:أخبار الأوقافأوقاف أونلاينمقالات

في رحاب الهجرة النبوية

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

       هجرة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) مليئة بالدروس والعبر , وأول هذه الدروس هو أن من كان مع الله (عز وجل) كان الله معه , ومن كان الله (عز وجل) معه فلا يحزن , ولا يجزع , ولا يضيق , ولا ييأس , ولله در قائل:

إذا صحَّ عونَ الخالقِ المرْءَ لم يجدْ

عسيـــرًا مــــن الآمـــــالِ إلَّا مُيسَّــــــــرَا

 ودر رابعة العدوية حيث تقول :

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّــــــــنٌ

وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُـــــــــــرَابُ

       وقد تجلى أثر هذه المعية والتأييد الإلهي لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم) في كل مراحل الهجرة , من لحظة انطلاقه (صلى الله عليه وسلم) من داره بمكة المكرمة إلى المدينة المنورة , وتجلت هذه المعية في أعلى صورها فيما يصوره القرآن الكريم في قول الحق سبحانه تعالى : ” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” (التوبة : 40 ) , وذلك حينما تبع المشركون النبي (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه حتى وقفوا على مشارف الغار الذي كان فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه , فقال الصديق (رضي الله عنه) لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم) : فداك أبي وأمي يا رسول الله , لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا , فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ” , فقال أحد المشركين إن هذا العنكبوت لينسج خيوطه على هذا الغار من قبل ميلاد محمد  ، ثم انصرفوا , حيث أعمى الله سبحانه وتعالى أبصارهم عنه “فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” (يس : 9) ، وحفظ الله (عز وجل) نبينا (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه من كل سوء ومكروه .

        وهذه المعية ممتدة لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بشروطها , ما داموا على العهد مع الله (عز وجل) , محافظين على دينهم ، متمسكين بكتاب ربهم (عز وجل) وسنة نبيهم (صلى الله عليه وسلم) , محققين الجندية الحقيقية لله (عز وجل) , حيث يقول سبحانه وتعالى : ” وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ” ( الصافات : 171-173) .

        أما الدرس الثاني : فهو أنه لا هجرة الآن إلى أي بلد بزعم إقامة دولة الإسلام فيه كما تزعم تلك الجماعات والتنظيمات الإرهابية الضالة ، التي تحشد الشباب وتجنده وتغرر به بزعم إقامة دولة الإسلام , وهدفهم تخريب ديار الإسلام خيانة لدينهم وأوطانهم وعمالة لأعداء أمتهم .

        فقد انقطعت الهجرة بمعني الانتقال من وطن إلى وطن لإقامة دولة الإسلام فيه بفتح مكة , حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ” (متفق عليه) , أي لا هجرة بعد فتح مكة , ولما جاء صفوان بن أميه مهاجرًا بعد الفتح , قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ ؟ قَالَ : قِيلَ إِنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ ، فَقَرُّوا عَلَى مِلَّتِكُمْ ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِنِ اسْتُنْفِرْتُمْ ، فَانْفِرُوا ” (البخاري) .

        ويلحق بهذا تلك الجماعات المبتدعة التي تدعو إلى ما تسميه الخروج في سبيل الله ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو أربعين يومًا أو سبعين يومًا ، وكل هذا ابتداع لا أساس له في الدين .

      وأما الدرس الثالث : فهو وثيقة المدينة التي أقرت الحقوق والواجبات لجميع أبناء المجتمع ، وأصلت لترسيخ التعايش السلمي بين أبناء الوطن من جهة ، وبني الإنسان جميعا من جهة أخرى ، بما يجعلها أعظم وثيقة إنسانية في فقه التعايش على مر التاريخ .

        وأما الدرس الرابع : فهو عن الهجرة التي نحتاجها في زماننا هذا , وهي الهجرة من البطالة والكسل إلى العمل والإنتاج , والهجرة من الكذب والغدر والخيانة والشقاق والنفاق إلى مكارم الأخلاق , والهجرة من التدين الشكلي إلى التدين الحقيقي , ومن المتاجرة بدين الله (عز وجل) , إلى خدمة هذا الدين لا استخدامه , ما أحوجنا أن نعمل على أن تقف مصر الغالية على قدمين وساقين صحيحين سالمين ، وأن تقف أمتنا العربية على قدمين وساقين صحيحين , وأن نقف صفًا واحدًا مع قواتنا المسلحة الباسلة خلف قيادتنا السياسية الحكيمة , لنبني دولتنا الحديثة على الحق والعدل , ونحقق لها الرقي والتقدم والرخاء , بما يسر الصديق , ويغيط العدا , ويرد كيد المعتدين في نحورهم .

اظهر المزيد

منشور حديثّا

شاهد أيضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى