:أوقاف أونلاينمقالات

القضـاء بيـن عهـديــن

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

       شَهدتُ يوم الثلاثاء الماضي قيام السيد رئيس الوزراء المهندس / إبراهيم محلب بوضع حجر أساس المبنى الجديد لمحكمة النقض بالسادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة , فأدركت الفارق العظيم بين عهدين , هما : عهد السيد الرئيس / عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية الذي يعمل على بناء مؤسسات الدولة كافة بناءً عصريًّا ديمقراطيًا حديثًا , وفي مقدمتها مؤسسة القضاء المصري الشامخ , وعهد المعزول محمد مرسي وأهله وعشيرته وما لحق القضاء من حيف في هذا العهد المشئوم .

      وقد آثرت التعبير بلفظ القضاء بين عهدين , ولم أقل بين نظامين , لأن سنة الإخوان المشئومة لم تكن هناك دولة ولم يكن هناك نظام أصلا , إنما كانت فوضى يديرها أهل الرئيس وعشيرته ومكتب إرشادهم الذي كان مأوى للإرهابيين والمتطرفين بمنطقة المقطم .

      فبينما يسعى سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى ترسيخ مكانة القضاء واستقلاله باعتباره أحد أهم أركان العدالة فإننا لا يمكن أن ننسى تلك الصورة البشعة التي رسمها متطرفو جماعة الإخوان الإرهابية ومن استخدموه من البلطجية والجماعات المتطرفة التي آزرتهم وعاونتهم وساندتهم في محاصرة المحكمة الدستورية , تلك الصورة التي لا يمحوها سوى محاسبة المجرمين الذين قاموا بهذا الحصار , إضافة إلى ذلك الإعلان المشئوم غير الدستوري الذي أصدره المعزول محمد مرسي بتكليف من مكتب إرشاد الجماعة الإرهابية , حين أصدر ما عُرف آنذاك بالإعلان الدستوري المكمل أو المكبل أو المكمم الذي لم ينقصه فيه سوى أن يردد صراحة قول فرعون لقومه : ” أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى” , وقوله لهم : ” مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ” , في سابقة تاريخية لم يشهد تاريخنا المعاصر مثلها , وفاقت ما قامت عليه أعتى الدكتاتوريات الحديثة , حيث إن أكثرها استبدادًا لم يقو على اتخاذ ما أعلنه رئيس الجماعة المحظورة من محاولة تأصيل وتقنين الاستبداد .

     فهذا الإعلان غير الدستوري الذي صدر آنذاك عن الرئيس المعزول وجماعته قد جاء مع كونه منافيا ومجافيا لكل الديمقراطيات الحديثة أكثر منافاة ومجافاة لروح الإسلام الذي يتاجرون به ويدّعون زورًا وبهتانًا أنهم حملة لوائه .

     ونظرة في تاريخنا الإسلامي وقضائه الشامخ تكشف زيف تلك الجماعات الإرهابية ومدى نفعيتها , وتؤكد أن العمل على ترسيخ استقلال القضاء أحد أهم أركان العدالة , ومن أهم ما نذكره في ذلك حديث نبينا (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول : ” القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار , فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به , ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار , ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ”  ( رواه أبو داود ) .

          وهذه رسالة عمر بن الخطاب  إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) ,  تؤصل لترسيخ العدالة في أسمى معانيها ، ومما جاء فيها : أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ، وَأَنْفِذْ إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، آسِ بَيْنَ النَّاسِ – أي سوِّ بينهما – فِي مَجْلِسِكَ ، وَفِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، وَلَا يَمْنَعْكَ مِنْ قَضَاءٍ قَضَيْتَ بِهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ، وَهَدَيْتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَلَا يُبْطِلُ الْحَقَّ شَيْئٌ، وَإِنَّ مُرَاجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَتَلَجْلَجُ فِي نَفْسِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ اعْرِفِ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ، وَقِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ اعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى .

          ونذكر بما كان من القاضي شريح حين حكم بين الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وخصمه اليهودي ؛ وذلك عندما فقد الإمام عليّ (رضي الله عنه) دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ إِلَّا دِرْعِي وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ ، فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ ؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ أَصَابَ شُرَيْحٌ ، مَا لِي بَيِّنَةٌ ، فَقَضَى بِهَا شريح للنصراني ، قال فأخذ النصراني الدرع ومشى خطا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يَقْضِي عَلَيْهِ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الإمام عليّ (رضي الله عنه) : أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ ، وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ .

          فالعدل ميزان الحكم ، وقد نقل عن بعض الحكماء قوله : إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ، ونصبه للحق ، فلا تخالف في ميزانه ، ولا تعارض في سلطانه ، وقال أحدهم : إن الله (عز وجل) ينصر الأمة العادلة ولو كانت كافرة ، ولا ينصر الأمة الظالمة ولو كانت مؤمنة .

اظهر المزيد

منشور حديثّا

شاهد أيضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى