وزير الأوقاف يتحدث عن فلسفة السلام في الإسلام في افتتاح المؤتمر الافتراضي : ” المقاصد العليا للسلم في الإسلام ” بدولة الإمارات العربية المتحدة
يسرنا أن ننشر نصر كلمة معالي أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بالمؤتمر الافتراضي الذي عقده المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة بدولة الإمارات العربية الشقيقة بالعاصمة أبو ظبي تحت عنوان : ” المقاصد العليا للسلم في الإسلام ” اليوم السبت الموافق 29 / 8 / 2020م , والتي ألقاها نيابة عنه د/ هشام عبد العزيز علي أمين عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية , تحت عنوان : ” فلسفة السلام في الإسلام ” :
أولا : مختصر الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وصحبه وعلى رسل الله أجمعين.
وبعد :
فإن كلمات : السلم , والسلام , والإسلام , تنتمي إلى جذر لغوي واحد هو مادة “سلم”, وإن أهم ما يميز هذا الجذر اللغوي هو معاني السلم والمسالمة.
فالإسلام هو دين السلام ، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) هو نبي السلام ، وتحية الإسلام والمسلمين في الدنيا والآخرة هي السلام ، والجنة هي دار السلام ، وتحية أهلها السلام ، حيث يقول الحق سبحانه: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}, وتحية الملائكة لهم فيها سلام , حيث يقول الحق سبحانه:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} .
وقد سمى ربنا (عز وجل) نفسه باسم السلام ، فقال سبحانه: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ويدعونا سبحانه وتعالى إلى دار السلام فيقول (عز وجل) : {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وإن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر والتي تعد أعظم ليلة وأعظم منحة من الله للمسلمين ليلة سلام ، حيث يقول الحق سبحانه: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، ولم يقل سبحانه : هي سلام ، ليجعل من لفظ السلام عمدة وأصلاً تدور عليه حركة الكون والحياة .
وقد نهانا الحق سبحانه وتعالى أن نسيـئ الظن بمن يلقي إلينا السلام , فقال (عز وجل):{ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
فضـرورة السـلام للإنسان في الإسلام تنبع من أنه دين يعدل بين الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات , ويؤمن بقبول الآخر والمختلف , فالله تعالى خلق الناس مختلفين ، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، ويقول سبحانه:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}أي : لتتعارفوا وتتعاونوا وتتكاملوا ، لا لتتحاربوا وتتقاتلوا ويسفك بعضكم دم بعض.
ويقول سبحانه: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، ويقول سبحانه : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} , ويقول سبحانه : ” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “.
وتعد فلسفة السلم هي القضية الراسخة في الفكر الإسلامي ، حيث يقول الحق سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }.
ووفق مفهومي الموافقة والمخالفة في فهم هذه الآية فإن من يسير في طريق السلم الإنساني متبعٌ لما أمر الله به عباده المؤمنين ، ومن يسلك مسالك الفرقة والشقاق ، والتكفير والتفجير ، والخوض في الدماء ، والولوج فيها بغير حق فسادًا أو إفسادًا ، متبعٌ لخطوات الشيطان الذي هو لنا جميعًا عدوٌّ مبين.
فالسلام في الإسلام , سلام شامل : سلام مع النفس ، سلام مع الآخر ، سلام مع المجتمع ، سلام مع الحيوان ، سلام مع الجماد ، سلام مع الكون كله ، وهو ما يجعلنا نؤكد وباطمئنان أن ديننا هو دين السلام ، وأن فلسفة السلام هي الفلسفة الأصيلة الراسخة في الإسلام.
ثانيا : نص الكلمة كاملا :
بسم الله الرحمن الرحيم
فلسفة السلام في الإسلام
إن كلمات : السلم , والسلام , والإسلام , تنتمي إلى جذر لغوي واحد هو مادة “سلم”, وإن أهم ما يميز هذا الجذر اللغوي هو معاني السلم والمسالمة.
فالإسلام هو دين السلام ، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) هو نبي السلام ، وتحية الإسلام والمسلمين في الدنيا والآخرة هي السلام ، والجنة هي دار السلام ، وتحية أهلها السلام ، حيث يقول الحق سبحانه: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}, وتحية الملائكة لهم فيها سلام , حيث يقول الحق سبحانه:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} .
وقد سمى ربنا (عز وجل) نفسه باسم السلام ، فقال سبحانه: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ويدعونا سبحانه وتعالى إلى دار السلام فيقول (عز وجل) : {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وإن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر والتي تعد أعظم ليلة وأعظم منحة من الله للمسلمين ليلة سلام ، حيث يقول الحق سبحانه: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، ولم يقل سبحانه : هي سلام ، ليجعل من لفظ السلام عمدة وأصلاً تدور عليه حركة الكون والحياة .
وقد نهانا الحق سبحانه وتعالى أن نسيـئ الظن بمن يلقي إلينا السلام , فقال (عز وجل):{ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
فضـرورة السـلام للإنسان في الإسلام تنبع من أنه دين يعدل بين الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات , ويؤمن بقبول الآخر والمختلف , فالله تعالى خلق الناس مختلفين ، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، ويقول سبحانه:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}أي : لتتعارفوا وتتعاونوا وتتكاملوا ، لا لتتحاربوا وتتقاتلوا ويسفك بعضكم دم بعض.
ويقول سبحانه: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، ويقول سبحانه : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} , ويقول سبحانه : ” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “.
وتعد فلسفة السلم هي القضية الراسخة في الفكر الإسلامي ، حيث يقول الحق سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }.
ووفق مفهومي الموافقة والمخالفة في فهم هذه الآية فإن من يسير في طريق السلم الإنساني متبعٌ لما أمر الله به عباده المؤمنين ، ومن يسلك مسالك الفرقة والشقاق ، والتكفير والتفجير ، والخوض في الدماء ، والولوج فيها بغير حق فسادًا أو إفسادًا ، متبعٌ لخطوات الشيطان الذي هو لنا جميعًا عدوٌّ مبين.
وقد كان من منهج نبينا (صلى الله عليه وسلم) أنه يعفـو عمـن ظلمـه ، ويعطي من حرمه ، ويحسن إلى من أسـاء إليه ، أما معـاملته (صلى الله عليه وسلم) لغير المسلمين فترسخها وتتوجها “وثيقة المدينة” التي رسخت لأسس التعايش السلمي بين البشر في أسمى معانيه الإنسانية .
وتعد هذه الوثيقة من أفضل النماذج في تاريخ البشرية للعيش الإنساني السلمي المشترك ، وإننا في هذا المناخ الثقافي والسياسي الذي يعيشه عالم اليوم , المشحون بالصراعات ومحاولات الاستقطاب ، لفي أمس الحاجة إلى العودة إلى هذا التراث العظيم وهذا التطبيق الراقي لحق الإنسان في الحياة والمواطنة المتكافئة , واستلهام روح التسامح التي يفيض بها تاريخنا الحضاري الذي يؤصل للتعايش المشترك على أسس وطنية وإنسانية راقية.
فقد وضعت هذه الوثيقة أسس التعايش الذي يريده الإسلام لأبناء المجتمع الواحد على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم ، حيث تنص على أن يهود بني عوف ، ويهود بني النجار ، ويهود بني الحارث ، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جُشَم ، ويهود بني الأوس ، ويهود بني ثعلبة ، مع المؤمنين أمة ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، وأن بينهم النصـر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة ، والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وأن بينهم النصـر على من دهم يثرب ، وأن من خرج منهم فهو آمن ، ومن قعد بالمـدينـة فهـو آمن ، إلا من ظلـم أو أثـم ، وأن الله (عز وجل) جـار لمن بـرَّ واتقى، وكذلك محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فأي إنسانية ، وأي حضارة ، وأي تعايش سلمي ، أو تقدير لمفاهيم الإنسانية يمكن أن يرقى إلى ما كان من تسامح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإنصافه؟!.
ألا ترى إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ) قبل أن يقول : (لِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ)، ليكون في أعلى درجات الإنصاف والتسامح .
لقد علمنا ديننا إنصاف الآخر حتى في طريق المحاورة والجدل بالتي هي أحسن فقال سبحانـه :{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَـةِ وَالْمَـوْعِظَـةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }، وقال سبحانه :{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} , وقال سبحانه على لسان نبينا (صلى الله عليه وسلم) : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}, مع المعرفة الواضحة التي لا لبس فيها بمن هو على هدى ومن هو في ضلال مبين , وهو ما يسميه علماء البلاغة ” الإنصاف” , وعليه قول حسان بن ثابت (رضي الله عنه) يرد على أبي سفيان بن الحارث , وكان قبـل إسلامه قد هجا نبينا (صلى الله عليه وسلم) , فأجابه سيدنا حسان :
هجوتَ محمــــدًا، فأجبـتُ عنــهُ |
وعنـــدَ اللهِ في ذاكَ الجـــــــــزاءُ |
أتَهْجُــوهُ ، وَلَسْــتَ لَهُ بكُــــفْءٍ |
فَشَرُّكُمـا لِخَيــرِكُمَـــا الفِـــــداءُ |
فَـــإنّ أبـي وَوَالِــدَهُ وَعِرْضــــي |
لعــرضِ محمــدٍ منكمْ وقـــــــاءُ |
ولم يقف الأمر عند “وثيقة المدينة” وحدها , فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) شديد الحرص على صون حقوق الإنسان واحتـرام إنســانيته وآدميته واختياره , ولهذا جاء في إحدى رسائله إلى أهل نجران : (وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَمِلَّتِهِمْ ، وَأَرْضِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ ، وَعَشِيرَتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ ، وَأَنْ لَا يُغَيَّرُوا مِمَّا كَانُوا عليه وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلَّتِهِمْ ، وَلَا يُغَيَّرَ أَسْقُفٌ مِنْ أَسْقُفِّيَّتِهِ ، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ ، وكل ما تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ).
وعندما جاءه (صلى الله عليه وسلم) وفد نجران وحان وقت صلاتهم سمح لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بإقامة صلاتهم في مسجده المبارك (صلى الله عليه وسلم)، فَأَرَادَ النَّاسُ مَنْعَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (دَعُوهُمْ)، فَاسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ ، فَصَلَّوْا صَلَاتَهُمْ.
وعندما جاءه (صلى الله عليه وسلم) وفد نصارى الحبشة استقبلهم النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأكرمهـم بنفسه وقـال: (إنَّهمْ كَانوا لأصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ، فإني أحبُّ أنْ أكافِئَهُمْ).
وعلى هذا النهج النبوي سار الخلفاء الراشدون , فقد اقتدى سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بالنبي (صلى الله عليه وسلم) عندما ضمن لأهل إيلياء (القدس) من المسيحيين أمنهم , وأعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم , وسائر ملتها , وأنه لا تُسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها شيء ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم , ولا يضار أحد منهم ، ومن أحب أن يبقى على دينه فعلى المسلمين أن يبلغوه مأمنه دون غدر أو خيانة.
وتُعَـد هذه العهدة العمرية التي أبرمها الخليفـة العادل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مع أهل إيلياء صفحة بيضاء ناصعة في التسامح الديني ، وصفحة مضيئة في تاريخ الحضارة الإنسانية على العموم .
وفي هذا كله ما يؤكد عظمة الإسلام في تعامله مع غير المسلمين وإنصافهم ، وعدم إكراههم على الدخول في الإسلام ، حيث يقول الحق سبحانه : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ، ويقول (عز وجل) على لسان نبيه (صلى الله عليه وسلم): { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} , ويقول سبحانه :{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وهذا شاعر العربية الكبير أحمد شوقي يقول في تأصيل مبـدأ التسامح وترسيخ أسس التعايش السلمي :
أَعَهِدْتَنَـــا والقِبْـــطَ إلاَّ أُمّــة ً |
في الأَرض واحدة نعيــش سلامًـا |
نعلي تعاليـمَ المسيـحِ لأجلهـم |
ويوقِّــرون لأجلنــا الإسلاما |
الدِّيـنُ للدَّيّـــانِ جــلَّ جلالُــه |
لو شــاءَ ربُّــكَ وَحَّـــدَ الأَقواما |
هذي ربوعكمُ ، وتلـك ربوعنـــا |
مُتقابليـــن نعالــج الأَيامـا |
هــذي بيوتكـم ، وتلك بيوتنـــا |
متعانقيـــن مــودة ووئامًــــــا |
هــذي قبوركمُ ، وتلك قبورنـــا |
مُتجاوريـنَ جَمــاجمًـــا وعِظامـــا |
فبحُرمة المَوْتَـى ، وواجبِ حقِّهـم |
عيشـوا كما يقضي الجـوارُ كرامــا |
وعلى الجانب الآخر من التسامح والتسامي المسيحي يقول الشاعر المسيحي اللبناني “محبوب الخوري” من مهجره بالمكسيك :
قالوا: تُحِبُّ العُرْبَ؟ قلتُ: أُحبُّهم |
يقضي الجوارُ عَلَــيَّ والأرحـــامُ |
قالوا: لقد بَخلوا عليك؟ أجبتُهم |
أهلــــي وإن ضنُّـوا عليَّ كـــرامُ |
قالوا: الديانةُ؟! قلتُ: جيلٌ زائـلٌ |
وتزولُ معه حَــــزازةٌ وخِصـــامُ |
ومحمــدٌ بطــلُ البريــــةِ كلِّهـــا |
هو للأعـــاربِ أجمعيـــنَ إِمـــامُ |
وكان مكرم عبيد باشا يقول : نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا، اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، واجعلنا نحن نصارى لك ، وللوطن مسلمـين , وهذا هو التسامح الذي ننشده ونسعى أن يصير ثقافة سائدة وواقعًا معاشًا بيننا جميعًا.
إن السلام الحقيقي يقتضي أن يكون الإنسان في سلام مع نفسه ، مع أصدقائه، مع جيرانه ، مع النبات والحيوان والجماد ، ألم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَـهُ النَّاسُ عَلَى دِمَـائِهِـمْ وَأَمْوَالِهِمْ) ، وفي رواية عَبْد اللهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ: (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ), وقال (صلى الله عليه وسلم) : ( وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيلَ : وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) ، وزاد الإمام أحمد : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ: (شَرُّهُ), ولما سئل (صلى الله عليه وسلم) عن امـرأة صـوامـة قوامـة إلا أنها تؤذي جيرانها، فقيـل له : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ ، وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ).
فقد كان (صلى الله عليه وسلم) بحق رحمة للعالمين , يؤصل للسلام الكوني , دخل (صلى الله عليه وسلم) بُسْتَانًا لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى الجملُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَـاهُ ، فَأَتَـاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذِفْـرَاهُ فَسَكَتَ ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟) ، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَـذِهِ الْبَهِيمَــةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَــا؟ ، فَإِنَّـهُ شَـكَا إِلَيَّ أَنَّـكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ).
وعن ابن مسعودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: كنَّا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سَفَرٍ ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ (ترفرف بأجنحتها) فَجَاءَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ : ( مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها).
ألم يخبرنـا النبي (صلى الله عليه وسلم) أن امرأة دخلـت النـار في هـرة حبستها حتى ماتت ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ : (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَدَخَلَتْ فِيهَـا النَّـارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَـا وَلَا سَقَتْهَـا إِذْ حَبَسَتْهَا ، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) .
وفي المقابل فإن الله (عز وجل) أدخل رجلا الجنة بسبب رحمته بكلب وجده يلهث من العطش فروى كبده ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ، فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ) .
فالسلام في الإسلام , سلام شامل : سلام مع النفس ، سلام مع الآخر ، سلام مع المجتمع ، سلام مع الحيوان ، سلام مع الجماد ، سلام مع الكون كله ، وهو ما يجعلنا نؤكد وباطمئنان أن ديننا هو دين السلام ، وأن فلسفة السلام هي الفلسفة الأصيلة الراسخة في الإسلام.