائل العملية على ذلك هو أن الأزهر الشريف برؤية حكيمة لفضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر رفض أن يكون المرجعية في القضايا التشريعية أو أن يكون رأي هيئة كبار العلماء ملزمًا , بل أصّر أن يكون اختياريًا , بحيث يضع الأزهر الشريف خبراته الشرعية والعلمية تحت نظر الأمة أو المشرع متى طلب منه ذلك ، وكان هذا الرأي غاية في الحكمة حتى لا يتهم الأزهر بكهنوتية هو منها براء , أو بمحاولة التسلق إلى سلطة هو لا يطلبها ولا يسعى إليها , إيمانًا منه بأن رسالته دعوية , وأنه يسير في ضوء الفهم الصحيح لتوجيهات القرآن الكريم :” ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.. ” (النحل:125) , “.. إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ .. ” (الشورى:48) , ” أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ .. ” (يونس:99) , فإننا نفرق بوضوح بين دور الدعاة ودور القضاة ودور الولاة , ونؤمن بأننا دعاة لا قضاة ولا ولاة , فدور الدعاة هو التوجيه والنصح والإرشاد , لا أن يكونوا سلطة فوق السلطات ولا سلطة موازية لها , فنحن نؤمن بالولاية العامة لولي الأمر على المستوى الشرعي , وباحترام القانون والدستور على المستوى القانوني , وأن سلطة رئيس الدولة هي السلطة الأعلى , في ضوء النظم القانونية التي يُرسخها ويأصلها الدستور , وأن هذه السلطة الأعلى أو صاحب الولاية العامة له أن ينيب عنه في بعض السلطات أو الولايات ما تقوم به مصالح البلاد والعباد , كالولاية على الجند لوزير الدفاع قائد الجند , والولاية على الشرطة لصاحب الشرطة وزير الداخلية , والولاية على القضاء لقاضي القضاة وزير العدل , وهكذا سائر الولايات الخاصة .
كما نود أن نبين أن العلاقة بين الدعوة والسلطة قد صارت عبر منحنيات التاريخ وانعطافاته في الغالب الأعم في أحد مسارين : إما مسار التبعية وإما مسار الصدام والمواجهة ، وكلاهما لا في صالح الدعوة ولا في صالح السلطة ، أما النمط الأمثل للعلاقة بين الدعوة والسلطة فهو علاقة التواصل والتفاهم والتعاون والاحترام المتبادل ، وهو ما نسعى إلى ترسيخه ، ونعتز بتحقيقه على أرض الواقع ، ففي الوقت الذي تكن فيه مؤسسات الحكم الرشيد بمصر كل التقدير للمؤسسة الدينية وتقدر دورها الوطني ، فإن الأزهر الشريف بكل مؤسساته يعي واجبه الوطني ، ويكن للسلطة القائمة كل تقدير واحترام ، ويقدر لها جهودها في خدمة الوطن ، والحفاظ على هوية الدولة المصرية وعلى تماسكها وصمودها في وجه التحديات لهذه المرحلة الحاسمة الفارقة شديدة الحساسية في تاريخ مصر.
ومع إيماننا بأن الأزهر الشريف ليس سلطة فإننا نؤمن كل الإيمان بأنه قيمة وقامة , وأنه ارتبط بمصر وارتبطت به , فلا تكاد مصر تذكر في مكان إلا ذكر أزهرها الشريف , ولا يكاد الأزهر يذكر إلا مرتبطًا بمشيخته ومقره وحاضنته القوية مصر القلب النابض للعروبة والإسلام , وإذا كانت مصر درع الأمة وسيفها وصمام أمانها , فإن الأزهر الشريف يُعد أهم مؤسسة فكرية علمية في تاريخ البشرية في العلم الشرعي وتبني المنهج الوسطي السمح الذي تلقته الأمة بل العالم كله بالتقدير والقبول في إجماع أو شبه إجماع لم تحظ به مؤسسة علمية أو ثقافية أخرى , وهو أحد أهم أدوات القوة الناعمة الداعمة لسياسة مصر الخارجية , وهو الجهة الوحيدة التي كانت وما زالت قادرة على رفع الغطاء الأدبي والشرعي عن الأعمال الإجرامية التي يقوم بها أعداء الدين والإنسانية داخل مصر وخارجها .
ومع إيماننا بالنقد الموضوعي الذي يعتمد المنهج العلمي بعيدًا عن العمل على إثارة العواطف , أو حب الظهور الإعلامي , أو الاعتماد على أساليب التطاول وتوجيه الاتهامات غير المنضبطة …
ومع إيماننا أيضًا بالنقد الذاتي , وهو أن تقوم كل مؤسسة بإعادة تقييم أمورها , وإعادة النظر في مناهجها وأدواتها , وهو ما يقوم به الأزهر الشريف في لجان إصلاح التعليم ومراجعة المناهج الدراسية , الأمر الذي يرعاه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بنفسه , وهو مهتم به غاية الاهتمام .
لكننا مع إيماننا بالنقد الموضوعي , وبالنقد الذاتي , الذي تقوم به المؤسسة فإننا نؤكد أن أساليب الهجوم غير المنضبط وغير المبرر على المؤسسة الدينية التي يعد الأزهر الشريف عمادها وقوامها الرئيسي ، لا تراعي المصلحة الوطنية التي ينبغي أن تجمع ولا تفرق , بل ربما أرسل بعض هذا النقد رسائل سلبية قد تخدم الإرهابيين والمتطرفين والمتشددين , وتفتح مجالاً من الصراع الفكري والثقافي وربما الأيدلوجي بما لا تحتمله تلك الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا , وتلك التحديات التي تلم بنا في الداخل وتحيط بنا في الخارج , من خلال تبني أفكار متطرفة يغذيها الفكر الاستعماري والقوى الاستعمارية , ولا أرى أحدًا قادرًا على كشف زيفها , وتعريتها , وتفنيد أفكارها , ورفع الغطاء الأدبي عن مشروعها سوى الأزهر الشريف , الذي يعد المرجعية الأولى للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .