أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
يثير ذكر قناة السويس بواعث وطنية لدى كل مصري محب لوطنه ، غيور عليه ، معتز بتاريخه وأمجاده ، فعبورها يرتبط بأعظم ذكرى للمصريين في عصرنا الحديث ، وهي حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973م باقتحام جنودنا البواسل خط بارليف ، وتحطيم أسطورة الجيش الصهيوني الذي كان يُقال عنه إنه لا يقهر ، واستعادة العزة والكرامة ، ليس لمصر وحدها ، إنما لأمتها العربية كلها .
كذلك يثير ذكرها تلك الخطوة الجبارة التي أقدم عليها الزعيم الراحل الرئيس/ جمال عبد الناصر في شجاعة تحسب له آنذاك ، حيث وقفت مصر شامخة تتحدى الدول الكبرى التي كانت تريد أن تقف حجر عثرة في طريق الشعب المصري ، وحرصه على استقلال قراره ، ومساندته لكل الشعوب العربية والإفريقية التي كانت تسعى لتحقيق استقلالها، وتخلصها من ربقة الاستعمار .
كذلك ينبهنا ذكرها دائمًا بموقع مصر المتميز بين قارات العالم ، وكونها واحدة من أهم نقاط الالتقاء بين هذه القارات ، ومحورًا من أهم محاور التجارة العالمية .
لقد زرت مدينة السويس عدة مرات ، و تحدثتُ أكثر من مرة عن بسالة أهلها ، ووقفت عدة مرات على بداية القناة في مدينة السويس ، وتأملت دخول السفن لها ، كما وقفت متأملا أكثر من مرة لسير السفن في المجرى الملاحي ، ثم زرت مدينة بورسعيد الباسلة منذ عدة أشهر ، ووقفت مع السيد اللواء/ سماح قنديل محافظ بورسعيد أتأمل موضع التقاء القناة بالبحر الأبيض المتوسط ، وفي حديث يحمل شيئًا كبيرًا من الشجن وعبق التاريخ معًا ، قلت للسيد المحافظ : إذا كان أجدادنا قد حفروا قناة السويس بالفأس والمعول ، وضحى كثير من أبنائهم بأرواحهم هنا ، سواء أكان ذلك طوعًا أو كرهًا ، وشقوا تلك القناة التي أضافت كثيرًا إلى موقع مصر المتميز على الخريطة العالمية ، أفبعد كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي نعجز نحن عن ازدواج هذه القناة ؟!
لقد كان حلمًا لا أراه بعيد المنال ، وإنما كنت أقدر أن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية وطنية تملك استقلال قرارها وكلمتها، وهو ما تحقق بإعطاء السيد الرئيس إشارة البدء بحفر المجرى الثاني لقناة السويس ، ولن نسمح لأحد بعد اليوم أن يتحكم في إرادتنا أو قرارنا الوطني مهما كلفنا ذلك من تضحيات .
والآن أستطيع أن أقول إن المعدن المصري النفيس يظهر وينجلي وقت الشدائد ، وإن أمتنا قد يصيبها أو يعتريها بعض الضعف أو السقم ، لكنها لا تعتل بعلل مزمنة ، ولن نموت إن شاء الله ، لأنها محفوظة بحفظه وعنايته ورعايته .
ونستطيع أن نقول لقد استعدنا كرامتنا مرة أخرى ، وبدأنا نتذكر عهود الأجداد والأمجاد في بناء حضارتنا المصرية العريقة التي تبحر أكثر من سبعة آلاف عام في أعماق التاريخ من تشييد الأهرامات ، إلى بناء السد العالي ، إلى حفر قناة السويس ، إلى ازدواجها ، إلى مشروعات كبرى وعملاقة بإذن الله تعالى ، غير أن هذه الحضارة تتميز بأنها ليست حضارة مادية بحتة ، إنما هي حضارة مصونة بالأخلاق والقيم ، وهذا هو أحد أهم أسرار بقائها ، وانبهار العالم كله بها .
لكن الحفاظ على هذه الحضارة والبناء عليها يتطلب أن نكون على قلب رجل واحد ، وأن نقف وقفة رجل واحد ، وأن نعي حجم التحديات التي تحيط بنا في الداخل والخارج ، وأن نكون على قدر المسئولية ، وعلى استعداد للتضحيات ، وأن نقدم المصلحة العامة على أي مصلحة شخصية أو حزبية أو فئوية خاصة ، كما أن ذلك يتطلب منا جميعًا الإيمان بحق الوطن ، وأن مصلحته جزء من صلب ديننا وعقيدتنا ، لأن مصر هي القلب النابض للعروبة والسلام ، وهي درع الأمة وسيفها وصمام أمانها، وأن قوة الاقتصاد ودعمه مطلب شرعي ووطني ، لأن الأمم التي لا تملك طعامها وغذاءها وكساءها ودواءها وسلامها لا تملك كلمتها، وبدون اقتصاد قوي لا يمكن أن تملك أي أمة لا غذاءها ، ولا كساءها ، ولا دواءها ، ولا سلاحها ، ولا كلمتها ، وقديمًا قالوا : أحسن إلى من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج إلى من شئت تكون أسيره ، ولن يستطيع الإنسان أن يكفي نفسه ، ولا أن يحسن إلى غيره إلا بالعمل والإنتاج والجهد والعرق ، وهو ما ندعو إليه ونعده من واجبات الوقت ، وحق الوطن ، وتلبية نداء الشرع .